143)'‏ والله أنبتكم من الأرض نباتا‏*‏ ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا‏*'(‏ نوح‏:18,17)‏
بقلم‏:‏ د‏.‏ زغـلول النجـار
الآيتان الكريمتان جاءتا في نهاية الثلث الثاني من‏'‏ سورة نوح‏'‏ وهي سورة مكية وآياتها ثمان وعشرون‏(28)‏ بعد البسملة وقد سميت باسم نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ لأن المحور الرئيسي للسورة يدور حول قصته مع قومه والدروس المستفادة منها وفي مقدمة ذلك ما يلي‏:‏
‏(1)‏ التسليم بحاجة البشرية إلي الهداية الربانية والتي بدونها لا تستقيم الحياة علي الأرض ولا يتعرف الإنسان علي حقيقة رسالته في الدنيا ولا علي مصيره في الآخرة‏.‏

‏(2)‏ اليقين برحمة الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعباده والمتمثلة في إرسال الأنبياء الواحد تلو الآخر من أجل هداية الناس إلي دين الله الحق علي الرغم من إعراض الغالبية الساحقة عنهم ومحاربتهم لهم و اضطهادهم إياهم و مطاردة المؤمنين بهم و برسالاتهم‏.‏
‏(3)‏ الإيمان بالوحي المنزل من الله تعالي والذي تكامل في بعثة النبي الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ و التأكيد علي وحدة رسالة السماء وعلي الأخوة بين الأنبياء‏.‏

‏(4)‏ تثبيت النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ علي طريق الحق وتثبيت جميع المؤمنين برسالته من بعده إلي قيام الساعة وتشجيعهم علي تحمل تبعات التبليغ عن الله سبحانه وتعالي‏.‏
‏(5)‏ تجسيد عناية الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالقلة المؤمنة وتعهده بنصرهم وتأكيد حتمية عقابه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ للكثرة الباغية الفاجرة فمهما تضافرت جهود أهل الباطل ومهما بلغت إمكاناتهم المادية فإن جند الله هم الغالبون ومهما تطاول أهل الباطل علي الحق وأهله وتجاوزوا كل الحدود في حربه فلا بد من تنزل نصر الله الموعود علي القلة المؤمنة المجاهدة الصابرة المحتسبة بإذن الله‏.‏

‏(6)‏ النهي عن الشرك بالله نهيا قاطعا والتحذير من عواقبه الوخيمة في الدنيا قبل الآخرة‏.‏
‏(7)‏ تأكيد ضرورة التوجه إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالدعاء في كل شدة و بالحمد و الثناء في كل سعة‏.‏

وتبدأ السورة الكريمة بالتأكيد علي حقيقة الوحي الإلهي إلي نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ وتأمره أن ينذر قومه ببأس الله قبل نزوله بهم‏.‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏'‏ إنا أرسلنا نوحا إلي قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم‏*‏ قال يا قوم إني لكم نذير مبين‏*‏ أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون‏*‏ يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلي أجل مسمي إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون‏*'(‏ نوح‏:1-4).‏

وبعد خطابه إلي قومه يتوجه سيدنا نوح‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ بالخطاب إلي ربه شاكيا معصية قومه فيقول‏:‏
‏'‏ قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا‏*‏ فلم يزدهم دعائي إلا فرار‏*‏ وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا‏*‏ ثم إني دعوتهم جهارا‏*‏ ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا‏*‏ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا‏*‏ يرسل السماء عليكم مدرارا‏*‏ ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا‏*'(‏ نوح‏:5-12).‏

ثم يعاود نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ توجيه العتاب إلي قومه علي عدم خضوعهم بالطاعة لله تعالي مستشهدا علي حقيقة ألوهيته وربوبيته ووحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه بعدد من آياته في الكون فيقول‏:‏
‏'‏ ما لكم لا ترجون لله وقارا‏*‏ وقد خلقكم أطوارا‏*‏ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا‏*‏ وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا‏*‏ والله أنبتكم من الأرض نباتا‏*‏ ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا‏*'(‏ نوح‏:13-20).‏

ويشكو نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ إلي ربه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عصيان قومه له وانصرافهم عن دعوته لهم بتوحيد الله‏(‏ تعالي‏)‏ وتنزيهه عن كل وصف لا يليق بجلاله و ينعي إصرارهم علي عبادة الأوثان واتباعهم لأهل الضلال ومكرهم به واستخفافهم بدعوته وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
‏'‏ قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا‏*‏ ومكروا مكرا كبارا‏*‏ وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا‏*‏ وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلي ضلالا‏*'(‏ نوح‏:21-24).‏

وهنا يتنزل عقاب الله الصارم علي هؤلاء الضالين وينطلق لسان نبي الله نوح بالدعاء عليهم ويستجيب الله‏(‏ تعالي‏)‏ لدعاء نبيه فيقضي علي القوم الظالمين بالهلاك وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
‏'‏مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا‏*‏ وقال نوح رب لا تذر علي الأرض من الكافرين ديارا‏*‏ إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا‏*'(‏ نوح‏:25-27).‏

وتختتم السورة الكريمة بدعاء من نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ يقول فيه‏:‏
‏'‏ رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا‏*'(‏ نوح‏:28).‏

من ركائز العقيدة في‏'‏ سورة نوح‏'‏
‏(1)‏الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا واحدا أحدا لا شريك له في ملكه ولا منازع له في سلطانه واليقين بنبوة الأنبياء وبرسالات المرسلين وبملائكة الله وكتبه ورسله‏_‏ و علي رأسهم خاتمهم أجمعين‏-‏ والإيمان بكل من اليوم الآخر والجنة والنار و بأنها لجنة أبدا أو نار أبدا‏.‏
‏(2)‏ الإيمان بوحي السماء وبالأخوة بين الأنبياء وبخاتمهم أجمعين‏.‏

‏(3)‏ اليقين بالآخرة وبأن الأجل الذي حدده الله‏(‏ تعالي‏)‏ لها لا يؤخر وبوقوع عذاب الله‏(‏ تعالي‏)‏ في الدنيا قبل الآخرة‏..‏
‏(4)‏التصديق بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ غفار للذنوب وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي ينزل المطر من السماء ويرزق خلقه بما يشاء من المال والبنين ومختلف أشكال الرزق‏.‏

‏(5)‏ التصديق بقصة نبي الله نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ مع قومه كما جاءت في القرآن الكريم وبإغراق الكفار والمشركين والعصاة الملاحدة الظالمين منهم ونجاة عباد الله الصالحين من بينهم و هم أسلاف أهل الأرض من بعدهم‏.‏

من ركائز العبادة في‏'‏ سورة نوح‏'‏
‏(1)‏ضرورة عبادة الله‏(‏ تعالي‏)‏ بما أمر وتقواه وطاعته وتوقيره وخشيته ورجاء ثوابه والخوف من عقابه‏.‏
‏(2)‏الدعوة إلي دين الله‏(‏ تعالي‏)‏ بمختلف الأساليب المشروعة مهما لقي الإنسان في سبيل ذلك من عنت‏.‏

‏(3)‏النهي عن الشرك بالله‏(‏ تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا‏)‏ وعن الظلم وعن اتباع العصاة وعن معاداة الصالحين أو الكيد لهم‏.‏
‏(4)‏الأمر بضرورة التعرف علي الخالق العظيم وعلي شيء من صفاته العليا وذلك بالتأمل في بديع صنعه في خلقه وباستخلاص الدروس والعبر من ذلك‏.‏

‏(5)‏ الحرص علي التوجه إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالدعاء للنفس وللوالدين وبقية الأهل والمعارف والأصدقاء وللمؤمنين والمؤمنات جميعا بظهر الغيب لعل الله تعالي أن يستجيب لذلك الدعاء‏.‏

من الإشارات الكونية في‏'‏ سورة نوح‏'‏
‏(1)‏التأكيد علي مرحلية الحياة الدنيا وعلي حتمية الآخرة‏.‏
‏(2)‏ الإشارة إلي تنوع أساليب الدعوة وطرائقها بما يتناسب والظروف النفسية للمدعوين وحسب الظروف المتاحة للداعين‏.‏

‏(3)‏ تقدير أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي ينزل المطر بعلمه وحكمته وقدرته وهو‏(‏ سبحانه‏)‏ الرزاق ذو القوة المتين الذي يمد خلقه بالمال والبنين ويحيل الأرض القاحلة إلي جنات تجري من بينها الأنهار‏.‏
‏(4)‏ الإشارة إلي خلق الناس في أطوار متتالية يؤكدها العلم المكتسب‏.‏

‏(5)‏ التأكيد علي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ خلق سبع سماوات طباقا ولولا هذا التأكيد ما استطاع الإنسان المحبوس في حدود السماء الدنيا معرفة ذلك أبدا‏.‏
‏(6)‏ التفريق بين كل من الضياء والنور وذلك بوصف القمر بأنه نور ووصف الشمس بأنها سراج والتصريح بأن القمر نور في السماوات السبع يشير إلي شفافية وتطابق تلك السماوات حول مركز واحد يشمل كلا من الأرض والقمر‏.‏

‏(7)‏ الإشارة إلي إنبات الخلق من الأرض ثم إعادتهم فيها ومن بعده إخراجهم منها‏.‏
‏(8)‏ وصف تمهيد سطح الأرض بجعله في معظمه كالبساط و ذلك بشق الفجاج و السبل بين سلاسل الجبال و الهضاب الأرضية التي تسوي بسطح البحر وذلك بواسطة مختلف عمليات التعرية‏.‏

‏(9)‏ الإشارة إلي طوفان نوح الذي تؤكده الدراسات الحديثة‏.‏
و كل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها و لذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة السابعة من القائمة السابقة و التي جاءت في الآيتين السابعة عشرة و الثامنة عشرة من سورة نوح و لا بد من الرجوع إلي أقوال عدد من المفسرين في شرح هاتين الآيتين قبل الوصول إلي استعراض دلالتهما العلمية‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله تعالي‏:'‏ و الله أنبتكم من الأرض نباتا‏*‏ ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا‏*'‏
نوح‏(1817).‏

ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما مختصره‏'(‏ والله أنبتكم من الأرض نباتا‏)‏ هذا اسم مصدر والإتيان به ههنا أحسن‏(‏ ثم يعيدكم فيها‏)‏ أي إذا متم‏(‏ ويخرجكم إخراجا‏)‏ أي يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة‏...'.‏
و جاء في الظلال‏(‏ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة‏)‏ ما مختصره‏:'...‏ ثم عاد نوح فوجه قومه إلي النظر في نشأتهم من الأرض و عودتهم إليها بالموت ليقدر لهم حقيقة إخراجهم منها بالبعث‏...‏ والتعبير عن نشأة الإنسان من الأرض بالإنبات تعبير عجيب موح و هو يكرر في القرآن بصور شتي‏...‏ وهو يشير في هذا إلي نشأة الإنسان كنشأة النبات‏...‏ و هي ظاهرة تستدعي النظر و لا ريب فهي توحي بالوحدة بين أصول الحياة علي وجه الأرض وأن نشأة الإنسان من الأرض كنشأة النبات من عناصرها الأولية يتكون و من عناصرها الأولية يتغذي و ينمو فهو نبات من نباتها و هبه الله هذا اللون من الحياة كما وهب النبات ذلك اللون من الحياة و كلاهما من نتاج الأرض‏...‏ و الناس الذين نبتوا من الأرض يعودون إلي جوفها مرة أخري ويعيدهم الله إليها كما أنبتهم منها فتختلط رفاتهم بتربتها و تندمج ذراتهم بذراتها كما كانوا فيها من قبل أن ينبتوا منها‏!!‏ ثم يخرجهم الذي أخرجهم أول مرة و ينبتهم كما أنبتهم أول مرة‏...'.‏

و ذكر صاحب صفوة التفاسير‏(‏ جزاه الله خيرا‏)‏ ما مختصره‏:'...‏ و المعني خلقكم وأنشأكم من الأرض كما يخرج النبات و سلكم من تراب الأرض كما يسل النبات منها قال المفسرون‏:‏ لما كان إخراجهم وإنشاؤهم إنما يتم بتناولهم عناصر الغذاء الحيوانية و النباتية المستمدة من الأرض كانوا من هذه الجهة مشابهين للنباتات التي تنمو بامتصاص غذائها من الأرض فلذا سمي خلقهم و إنشاؤهم إنباتا أو يكون ذلك إشارة إلي خلق آدم حيث خلق من تراب الأرض ثم جاءت منه ذريته فصح نسبتهم إلي أنهم أنبتوا من الأرض‏(‏ ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا‏)‏ أي يرجعكم إلي الأرض بعد موتكم فتدفنون فيها ثم يخرجكم منها يوم البعث و الحشر للحساب و الجزاء و أكده بالمصدر‏(‏ إخراجا‏)‏ لبيان أن ذلك واقع لا محالة‏...'.‏

من الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين
يشبه القرآن الكريم عملية خلق الإنسان بإنبات الأرض و يشبه عملية بعثه منها بإعادة الإنبات دفعة واحدة لأن الخلق جميعا سوف يبعثون في لحظة واحدة بمجرد النفخة الثانية في الصور‏.‏

ويصف ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ خلق الإنسان في المراحل التالية‏:‏
‏1.‏ أنه سبحانه و تعالي خلقه من تراب‏(‏ آل عمران‏/30‏ الكهف‏/37‏ الحج‏/5‏ الروم‏/20‏ فاطر‏/11‏غافر‏/67).‏
‏2.‏ و أن خلقه كان من طين‏_‏ و هو التراب المعجون بالماء‏_(‏ الأنعام‏/2‏ الأعراف‏/12‏ السجدة‏/7‏ ص‏/71‏ و‏76‏ الإسراء‏/61).‏

‏3.‏ ومن سلالة من طين‏_‏ أي الخلاصة المنتزعة من الطين برفق‏_(‏ المؤمنون‏/12).‏
‏4.‏ و من طين لازب‏_‏ أي لاصق بعضه ببعض‏_(‏ الصافات‏/11).‏

‏5.‏ و من صلصال من حمأ مسنون‏_‏ أي أسود منتن‏_(‏ الحجر‏/332826).‏
‏6.‏ و من صلصال كالفخار‏(‏ الرحمن‏/14).‏

‏7.‏ و من الأرض‏(‏ هود‏/61‏ طه‏/55‏ النجم‏/32‏ نوح‏/1817).‏
‏8.‏ و من الماء‏(‏ الفرقان‏/54).‏

‏9.‏ و من ماء مهين‏(‏ المرسلات‏/20).‏
‏10.‏ و من ماء دافق‏(‏ الطارق‏/6).‏
‏11.‏ و من سلالة من ماء مهين‏(‏ السجدة‏/8).‏

وهذه كلها مراحل متتالية في الخلق المراحل السبع الأولي منها‏(‏ من تراب من طين من سلالة من طين من طين لازب من صلصال من حمأ مسنون و من صلصال كالفخار ومن الأرض‏)‏ تنطبق علي خلق أبينا آدم عليه السلام و منه خلق الله تعالي أمنا حواء‏(‏ عليها السلام‏)‏ بمعجزة لا تقل عن معجزة خلق آدم من تراب الأرض‏.‏
ومنذ خلق هذا الزوج الأول من البشر تسلسل نسلهما إلي يومنا الراهن و سوف يستمر إلي قيام الساعة إن شاء الله تعالي بعملية التزاوج التي تحاول المعارف المكتسبة تفسيرها‏_‏ علي ما فيها من غيوب كثيرة‏_‏ و هذه المراحل تنطبق علي جميع بني آدم لأنهم كانوا في صلب أبيهم لحظة خلقه‏.‏

و لخص القرآن الكريم هذه المراحل كلها بقول ربنا‏_‏ تبارك و تعالي‏_:'‏ و الله أنبتكم من الأرض نباتا‏*‏ ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا‏'‏ نوح‏(1817)‏ وهو قول معجز لأن أحدا من البشر لم تكن له دراية بذلك في زمن الوحي ولا لقرون متطاولة من بعده كما يفسره في النقاط التالية‏:‏

أولا في قوله تعالي‏'‏ والله أنبتكم من الأرض نباتا‏':‏
الخطاب في هذه الآية الكريمة موجه إلي البشر جميعا الذين تنمو أجسادهم من عناصر الأرض بطريقة غير مباشرة وذلك بالاغتذاء علي المنتجات النباتية والنباتات أعطاها الله تعالي القدرة علي تصنيع غذائها بنفسها عبر امتصاص عدد من عناصر الأرض المذابة في الماء علي هيئة العصارة الغذائية وامتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو وتحليل تلك المكونات إلي لبناتها الأولية مع إطلاق غاز الأكسيجين إلي الجو وإعادة تركيب ذرات الكربون والهيدروجين في سلاسل من الكربوهيدرات والزيوت والدهون التي يتغذي عليها كل من الإنسان والحيوان وذلك باستخدام طاقة الشمس‏.‏
ويتغذي الإنسان أيضا علي المباحات من الحيوانات ومنتجاتها والتي تزوده أساسا بالمواد البروتينية والدهنية اللازمة لبناء خلايا جسده وإحلال ما يفني منها أو إصلاح ما يتلف‏.‏ والحيوان يحصل علي تلك المواد من عناصر الأرض عبر تغذيته علي المنتجات النباتية‏.‏

بناء سلاسل الطعام من عناصر الأرض‏:‏
أعطي الله‏(‏ تعالي‏)‏ النبات القدرة علي امتصاص كل من الماء وما يناسبه من عناصر الأرض الذائبة في الماء‏(‏ العصارة الغذائية‏)‏ والتي يمتصها النبات من تربة الأرض بواسطة مجموعه الجذري وتنتقل العصارة الغذائية بما تحمله من ماء وعناصر الأرض المذابة إلي داخل النبتة الخضراء عبر خلايا الأوعية الخشبية التي تمتد متصلة من الجذور إلي كل ورقة من أوراق النبات‏.‏
وتحتوي أوراق النباتات علي عدد من الأصباغ أهمها الصبغ الأخضر المعروف باسم اليخضور أو‏(‏ الكلوروفيل‏)‏ الذي أعطاه الله تعالي القدرة علي امتصاص أطياف ضوء الشمس فيما عدا الطيف الأخضر الذي يعكسه واستخدام تلك الأطياف في إتمام عملية التمثيل‏(‏ التخليق‏)‏الضوئي‏.‏

ومن النباتات ما يستخدم أصباغا أخري بالإضافة إلي اليخضور ولذلك تبدو أوراقها بالألوان الحمراء الأرجوانية أو النحاسية أو البنية‏.‏
وينتشر علي أسطح أوراق النباتات‏(‏ خاصة علي السطح السفلي منها‏)‏ أعداد من المسام الدقيقة‏(‏ الثغيرات‏)‏ التي يتم عبرها دخول وخروج الغازات المختلفة من مثل ثاني أكسيد الكربون والأكسجين وبخار الماء‏.‏

وتقوم الأصباغ النباتية من اليخضور وغيره باحتباس جزء من طاقة الشمس لاستخدامه في إتمام سلسلة من التفاعلات الكيمائية التي يتم من خلالها تفكيك جزيئات الماء إلي مكوناتها الأساسية من الأكسجين الذي يطلقه النبات إلي الجو عبر ثغور أوراقه والهيدروجين الذي يحتفظ به النبات ليوحده مع جزيئات ثاني أكسيد الكربون التي يمتصها النبات من الجو عبر ثغوره أيضا وذلك لتكوين جزيء سكر الجلوكوز ويطلق الأكسجين‏.‏
ويستهلك النبات قسما من سكر الجلوكوز الناتج في القيام بأنشطة خلاياه المختلفة ويحول الباقي إلي أنواع أخري من السكريات وغيرها من الكربوهيدات من مثل النشا والسيلولوز التي يبني بها خلاياه المختلفة أو يخزنها في ثماره أو حبوبه أو أوراقه أو سوقه أو جذوره كي يأكلها كل من الإنسان والحيوان‏.‏

وقد أعطي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ كل نبتة من النبات القدرة علي اختيار ما يناسبها من عناصر الأرض المختلفة وعلي إفراز ما يذيب تلك العناصر إن لم تكن قابلة للذوبان في الماء بطريقة مباشرة وعلي امتصاص هذه العصارة الغذائية الخاصة بواسطة مجموعها الجذري وضخها إلي مختلف أوراق النبات بواسطة كل من الضغط الجذري وعمليات النتح والضغوط التناضحية‏(‏ الأسموزية‏)‏ الناتجة عن التباين في تركيز المحاليل المختلفة في داخل مختلف أوعية النبات‏.‏
والماء الذي يتحرك مع العصارة الغذائية من جذور النبتة إلي سوقها وأغصانها وأوراقها وزهورها وثمارها إلي أعلي قمة فيها يتبخر جزء منه إلي الهواء بواسطة عملية النتح وتفقد كل واحدة من الأشجار الكبيرة قرابة الألف لتر من الماء يوميا عبر ثغرات أوراقها بواسطة عملية النتح التي تعمل كقوة سحب للعصارة الغذائية حتي أعلي قمة في الشجرة‏.‏

وبعد إنضاج العصارة الغذائية إلي مختلف أنواع الكربوهيدرات والزيوت والدهون في أوراق النبات يعاد ضخ هذه المنتجات الناضجة إلي مختلف أجزاء النبات من القمة إلي الجذور خاصة إلي البراعم والثمار عبر نظام من الأوعية الأنبوبية المختلفة التي تؤلفها خلايا اللحاء الداخلي في اتجاه معاكس لاتجاه صعود العصارة الغذائية‏.‏
وفي بعض النباتات اللاطئة بالأرض لقصر سيقانها تفوق معدلات ضخ الماء والعصارة الغذائية من أسفل إلي أعلي معدلات فقد الماء بالبخر عبر ثغور أوراق النبات بواسطة عملية النتح فتتكون قطرات من الماء حول أطراف الورقة في ظاهرة تعرف باسم ظاهرة الإدماع‏(‏ أو النضح‏)‏ النباتي يفقد بواسطتها النبات قدرا من الماء الزائد عن حاجته‏.‏

والهدف من هذه العمليات كلها هو تحويل جزء من عناصر الأرض إلي غذاء مناسب للنبات ينمو به وينمي مختلف خلاياه ويختزن الباقي في ثماره وحبوبه علي هيئة مخزون من الكربوهيدات والزيوت والدهون تتغذي عليها أجنته حتي تظهر أوراقها بعد إنباتها أو يتغذي عليها كل من الإنسان والحيوان‏.‏
وكل كائن حي يحتاج إلي المغذيات وهي من المواد الأولية المستمدة أصلا من عناصر الأرض ووسيلته في ذلك التغذية وكل من الإنسان والحيوان يعتمد في تغذيته أصلا علي النبات الذي أعطاه الله‏(‏ تعالي‏)‏ القدرة علي تحويل عناصر الأرض إلي غذاء مقبول لكل من الإنسان والحيوان ولولا ذلك ما استقامت الحياة علي سطح هذا الكوكب‏.‏ والإنسان الذي يحيا علي الأطعمة العضوية التي ركبها له النبات من عناصر الأرض وعلي منتجات الحيوان المباح له أكله وهو يعيش علي نبات الأرض يتوفر له بذلك كل ما يحتاج إليه جسمه من الكربوهيدات والبروتينات والزيوت والدهون والفيتامينات المختلفة وغيرها من المركبات العضوية وكلها مستمدة أصلا من عناصر الأرض ومن هنا كان في قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏(‏ والله أنبتكم من الأرض نباتا‏)(‏ نوح‏:17).‏

سبقا علميا حقيقيا لأن هذه المعلومات لم تكن معروفة لأحد من الخلق في زمن الوحي ولا لقرون متطاولة من بعده‏.‏

ثانيا‏:‏ في قوله تعالي‏:'‏ ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا‏*':‏
‏(‏ الموت‏)‏ من أوضح حقائق الوجود وقد ذكره القرآن الكريم‏(165)‏ مرة منها ما يقول فيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏(1)(‏ كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة‏...*)(‏ آل عمران‏:185).‏

‏(2)(‏ كل نفس ذائق الموت ثم إلينا ترجعون‏*)(‏ العنكبوت‏:57).‏
‏(3)(‏ الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضي عليها الموت ويرسل الأخري إلي أجل مسمي إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏*)(‏ الزمر‏:42).‏

ولذلك جاء التوكيد القرآني علي تلكم الحقيقة التي لا يمكن لعاقل إنكارها ألا وهي حتمية العودة إلي الأرض التي منها نبت وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ عز من قائل‏):(‏ ثم يعيدكم فيها‏..*)‏
أما قصة البعث التي عبر عنها القرآن الكريم بقول الله‏(‏ تعالي‏):(‏ ويخرجكم إخراجا‏*).‏

فقد شك فيها كثير من الكفار والملاحدة والمتشككين الذين يذكر القرآن الكريم تشكيكهم فيقول علي لسانهم‏:(‏ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون‏*)(‏ الصافات‏:16).‏
وفي الرد علي ذلك أخرج الإمام مسلم في صحيحه‏(‏ كتاب الفتن وأشراط الساعة عن أبي هريرة‏(‏ رضي الله تعالي عنه‏)‏ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏ كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب‏)‏ والحديث أخرج مثله كل من الأئمة أحمد والبخاري ومالك والنسائي وأبوداود وابن ماجه وابن حبان وغيرهم‏.‏
وفي رواية أخري أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:(‏ يبلي كل عظم من ابن آدم إلا عجب الذنب وفيه يركب الخلق يوم القيامة‏).‏

كذلك أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة كذلك أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:'‏ ما بين النفختين أربعون‏..‏ ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء إلا يبلي إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة‏'‏ قالوا‏:‏ يا أبا هريرة‏:‏ أربعون يوما قال‏:‏ أبيت‏...‏ ومعني‏(‏ أبيت‏)‏ في كلام أبي هريرة هو‏:‏ أبيت أن أجزم أن المراد بالفترة بين النفختين هو أربعون يوما أو شهرا أو سنة بل الذي أجزم به أنها أربعون مجملة وقد جاءت أربعون سنة مفصلة في قول للإمام النووي‏(‏ رحمه الله‏).‏
وواضح الأمر من هذه الأحاديث النبوية الشريفة ومن غيرها أن بلي الأجساد هو حكم إلهي عام لا يستثني منه إلا أجساد كل من الأنبياء والشهداء والمؤذنون المحتسبون كما ذكر ابن حجر العسقلاني انطلاقا من أقوال رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

وأحاديث‏(‏ عجب الذنب‏)‏ تحتوي علي حقيقة علمية لم يتوصل إليها علم الإنسان إلا بعد الثلث الأول من القرن العشرين في سلسلة من الأبحاث قام بها العالم الألماني هانز سبيمان وعدد من زملائه‏HansSpemannandhisco-workers))‏ والتي نال عليها سييمان جائزة نوبل في العلوم‏(‏ سنة‏1935‏ م‏)‏ لأبحاثه علي عجب الذنب في البرمائيات‏.‏

ومن أهم نتائج تلك الأبحاث ما يلي‏:‏
‏(1)‏ أن كلا من الخيط الابتدائي‏(ThePrimitiveStreak)‏ والعقدة الابتدائية‏(ThePrimitiveNode)‏ التي يحملها الخيط الابتدائي في نهايته واللذان يظهران علي سطح البويضة الملقحة بعد فترة من انقسامها‏(15‏ يوما في الإنسان‏)‏ هما اللذان ينظمان عملية تخلق جميع أجهزة الجنين ولذلك أطلق سبيمان عليهما اسم المنظم الأولي أو الأساسي‏(ThePrimaryOrganizer).‏
‏(2)‏ أن هذا المنظم الأولي ينسحب إلي نهاية العصعص‏(‏ الفقرة الأخيرة في العمود الفقاري‏)‏ بعد إتمام تخلق جميع أجهزة الجسم‏(‏ ويتم ذلك في نهاية الأسبوع الرابع من عمر الجنين في حالة الإنسان‏).‏

‏(3)‏أن هذه العظمة النهائية في العمود الفقري لا تبلي أبدا فقد قام سبيمان وزملاؤه بقطع هذا الجزء‏(‏ الخيط والعقدة الابتدائيان‏)‏ من عدد من البرمائيات ثم زرعه في عدد من أجنتها فنما هذا الجزء علي هيئة جنين آخر مختلف عن الجنين المضيف‏.(‏ علما بأن كلا من الخيط والعقدة الأوليان في الحيوانات الفقارية ذات الأثداء‏(‏ الثديية‏)‏ يقابلها في البرمائيات ما يسمي باسم فتحة المعي الخلفية‏(Blastopore).‏
كذلك قام هانز سبيمان وزملاؤه بسحق هذا الجزء الذي سماه باسم‏'‏ المنظم الأول‏'‏ ثم زرعه في عدد من الأجنة فنما في كل واحد منها علي هيئة جنين ثانوي مما يؤكد علي أن خلاياه لم تتأثر بعملية السحق‏.‏ ثم قاموا بغلي هذا الجزء من البرمائيات لعدة ساعات ثم زرعه في عدد من الأجنة فنما علي هيئة أعداد من المحاور الجنينية الجديدة مما يؤكد أن خلاياه لم تتأثر بالغلي‏.‏ وبعد ذلك بتسع وستين سنة قام الأخ الدكتور عثمان جيلان‏(‏ من اليمن‏)‏ في شهر رمضان سنة‏1424‏ هـ بحرق الفقرتين الأخيرتين من خمسة عصاعص للأغنام بمسدس غاز لمدة عشر دقائق حتي تفحمت تماما وبفحصها بواسطة عدد من المتخصصين اتضح أن خلاياها ما زالت حية وكأنها لم تتعرض لشيء من الحرق وإن احترق كل ما كان حولها من عضلات وأنسجة دهنية وخلايا النخاع‏.‏

وبتطبيق نتائج‏:'‏ سبيمان‏'‏ ومدرسته علي الإنسان أثبت عدد من المتخصصين في علم الأجنة أن الشريط الإبتدائي يظهر في اليوم الخامس عشر من عمر البويضة المخصبة وتكون‏(‏ النطفة الأمشاج‏)‏ التي تبدأ في الانقسام إلي خلايا أصغر فأصغر‏(‏ خليتين ثم أربع ثم ثماني خلايا وهكذا‏)‏ وتعرف هذه باسم القسيمات الأرومية‏(Blastomeres))‏ وبعد أربعة أيام من الإخصاب تتحول هذه القسيمات الأرومية إلي كتلة كروية من الخلايا تعرف باسم التويتة‏(‏ تصغير التوتة‏)‏ أو‏(Morula).‏ وفي اليوم الخامس تنشطر التويتة إلي نصفين مكونة الكيسة الأرومية‏(Blastocyst).)‏ وفي اليوم السادس من عمر النطفة الأمشاج تنغرس الكيسة الأرومية في جدار الرحم بواسطة خلايا رابطة تنشأ منها وتتعلق بها في جدار الرحم لتتحول بعد ذلك إلي المشيمة وتتحول الكيسة الأرومية إلي شكل العلقة وهو طور هام في مراحل تكوين الجنين يتبعه من الأطوار المضغة ثم تخلق العظام ثم كسوتها باللحم ثم بالجلد وتستمر هذه الأطوار من الأسبوع الثاني حتي نهاية الأسبوع الثامن من تاريخ الإخصاب وأهم ما يميز هذه المراحل في تخلق الجنين هو التكاثر السريع للخلايا والنشاط المتنامي في تكــــــوين أجهزة الجســـم المختلـــــفة بواســــطة كل من الشريط والعقدة الابتـــــدائيين‏(ThePrimitiveStreakanditsnode))‏ واللذين يظهران في اليوم الخامس عشر من عمر النطفة الأمشاج وتتخلق منهما كل أجهزة الجسم التي يستكمل خلقها في الأسبوع الرابع من عمر الجنين‏.‏

وفي الأسبوع السابع يصل الجنين إلي صورته المتميزة نتيجة لاستكمال بناء هيكله العظمي والذي يبدأ كساؤه باللحم‏(‏ العضلات‏)‏ مع بداية الأسبوع الثامن إلي آخر فترة الحمل حيث تبدأ جميع أجهزة الجسم وأعضائه في الانتظام بالعمل في توافق عجيب‏.‏
وتبدأ مرحلة النشأة في الأسبوع التاسع حين تتباطأ معدلات النمو حتي نهاية الأسبوع الثاني عشر ثم تتسارع حتي نهاية فترة الحمل‏(‏ في حدود الأسبوع السادس والثلاثين أو الثامن والثلاثين‏)‏ ويعتبر اكتمال كساء العظام باللحم هو الحد الفاصل بين مرحلتي الحميل‏(Embryo)‏ والجنين‏(Fetusorfoetus)‏ وقد أثبت علم الأجنة الحديث أن جميع أجهزة الجنين تنشأ من الشريط الابتدائي وأول ما ينشأ منه هو الجهاز العصبي وبعد استكمال أجهزة وأعضاء الجنين ينحسر هذا الشريط المنظم علي هيئة عظمة في حجم حبة الخردل في نهاية العصص‏(Coccyx)‏ سماها رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ باسم‏(‏ عجب الذنب‏).‏

ومن نتائج نشاط الشريط الابتدائي ما يلي‏:-‏
‏1)‏ تكون بدايات الجهاز العصبي من الطبقة الخارجية للمضغة بدءا بالحبل الظهري‏(Notochord)‏ والذي يمتد من العقدة الابتدائية‏(PrimitiveNode)‏ في اتجاه النهاية الأمامية للمضغة وذلك في نهاية الأسبوع الثالث من تاريخ الإخصاب‏.‏
ويبدأ تكون الجهاز العصبي بالصفيحة العصبية‏(NeuralPlate)‏ التي تمتد من جهة العقدة الابتدائية إلي الطرف الأمامي للمضغة وتتثني هذه الصفيحة العصبية لتكوين الطيات العصبية‏TheNeuralFolds))‏ وتكون الجهة المنخفضة ما يعرف باسم الميزاب العصبي‏(TheNeuralGroove)‏ الذي يلتف علي ذاته مكونا الأنبوب العصبي‏(TheNeuralTube)‏ الذي يقفل طرفه الأمامي في اليوم الخامس والعشرين من عمر الجنين ويقفل الطرف الخلفي‏(‏ الذيلي‏)‏ في اليوم السابع والعشرين ويكون ثلث هذا الأنبوب العصبي الدماغ بينما يشكل الثلث الباقي منه الحبل الشوكي بتفرعاته المختلفة‏.‏

‏2)‏ تتكثف الأجزاء الداخلية من الطبقة المتوسطة الملاصقة لمحور المضغة مكونة الكتل البدنية‏(Somites)‏ والتي تشكل كلا من العمود الفقاري وبقية الهيكل العظمي ثم العضلات كما تخرج منها بدايات الأطراف العليا والسفلي‏.‏
‏3)‏ تتكثف الأجزاء الوسطي من الطبقة المتوسطة لتكون الجهاز التناسلي‏/‏ البولي‏.‏

‏4)‏ أما الأجزاء الطرفية فتتكثف من الطبقة المتوسطة مكونة كلا من أغشية البطن الداخلية وأغشية الرئتين كما يتكون منها كل من القلب وأغشيته والأوعية الدموية وعضلات الجهاز الهضمي‏.‏
‏5)‏ ينتهي الشريط الأولي من مهمة تخليق مختلف أجهزة وأعضاء الجسم في الأسبوع الرابع من عمر الجنين ويبدأ في الانسحاب إلي نهاية العمود الفقري‏(‏ العصعص‏)‏ علي هيئة أثر لا يكاد أن يري بالعين المجردة‏.‏

ويروي عن المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أنه قال في عدد من الأحاديث الشريفة‏:‏ أن جسد الإنسان يبلي كله فيما عدا‏(‏ عجب الذنب‏)‏ فإذا أراد الله تعالي بعث خلقه أنزل مطرا خاصا من السماء فينبت كل مخلوق من عجب ذنبه كما تنبت البقلة من بذرتها‏.‏ لذلك قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):'‏ والله أنبتكم من الأرض نباتا‏*‏ ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا‏*'.‏
وعلي غير علم بهاتين الآيتين الكريمتين يسمي علماء الأجنة عملية إنغراس النطفة الأمشاج المنقسمة والتي تعرف باسم الأرومة المتكيسة في جدار الرحم باسم عملية الاستنبات أو الاستزراع‏(Implantation))‏ وهذه الحقائق التي لم تكتشف إلا بعد الثلث الأول من القرن العشرين تشهد بأن القرآن الكريم الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة لا يمكن أن يكون صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ وحفظه‏(‏ تعالي‏)‏ بحفظه‏:‏ كلمة كلمة وحرفا حرفا علي مدي أكثر من أربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها حتي يكون شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين كما تشهد هذه الحقائق العلمية للرسول الخاتم والنبي الخاتم الذي تلقي القرآن من ربه الكريم فبلغ الرسالة وأدي الأمانة ونصح الناس وجاهد في سبيل الله حتي أتاه اليقين تشهد له هذه الحقائق بالنبوة وبالرسالة وبما وصفه به رب العالمين فقال فيه‏:‏
‏(‏ وما ينطق عن الهوي‏*‏ إن هو إلا وحي يوحي‏*‏ علمه شديد القوي‏)(‏ النجم‏:3-5).‏

فصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين والحمد لله علي نعمة الإسلام والحمد لله علي نعمة القرآن والحمد لله علي الدوام حتي نلقاه‏(‏ تعالي‏)‏ وهو راض عنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏