‏(141)‏ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري
‏*(‏ طه‏:55)*‏
بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هــذه الآية الكريمة جاءت في بدايات الثلث الثاني من سورة طه‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏(135)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم تكريما لخاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لأن طه اسم من أسمائه الشريفة بدليل توجيه الخطاب إليه‏(‏ صلوات الله وسلامه عليه‏)‏ مباشرة بعد هذا النداء‏,‏ وإن اعتبر نفر من المفسرين هذين الحرفين‏(‏ طه‏)‏ من المقطعات الهجائية التي استهل بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم‏.‏
والخطاب من الله‏(‏ تعالي‏)‏ إلي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ فيه من التكريم والتشريف لهذا النبي الخاتم والرسول الخاتم مايعجز البيان عن وصفه‏,‏ خاصة أن هذا النداء العلوي قد جاءه في وقت شدة تثبيتا له‏,‏ وتسرية عنه‏,‏ وتخفيفا لثقل ما كان يلقاه من كفار قريش ومشركيها من إنكار لنبوته‏,‏ وتكذيب لرسالته‏,‏ وصد عن دعوته‏,‏ وتجريح لشخصه الكريم‏,‏ وهو الذي اشتهر بينهم بالصادق الأمين‏,‏ ولذلك جاءت هذه السورة المباركة من أولها إلي آخرها خطابا من الله‏(‏ تعالي‏)‏ إلي خاتم أنبيائه ورسله يؤكد نبوته‏,‏ ويؤيد صدق رسالته‏,‏ ويهون الأمر عليه‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بتكليفه بمجرد البلاغ عن الله‏(‏ تعالي‏)‏ والتبشير والانذار‏,‏ وترك الخيار للناس‏..‏ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏..(‏ الكهف‏:29),‏ وأمرهم متروك إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده‏..‏ فيغفر لمن يشاء‏,‏ ويعذب من يشاء‏,‏ والله علي كل شيء قدير
‏(‏ البقرة‏:284).‏

ويدور المحور الرئيسي لسورة طه حول عدد من ركائز العقيدة الاسلامية‏,‏ وفي مقدمتها الايمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا واحدا أحدا‏,‏ لا يشبهه أحد من خلقه‏,‏ ولا يشاركه أحد في ملكه‏,‏ ولا ينازعه أحد في سلطانه‏,‏ وتنزيهه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن كل وصف لا يليق بجلاله من مثل الادعاء الباطل له بالصاحبة أو الولد‏,‏ وهما من صفات المخلوقين‏,‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ منزه عن جميع صفات خلقه‏.‏
ومن ركائز العقيدة الايمان بملائكة الله‏,‏ وكتبه ورسله‏,‏ واليوم الآخر‏,‏ وبحقيقة الوحي‏,‏ وحتمية البعث والنشور‏,‏ والحساب والجزاء‏,‏ ولذلك أوردت السورة الكريمة بعض مشاهد الآخرة‏,‏ وأحداث البعث والحشر حتي يدخل أهل الجنة الجنة ويدخل أهل النار النار‏.‏

كذلك عرضت سورة طه لقصة موسي وهارون‏(‏ عليهما السلام‏)‏ مع فرعون مصر‏,‏ وما دار بينهما من حوارات وجدل انتهي بتحديه لهما بسحرته‏,‏ ثم هزيمة السحرة وخضوعهم لأمر الله‏(‏ تعالي‏),‏ وإيمانهم به‏,‏ وتسليمهم بما جاء به موسي‏,‏ وغير ذلك من تفاصيل سيرة هذا النبي الكريم‏,‏ من مثل موقف المناجاة والتكليف بالتبليغ عن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ ثم غرق فرعون وجنوده‏,‏ ونجاة موسي وصحبه‏,‏ ثم فتنة بني اسرائيل من بعده بواسطة السامري‏.‏
وتؤكد السورة الكريمة حقيقة توحيد الله‏(‏ تعالي‏)‏ فتقول‏):‏
إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما‏.(‏ طه‏:98).‏

وتعاود السورة الكريمة توجيه الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ محذرة من الاعراض عن قبول رسالته‏,‏ فتقول‏:‏
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا‏*‏ من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا‏*‏ خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا‏*(‏ طه‏:99‏ ـ‏101)‏

ثم تستعرض الآيات عددا من مشاهد يوم القيامة حتي تنتهي إلي قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏
وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما‏*‏ ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما‏*(‏ طه‏:112,111).‏

وتمتدح سورة طه القرآن الكريم الذي أنزله الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله فتقول‏:‏
وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا‏*‏ فتعالي الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقل رب زدني علما‏*.‏
‏(‏ طه‏:114,113)‏

وتنتقل السورة الكريمة بعد ذلك إلي جانب من قصة أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏),‏ وإلي وسوسة الشيطان إليه‏,‏ ومعصيته لأمر ربه‏,‏ وتوبة الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليه‏,‏ وتضع دستورا للانسان في مسيرة الحياة‏,‏ مؤكدة عداوة الشيطان له‏,‏ وفي ذلك تقول‏:..‏ وعصي آدم ربه فغوي‏*‏ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدي‏*‏ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدي فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقي‏*‏ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمي‏*‏ قال رب لم حشرتني أعمي وقد كنت بصيرا‏*‏ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسي‏*‏ وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقي‏*(‏ طه‏:121:127)‏
وتذكر الآيات الناس بهلاك الضالين من الأمم السابقة‏(‏ الذين كذبوا أنبياء الله وحاربوا رسالاته‏)‏ حتي يتعظوا ويعتبروا وينيبوا إلي ربهم فتقول‏:‏

أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهي‏*‏ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمي‏*(‏ طه‏:129,128)‏
أي‏:‏ ولولا أن سبقت كلمة الله لكان عقاب كفار ومشركي قريش وعقاب أمثالهم من بعدهم علي كفرهم وشركهم وجناياتهم لازما عليهم في الدنيا‏,‏ كما كان علي الأمم السابقة‏,‏ ولكن قدر الله‏(‏ تعالي‏)‏ تأخير عذابهم إلي الأجل المسمي لهم وهو نهاية اعمارهم‏.‏

وتختتم سورة طه كما بدأت بتوجيه الخطاب إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ ومن بعده إلي كل مؤمن برسالته‏,‏ أن يصبر علي ما يقول الكفار والمشركون‏,‏ وأن يسبح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب‏,‏ ومن آناء الليل وأطراف النهار‏,‏ وأن يأمر أهله بالصلاة وأن يصطبر عليها‏,‏ وأن ينفض يديه من الكفار والمشركين بعد أن يخبرهم بقرار رب العالمين الذي يقول فيه‏:‏ قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدي‏*‏
‏(‏ طه‏:135).‏

من ركائز العقيدة في سورة طه
‏(1)‏ أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد بن عبدالله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ الذي ذكرته السورة المباركة باسم طه‏,‏ وسميت باسمه وأنزلت تكريما له‏,‏ وتذكرة لمن يخشي من عبادالله الصالحين‏.‏
‏(2)‏ أن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو خالق الأرض والسماوات العلي‏,‏ وخالق كل شيء‏,‏ وهو الذي أعطي كل شيء خلقه ثم هدي‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو الرحمن علي العرش استوي‏(‏ استواء يليق بجلاله‏),‏ وأن من صفاته‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ أنه لا يضل ولا ينسي‏.‏

‏(3)‏ التسليم بأن لله‏(‏ تعالي‏)..‏ مافي السماوات ومافي الأرض ومابينهما وماتحت الثري‏..‏ وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ يعلم السر وأخفي‏,‏ وأنه وسع كل شيء علما‏,‏ وأنه لا إله إلا هو له الأسماء الحسني‏.‏
‏(4)‏ التصديق بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ خلق الناس من الأرض‏,‏ وفيها يعيدهم‏,‏ ومنها يخرجهم تارة أخري‏.‏

‏5)‏ الإيمان بالله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وملائكته‏,‏ وكتبه ورسله‏,‏ واليوم الآخر‏,‏ وبضرورة الخضوع له بالطاعة والعبادة‏,‏ وتنزيهه عن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ ومن ذلك الادعاء الباطل له‏(‏ تعالي‏)‏ بالصاحبة أو الولد‏,‏ وهما من صفات المخلوقين‏,‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ منزه عن جميع صفات خلقه‏,‏ واليقين بأن من لا يؤمن بذلك كافر‏,‏ هالك في الدنيا ومعذب في الآخرة‏.‏
‏6)‏ اليقين بحقيقة كل من الجنة والنار‏,‏ وبأنها إما جنة أبدا أو نار أبدا‏,‏ وأن الجنة جزاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات‏,‏ وأن النار جزاء كل من الكفار والمشركين‏,‏ والظالمين المتجبرين علي الخلق‏.‏

‏7)‏ التصديق بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدي‏,‏ وأن من يحلل عليه غضب الله فقد هوي‏.‏
‏8)‏ التسليم بأن الشيطان للإنسان عدو مبين‏,‏ وأن السحر من غوايات الشيطان للإنسان‏,‏ وأنه من السبع الكبائر الموبقات المهلكات‏,‏ وأنه لا يفلح الساحر حيث أتي‏,‏ وأنه من أبشع أنواع الظلم وقد خاب من حمل ظلما‏.‏

‏9)‏ التصديق بأن لكل إنسان محارمه‏,‏ وأنه علي كل من يريد الحفاظ علي محارمه ألا يمد عينيه الي محارم غيره‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة طه
‏1)‏ أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق الأرض والسماوات العلي‏,‏ وفي هذا تأكيد علي أن الكون مخلوق مستحدث‏,‏ وليس أزليا‏,‏ ولا أبديا كما ادعي بعض المبطلين‏,‏ ولكن له بداية يحاول العلم التجريبي حسابها‏,‏ وكل ما له بداية فلابد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية لا يعلمها إلا الله‏(‏ تعالي‏).‏
‏2)‏ وللتأكيد علي حقيقة خلق الكون تذكر الآيات أن لله‏..‏ ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما‏,‏ وما تحت الثري‏,‏ وهي إشارة ضمنية رقيقة لما تحت الثري في صور الحياة والنشاطات والثروات‏,‏ مما لم يدرك إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين‏,‏ كما أن في الآية الكريمة إشارة ضمنية أيضا الي مركزية الأرض بالنسبة الي الكون‏,‏ لأن البينية الفاصلة للأرض عن السماوات لا تتم إلا إذا كانت الأرض في مركز الكون‏.‏

‏3)‏ والإشارة الي ثلاث مراتب من التعبير هي‏:(‏ الجهر‏)‏ الذي يعلمه صاحبه‏,‏ والجهر يعلمه كل من سمعه ويعلمه الله‏(‏ تعالي‏),‏ و‏(‏السر‏)‏ الذي ما حدث الإنسان به غيره في خفية‏,‏ فيعلمه صاحبه ويعلمه من أسر به إليه من الخلق‏,‏ ويعلمه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ويجهله من لم يسمع به من الناس‏,‏ و‏(‏ الأخفي‏)‏ فلا يعلم به إلا صاحبه والله‏(‏ تعالي‏),‏ وقد يشير ذلك الي الخواطر التي تجيش بها النفس الإنسانية دون أن يحدث بها صاحبها وهي ما يعرف باسم‏(‏ حديث النفس‏),‏ أو ما استقر في العقل الباطن دون أن يدري به صاحبه‏,‏ ولكن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ يعلمه لأنه هو علام الغيوب‏.‏
‏4)‏ التأكيد علي أن السنن الحاكمة للكون ولجميع ما فيه ومن فيه هي من أمر الله‏(‏ تعالي‏)‏ وهدايته‏,‏ تأكيدا علي حقيقة الخلق‏,‏ وعلي ربوبية الخالق أي أن الله‏(‏ جلت قدرته‏)‏ هو رب كل شيء ومليكه‏.‏

‏5)‏ الإشارة الي تمهيد الأرض‏,‏ وشق الفجاج والسبل فيها‏,‏ وإلي إنزال الماء من السماء‏,‏ وتدويره في دورة معجزة حول الأرض‏,‏ وإخراج مختلف أنواع النبات في زوجية واضحة‏,‏ وهي سنة فرضها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي جميع خلقه حتي يبقي متفردا بالوحدانية المطلقة فوق جميع الخلق‏.‏ وتأمر الآيات الإنسان بالأكل مما خلق الله‏(‏ تعالي‏)‏ له من ثمار هذه النباتات‏,‏ ويرعي أنعامه فيها‏,‏ وبتأمل ذلك كله بنظرة العاقل البصير لأن فيها آيات لأصحاب العقول البصيرة‏....‏ إن في ذلك لآيات لأولي النهي‏.‏
‏6)‏ التأكيد علي حقيقة خلق الإنسان من الأرض‏,‏ وعلي حتمية عودته إليها بعد الموت‏,‏ ثم إخراجه منها يوم البعث‏.‏

‏7)‏ وصف نهاية الجبال في الآخرة بأنها سوف تنسف نسفا حتي لا نري فيها‏(‏ عوجا‏)‏ ولا‏(‏ أمتا‏),‏ وهو وصف دقيق لوسائل تكون الجبال في الحياة الدنيا بالطي‏(‏ أي العوج‏),‏ أو بالتصدع‏(‏ الأمت‏)‏ وما يصاحبه من استقامة في الحدود ورفع أسطح الأرض وخفضها‏,‏ وقد تشترك العمليتان في تشكيل العديد من جبال الأرض المعاصرة‏,‏ وهي من الحقائق التي لم يدركها الإنسان إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج الي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة السادسة فقط في القائمة السابقة والتي جاء ذكرها في الآية الخامسة والخمسين من سورة طه وقبل الوصول الي ذلك أري لزاما علي استعراض أقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري‏(‏ طه‏:55)‏
‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:...‏ أي من الأرض مبدؤكم فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض‏,‏ وفيها نعيدكم أي وإليها تصيرون إذا متم وبليتم‏,‏ ومنها نخرجكم تارة أخري‏......‏

‏*‏ وجاء في تفسير الجلالين‏(‏ رحم الله كاتبيه‏)‏ ما نصه‏:(‏ منها‏)‏ أي من الأرض‏(‏ خلقناكم‏)‏ بخلق أبيكم آدم منها‏(‏ وفيها نعيدكم‏)‏ مقبورين بعد الموت‏(‏ ومنها نخركم‏)‏ عند البعث‏(‏ تارة‏)‏ مرة‏(‏ أخري‏)‏ كما أخرجناكم عند ابتداء خلقكم‏.‏
‏*‏ وذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ ما مختصره‏:.....‏ من هذه الأرض خلقناكم وفي هذه الأرض نعيدكم‏,‏ ومنها نخرجكم بعد موتكم‏,‏ والإنسان مخلوق من مادة هذه الأرض‏,‏ عناصر جسمه كلها من عناصرها إجمالا‏,‏ ومن زرعها يأكل‏,‏ ومن مائها يشرب‏,‏ ومن هوائها يتنفس‏,‏ وهو ابنها وهي له مهد‏,‏ وإليها يعود جثة تطويها الأرض‏,‏ ورفاتا يختلط بترابها‏,‏ وغازا يختلط بهوائها‏,‏ ومنها يبعث الي الحياة الأخري‏,‏ كما خلق في النشأة الأولي‏...‏
‏*‏ وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لا أري ضرورة الي تكراره هنا‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
أولا‏:‏ في قوله‏(‏ تعالي‏):....‏ منها خلقناكم‏......:‏
الضمير في قوله‏(‏ تعالي‏)‏ منها يعود علي الأرض وذلك للسياق الذي جاءت فيه الآية الكريمة‏,‏ والذي جاء فيه قول ربنا‏(‏ تبارك الله‏):‏ الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتي‏*‏كلوا وارعوا أنعاكم إن في ذلك لآيات لأولي النهي‏*‏ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري‏(‏ طه‏:53‏ ـ‏55).‏
والأرض ترد في القرآن الكريم بثلاثة معان هي‏:‏ الكوكب بأجمعه‏,‏ أو صخور القارات التي نحيا عليها أو قطاع التربة الذي يغطي تلك الصخور‏,‏ وتفهم الدلالة من السياق‏,‏ وذلك من مثل قوله‏(‏تعالي‏):‏

ومن آياته أنك تري الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتي إنه علي كل شئ قدير‏(‏ فصلت‏39)‏ والذي يهتز ويربو هنا من الأرض هو قطاع التربة الذي يعلو صخور القارات وليست الصخور‏,‏ وليس الكوكب بأجمعه‏,‏ ولكن إذا قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ عن الأرض‏:‏ منها خلقناكم انطبق ذلك علي كل من قطاع التربة‏,‏ وصخور القشرة‏,‏والأرض ككل‏,‏ فقطاع التربة مستمد أصلا من تجوية وتعرية صخور قشرة الأرض‏,‏ وقشرة الأرض مستمدة من تمايز وتبرد وتجمد الصهير فيما تحت قشرتها ولذلك قال المصطفي‏0(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض‏,‏ فجاء بنو آدم علي قدر الأرض‏:‏ جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك‏,‏ والخبيث والطيب وبين ذلك‏(‏ أخرجه الإمام أحمد عن أبي موسي الأشعري‏,‏ كما أخرجه كل من الإمامين أبي داود والترمذي عن عوف الأعرابي‏),‏ وهذا الحديث الشريف جاء مطابقا لقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود‏*‏ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشي الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور‏(‏ فاطر‏27‏ و‏28).‏

وهاتان الايتان الكريمتان تؤكدان أن تنوع ألوان ثمار النباتات نابع من تنوع ألوان صخور الأرض‏(‏ بين الأبيض والأحمر والأسود وبين كل اثنين منها ومن بين اختلاف درجات تلك الألوان‏),‏ وذلك لاعتماد النبات في غذائه علي عناصر الأرض‏.‏ وكذلك تنوع ألوان كل من الناس والدواب والأنعام نابع من تنوع ألوان ثمار النباتات‏(‏ النابع من تنوع ألوان صخور الأرض‏),‏ وذلك لاعتماد كل من هذه المخلوقات علي النباتات الأرضية وثمارها‏.‏
وهذه الألوان الثلاثة‏(‏ الأبيض والأحمر والأسود بمختلف درجاتها‏)‏ تمثل الأقسام الرئيسية للصخور الأولية‏(‏ النارية‏):‏ الحامضية وفوق الحامضية التي يغلب عليها من الألوان الأبيض والأحمر والتي تمثل نهاية من نهايات تقسيم تلك الصخور‏,‏ والصخور القاعدية وفوق القاعدية التي يغلب عليها من الألوان الأخضر الغامق والأسود‏(‏ والعرب تسمي الأسمر الغامق أخضر‏)‏والتي تمثل النهاية المقابلة في تقسيم الصخور النارية‏(‏ الأولية‏)‏ وبين هذين الحدين توجد مراحل متوسطة عديدة‏(‏ مختلف ألوانها‏).‏

وتربة الأرض تتكون بواسطة التحلل الكيميائي والحيوي لصخورها‏,‏ كما تتكون نتيجة للتفكك الفيزيائي والميكانيكي بواسطة مختلف عوامل التعرية التي تؤدي في النهاية إلي تكوين غطاء رقيق لصخور الغلاف الصخري للأرض من فتات وبسيس الصخور علي هيئة حطام مفروط متباين في حجم الحبيبات من الجلاميد والحصي إلي الرمل والغرين‏(‏ أو الطمي‏)‏ والصلصال‏,‏ ويعرف هذا الحطام المفروط باسم عادم الصخور ومنه تراب الأرض أو تربة الأرض‏,‏ وهذه التربة قد تكون ناتجة عن تحلل الصخور التي توجد أسفل منها مباشرة‏,‏ وقد تكون منقولة إليها بواسطة عوامل النقل المختلفة‏,‏ التربة تحمل بصمة التركيب الكيميائي للصخور المستمدة منها‏,‏كما تحمل أطيافا من ألوانها‏,‏ ومن هنا جاء قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في محكم كتابه‏:‏
ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك‏..‏ وجاء قول المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض‏,‏ فجاء بنو آدم علي قدر الأرض‏:‏ جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك‏,‏ والخبيث والطيب وبين ذلك‏.‏

وتتكون تربة الأرض أساسا من خليط من المعادن المفككة من صخور الأرض‏,‏ ومن المركبات غير العضوية والعضوية الناتجة عن التفاعل بين تلك الصخور ونطق الأرض المائية‏,‏ والهوائية‏,‏والحيوية‏(‏ من مثل البكتريا‏,‏ والطحالب‏,‏ والفطريات‏,‏ وبقايا مختلف النباتات والحيوانات الأرضية‏),‏ وقد يضاف إلي تربة الأرض العديد من حبوب اللقاح التي تحملها إليها الرياح‏,‏ وبعض نواتج الثورات البركانية‏,‏ ورذاذ أملاح البحار‏,‏ وبعض نواتج عمليات الاحتراق‏,‏وبعض الدقائق الكونية من مثل رماد الشهب وحطام النيازك‏.‏
ولما كان الإنسان قد خلق أصلا من تراب الأرض‏,‏ ولماكان يحيا علي نبات الأرض‏(‏ المعتمد في غذائه علي عناصر الأرض‏),‏ أو علي بعض المباحات من المنتجات واللحوم الحيوانية التي تحيا كذلك علي نباتات الأرض‏,‏ قال ربنا‏(‏ وقوله الحق‏):‏ منها خلقناكم وكان هناك قدر من التشابه بين التركيب الكيميائي لكل من جسم الإنسان والتربة الزراعية‏,‏ وأديم الأرض‏,‏ مع غلبة الماء علي جسم الإنسان‏,‏ وتركيز كل من عناصر الكربون والنيتروجين والفوسفور فيه‏,‏

ثانيا‏:‏ في قوله‏(‏ تعالي‏):..‏ وفيها نعيدكم‏...‏
بعد وفاة الإنسان ودفن جسده في تراب الأرض يبدأ هذا الجسد في التحلل إلي تراب الأرض بعملية معاكسة لعملية بنائه التي بدأت أصلا من تراب الأرض الذي ارتوي بالماء فأصبح طينا‏,‏ وأذاب الماء من هذا الطين ما قبل الذوبان فيه من عناصر الأرض ومركباتها حتي تمايزت من بين حبات هذا الطين سلالة مذابة في الماء‏(‏ سلالة من طين‏),‏ وبتبخير المحاليل المذيبة لتلك السلالة جزئيا ترسبت بعض العناصر والمركبات بين حبيبات المعادن الصلصالية فأصبح الطين‏(‏ طينا لازبا‏)‏ أي لاصقا بعضه ببعض‏,‏ وبجفاف هذا الطين اللازب أصبح‏(‏ صلصالا من حمأ مسنون‏)‏ أي أسود منتن‏,‏ ثم زاد جفافه فأصبح‏(‏ صلصالا كالفخار‏),‏ ثم نفخ الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيه من روحه فأصبح إنسانا‏(‏ هو آدم أبو البشر‏),‏ ومن آدم خلقت زوجه‏(‏ حواء‏)(‏ عليها السلام‏)‏ بمعجزة أمر بها الله تعالي‏.‏ونسل آدم تسلسل منه ومن زوجه حواء‏(‏ عليهما السلام‏)‏ من شفرتهما الوراثية التي خلقها الله‏(‏ تعالي‏)‏ وخلق فيها جميع نسله‏,‏ وتغذي هذا النسل ونمت أجساده علي عناصر الأرض التي يمتصها النبات مع عصارته الغذائية من طين الأرض ثم بواسطة ما يأخذه النبات الأخضر من طاقة الشمس‏,‏وما يمتصه من غاز ثاني أكسيد الكربون من الجو‏,‏ وبما وهبه الخالق‏(‏سبحانه وتعالي‏)‏ من قدرات يحول النبات الأخضر ذلك كله إلي ثمار ومحاصيل يحيا عليها كل من الإنسان‏,‏ وما يباح له أكله من الحيوان‏,‏ وأصل ذلك كله من تراب الأرض‏.‏

ثم إذا مات ابن آدم‏,‏ وغادرت روحه جسده‏,‏ فإن هذا الجسد يبدأ في اليبوس والتخشب حتي يصير كالتمثال الحجري أو‏(‏ الصلصال كالفخار‏),‏ وبعد دفنه يبدأ في التحلل التدريجي الذي تقوم به البكتريا والفيروسات‏,‏ والفطريات والطحالب التي تعايشت مع الجسد في حياته‏,‏ والتي توجد في جو وتربة القبر الذي يدفن فيه‏,‏ فيتغير لونه‏,‏ وتنتن رائحته‏(‏ أي تفسد‏)‏ حتي يصير‏(‏ صلصالا من حمأ مسنون‏),‏ ثم يتحول إلي‏(‏ طين لازب‏)‏ بفقد جزء من محتواه المائي‏,‏ وبفقد كل مائه يتحول إلي تراب يغيب في تراب الأرض فيما عدا فضلة واحدة سماها رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ باسم عجب الذنب ووصفها بأنها عظمة في حجم حبة الخردل توجد في نهاية العصعص‏,‏ وأنها لا تبلي أبدا‏,‏ وأن الإنسان يبعث منها في يوم القيامة بعد إنزال مطر خاص كما تنبت البقلة من بذرتها‏,‏وقد أيدت الدراسات المختبرية صدق هذا الوصف بأن عجب الذنب لا يبلي أبدا‏,‏ وبذلك أيضا تثبت صحة الإشارة القرآنية الكريمة التي يقول فيها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):...‏ وفيها نعيدكم‏....‏ فكل حي يستمد جسده من تراب الأرض‏,‏ ويعود بعد موته إلي تراب الأرض‏,‏حيث يبلي الجسد كله إلا عظمة واحدة يعاد بعثه منها في يوم القيامة‏,‏ فيخرجه الله تعالي من الأرض إخراجا يشبه إنبات البقلة من بذرتها‏.‏

ثالثا‏:‏ في قوله تعالي‏:..‏ ومنها نخرجكم تارة أخري‏*‏
أخرج الإمام مسلم في صحيحه‏(‏ كتاب الفتن وأشراط الساعة‏)‏ عن أبي هريرة‏(‏رضي الله تعالي عنه‏)‏ أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏
‏{‏ كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب‏.‏والحديث أخرج مثله كل من الأئمة أحمد والبخاري ومالك‏,‏ والنسائي‏,‏ وأبو داود‏,‏ وابن ماجه‏,‏ وابن حبان‏.‏

‏{‏ وفي رواية أخري أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏يبلي كل عظم من ابن آدم إلا عجب الذنب‏,‏ وفيه يركب الخلق يوم القيامة‏.‏
‏{‏ كذلك أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ قال رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏

ما بين النفختين أربعون‏..‏ ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل‏,‏ وليس من الإنسان شيء إلا يبلي‏,‏ إلا عظما واحدا‏,‏ وهو عجب الذنب‏,‏ ومنه يركب الخلق يوم القيامة‏,‏ قالوا‏:‏ يا أبا هريرة‏:‏ أربعون يوما؟ قال‏:‏ أبيت‏,‏ قالوا‏:‏ أربعون شهرا؟ قال‏:‏ أبيت‏,‏ قالوا‏:‏ أربعون سنة؟ قال‏:‏ أبيت‏.‏ ومعني‏(‏ أبيت‏)‏ في كلام أبي هريرة هو‏:‏ أبيت أن أجزم أن المراد بالفترة بين النفختين هو أربعون يوما أو شهرا أو سنة‏,‏ بل الذي أجزم به أنها أربعون مجملة‏,‏ وقد جاءت أربعون سنة مفصلة في قول للإمام النووي‏.‏
وواضح الأمر من هذه الأحاديث النبوية الشريفة ومن غيرها أن بلي الأجساد هو حكم إلهي عام لا يستثني منه إلا أجساد كل من الأنبياء والشهداء‏,‏ والمؤذنين المحتسبين كما ذكر ابن حجر العسقلاني إنطلاقا من أقوال رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

وأحاديث‏(‏عجب الذنب‏)‏ تحتوي علي حقيقة علمية لم يتوصل إليها علم الإنسان إلا بعد الثلث الأول من القرن العشرين في سلسلة من الأبحاث قام بها العالم الألماني هانز سبيمان وعدد من زملائه‏(HansSpemannandhisco-workers)‏ كان من أشهرهم هيلدا مانجولد‏(HildeMangold)‏ والتي نال عليها سبيمان جائزة نوبل في العلوم‏(‏ سنة‏1935‏ م‏)‏ لأبحاثه علي عجب الذنب في البرمائيات‏.‏

ومن أهم نتائج تلك الأبحاث مايلي‏:‏ ــ
‏(1)‏ أن كلا من الخيط الابتدائي‏(TheprimitiveStreak)‏ والعقدة الابتدائية‏(TheprimitiveNode)‏ التي يحملها في نهايته‏,‏ يظهران علي سطح البويضة الملقحة بعد فترة من انقسامها‏(15‏ يوما في الإنسان‏)‏ ينظمان عملية تخلق جميع أجهزة الجنين‏,‏ ولذلك أطلق سبيمان عليهما اسم المنظم الأولي أو الأساسي‏(TheprimaryOrganizer).‏
‏(2)‏ أن هذا المنظم الأولي ينسحب إلي نهاية العصعص‏(‏ الفقرة الأخيرة من العمود الفقاري‏)‏ بعد إتمام تخلق جميع أجهزة الجسم‏,(‏ ويتم ذلك في نهاية الأسبوع الرابع من عمر الجنين في حالة الإنسان‏).‏

‏(3)‏ أن هذه العظمة النهائية في العمود الفقاري لاتبلي أبدا‏,‏ فقد قام سبيمان وزملاؤه بقطع هذا الجزء‏(‏ الخيط والعقدة الابتدائيان‏)‏ من عدد من البرمائيات وزرعه في عدد من أجنتها فنما هذا الجزء علي محور جنيني آخر مختلف عن الجنين المضيف‏(‏ علما بأن كلا من الخيط والعقدة الأولين في الحيوانات الفقارية ذات الأثداء‏(‏ الثديية‏)‏ يقابلها في البرمائيات ما يسمي باسم فتحة المعي الخلفية‏(Blastopore).‏
كذلك قام هانز سبيمان وزملاؤه بسحق هذا الجزء الذي سماه باسم المنظم الأولي‏,‏ وزرعه في عدد من الأجنة فنما في كل واحد منها علي هيئة جنين ثانوي مما يؤكد أن خلاياه لم تتأثر بعملية السحق‏,‏ ثم قاموا بغلي هذا الجزء من البرمائيات لعدة ساعات وبعد ذلك زرعوه في عدد من الأجنة فنما علي هيئة أعداد من المحاور الجنينية الجديدة مما يؤكد أن خلاياه لم تتأثر بالغلي‏.‏

وفي شهر رمضان سنة‏1424‏ هـ قام الأخ الدكتور عثمان جيلان‏(‏ من اليمن‏)‏ بحرق الفقرتين الأخيرتين من خمسة عصاعص للأغنام بمسدس غاز لمدة عشر دقائق حتي تفحمت تماما‏,‏ وبفحصها بواسطة عدد من المتخصصين‏,‏ اتضح أن خلاياها بقيت حية وإن احترق كل ما كان حولها من عضلات‏,‏ وأنسجة دهنية‏,‏ وخلايا النخاع‏.‏

وبتطبيق نتائج سبيمان ومدرسته علي الإنسان أثبت عدد من المتخصصين في علم الأجنة أن الشريط الإبتدائي يظهر في جنين الإنسان في اليوم الخامس عشر منذ بدء إخصاب البويضة وتكون النطفة الامشاج التي تبدأ في الانقسام إلي أصغر فأصغر‏(‏ خليتين ثم أربع ثم ثماني خلايا وهكذا‏),‏ وتعرف هذه باسم القسيمات الأرومية‏(Blastomeres),‏ وبعد أربعة أيام من الإخصاب تتحول هذه القسيمات الأرومية إلي كتلة كروية من الخلايا تعرف باسم التويتة‏(‏ تصغير التوتة‏)‏ أو‏(Morula).‏ وفي اليوم الخامس تنشطر التويتة إلي نصفين مكونة الكيسة الأرومية‏(Blastocyst).‏ وفي اليوم السادس من عمر النطفة الأمشاج تنغرس الكيسة الأرومية في جدار الرحم بواسطة خلايا رابطة تنشأ منها‏,‏ وتتعلق بها في جدار الرحم لتتحول بعد ذلك إلي المشيمة‏,‏ ويظهر علي سطح الكيسة الأرومية كل من الشريط والعقدة الابتدائيين في اليوم الخامس عشر من تاريخ الإخصاب‏,‏ فتكون العلقة ثم المضغة‏,‏ ثم تخلق العظام‏,‏ ثم تكسي باللحم ثم بالجلد‏,‏ وتستمر هذه الأطوار من نهاية الأسبوع الثاني حتي نهاية الأسبوع الثامن من تاريخ الإخصاب‏,‏ وأهم ما يميز هذه المراحل في تخلق الجنين هو التكاثر السريع للخلايا‏,‏ والنشاط ال
متنامي في تكوين أجهزة الجسم المختلفة بواسطة كل من الشريط والعقدة الابتدائيين‏.‏

وفي الأسبوع السابع يصل الجنين إلي صورته المتميزة نتيجة لاستكمال بناء هيكلة العظمي‏,‏ الذي يبدأ كساؤه باللحم‏(‏ العضلات‏)‏ مع بداية الأسبوع الثامن إلي آخر فترة الحمل‏,‏ حيث يتكامل بناء جميع أجهزة الجسم وأعضائه‏,‏ وتبدأ في الانتظام بالعمل في توافق عجيب‏.‏
ومرحلة النشأة تبدأ في الأسبوع التاسع حين تتباطأ معدلات النمو حتي نهاية الأسبوع الثاني عشر‏,‏ ثم تتسارع حتي نهاية فترة الحمل‏(‏ في حدود الأسبوع السادس والثلاثين أو الثامن والثلاثين‏),‏ ويعتبر اكتمال كساء العظام باللحم هو الحد الفاصل بين مرحلتي الحميل‏(Embryo)‏ والجنين‏(Fetusorfoetus).‏

وقد أثبت علم الأجنة الحديث أن جميع أجهزة الجنين تنشأ من الشريط الابتدائي‏,‏ وأول ما ينشأ منه هو الجهاز العصبي‏,‏ وبعد استكمال أجهزة وأعضاء الجنين ينحسر هذا الشريط المنظم علي هيئة عظمة في حجم حبة الخردل في نهاية العصعص‏(Coccyx)‏ سماها رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ باسم عجب الذنب قبل أن يعرفها الإنسان بأربعة عشر قرنا‏.‏

ومن نتائج نشاط الشريط الابتدائي مايلي‏:‏ ــ
‏(1)‏ تكون بدايات الجهاز العصبي من الطبقة الخارجية للمضغة بدءا بالحبل الظهري‏(Notochord)‏ والذي يمتد من العقدة الابتدائية‏(rimitivenode)‏ في اتجاه النهاية الأمامية للمضغة‏,‏ وذلك في نهاية الأسبوع الثالث من تاريخ الإخصاب‏.‏
ويبدأ تكون الجهاز العصبي بالصفيحة العصبية‏(Neuralplate)‏ التي تمتد من جهة العقدة الابتدائية إلي الطرف الأمامي للمضغة‏,‏ وتتثني هذه الصفيحة العصبية لتكوين الطيات العصبية‏(Theneuralfolds),‏ وتكون الجهة المنخفضة ما يعرف باسم الميزاب العصبي‏(TheneuralGroov)‏ الذي يلتف علي ذاته مكونا الأنبوب العصبي‏(TheNeuralTube)‏ ويقفل طرفه الأمامي في اليوم الخامس والعشرين من عمر الجنين بينما يقفل طرفه الخلفي‏(‏ الذيلي‏)‏ بعد ذلك بيومين في اليوم السابع والعشرين‏,‏ويكون ثلث هذا الأنبوب العصبي الدماغ‏,‏ بينما يشكل الثلث الباقي منه الحبل الشوكي بتفرعاته‏.‏

‏(2)‏ تتكثف أجزاء من الطبقة المتوسطة من جسم المضغة الملاصقة لمحور الجنين مكونة الكتل البدنية‏(Somites)‏ والتي تشكل كلا من العمود الفقاري وبقية الهيكل العظمي والعضلات‏,‏ كما تخرج منها بدايات الأطراف العليا والسفلي‏.‏
‏(3)‏ تتكثف الأجزاء الوسطي من الطبقة المتوسطة لتكون الجهاز التناسلي‏/‏ البولي‏.‏

‏(4)‏ تتكثف الأجزاء الطرفية من الطبقة المتوسطة مكونة كلا من أغشية البطن الداخلية‏,‏ وأغشية الرئتين‏,‏ وغشاء القلب‏,‏ كما يتكون منها كل من القلب والأوعية الدموية‏,‏ وعضلات الجهاز الهضمي‏.‏
‏(5)‏ ينتهي الشريط الأولي من مهمة تخليق أجهزة وأعضاء الجسم في الأسبوع الرابع من عمر الجنين‏,‏ ويبدأ في الانسحاب إلي نهاية العمود الفقري‏(‏العصعص‏)‏ علي هيئة أثر لايكاد يري بالعين المجردة‏(‏ عجب الذنب‏),‏ وقد قال المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في عدد من أحاديثه الشريفة إن جسد الإنسان يبلي كله فيما عدا عجب الذنب‏,‏ فإذا أراد الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعث خلقه أنزل مطرا خاصا من السماء فينبت كل مخلوق من عجب ذنبه كما تنبت البقلة من بذرتها‏,‏ وهذا تفصيل لقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):....‏ ومنها نخرجكم تارة أخري‏*.‏

هذه الحقائق العلمية التي لم تكتشف إلا بعد الثلث الأول من القرن العشرين‏,‏ تشهد للقرآن الكريم الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة بأنه لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ كلمة كلمة‏,‏ وحرفا حرفا‏,‏ علي مدي أكثر من أربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها حتي يكون شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين‏.‏
كما تشهد هذه الحقائق العلمية للرسول الخاتم والنبي الخاتم الذي تلقي القرآن من ربه الكريم‏,‏ فبلغ الرسالة‏,‏ وأدي الأمانة‏,‏ ونصح الناس إلي يوم الدين‏,‏ وجاهد في سبيل الله حتي أتاه اليقين‏,‏ تشهد له هذه الحقائق بالنبوة وبالرسالة وبما وصفه به رب العالمين فقال‏:‏
وما ينطق عن الهوي‏*‏ إن هو إلا وحي يوحي‏*‏ علمه شديد القوي‏*(‏ النجم‏:3‏ ـــ‏5).‏

فصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه‏,‏ ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ والحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي الدوام حتي نلقاه‏(‏ تعالي‏)‏ وهو راض عنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏