140)‏ ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون
بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في ختام الثلث الأول من سورة الروم‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها ستون بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بالتنبؤ بحدث وقع بعد نزولها بحوالي تسع سنوات‏,‏ وهو حدث انتصار الروم علي الفرس بعد هزيمتهم أمام الجيوش الفارسية قبل نزول السورة بعدة سنوات‏,‏ وهذا الخبر من صور الإعجاز التنبئي للقرآن الكريم‏.‏ ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة الاسلامية شأنها في ذلك شأن كل السور المكية‏.‏
وقد استهلت سورة الروم بالحروف المقطعة الثلاثة‏(‏ الم‏)‏ التي تكررت في مطلع ست من سور القرآن الكريم‏,‏ وهي‏(‏ البقرة‏,‏ آل عمران‏,‏ العنكبوت‏,‏ الروم‏,‏ لقمان‏,‏ السجدة‏).‏

والفواتح الهجائية جاءت في مطلع تسع وعشرين سورة قرآنية‏,‏ وهي من أسرار هذا الكتاب العزيز‏,‏ وقد قيل فيها إنها رموز إلي كلمات أو معان أو أعداد معينة وردت في السورة التي استهلت بها‏,‏ أو إنها من صور القسم الذي أقسم به الله‏(‏ تعالي‏)‏ ـ وهو الغني عن القسم ـ أو هي من أسمائه الحسني‏,‏ أو من الإشارات إلي عدد من صفاته العلا‏,‏ أو هي أسماء للسور التي جاءت في مطالعها‏,‏ أو هي من وسائل تحدي العرب بالقرآن الكريم ـ وقد نزل بلغتهم ـ أن يأتوا بقرآن مثله‏,‏ أو بعشر سور مفتريات من مثله‏,‏ أو حتي بسورة واحدة من مثله‏,‏ ولايزال هذا التحدي قائما دون أن يستطيع عاقل أن يتقدم ليقول إنه استطاع ذلك‏,‏ أو أنها مجرد وسائط لقرع الأسماع والقلوب كي تتنبه لتلقي كلام رب العالمين‏,‏ أو هي من الشهادات علي صدق الرسول الكريم لنطقه بأسماء الحروف‏,‏ وهو‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ الأمي‏,‏ والأمي ينطق بأصوات الحروف ولايعرف أسماءها‏,‏ أو هي كل ذلك وغيره مما لايعلمه إلا الله‏(‏ تعالي‏).‏
وقد تحدثت السورة الكريمة عن هزيمة الروم في أدني الأرض وهي منطقة حوض وادي عربة ـ البحر الميت ـ وادي الأردن ـ بحيرة طبرية‏,‏ التي أثبتت الدراسات العلمية أنها أكثر أجزاء اليابسة انخفاضا عن مستوي سطح البحر‏,‏ وهي في الوقت نفسه أقرب البلاد إلي أرض شبه الجزيرة العربية‏,‏ وتنبأت السورة الكريمة بأنهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين‏,‏ وأكدت أن الأمر لله‏(‏ تعالي‏)‏ من قبل ومن بعد‏,‏ كما أكدت فرح المسلمين بذلك باعتبار الروم من بقايا أهل الكتاب‏,‏ والفرس كانوا من الوثنيين‏.‏ وكانت هذه الآيات أيضا بشري بانتصار المسلمين في معركة بدر الكبري التي تزامنت مع انتصار الروم‏.‏

كذلك أكدت هذه السورة الكريمة حقيقة أن النصر من الله‏(‏ تعالي‏)‏ فتقول‏:‏
‏...‏ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله‏*‏ ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم‏*‏ وعد الله لايخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لايعلمون‏*‏يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون‏*(‏ الروم‏:4‏ ـ‏7)‏

ثم تحدثت الآيات عن عدم اعتبار الناس بإبداع الخلق في أنفسهم‏,‏ وفي السماوات والأرض وما بينهما من حولهم‏,‏ وتحدثت كذلك عن انكارهم للآخرة‏,‏ وعن عدم اتعاظهم بمصائر الذين كانوا من قبلهم من الأمم‏,‏ والذين لم يؤمنوا بما جاءتهم به رسلهم من البينات‏,‏ وكذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون‏.‏ والخطاب كما كان لكفار ومشركي قريش مستمر للكفار والمشركين اليوم وإلي يوم الدين‏.‏ وللتأكيد علي حتمية البعث وعلي مصائر كل من المؤمنين والكفار والمشركين في يوم القيامة تشير الآيات في سورة الروم إلي تكرار الخلق أمام أعين الناس دون الاعتبار فتقول‏:‏
الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون‏*‏ ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون‏*‏ ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين‏*‏ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون‏*‏ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون‏*‏ وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون‏.‏
‏(‏الروم‏:11‏ ـ‏16)‏

وتأمر الآيات بتسبيح الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحمده في المساء والصباح‏,‏ وفي العشاء والظهيرة وفي كل وقت‏,‏ كما يسبحه أهل السماوات والأرض من الخلق غير المكلف في كل وقت وفي كل حين‏.‏
وتستشهد الآيات علي حتمية وكيفية البعث بإخراج الحي من الميت‏,‏ وإخراج الميت من الحي‏,‏ وبإحياء الأرض بعد موتها‏,‏ وبخلق الناس من تراب الأرض‏,‏ وجعل كل واحد من الزوجين للآخر سكنا قائما علي المودة والرحمة‏,‏ وجعل ذلك من الآيات المستحقة للتفكر والاعتبار‏.‏

كما جعل في خلق السماوات والأرض‏,‏ وانتظام حركاتهما وقيامهما بأمر الله‏,‏ وفي اختلاف ألسنة الناس وألوانهم‏,‏ وفي منامهم بالليل وابتغائهم من فضله في النهار‏,‏ وفي حدوث كل من الرعد والبرق‏,‏ وإنزال الماء من السماء فتحيا به الأرض بعد موتها‏,‏ ثم في حتمية البعث بعد الموت‏,‏ وفي خضوع كل المخلوقات لجلال الله‏,‏ وعبوديتهم له‏,‏ وفي قدرته علي بدء الخلق واعادته جعل في ذلك كله آيات للعالمين الذي يسمعون ويعقلون‏.‏
وتضرب الآيات مثلا علي استنكار النفس الانسانية للشرك بين الناس‏,‏ وعلي ذلك فإنها يجب أن تكون له أشد استنكارا في حق الله‏(‏ تعالي‏)‏ وتقول‏:‏

بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله ومالهم من ناصرين‏.(‏ الروم‏:29)‏
وتأمر الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ـ ومن بعده كل مؤمن به ـ بأن يقيم وجهه للاسلام الحنيف الذي لايرتضي ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ من عباده دينا سواه‏,‏ لأنه دين الفطرة التي فطر الناس عليها‏,‏ والتي لاتبديل لها‏,‏ وإن كان أكثر الناس لايعلمون ذلك‏.‏ وتأمر المسلمين بالإنابة إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ وتقواه‏,‏ كما تأمرهم بإقامة الصلاة‏,‏ وبالحذر من الوقوع في دنس الشرك بالله ولذلك تقول‏:‏
فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون‏*‏ منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولاتكونوا من المشركين‏*‏ من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون‏*(‏ الروم‏:30‏ ـ‏32)‏

وأشارت سورة الروم إلي شيء من طبائع النفس البشرية فتقول‏:‏
وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون‏.‏ ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون‏.‏ أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون‏.‏ وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون‏(‏ الروم‏:33‏ ـ‏36)‏
وتؤكد السورة الكريمة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏,‏ وتأمر بإيتاء ذي القربي حقه والمسكين وابن السبيل‏,‏ وتحرم الربا‏,‏ وتحض علي أداء الزكاة‏,‏ وتؤكد أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الخلاق‏,‏ الرزاق‏,‏ المحيي‏,‏ المميت‏,‏ وأن الذين أشرك المشركون بهم لايستطيعون عمل شيء من ذلك فتعالي الله عما يشركون‏.‏

وتشير الآيات إلي ظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف يعاقبهم علي ذلك‏....‏ ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‏,‏ وتأمر بالسير في الأرض للاعتبار بما حدث للأمم المشركة السابقة فتقول‏:‏ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين‏(‏ الروم‏:42)‏
وتؤكد السورة الكريمة مرة ثانية لخاتم الأنبياء المرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ولجميع من آمن به إلي يوم الدين ضرورة الاستقامة علي الإسلام العظيم من قبل أن تأتي الآخرة فتصدع به كل الخلائق ثم يجزي كل بعمله فتقول‏:‏
فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون‏*‏ من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون‏*‏ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لايحب الكافرين
‏(‏الروم‏:43‏ ـ‏45)‏

وتذكر سورة الروم أن تصريف الرياح من دلالات طلاقة القدرة الإلهية المستوجبة لشكر الناس‏,‏ وتعاود التذكير بعقاب المكذبين من مجرمي الأمم السابقة الذين كذبوا رسل الله فانتقم الله‏(‏ تعالي‏)‏ منهم‏,‏ وانتصر للمؤمنين‏,‏ مؤكدة أن ذلك كان حقا علي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في كل زمان ومكان‏.‏
وتفصل السورة الكريمة في وصف السحاب الطباقي وإنزال المطر منه فيستبشر بذلك العباد بعد أن كانوا من اليائسين وتستشهد علي إحياء الموتي بإحياء الأرض بعد موتها بمجرد إنزال الماء عليها وتقارن بين الرياح المبشرة بالخير والمطر وريح العقاب المصفرة‏.‏
وتشبه الآيات في سورة الروم اعراض الكفار والمشركين عن الاستماع إلي رسالة الله الخاتمة بعجز الموتي والصم عن الاستماع الي الدعاء‏,‏ وبعجز العمي الغارقين في الضلال عن رؤية الحق‏.‏ وفي ذلك تقول مخاطبة خاتم الانبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ فإنك لاتسمع الموتي ولاتسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين‏*‏ وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون
‏(‏الروم‏:52‏ و‏53)‏

وتذكر الآيات الناس بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد خلقهم من ضعف‏,‏ ثم جعل لهم من بعد الضعف قوة ثم جعل من بعد القوة ضعفا وشيبة‏,‏ حتي لايغتر أحد بشبابه‏,‏ وتؤكد أن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ تخلق مايشاء وهو العليم القدير‏(‏ الروم‏:54)‏
وفي التأكيد علي مرحلية الدنيا وفتنة الناس بها‏,‏ وغفلتهم عن الآخرة‏,‏ ونسيانهم لحتمية وقوعها‏,‏ ثم مفاجأتهم بها في يوم القيامة تقول الآيات في سورة الروم‏:‏
ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون مالبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون‏*‏ وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلي يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لاتعلمون‏*‏ فيؤمئذ لاينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون
‏(‏الروم‏:55‏ ـ‏57)‏

وتنتهي السورة الكريمة بخطاب موجه الي خاتم الانبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ـ ومن بعده إلي كل المؤمنين برسالته بالتأكيد علي كفر الكافرين وبضرورة الصبر علي استخفافهم بدعوته الشريفة‏,‏ والاطمئنان إلي أن وعد الله حق‏,‏ وهو واقع لامحالة وفي ذلك تقول‏:‏
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون‏*‏ كذلك يطبع الله علي قلوب الذين لا يعلمون‏*‏ فاصبر إن وعد الله حق ولايستخفنك الذين لايوقنون‏(‏ الروم‏:58‏ ـ‏60)‏
وكثر الاستشهاد في ثنايا هذه السورة المباركة بالعديد من الآيات الكونية علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق‏,‏ وعلي الإفناء والبعث‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة الروم
‏(1)‏ الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا واحدا‏,‏ أحدا‏,‏ وبأنه‏(‏ تعالي‏)‏ صاحب الأمر من قبل ومن بعد في كل شيء وبأنه علي كل شيء قدير‏,‏ وبأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏,‏ وبأن النصر منه وحده‏,‏ ينصر من يشاء وهو القوي العزيز‏,‏ وأنه هو العليم القدير‏,‏ وأن له من في السماوات والأرض كل له قانتون‏,‏ وبأن وعده الحق الذي لايخلف‏,‏ وبأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لايظلم أحدا ولكن الناس أنفسهم يظلمون‏.‏
‏(2)‏ التسليم بأن الغالبية العظمي من الناس يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون‏(‏ الروم‏:7)‏
‏..‏ وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون‏(‏ الروم‏:8)‏

‏(3)‏ التصديق بجميع أنبياء الله ورسله‏,‏ وبخاتمهم أجمعين دون أدني تمييز أو تفريق‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏
‏(4)‏ اليقين بأن الله سبحانه وتعالي يبدأ الخلق ثم يعيده‏,‏ وأن جميع الخلائق راجعون إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ في يوم محدد لايعلمه إلا هو‏,‏ واليقين بحقيقة الآخرة ومافيها من بعث ونشور‏,‏ وحساب‏,‏ وجنة ونار‏,‏ وبأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سوف يخلدون في جنات النعيم يحبرون‏,‏ وأن الذين كفروا أو أشركوا بالله‏(‏ تعالي‏)‏ أو كذبوا بآياته أو بالآخرة أو بخاتم انبيائه ورسله‏,‏ وعملوا السيئات سوف يخلدون في النار إلي أبد الآبدين‏,‏ وهم في العذاب محضرون‏.‏

‏(5)‏ الإيمان بضرورة تنزيه الله‏(‏ تعالي‏)‏ عن كل وصف لايليق بجلاله من مثل الادعاء الباطل عليه بالشريك‏,‏ أو الشبيه‏,‏ أو المنازع‏,‏ أو الصاحبة أو الولد‏,‏ وكلها من صفات المخلوقين‏,‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ منزه عن جميع صفات خلقه‏.‏
‏(6)‏ التسليم بأن عمليتي الخلق والبعث مناظرة تماما لإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي ولإحياء الأرض بعد موتها بمجرد نزول الماء عليها في دنيا الناس‏,‏ والتسليم كذلك بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يخلق مايشاء‏,‏ وأنه هو العليم القدير‏.‏

‏(7)‏ التصديق بأن الذين يتبعون أهواءهم بغير علم يضلهم الله‏,‏ ومن يضلل الله فلا هادي له‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يطبع علي قلوب الذين لايعلمون‏,‏ وأن‏..‏ الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون قد انحرفوا عن دين الله ومنهجه‏.‏
‏(8)‏ اليقين بأن الإسلام هو دين الله الذي أنزله علي فترة من الرسل‏,‏ وأتمه وأكمله وحفظه في رسالته الخاتمة التي أنزلها علي خاتم انبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وأن هذا الدين هو الفطرة التي فطر الله الخلائق عليها‏,‏ وأنه‏..‏ لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون‏.‏

‏(9)‏ الإيمان بأن لكل من ذوي القربي والمساكين وأبناء السبيل حقوقا منحهم إياها الله‏(‏ تعالي‏)‏ لايجوز التقصير في أدائها‏,‏ وبأن‏(‏ الربا‏)‏ الذي يربو في أموال الناس لايربو عند الله‏,‏ وأن صدقات التطوع التي تدفع في سبيل الله طلبا لمرضاته هي التي تستحق مضاعفة الحسنات من الله‏(‏ تعالي‏).‏
‏(10)‏ التسليم بأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو خالقنا‏,‏ ورازقنا‏,‏ ومميتنا ومحيينا‏,‏ ولايمكن لأحد أن يفعل ذلك إلا الله‏,‏ ومن هنا كانت جريمة الشرك بالله مساوية للكفر‏,‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ لايحب الكافرين

من ركائز العبادة في سورة الروم
‏(1)‏ الأمر بتسبيح الله وتمجيده وحمده في المساء والصباح‏,‏ وعشيا‏,‏ وعند الظهيرة‏.‏
‏(2)‏ التوجيه بالإكثار من التوبة إلي الله‏,‏ والرجوع إليه‏,‏ وإخلاص العمل له‏,‏ وتقواه‏.‏

‏(3)‏ الأمر بإقام الصلاة‏,‏ وإيتاء الزكاة‏,‏ وإقامة الوجه للدين حنيفا‏,‏ وإيتاء ذي القربي حقه‏,‏ والمسكين‏,‏ وابن السبيل‏.‏
‏(4)‏ تحريم الربا تحريما قاطعا‏.‏
‏(5)‏ الأمر بعمل الصالحات‏,‏ والتحذير من الإجرام والإفساد في الأرض‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة الروم
‏(1)‏ وصف أرض المعركة التي هزمت فيها جيوش الدولة الرومانية الشرقية‏(‏ الدولة البيزنطية‏)‏ أمام جيوش الفرس بوصف‏(‏ أدني الأرض‏)‏ بمعني أخفض الأرض أو أقربها أو بالمعنيين معا‏,‏ والمعركة الفاصلة في هذا الصراع دارت رحاها في أغوار وادي عربة ـ البحر الميت ـ وادي الأردن ـ بحيرة طبرية‏,‏ والدراسات الحديثة أثبتت أنها أخفض بقاع اليابسة علي الإطلاق‏,‏ وهي في نفس الوقت أقربها إلي شبه الجزيرة العربية‏.‏
‏(2)‏ التنبؤ بغلبة الروم علي الفرس بعد بضع سنين من هذه الهزيمة المنكرة‏,‏ التي وقعت في حدود سنة‏615/614‏ م‏,‏ والبضع في اللغة العربية هو بين الثلاث والتسع‏,‏ وقد غلب الروم الفرس في حدود سنة‏624‏ م أي بعد تسع سنوات بالضبط‏.‏

‏(3)‏ الإشارة الي أن خلق السماوات والأرض قد تم بالحق وأجل مسمي‏,‏ والعلوم المكتسبة تثبت ذلك‏.‏
‏(4)‏ التأكيد علي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده‏,‏ وعلي أن الخلق جميعهم إلي الله راجعون‏.‏

‏(5)‏ إثبات أن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو الذي يخرج الحي من الميت‏,‏ ويخرج الميت من الحي‏,‏ ويحيي الأرض بعد موتها‏,‏ وأن هكذا سيكون بعث الخلائق من قبورهم‏.‏
‏(6)‏ التأكيد علي حقيقة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ خلق ولايزال يخلق الناس من تراب الأرض ثم إذا هم بشر ينتشرون‏,‏ وهذه الحقيقة من أعظم الدلائل علي طلاقة قدرته‏.‏

‏(7)‏ الإشارة الي خلق الإنسان‏(‏ كخلق غيره من سائر المخلوقات‏)‏ في زوجية تامة من نوعه‏,‏ وجعل هذه الزوجية سكنا قائما علي المودة والرحمة بين الزوجين‏.‏
‏(8)‏ وصف اختلاف ألسنة وألوان الناس ـ مع رجوعهم جميعا في الأصل إلي أب واحد وأم واحدة ـ بأنه آية من آيات الله‏,‏ ومن الدلالات الواضحة علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق‏.‏

‏(9)‏ الإشارة الي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد جعل الليل سكنا‏,‏ والنهار معاشا وعلي الرغم من ذلك فإنه أعطي الإنسان القدرة علي النوم بالنهار لضرورة‏,‏ كما جعل من الخلائق ماينام دوما بالليل‏,‏ وماينام دوما بالنهار‏,‏ وهي آية من آيات الله‏(‏ تعالي‏).‏
‏(10)‏ الربط بين ظواهر البرق وإنزال المطر وإحياء الأرض بعد موتها‏,‏ والعلوم المكتسبة تؤكد ذلك‏.‏

‏(11)‏ التأكيد علي قيام كل من السماء والأرض بأمر الله‏,‏ وعلي إخراج الخلائق من الأرض في يوم البعث بدعوته‏,‏ وأن ذلك مما يشهد لله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي يبدأ الخلق ثم يعيده بطلاقة القدرة علي كل من الخلق والبعث‏.‏
‏(12)‏ التأكيد علي أن لله من في السماوات والأرض كل له قانتون‏,‏ وأنه لا تبديل لخلق الله‏.‏

‏(13)‏ إثبات فساد النظام الاقتصادي الربوي‏.‏
‏(14)‏ الربط بين الفساد المادي والمعنوي في سلوكيات الناس وبين انعكاسات ذلك علي الفساد البيئي في البر والبحر‏,‏ وأن ذلك ليذيقهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‏.‏

‏(15)‏ الإشارة إلي إرسال الرياح مبشرات برحمة من الله وفضله‏,‏ وعلاقة ذلك بجريان الفلك بأمر الله‏.‏
‏(16)‏ وصف السحاب الطباقي‏,‏ وطرائق تكونه‏,‏ وكيفيات إنزال المطر منه‏,‏ وذلك بدقة علمية بالغة‏.‏

‏(17)‏ المقابلة الدقيقة بين إحياء الأرض بعد موتها بإنزال الماء عليها‏,‏ وإحياء الموتي في يوم البعث‏(‏ ـ كل من عجب ذنبه ـ بعد إنزال ماء خاص من السماء كما أخبر المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في أحاديثه الصحيحة‏).‏
‏(18)‏ ذكر المراحل المتعاقبة في حياة الإنسان من ضعف في مراحل الطفولة‏,‏ إلي شباب وقوة في مراحل الفتوة‏,‏ ثم الي ضعف وشيبة في مراحل الشيخوخة حتي يعتبر الناس ولا يفتنوا في مراحل الشباب بقوتهم البدنية‏.‏

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصرحديثي هنا علي النقطة السادسة في القائمة السابقة والتي جاء ذكرها في الآية العشرين من سورة الروم‏,‏ وقبل البدء في ذلك أري لزاما علي الرجوع الي أقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون‏(‏ الروم‏:20)‏
‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ مامختصره‏:‏ يقول تعالي‏(‏ ومن آياته‏)‏ الدالة علي عظمته وكمال قدرته‏,‏ أنه خلق أباكم آدم من تراب‏(‏ ثم إذا أنتم بشر تنتشرون‏)‏ فأصلكم من تراب‏,‏ ثم من ماء مهين‏,‏ ثم تصور فكان علقة ثم مضغة‏,‏ ثم صار عظاما‏,‏ شكله علي شكل الإنسان‏,‏ ثم كسا الله تلك العظام لحما‏,‏ ثم نفخ فيه الروح فإذا هو سميع بصير‏...‏

‏*‏ وجاء في الظلال‏(‏ رحم الله صاحبها برحمته الواسعة‏)‏ مامختصره‏:‏ والتراب ميت ساكن‏,‏ ومنه نشأ الإنسان‏...‏ ويعقبه مباشرة بصورة البشر منتشرين متحركين‏.‏ للمقابلة في المشهد والمعني بين التراب الميت الساكن والبشر الحي المتحرك‏,‏ وذلك بعد قوله‏(‏ يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي‏)‏ تنسيقا للعرض علي طريقة القرآن‏,‏ وهذه المعجزة الخارقة آية من آيات القدرة‏,‏ وإيحاء كذلك بالصلة الوثيقة بين البشر وهذه الأرض التي يعيشون عليها‏,‏ والتي يلتقون بها في أصل تكوينهم‏,‏ وفي النواميس التي تحكمها وتحكمهم في نطاق الوجود الكبير‏.‏ والنقلة الضخمة من صورة التراب الساكن الزهيد إلي صورة الإنسان المتحرك جليل القدر‏...‏ نقلة تثير التأمل في صنع الله‏,‏ وتستجيش الضمير للحمد والتسبيح لله‏,‏ وتحرك القلب لتمجيد الصانع المتفضل الكريم‏.‏
‏*‏ وجاء في بقية التفاسير كلام مقارب لا أري حاجة إلي تكراره هنا‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
أولا‏:‏ تشابه التركيب الكيميائي لجسم الإنسان وتراب الأرض‏:‏

أثبت التحليل الكيميائي لجسم الإنسان أنه يتكون أساسا من الماء‏(54%‏ إلي أكثر من‏70%)‏ بالاضافة إلي نسبة من الدهون‏(‏ من‏14%‏ الي‏26%),‏ والبروتينات‏(‏ من‏11%‏ إلي‏17%),‏ والكربوهيدرات‏(‏ في حدود‏1%)‏ وعدد من العناصر والمركبات غير العضوية‏(‏ تتراوح نسبتها بين‏5%‏ و‏6%).‏ وبرد كل ذلك الي عناصره الأولية يتضح أن جسم الإنسان يتكون من العناصر التالية‏:‏
الاكسجين‏65%‏ الكربون‏18%‏
الهيدروجين‏10%‏ النيتروجين‏3%‏
الكالسيوم‏1,4%‏ الفوسفور‏0,7%‏
الكبريت‏0,2%‏ البوتاسيوم‏0,18%‏
الصوديوم‏0,10%‏ الكلور‏0,10%‏
المغنيسيوم‏0,045%‏ عناصر نادرة‏0,014%‏

وتشمل العناصر النادرة كلا من اليود‏,‏ الفلور‏,‏ البروم‏,‏ الحديد‏,‏ النحاس‏,‏ المنجنيز‏,‏ الزنك‏,‏ الكروم‏,‏ الكوبالت‏,‏ النيكل‏,‏ الموليبدينوم‏,‏ القصدير‏,‏ الفاناديوم‏,‏ السيليكون‏,‏ والألومنيوم‏.‏
وهذا التركيب يشبه في مجموعه التركيب الكيميائي لتراب الأرض المختلط بالماء‏(‏ أي الطين‏).‏ وإن تكون تراب الأرض أصلا في غالبيته ـ من المعادن الصلصالية التي تتركب أساسا من سيليكات الألومنيوم المميأة‏,‏ وتشمل عددا من المعادن التي تزيد علي العشرة‏,‏ والتي تختلف عن بعضها البعض باختلاف نسب التميوء‏,‏ ونسب كل من السيليكون والألومنيوم‏,‏ ونسب بعض الشوارد من مثل المغنيسيوم‏,‏ البوتاسيوم‏,‏ وغيرها‏.‏

كذلك يختلط مع المعادن الصلصالية نسب متفاوتة من حبات الرمل‏(‏ ثاني أكسيد السيليكون أو المرو‏)‏ ومعادن الفلسبار‏,‏ والميكا‏,‏ وأكاسيد الحديد‏,‏ وبعض دقائق المعادن الثقيلة‏,‏ بالاضافة إلي شيء من الرماد البركاني‏,‏ ودقائق الأملاح المندفعة من مياه البحار‏,‏ والجير‏(‏ الكلس‏),‏ ودقائق الكربون والرماد الناتجة عن مختلف عمليات الاحتراق‏,‏ وحبوب اللقاح والبكتيريا‏,‏ وغيرهما من البقايا الدقيقة للأحياء‏,‏ وبعض آثار الغبار الكوني‏,‏ وغبار الشهب‏,‏ وغيرها‏.‏
وتراب الأرض من الرواسب الفتاتية الناعمة جدا حيث تقل أطوال أقطار حبيباتها عن‏(256/1‏ من الملليمتر‏,‏ وإن اختلطت بها بعض حبيبات الغرين‏(16/1‏ من الملليمتر إلي‏256/1‏ من الملليمتر‏),‏ وبعض حبيبات الرمل‏(4/1‏ من الملليمتر إلي‏16/1‏ من الملليمتر‏).‏ ونظرا للمسامية العالية للتراب‏,‏ وللطبيعة الصفائحية لمعادنه فإن أسطح الصفائح الترابية والمسام الفاصلة بينها تمتليء بأيونات العناصر المختلفة وبالبقايا الدقيقة للأحياء‏,‏ بالاضافة إلي الماء والهواء‏,‏ فتجعل من هذا الخليط في تركيبه الكيميائي ما يشبه التركيب الكيميائي لجسم الانسان‏.‏ فإذا قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في محكم كتابه‏:‏ ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون‏.‏
انطبق ذلك علي خلق أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ من تراب الأرض‏,‏ كما ينطبق علي خلق نسله من بعده وذلك لأن جميع بنيه من عهده إلي اليوم وحتي قيام الساعة كانوا في صلبه لحظة خلقه‏,‏ وينطبق ذلك أيضا علي كل واحد من بني آدم بشخصه وذلك لنموه وهو في بطن أمه علي دمها المستمد من الغذاء الذي تأكله وهو مستمد أصلا من تراب الأرض‏,‏ ثم علي نموه من بعد ميلاده علي لبن أمه المستمد من غذائها وهو مستمد كذلك من تراب الأرض‏,‏ ثم علي نموه من بعد فطامه إلي وفاته علي ما يتناول من طعام‏,‏ وهو مستمد أصلا من تراب الأرض‏,‏ فإذا قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ ومن آياته أن خلقكم من تراب‏..‏ إنطبق ذلك علي جميع الخلق من لدن أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ إلي آخر واحد من ولده‏.‏

ثانيا‏:‏ كيف يكون نمو جسم الإنسان مستمدا من تراب الأرض؟‏!‏
يقتات الإنسان علي كل من النبات‏,‏ والمباح من منتجات وذبائح الحيوان‏,‏ والنبات أعطاه الله‏(‏ تعالي‏)‏ القدرة علي امتصاص ماء الأرض ومايحمله من عناصر ومركبات‏,‏ وتحليله بواسطة الطاقة المستمدة من أشعة الشمس إلي عناصره الأولية وأهمها الأكسجين الذي يطلقه إلي الجو‏,‏ والإيدروجين وغيره من عناصر ماء الأرض‏(‏ العصارة الغذائية للنبات‏)‏ التي يحتفظ بها‏.‏ كذلك يمتص النبات من الجو ثاني أكسيد الكربون ويحلله إلي الكربون الذي يحتفظ به‏,‏ والأكسجين الذي يطلقه إلي الجو‏,‏ ثم يقوم النبات بربط ما احتفظ به من كل من الايدروجين والكربون وعناصر الأرض‏.(‏ التي أعطي الله‏(‏ تعالي‏)‏ لكل نوع من أنواع النبات القدرة علي اختيارها بخصوصية وكفاءة عالية‏)‏ بعدد من الروابط الكيميائية علي هيئة سلاسل من الكربوهيدرات‏(‏ من أمثال السكر بأنواعه المختلفة‏,‏ والنشا‏,‏ والسيليولوز‏)‏ التي تبني منها النباتات خلاياها المختلفة‏(‏ المكونة لجذورها‏,‏ وجذوعها‏,‏ وفروعها‏,‏ وأوراقها‏,‏ وزهورها‏,‏ وثمارها‏,‏ أو محاصيلها‏)‏ التي يحيا عليها كل من الحيوان والانسان وبذلك تنبني مختلف خلاياهما من تراب الأرض‏.‏ كذلك يتغدي كل من الانسان والحيوان علي بعض الحيوانات ومنتجاتها‏,‏ وأجسادها مبنية أصلا من تراب الأرض‏,‏ ويتحول ذلك إلي خلايا أجساد كل من الحيوان والانسان التي تعود مادتها أصلا إلي تراب الأرض‏.‏

من هنا كانت حكمة الخالق العظيم في خلق النبات قبل خلق كل من الحيوان والإنسان‏,‏ وكانت حكمته البالغة بجعل الإنسان آخر المخلوقات وجودا‏,‏ وذلك لاعتماد الإنسان في غذائه علي كل من النبات والحيوان‏,‏ واعتماد الحيوان في غذائه أساسا علي النبات‏,‏ وإن كانت الضواري من الحيوان يأكل بعضها بعضا‏,‏ ولا يأكل إلا لحوم الحيوان‏.‏ ثم بوفاته وتحلل جسده يعود إلي تراب الأرض‏,‏ فسلسلة الطعام تبدأ من تراب الأرض وتنتهي إليه ولذلك قال ربنا‏(‏ سبحانه وتعالي‏):‏
ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون‏(‏ الروم‏:20)‏
وقال‏(‏ عز من قائل‏):‏

منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري‏.(‏ طه‏:55).‏
وقال‏(‏ وقوله الحق‏):‏

‏..‏ ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها‏..‏
‏(‏هود‏:61).‏
وقال‏(‏ وهو أحكم القائلين‏):‏

والله أنبتكم من الأرض نباتا‏,‏ ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا‏.‏
‏*‏ ولذلك أيضا أخرج الإمام أحمد عن أبي موسي الأشعري‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ قول رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض‏,‏ فجاء بنو آدم علي قدر الأرض‏.‏ جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك‏,‏ والخبيث والطيب وبين ذلك وأخرج مثل هذا الحديث كل من أبي داود والترمذي عن عوف الاعرابي‏..‏

ثالثا‏:‏ إن خلايا التكاثر في الإنسان مستمدة من غذائه‏,‏ وغذاؤه مستمد من تراب الأرض‏:‏
جعل الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ تكاثر الإنسان عن طريق التزاوج بين ذكر وأنثي حيث تتلاقح النطف الذكرية من الأب مع النطف الأنثوية من الأم‏,‏ وكلاهما من خلايا الجسد التي تتكون وتنمو عن طريق التغذية المستمدة أصلا من تراب الأرض‏.‏
وتكون هذه النطاف‏,‏ وتسلسلها من الأصل الواحد‏(‏ آدم عليه السلام‏)‏ وحتي قيام الساعة هو من أعظم الدلائل علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق‏,‏ والتقاء النطفة الذكرية بالنطفة الأنثوية في نطفة مختلطة يسميها القرآن الكريم باسم النطفة الأمشاج يخلق منها الجنين فتعطي هذا التنوع البديع في الخلق من أصل واحد خلق من تراب الأرض هو من الآيات الناطقة بالشهادة للخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بكمال العلم والحكمة‏,‏ وطلاقة القدرة‏,‏ وتعاظم اتقان الصنعة‏,‏ وهي من صفات الألوهية‏,‏ والربوبية ومن دلائل الوحدانية المطلقة للإله الخالق فوق جميع خلقه الذين خلقهم في زوجية واضحة‏(‏ من اللبنات الأولية للمادة إلي الإنسان‏)‏ حتي يبقي ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ متفردا بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏.‏ وباستمرار التناسل من الأصل الواحد للانسان الذي خلقه الله‏(‏ تعالي‏)‏ ابتداء من التراب وباستمرار تغذية ذلك الإنسان‏,‏ ونموه‏,‏ وتكون جميع خلايا جسده ومنها خلايا التكاثر من تراب الأرض انتشر الجنس البشري في كل من المكان والزمان حتي وصل عدد سكان الأرض اليوم إلي أكثر من ستة مليارات نسمة‏,‏ هذا عدا المليارات التي عاشت وماتت‏,‏ والمليارات التي سوف تأتي من بعدنا إلي قيام الساعة‏,‏ وكلها جاءت من صلب رجل واحد هو آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ الذي خلقه الله‏(‏ تعالي‏)‏ من تراب‏,‏ ولذلك قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون‏(‏ الروم‏:20).‏
والآية الكريمة كما تنطبق علي البشرية كلها وهي في صلب أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ لحظة خلقه‏,‏ تنطبق علي تناسل الناس من بعده إلي اليوم‏,‏ ومايخرج من أصلابهم من ذريات تنتشر في المكان والزمان إلي يوم الدين‏,‏ وهي حقائق لم تصل إلي علم الإنسان إلا بعد تطور علم الوراثة الإنسانية في القرن العشرين‏,‏ وورودها في كتاب أنزل علي نبي أمي‏,‏ وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين من قبل أربعة عشر قرنا لمما يقطع بأن هذا الكتاب لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد‏,‏ وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها حتي يكون حجة علي الناس جميعا إلي يوم الدين‏.‏

فالحمد لله علي نعمة الاسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي بعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي بعثه الله‏(‏ تعالي‏)‏ رحمة للعالمين‏,‏ وصلي الله وسلم وبارك عليه‏,‏ وعلي آله وصحبه‏,‏ ومن تبع هداه‏,‏ ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين‏.‏