148)‏ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء‏...‏
هذا النص القرآني المعجز جاء في مطلع سورة النساء‏,‏ وهي سورة مدنية وعدد آياتها مائة وست وسبعون‏(176)‏ بعد البسملة‏,‏ وهي ثاني أطول سور القرآن الكريم بعد سورة البقرة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لكثرة ما ورد فيها من الأحكام التي تتعلق بالنساء‏.‏

ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضايا التشريع لكل من المرأة‏,‏ والأسرة‏,‏ والبيت‏,‏ والمجتمع‏,‏ والدولة بعلاقاتها الداخلية والخارجية‏.‏ ومن أبرز هذه القضايا أحكام الميراث التي فصلتها السورة الكريمة تفصيلا لا يقبل الزيادة‏.‏ ويأمر ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في سورة النساء بالاحسان في كل شئ‏,‏ وبالتراحم‏,‏ والتكافل‏,‏ والتسامح‏,‏ والتناصح‏,‏ وبالأمانة والعدل‏,‏ وبر الوالدين والإحسان الي ذوي القربي واليتامي والمساكين‏,‏ وبالجهاد في سبيل الله بالنفس والمال‏,‏ وبالتواصي علي حماية المجتمعات الإنسانية من المظالم‏,‏ والفواحش‏,‏ والفتن‏,‏ وحماية كل ضعيف في المجتمع من مثل الإناث واليتامي‏.‏
ونبهت سورة النساء إلي انصراف أهل الكتاب عما أنزل عليهم‏,‏ وإلي تحريفهم لأديانهم وكتبهم ولتوجيهات أنبيائهم‏,‏ وحذرت من أخطار ذلك‏,‏ وأخطاء حلفائهم من المنافقين‏.‏ ودعت السورة الكريمة إلي تربية الفرد المسلم‏,‏ وإلي المجاهدة من اجل اقامة المجتمع الاسلامي الصحيح‏,‏ والي تطهير هذا المجتمع من رواسب الجاهلية القديمة والجديدة‏,‏ واقامته علي اساس من حقائق الدين الخاتم وضوابطه الاخلاقية والسلوكية وقيمه الربانية‏,‏ وموازينه المقيدة بالعدل والرحمة‏,‏ وتكاليفه الشرعية اللازمة للنهوض بهذه الأمانة في الأرض‏.‏

وتقرر سورة النساء وحدانية الخالق سبحانه وتعالي‏(‏ بغير شريك ولا شبيه ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏),‏ كما تؤكد وحدة رسالة السماء‏,‏ والأخوة بين الأنبياء‏,‏ ووحدة الجنس البشري الذي ينتهي نسبه الي ابوينا آدم وحواء عليهما من الله السلام‏,‏ واللذين خلقا خلقا خاصا بغير سابقة ولذلك يرتبط كل الناس بوشيجة الرحم وهي وشيجة مقدسة عند رب العالمين لا يتجاوزها الا معتد أثيم‏,‏ وعقابه علي الله تعالي في الدنيا شديد وفي الآخرة أشد‏,‏ ومن هنا تدعو سورة النساء الي احترام هذه الوشيجة التي يقول فيها ربنا تبارك وتعالي في مطلع هذه السورة المباركة‏:‏
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا‏.(‏ النساء‏:1)‏

وانطلاقا من هذا الأمر الإلهي تؤكد السورة الكريمة ضرورة قيام المجتمع الإنساني علي قاعدة الأسرة التي يحاول الغرب اليوم تدميرها‏,‏ وعلي إحياء الضمير الإنساني الذي قتلته السلوكيات الغربية الجائرة‏,‏ والهابطة إلي ما دون الحيوانية العجماء‏...‏ وتدعو سورة النساء إلي ربط المخلوقين بخالقهم عن طريق الدين الصحيح الذي أنزله الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي فترة من الرسل‏,‏ وأتمه‏,‏ وأكمله‏,‏ وحفظه في رسالته الخاتمة التي بعث بها الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وربط كل الأنظمة والتشريعات التي تحكم حياة الناس‏:‏ أفرادا وأسرا‏,‏ ومجتمعات بهذا الدين الخاتم الذي لا يرتضي ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ من عباده دينا سواه‏.‏

ويأمر ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في سورة النساء عباده المؤمنين بأن يخلصوا ولاءهم لقيادتهم المؤمنة الخاضعة بالطاعة التامة لله ولرسوله‏,‏ ويأمرهم بالجهاد في سبيل الله من اجل مقاومة الظلم والقهر والطغيان‏,‏ ومن اجل اقامة عدل الله في الارض‏,‏ ووعد باعظم الاجر علي ذلك‏,‏ كما امر بالهجرة في سبيل الله وعدم الرضوخ لذل الجبابرة من الحكام الجائرين‏,‏ ووعد بالفتح في ذلك السبيل فتحا مبينا‏.‏
وتتحدث سورة النساء عن بعض مشاهد الآخرة تحذيرا للغافلين من أهوالها‏.‏ وتنادي علي اهل الكتاب ان يؤمنوا بما أنزل الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي خاتم أنبيائه ورسله مصدقا لما معهم‏,‏ من قبل أن ينزل بهم سخطه وعذابه‏,‏ أو أن يطردهم من رحمته‏,‏ وتحذرهم من الشرك بالله فتقول‏:‏

‏*‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افتري إثما عظيما‏.(‏ النساء‏48)‏

‏*‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا‏.(‏ النساء‏116).‏
وعرضت سورة النساء لجانب من طغيان اليهود‏,‏ وكفرهم بالله تعالي‏,‏ وتحديهم لخاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ فتقول موجهة الخطاب إليه‏:‏

يسألك اهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسي أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسي سلطانا مبينا‏*‏ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدو في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا‏*‏ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا‏*‏ وبكفرهم وقولهم علي مريم بهتانا عظيما‏*‏ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا‏*‏ بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما‏*‏ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا‏*‏ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا‏*‏ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما‏.(‏ النساء‏153‏ ـ‏161)‏
وتمتدح السورة القرآن الكريم بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفي بالله شهيدا‏.(‏ النساء‏:166).‏

وبقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا‏(‏ النساء‏174).‏
كما تمتدح خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقول ربنا‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليما حكيما‏.‏
‏(‏النساء‏:170)‏

وتدعو سورة النساء أهل الكتاب إلي عدم المغالاة في الدين فتقول‏:‏
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا علي الله إلا الحق إنما المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلي مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفي بالله وكيلا‏*‏ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا‏*‏ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا‏.(‏ النساء‏:171‏ ـ‏173).‏
وتختتم سورة النساء‏,‏ باستكمال الضوابط الشرعية لقضية الميراث والتي بدأت بالآيتين‏12,11‏ وختمت بالآية رقم‏(176).‏

من التشريعات الإسلامية في سورة النساء
‏(1)‏ تقوي الله‏(‏ تعالي‏)‏ وعبادته بما أمر‏,‏ ومداومة استغفاره والتوبة إليه‏,‏ وطاعته‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وطاعة خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وطاعة أولي الأمر من المسلمين الصالحين‏,‏ والرجوع إلي حكم الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحكم الرسول الخاتم‏(‏ عليه افضل الصلاة وازكي التسليم‏)‏ عند الاختلاف في الرأي‏,‏ ومعاداة الشيطان وعدم اتخاذه وليا لأن في ذلك الخسران المبين‏.‏

‏(2)‏ الأمر بالمحافظة علي المال العام والخاص وعدم تسليمه للسفهاء والمحافظة اكثر علي مال اليتيم‏,‏ وعلي حقوق الضعفاء في المجتمع‏,‏ وعلي أموال الآخرين وحقوقهم والتحذير من مغبة الاعتداء عليها‏.‏

‏(3)‏ تأكيد حقوق الزوجات‏,‏ والأمر بمعاشرتهن بالمعروف‏,‏ واعطائهن كافة حقوقهن‏,‏ ومن حقوقهن المهر الذي هو عطية خالصة لهن‏,‏ وليس لأحد الحق في شئ منه إلا أن يطبن نفسا بالتنازل عنه أو عن شئ منه‏,‏ ومن حقوقهن أن لهن علي الرجال حق الصون‏,‏ والرعاية‏,‏ والقيام بشئونهن بما أعطي الله‏(‏ تعالي‏)‏ الرجال من صفات وقدرات‏.‏

‏(4)‏ تحديد المحرمات من النساء‏,‏ ووضع الضوابط الصحيحة لاستقامة حياة الأسرة‏,‏ والقوانين المنظمة لها‏,‏ والنهي عن تمني المسلم او المسلمة ان يكون في غير جنسه‏,‏ لأن لكل دورا ملائما لفطرته‏,‏ ولاستعداداته‏,‏ وبالجنسين معا يكتمل المجتمع وتستقيم أموره‏,‏ وتكون استمرارية الجنس البشري الي ما شاء الله‏(‏ تعالي‏).‏ ولكل فرد نصيب مما اكتسب‏,‏ وعليه أن يسأل الله العلي القدير من فضله‏(‏ إن الله كان بكل شئ عليما‏).‏

‏(5)‏ الأمر بالإحسان إلي الوالدين‏,‏ والي ذوي القربي واليتامي‏,‏ والي الجار ذي القربي‏,‏ والجار الجنب‏,‏ والي الصاحب بالجنب‏,‏ وابن السبيل‏,‏ وباحترام العهود والمواثيق‏,‏ وبأداء الأمانات إلي أهلها‏,‏ وبرد التحية‏,‏ والحكم بين الناس بالعدل وبالهجرة في سبيل الله اذا لزم الأمر‏.‏

‏(6)‏ النهي عن الاختيال والفخر‏,‏ وعن التباهي والكبر‏,‏ وعن تزكية النفس‏,‏ وعن افتراء الكذب علي الله‏,‏ وعن الجهر بالسوء في القول إلا من ظلم‏,‏ وعن البخل والدعوة إليه أو الأمر به‏,‏ وعن بذل المال رئاء الناس‏,‏ وعن النفاق أو موالاة المنافقين أو المشركين أو الكافرين‏,‏ وعن قبول الاستذلال أو الرضوخ له‏,‏ وعن تعاطي المسكرات وعن اقتراب الفاحشة أو العمل علي إشاعتها بين الناس‏.‏

‏(7)‏ التقيد بأوامر الله‏(‏ تعالي‏)‏ في توزيع الميراث‏.‏

‏(8)‏ تفصيل شروط الطهارة‏.‏

‏(9)‏ الأمر بتدبر آيات القرآن الكريم‏.‏

‏(10)‏ التأكيد علي الصلاة وعلي إقامتها في مواقيتها‏,‏ وتشريع صلاة المسافر‏,‏ وصلاة المقاتل‏(‏ صلاة الحرب أو صلاة الخوف‏).‏

‏(11)‏ النهي عن قتل المؤمن إلا خطأ‏,‏ وأحكام القتل الخطأ‏,‏ والنهي كذلك عن الوجود في مجالس يستهزأ فيها بآيات الله‏.‏

‏(12)‏ الأمر بالقتال في سبيل الله دون خشية أولياء الشيطان لأن ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ يقول‏(‏ وقوله الحق‏):‏
‏..‏ فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا‏(‏ النساء‏:76).‏
وتؤكد الآيات في سورة النساء فضل المجاهدين علي القاعدين‏.‏

من ركائز العقيدة الإسلامية في سورة النساء
‏(1)‏ الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا واحدا أحدا‏(‏ بغير شريك ولا شبيه ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏)‏ والايمان بملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ واليوم الآخر‏,‏ واليقين بأنه‏(‏ تعالي شأنه‏)‏ رقيب علي عباده‏,‏ حسيب عليهم‏,‏ عادل بينهم‏,‏ لا يظلم مثقال ذرة‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه‏)‏ محيط بكل شئ‏,‏ تواب رحيم‏,‏ عليم حكيم‏,‏ غفور ودود‏,‏ غني حميد‏,‏ قدير وكيل‏,‏ سميع بصير‏,‏ شاكر كريم إلي غير ذلك مما وصف به ذاته العلية‏.‏

‏(2)‏ اليقين بأن الجنة حق وأن النار حق‏,‏ وأنها إما جنة أبدا‏,‏ أو نار أبدا‏.‏

‏(3)‏ التسليم بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ لا يغفر أن يشرك به‏,‏ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏.‏

‏(4)‏ وجوب طاعة الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وطاعة جميع أنبيائه ورسله‏,‏ وعلي رأسهم خاتمهم أجمعين سيدنا محمد بن عبد الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

‏(5)‏ اليقين بأن القرآن الكريم هو كتاب الله المنزل بالحق علي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ والمحفوظ بحفظ الله‏(‏ تعالي‏)‏ في نفس لغته إلي قيام الساعة‏.‏

‏(6)‏ الإيمان بوحدة رسالة السماء لوحدانية مرسلها‏,‏ وبالأخوة بين الأنبياء لوحدة المصدر الذي تلقوا الوحي عنه‏,‏ واليقين بصدق بعثة الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ الذي تكاملت في رسالته كل الرسالات السابقة‏,‏ ولذلك تعهد ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بحفظها فحفظت لأنه ليس من بعده‏(‏ صلوات الله وسلامه عليه‏)‏ من نبي ولا رسول‏,‏ وقد أوكل حفظ الرسالات السابقة لأصحابها فضيعوها‏.‏

‏(7)‏ التسليم بأن الموت حق علي جميع العباد‏,‏ وبأن متاع الدنيا قليل‏,‏ وأن الآخرة خير لمن اتقي‏,‏ وأن الشيطان للإنسان عدو مبين‏,‏ وأن مخالفته ومعاداته طوق النجاة للصالحين من عباد الله‏,‏ وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين‏,‏ والإيمان الجازم بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):..‏ ولن يجعل الله للكافرين علي المؤمنين سبيلا
‏(‏النساء‏:141).‏

‏(8)‏ التصديق بأن أهل الكتاب قد حرفوا دينهم‏,‏ وأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏,‏ وأن حكم الله في الكافرين أوضحته سورة النساء بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏).‏
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا‏*‏ أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا‏(‏ النساء‏:151,150).‏

‏(9)‏ اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد خلق الناس جميعا من نفس واحدة هي نفس أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏),‏ وخلق منها زوجها‏(‏ أمنا حواء عليها رضوان الله‏).‏ وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ومحاولة إنكار ذلك أو التطاول عليه بادعاء خلقة سابقة من البشر أو من غيره إنكار لطلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود‏,‏ وإنكار لمعلوم من الدين بالضرورة وحكم ذلك معروف عند أهل العلم‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة النساء
‏(1)‏ الاشارة الي خلق الناس جميعا من نفس واحدة‏,‏ خلقها الله‏(‏ تعالي‏)‏ من طين‏,‏ وخلق منها زوجها‏,‏ وبث منهما رجالا كثيرا ونساء‏,‏ والمكتشفات الحديثة في علوم الوراثة تدعم ذلك وتؤيده‏.‏

‏(2)‏ الأمر بتقوي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في الأرحام لأنها مصانع الخلق‏,‏ وصونها‏,‏ وحمايتها‏,‏ وتكريمها صون للانسانية جمعاء ضد العبث المستهتر الذي تحاول الفلسفات الغربية المتهالكة فرضه علي العالم بالقوة‏,‏ وكل من علم الأجنة‏,‏ وعلوم الأمراض تؤكد حكمة أمر الله في ذلك‏.‏

‏(3)‏ العلوم المكتسبة في قمة من قممها اليوم تؤكد الحكمة من تشريع المحرمات من النساء‏.‏

‏(4)‏ السبق بالإشارة الي غواية الشيطان للإنسان بمحاولة تغيير خلق الله بما يعرف اليوم باسم الهندسة الوراثية أو الاستنساخ‏(‏ النساء‏:118‏ ـ‏120).‏

‏(5)‏ الاشارة الي عدد كبير من انبياء الله‏(‏ تعالي‏)‏ ورسله‏,‏ والكشوف الأثرية تؤكد صدق القرآن الكريم في كل ما جاء به‏.‏

‏(6)‏ التأكيد علي أن لله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ما في السموات وما في الأرض‏.‏

‏(7)‏ ذكر جوانب من قصص اليهود‏(‏ قاتلهم الله‏)‏ من مثل طلبهم رؤية الله جهرة وما أصابهم علي إثره من الصعق‏,‏ وعبادتهم العجل‏,‏ ونقضهم مواثيقهم‏,‏ وكفرهم بآيات الله‏,‏ وقتلهم الأنبياء بغير حق‏,‏ وقولهم علي مريم بهتانا عظيما وادعائهم أنهم قتلوا المسيح عيسي ابن مريم‏(‏ وما قتلوه يقينا‏).‏ وكل من التاريخ والكشوف الأثرية تؤكد صدق ما تم تحقيقه من هذه الوقائع‏.‏

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الأولي من القائمة السابقة والتي تشير إلي خلق الناس جميعا من نفس واحدة هي نفس أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏),‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ خلق منها زوجها‏(‏ أمنا حواء عليها السلام‏)‏ وبث منهما رجالا كثيرا ونساء‏.‏

من الدلالات العلمية للنص الكريم
أولا‏:‏ في قوله تعالي‏:‏ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة‏..:‏
أخرج كل من ابن جرير وابن أبي حاتم أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ سأل رجلا فقال له‏:‏ ما ولد لك؟ قال الرجل‏:‏ يا رسول الله ما عسي ان يولد لي إما غلام وإما جارية؟ قال‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ فمن يشبه؟ قال الرجل يا رسول الله من عسي أن يشبه إما أباه وإما أمه‏,‏ فقال رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):...‏ مه‏...‏ لا تقولن هذا إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله تعالي كل نسب بينها وبين آدم‏..‏ أما قرأت هذه الآية في كتاب الله تعالي‏:(‏ في أي صورة ما شاء ركبك‏)‏ قال‏:‏ أي شكلك؟‏.‏
هذه الحقيقة ـ حقيقة توارث الصفات إلي الأب الأول للإنسانية ـ لم تبدأ العلوم المكتسبة في ادراك شئ منها الا في اواخر القرن التاسع عشر الميلادي حين وضع النمساوي جريجور مندل‏GregorMendel‏ في سنة‏1866‏ م تصورا بدائيا لقوانين الوراثة التي استخلص منها ان انتقال الصفات الوراثية من جيل الي آخر يتم عبر عدد من العوامل المتناهية في ضآلة الحجم عرفت فيما بعد باسم حاملات الوراثة أو الناسلات أو المورثات‏Genes.‏ وافترض مندل ان كل صفة تحدد بواسطة زوج من المورثات المتقابلة احدهما مستمد من الاب‏,‏ والآخر من الام‏.‏ وقد يكون هذان المورثان متماثلين او غير متماثلين‏.‏

وبقيت هذه المورثات الي اوائل القرن العشرين مجرد رموز غامضة تستخدم في محاولات تفسير عمليات التنوع في الخلق حتي استطاع الامريكي توماس هنت مورجان‏ThomasHuntMorgan‏ في سنة‏1912‏ م اثبات ان المورثات لها وجود فعلي علي جسيمات خيطية دقيقة متناهية في ضآلة الحجم توجد بداخل نواة الخلية الحية وتعرف باسم الجسيمات الصبغية او الصبغيات‏Chromosomes‏ لقدرتها الفائقة علي اكتساب الصبغة التي تضاف الي الخلية الحية والتلون بها‏.‏
ومن خلال دراسته للصبغيات في خلايا جسم الانسان تعرف‏(‏ مورجان‏)‏ علي الصبغي المختص بالتكاثر‏ReproductionChromosome,‏ واقترح فكرة التخطيط الوراثي للكائنات الحية بمعني رسم خرائط تفصيلية للصبغيات ولما تحمله من المورثات‏,‏ وقد ثبت بالدراسة انه من الممكن لازواج مختلفة من المورثات المتقابلة علي الصبغي الواحد ان تحدد نفس الصفة وبذلك تعطي انماطا وراثية وشكلية عديدة‏,‏ وقد تكون السيادة لأكثر من مورث واحد‏,‏ كما قد تتفاعل عدة مورثات لانتاج انماط شكلية متعددة تتدرج الصفات فيها تدرجا كميا لكل صفة‏.‏

وقد ثبت ايضا بدراسات الوراثة ان عدد الصبغيات محدد للنوع بمعني ان لكل نوع من انواع الحياة عددا محددا من هذه الصبغيات يميزه عن غيره من المخلوقات‏,‏ فالخلايا العادية بجسم الانسان تمتاز بثلاثة وعشرين زوجا من الصبغيات‏22‏ منها جسدية وزوج واحد تكاثري‏.‏ والحيود عن هذا العدد المحدد للصبغيات يسبب اختلالات جسدية متفاوتة قد تصل الي الموت او الي العديد من الامراض والتشوهات الخلقية‏.‏
في سنة‏1955‏ م تمكن كل من الامريكي جيمس واطسون‏JamesWatson‏ والبريطاني فرانسيس كريك‏FrancisCrick‏ من التعرف علي التركيب الجزيئي للحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين‏DeoxyribonucleicAcidorDNA‏ الذي تتكون منه الصبغيات‏,‏ والذي تكتب بمكوناته الشفرة الوراثية‏,‏و هو مركب كيميائي شديد التعقيد‏,‏ وقابل للتكسر كيميائيا ليعطي حمض الفوسفوريك‏,‏ وعددا من السكريات والقواعد النيتروجينية‏.‏

ويتكون كل صبغي من شريط مزدوج الجدار بسلميات فاصلة علي هيئة السلم الخشبي‏,‏ وهذا الشريط لاف علي ذاته علي هيئة الحلزون المزدوج‏,‏ والمركب من جزئ من الحمض النووي الريبي المنقوص الاكسجين اي غير المؤكسد‏DoubleHelixDNAMolecule‏ والمرتبط بأعداد من البروتينات‏.‏ وتقاس ابعاد هذا الحلزون بالأجزاء من الميكرون‏(‏ والميكرون يساوي جزءا من ألف جزء من الملليمتر‏),‏ ولكن اذا تم فرده فإن طوله يصل الي حوالي الأربعة سنتيمترات بمعني أنه اذا تم فرد أشرطة الحمض النووي في الستة والأربعين صبغيا الموجودة في نواة خلية واحدة من الخلايا البانية لجسم الإنسان‏,‏ وتم رصها بجوار بعضها البعض فإن طولها يبلغ حوالي المترين‏(4‏ سم‏*46‏ صبغيا‏=1,84‏ م‏).‏ وإذا تم ذلك لمجموع الصبغيات الموجودة في ألف مليون مليون خلية في المتوسط توجد في جسم الفرد الواحد من البشر فإن طولها يزيد علي المسافة بين الأرض والشمس والمقدرة بحوالي المائة والخمسين مليون كيلو متر‏.‏
ويقسم كل صبغي علي طوله بعدد من العلامات المميزة إلي وحدات طولية يحمل كل منها عددا من المورثات‏.‏ وتكتب هذه المورثات بعدد من الشفرات‏Codons‏ يتكون كل منها من ثلاث نويدات‏Nucleotides,‏ وتتكون كل نويدة من زوج من القواعد النيتروجينية‏ApairofNitrogenousBasesorBasePairs‏ المرتبطة برباط وسطي دقيق وتستند كل قاعدة نيتروجينية في جهتها الخارجية الي جزيئين احدهما من السكر والآخر من الفوسفات‏,‏ في نظام محكم دقيق تكون فيه جزيئات السكر والفوسفات جدارين متقابلين تنتشر بينهما القواعد النيتروجينية علي هيئة درجات السلم الخشبي في علاقات تبادلية منضبطة تحدد الصفات الوراثية للكائن الحي وهذه القواعد النيتروجينية هي أربع قواعد فقط تكتب الشفرة الوراثية بتبادلاتها لجميع بني آدم من البلايين التي عاشت وماتت‏,‏ ومن البلايين التي تملأ جنبات الأرض اليوم‏,‏ وممن سوف يأتون من بعدنا إلي قيام الساعة‏,‏ ولكل فرد بصمته الوراثية المميزة‏,‏ وصفاته الشخصية المحددة التي لا تتكرر في غيره‏.‏ وعلي ذلك فكل انسان في العالم فريد في صفاته الجسدية المنظورة وغير المنظورة وفي صفاته الداخلية غير المنظورة من مثل صفاته الفيزيائية‏,‏ والكيميائية‏,‏ والعقلية‏,‏ والنفسية‏,‏ والصحية‏,‏ وغير ذلك من الصفات‏.‏

وتعتبر النويدات هي الحروف التي تكتب بها كلمات الشفيرة الوراثية‏(DNACodon,‏ وتعتبر الأخيرة هي الكلمات التي تكتب بها جمل الناسلات او حاملات الوراثة‏Genes‏ والتي أطلق عليها أخيرا اسم الوحدة الوظيفية الوراثية‏Cistron.‏
ومن طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أعطي لجزئ الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين‏,‏ واللاف علي ذاته علي هيئة الحلزون المزدوج الجدار القدرة علي الانفلاق نصفين‏,‏ وتكملة كل شق إلي رقيقة حلزونية مزدوجة الجدار كاملة البناء والترتيب بنفس دقة الترتيب الأصلي الذي انشقت عنه‏,‏ وذلك قبل سويعات من انقسام الخلية ويتم ذلك بدقة فائقة حسب البصمة الوراثية السائدة في الخلية‏,‏ أثناء انقسام الخلايا الجسدية للنمو‏,‏ بما يعرف باسم الانقسام الفتيلي‏Mitosis)).‏ أما الخلايا التكاثرية‏(‏ البييضة والحيمن‏)‏ والتي تتكون من الخلايا الجسدية بالانقسام الاختزالي‏Meiosis‏ فتحتوي الخلية منها علي نصف عدد الصبغيات فقط أي علي‏23‏ صبغيا بالاتحاد فقط حتي يتكاملا الي‏46‏ صبغيا في النطفة الأمشاج التي تتكون فيها بذرة الجنين بمجرد إتمام عملية الاخصاب‏,‏ وفي هذه البذرة تتحدد كل الصفات الموروثة السائدة منها‏(‏ أي الظاهرة‏)‏ والمتنحية أي التي قد تظهر في الأجيال التالية ولعل هذا هو المقصود بتعبير التقدير في قول ربنا تبارك وتعالي
من نطفة خلقه فقدره‏(‏ عبس‏19).‏

وتشير دراسات علم الوراثة الي اننا اذا عدنا بعملية الانقسام في الشفرة الوراثية الي الوراء مع الزمن فإن الشفرات الوراثية في اجساد اكثر من ستة مليارات من البشر الذين يعمرون الأرض اليوم‏,‏ وبلايين الشفرات التي كانت في أجساد من عمروا الأرض من قبلنا‏,‏ والتي ستبني أجساد من سوف يأتون من بعدنا الي قيام الساعة‏,‏ كل ذلك كان متجمعا في شفرة وراثية واحدة كانت في صلب رجل واحد هو آدم عليه السلام الذي خلقت منه زوجه حواء عليها رضوان الله وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ولذلك قال ربنا‏(‏ عز من قائل‏),‏ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء‏..(‏ النساء‏:1).‏
أما هذه النفس الواحدة التي لم يشهد خلقها أي من الناس فيصف ربنا تبارك وتعالي لنا خلقها علي مراحل من تراب‏(‏ آل عمران‏/59,‏ الكهف‏/37,‏ الحج‏5,‏ الروم‏/20,‏ فاطر‏/11,‏ وغافر‏/67),‏ ومن طين‏(‏ الأنعام‏/2;‏ الأعراف‏/12;‏ السجدة‏/7;‏ ص‏/76,71)‏ الإسراء‏/61),,‏ ومن سلالة من طين‏(‏ المؤمنون‏/12),‏ ومن طين لازب‏(‏ الصافات‏/11);‏ ومن صلصال من حمأ مسنون‏(‏ الحجر‏/33,28,26);‏ ومن صلصال كالفخار‏(‏ الرحمن‏/14);‏ ومن الأرض‏(‏ هود‏/61;‏ طه‏/55;‏ النجم‏/32;‏ نوح‏/18,17)..‏

وفي شرح ذلك قال خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم‏:‏ إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض‏,‏ فجاء بنو آدم علي قدر الأرض‏,‏ جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك‏,‏ والخبيث والطيب وبين ذلك‏.‏
‏(‏حديث حسن صحيح أخرجه كل من الإمام أحمد عن أبي موسي الأشعري‏,‏ والإمامين أبي داود والترمذي عن عوف الأعرابي‏)..‏

وهذه النصوص من القرآن الكريم والسنة المطهرة نصوص قطعية الثبوت‏,‏ وقطعية الدلالة‏,‏ وإنكارها إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة وحكم ذلك معروف عند اهل الشرع‏.‏

ثانيا‏:‏ في قوله تعالي‏:‏ وخلق منها زوجها‏:‏
كان لابد لهذين الزوجين الأولين اللذين أنجبا هذه البلايين من الأناسي أن يكون خلقهما خلقا خاصا بمعجزة تشهد للخالق سبحانه وتعالي بطلاقة القدرة في إبداعه للخلق‏,‏ وكما كان خلق أبينا آدم من تراب أمرا معجزا للغاية فإن خلق أمنا حواء من ضلع أبينا آدم عليهما السلام لا يقل إعجازا عن ذلك‏,‏ فقد أخرج ابن ابي حاتم عن قتادة عن ابن عباس رضي الله تعالي عنهما أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏ إن المرأة خلقت من ضلع‏,‏ وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه‏,‏ فإذا ذهبت تقيمه كسرته‏,‏ وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج‏.‏
وفي التأكيد العلمي علي حقيقة الأم الأولي والوحيدة للجنس البشري ذكر روي ليمون في كتابه المعنون الأمم المندثرة‏Lemon,RoyR.1993:VanishedWorlds‏ أن الدراسات الحديثة في علم الأحياء الجزيئي قد أثبتت انه يمكن تتبع السلالات الأحيائية بواسطة الحمض النووي الريبي المنقوص الاكسجين في بعض عضيات خلية البييضة المعروفة باسم المتقدرات‏Mitochondria‏ وهي عضيات غشائية التكوين‏,‏ شديدة الضآلة‏,‏ عظيمة الفائدة تسبح في سائل الخلية‏,‏ وتقوم بتحويل غذاء الخلية الي طاقة تحتاجها كل مكونات الخلية في نشاطاتها المختلفة‏,‏ ومحتوي المتقدرات من الحمض النووي والمعروف باسم‏TheMitochondrialDNA‏ لا يورث إلا من الأم فقط‏,‏ وبطريقة مباشرة حيث لا يدخل في عملية اختلاط مورثات الأبوين أثناء تكون النطفة الأمشاج‏,‏ وبذلك يمكن تتبع نسب جميع الإناث‏(‏ اللائي يملأن جنبات الأرض اليوم‏,‏ واللائي جئن من قبلنا‏,‏ واللائي سوف يأتين من بعدنا حتي قيام الساعة إلي أم واحدة هي أمنا حواء عليها السلام من خلال قطيرات الحمض النووي المتقدري الموجودة في خلاياهن‏.‏

وعلي الرغم من أن الله تعالي قد ترك لنا في صخور الارض وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية ما يمكن ان يعين الانسان بحسه المحدود وقدرات عقله المحدودة علي الوصول الي تصور ما عن عملية الخلق بأبعادها الثلاثة‏,‏ خلق الكون‏,‏ وخلق الحياة‏,‏ وخلق الانسان‏,‏ الا ان هذه التصورات اذا لم تأخذ ما جاء في كتاب الله الخالق سبحانه وتعالي وفي سنة رسوله صلي الله عليه وسلم عن قضايا الخلق مأخذ الجد‏,‏ ووظفته في تفسير الشواهد الحسية المتروكة لنا توظيفا راشدا فإن الإنسان يضع نفسه في نفق مظلم لا خروج له منه ابدا وذلك لأن عملية الخلق لم يشهدها أي من البشر وبالتالي لا يمكن للإنسان ان يصل فيها الي تصور صحيح ابدا بدون الهداية الربانية المحفوظة في كتاب الله وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله صلي الله عليه وسلم‏.‏
وإرجاع الناس جميعا الي أب واحد هو آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ وأم واحدة هي حواء‏(‏ عليها رضوان الله‏)‏ من حقائق الخلق التي نادي بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من قبل أربعة عشر قرنا‏,‏ وأثبتتها علوم الوراثة أخيرا بما لا يرقي إليه شك‏,‏ وعبر القرنين الماضيين حاولت جماعات من الكفار والمشركين‏,‏ والملاحدة الدهريين ومن فتن بهم للأسف الشديد من بعض أبناء المسلمين الانتكاس بها الي فرضية التطور العضوي عبر تصور خلق بين آدم وماقبله من حيوانات وهي فرضية قد تجاوزها العلم تماما‏.‏

ويبقي تأكيد كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لحقيقة خلق آدم عليه السلام من تراب‏,‏ وخلق زوجه منه‏,‏ والتأكيد علي أن الله تعالي بث منهما رجالا كثيرا ونساء وذلك من قبل ألف وأربعمائة سنة يبقي سبقا علميا لم تتلمس العلوم المكتسبة طريقها اليه الا في أواخر القرنين التاسع عشر والعشرين‏.‏ وهذا السبق العلمي يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها تحقيقا لوعده‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ الذي قطعه علي ذاته العلية فقال‏(‏ عز من قائل‏):‏
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏(‏ الحجر‏:9).‏

وهذا السبق العلمي في كتاب الله يشهد للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏