138)‏ إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين‏*‏
بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هذه الحقيقة القرآنية جاءت في الخمس الأخير من سورة ص‏,‏ وهي سورة مكية وعدد آياتها‏(88)‏ بعد البسملة‏,‏ ويدور محورها الرئيسي حول ركائز العقيدة الإسلامية‏,‏ وفي مقدمتها توحيد الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وتنزيهه عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏.‏
وتبدأ هذه السورة الكريمة بالحرف الهجائي المفرد‏(‏ ص‏)‏ والذي سميت باسمه السورة‏,‏ وهذه المقطعات من الحروف الهجائية التي استفتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم عرفت باسم الفواتح الهجائية‏,‏ وقيل فيها إنها إما رموز إلي كلمات أو معان أو أعداد في صلب السورة‏,‏ أو أنها أسماء للسور التي جاءت في مطالعها‏,‏ أو هي أسلوب من أساليب تحدي العرب‏,‏ وهم في قمة من قمم الفصاحة والبلاغة وحسن البيان ـ أن يأتوا بقرآن مثله ـ وقد نزل بلغتهم ـ أو أن يأتوا بعشر سور مفتريات من مثله‏,‏ أو حتي بسورة واحدة من مثله‏,‏ ولا يزال هذا التحدي قائما دون أن يستطيع عاقل أن يتقدم ليقول إنه استطاع كتابة سورة من مثل سور القرآن الكريم‏.‏

كذلك قيل في هذه المقطعات إنها وسيلة من وسائل قرع الأسماع وإيقاظ العقول والقلوب لتلقي كلام الله‏(‏ تعالي‏).‏ وقيل فيها إنها من الأدلة علي صدق رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لنطقه بأسماء الحروف ـ وهو الأمي ـ والأمي ينطق بأصوات الحروف ولا يعرف أسماءها‏,‏ وقيل فيها إنها تشمل ذلك كله‏,‏ وغيره مما لا يعلمه إلا الله‏(‏ تعالي‏).‏
وبعد هذا الاستفتاح يقسم ربنا‏(‏ تبارك اسمه‏)‏ ـ وهو الغني عن القسم ـ بـ‏(‏ القرآن ذي الذكر‏)‏ أي ذي الشرف الرفيع والمكانة السامقة‏,‏ والذي فيه كل حق وذكر وموعظة‏,‏ وكل ما يحتاجه الإنسان من أمور الدين‏,‏ ويأتي جواب القسم بقول الله‏(‏ عز من قائل‏):‏

‏:‏ بل الذين كفروا في عزة وشقاق‏*‏ كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص‏*‏ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب‏*‏ أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب‏*‏ وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا علي آلهتكم إن هذا لشئ يراد‏*‏ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق‏*‏ أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب‏*‏ أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب‏*‏ أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب‏*‏ جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب‏*.(‏ ص‏:2‏ ـ‏11)‏
وتشير هذه الآيات الكريمة إلي أن الكفار والمشركين ـ في القديم والحديث وإلي يوم الدين ـ هم دوما في استكبار علي اتباع الحق‏,‏ وفي محاربة لأهله‏,‏ دون اعتبار بهلاك الكافرين والمشركين والمتشككين من قبلهم‏,‏ وهم دوما في إصرار علي الكفر بالله أو الشرك به‏(‏ سبحانه‏),‏ وعلي التشكيك في بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وفي القرآن الكريم‏,‏ وفي حقائق الدين الخاتم‏:‏ ومنها البعث والحساب والجنة والنار‏,‏ إلي حد استعجال عذاب الآخرة في الدنيا قبل يوم الحساب‏,‏ وهم بعد لم يذوقوا ألوان هذا العذاب‏,‏ ولو ذاقوا طرفا منه ـ وهم حتما ذائقوه إن شاء الله تعالي ـ ما تطاولوا هذا التطاول الكاذب وهم ليسوا من الله‏(‏ تعالي‏)‏ ببعيد‏..‏

وهذه الصورة من صور فجر الكافرين في محاربتهم للحق مستمرة عبر التاريخ حتي يوم الدين‏,‏ ومن صور استكبارهم‏,‏ وغفلتهم‏,‏ وتعنتهم المعاصرة ما تبثه بعض الفضائيات المأجورة اليوم باسم الدين ـ والدين منها براء وهي في الحقيقة ليست إلا أبواقا للكفر والشرك والضلال‏(‏ والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏).‏
وفي الرد علي كفار قريش‏,(‏ وعلي أمثالهم في كل زمان ومكان‏)‏ تسأل الآيات في سورة ص هذا السؤال التوبيخي التقريعي فتقول‏:‏ هل عند هؤلاء الضالين خزائن رحمة رب العالمين العزيز الوهاب؟ أم هل لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما وهم لا يملكون أنفاسهم؟‏.‏

وفي استعراض لنماذج من هؤلاء المكذبين بالدين في القديم وما لقوه من عذاب أليم في الدنيا قبل الآخرة جاء ذكر كل من قوم نوح‏,‏ وقوم لوط‏,‏ وعاد‏,‏ وفرعون‏,‏ وثمود‏,‏ وأصحاب الأيكة ليعتبر أهل الكفر والشرك والضلال من المعاصرين وممن سوف يأتون من بعدهم إلي يوم الدين‏..!!.‏
وفي هذا السياق أيضا جاء ذكر عدد من أنبياء الله‏(‏ تعالي‏)‏ منهم‏:‏ آدم‏,‏ وإبراهيم‏,‏ وإسماعيل وإسحق‏,‏ ويعقوب‏,‏ واليسع‏,‏ وذو الكفل‏,‏ وداود‏,‏ وسليمان‏,‏ وأيوب‏(‏ علي نبينا وعليهم من الله السلام‏).‏

ثم استعرضت الآيات جانبا بما أغدق الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ به من فضل علي كل من عبديه داود وسليمان‏,‏ وما أصاب كلا منهما من شئ من الضعف البشري‏,‏ وما تدارك كلا منهما من رحمة الله‏(‏ تعالي‏)‏ حتي استغفر وتاب وأناب إلي خالقه‏,‏ وما كان من قبول الله‏(‏ تعالي‏)‏ لتوبة كل منهما وإنابته ويبدو أن الحكمة من كل ذلك هي الا يفتن احد من الخلق بما وهبهما الله‏(‏ سبحانه‏)‏ من نعم غير عادية فيشرك بهما مع الله‏(‏ تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا‏)‏ أو يعبدهما من دونه كما فعل الكثيرون من الضالين في القديم والحديث ولا يزالون يفعلون‏,‏ ثم يتطاولون علي أهل التوحيد الخالص‏,‏ والإيمان الصادق كما تتطاول الجرذان المذعورة المستترة خلف بعض فضائيات الضلال‏.‏
وجاءت قصة نبي الله داود‏(‏ علي نبينا وعليه السلام‏)‏ تجسيدا لابتلاء الله‏(‏ تعالي‏)‏ للصالحين من عباده‏,‏ وتطهيرا لهم وتكفيرا عن خطاياهم مهما كانت قليلة‏,‏ وتزكية لنفوسهم‏,‏ ورفعا لدرجاتهم عند ربهم‏,‏ ونموذجا لصبر الأنبياء علي البلاء حتي يكشفه رب العالمين‏,‏ ويقتدي بهم الأمثل فالأمثل من عباد الله الصالحين‏.‏

وجاء هذا القصص تثبيتا لخاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ وللمؤمنين به في كل زمان ومكان‏,‏ في وجه ما لقيه‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ويلقونه من تكذيب الكفار والمشركين‏,‏ والملاحدة الساقطين‏,‏ والظلمة المتجبرين في كل أرض‏,‏ وفي كل حين‏,‏ كما جاء هذا القصص تأكيدا له‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وللمؤمنين به من بعده أن النصر مع الصبر‏,‏ وأن التمكين في الأرض‏,‏ والرعاية‏,‏ والتوفيق‏,‏ والفضل كله من الله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي تعهد بنصرة عباده المؤمنين‏.‏
وتعاود الآيات في سورة ص تعظيم القرآن الكريم بوصف الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ له موجها الخطاب إلي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ فيقول‏(‏ عز من قائل‏):‏
كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب‏(‏ ص‏:29).‏

ثم تصور هذه السورة المباركة مشهدا من مشاهد الآخرة وفيه جانب مما ينتظر المتقين من نعيم مقيم‏,‏ وما ينتظر الكفار والمشركين من عذاب مهين‏,‏ وتخاصم في النار مشين‏,‏ أيا كانت مكانتهم في الدنيا‏,‏ ومهما استكبروا وعلوا فيها‏,‏ ومهما تطاولوا علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ وعلي رسوله الكريم‏,‏ وتجبروا علي المستضعفين من خلق الله‏.‏
وتعاود السورة الكريمة التأكيد علي وحدانية الله‏(‏ الذي تنزه عن الشريك‏,‏ والشبيه‏,‏ والمنازع‏,‏ والصاحبة والولد‏)‏ فتقول موجهة الخطاب إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏

قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار‏*‏ رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار‏*‏ قل هو نبأ عظيم‏*‏ أنتم عنه معرضون‏*‏ ما كان لي من علم بالملأ الأعلي إذ يختصمون‏*‏ إن يوحي إلي إلا أنما أنا نذير مبين‏*.(‏ ص‏:65‏ ـ‏70).‏
ثم تعرض سورة ص لقصة خلق أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ فتقول‏:‏ إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين‏*‏ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏*‏ فسجد الملائكة كلهم أجمعون‏*‏ إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين‏*‏ قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين‏*‏ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين‏.(‏ ص‏:71‏ ـ‏76)‏

وتختتم السورة الكريمة بطرد إبليس اللعين من الجنة ومن رحمة الله ورضوانه كما سوف يحرم منها أبالسة الأرض أجمعون‏,‏ وتذكر تهديد إبليس اللعين بغواية أهل الأرض أجمعين كما أغوي كفار قريش ومن تبعهم علي الكفر والشرك إلي يوم الدين‏,‏ وذلك في حوار بين الله‏(‏ تعالي‏)‏ وهذا المخلوق اللعين من شياطين الجن فتقول الآيات‏:‏ قال فاخرج منها فإنك رجيم‏*‏ وإن عليك لعنتي إلي يوم الدين‏*‏ قال رب فانظرني إلي يوم يبعثون‏*‏ قال فإنك من المنظرين‏*‏ إلي يوم الوقت المعلوم‏*‏ قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين‏*‏ إلا عبادك منهم المخلصين‏*‏ قال فالحق والحق أقول‏*‏ لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين‏*‏ قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين‏*‏ إن هو إلا ذكر للعالمين‏.‏ ولتعلمن نبأه بعد حين‏*‏
‏(‏ص‏:77‏ ـ‏88).‏

من ركائز العقيدة الإسلامية في سورة ص
‏(1)‏ الإيمان بأنه ما من إله إلا الله‏,‏ الواحد القهار‏,‏ العزيز الغفار‏,‏ الوهاب‏,‏ المنزه عن جميع صفات خلقه‏,‏ والذي لا تنتهي خزائن رحمته‏,‏ والذي لا شريك له في ملكه‏,‏ ولا منازع له في سلطانه‏.‏
‏(2)‏ التسليم بأن القرآن الكريم هو وحي الله الخاتم الذي أكمل به الدين‏,‏ وأتم به النعمة علي عباده المؤمنين‏,‏ وتعهد بحفظه الي يوم الدين‏,‏ وأنه كتاب مبارك كريم‏,‏ لا يدرك قدره إلا أولوا العقل السليم‏,‏ والفكر القويم‏.‏

‏(3)‏ اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ أنزل هدايته للبشرية بالوحي الي سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين‏,‏ وأن هذه السلسلة المباركة ختمت ببعثة سيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وأن الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله ـ بغير تفريق ولا تمييز ـ هو من صميم الدين‏,‏ وأن تكذيب أي من رسل الله الصادقين يستوجب العقاب من الله‏(‏ تعالي‏)‏ في الدنيا قبل الآخرة‏.‏
‏(4)‏ التسليم بأنه ما علي رسل الله إلا البلاغ المبين‏,‏ ولذلك وصف الله‏(‏ تعالي‏)‏ خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بأنه نذير مبين‏.‏

‏(5)‏ التصديق بقصص القرآن الكريم‏,‏ وبكل ما أصاب الكفار والمشركين من الأمم السابقة من عذاب‏,‏ وبما سوف يصيب كفار ومشركي وظلمة اليوم والغد الي يوم الدين من عذاب إن شاء الله رب العالمين‏.‏
‏(6)‏ الايمان بالآخرة وبكل ما رواه القرآن الكريم من أحداثها بدءا بالبعث والحساب‏,‏ وانتهاء بالخلود إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏.‏

‏(7)‏ اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف يملأ جهنم بأبالسة الجن والإنس‏,‏ وبجميع من تبعهم من الكافرين والمشركين والمكذبين ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ والمتطاولين علي مقامه الشريف كذبا وزورا وبهتانا طمعا في شيء من حطام الدنيا الفانية‏.‏
‏(8)‏ التصديق بكل المعجزات التي أجراها الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي أيدي أنبيائه ورسله‏,‏ كما جاء وصفها في القرآن الكريم‏.‏

‏(9)‏ التسليم بوصف القرآن الكريم للجنة ونعيمها‏,‏ وللنار وجحيمها‏,‏ وبجميع الأحداث المستقبلية التي ذكرها انطلاقا من اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يري الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد‏,‏ لأنه خالق كل من المكان والزمان الذي يحد بهما حركات وسكنات خلقه‏,‏ وهي لا تحد الله‏(‏ تعالي‏),‏ لأن المخلوق لا يحد خالقه أبدا‏.‏
‏(10)‏ اليقين بأن رزق الله‏(‏ تعالي‏)‏ لا ينفد أبدا‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه‏)‏ هو الرزاق ذو القوة المتين‏.‏

‏(11)‏ الإيمان الكامل بقصة الخلق كما أوردها القرآن الكريم‏,‏ علي الرغم من انبهار عدد من الكتاب والدارسين بفكرة التطور العضوي‏,‏ وعلي الرغم من محاولات إحياء الادعاء القديم بوجود أكثر من آدم واحد‏,‏ أو بوجود بشر عاقلين قبل أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ وهي ادعاءات تفتقر الي الدليل‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة ص
‏(1)‏ الاشارة الي وجود حيز فاصل بين السماوات والأرض‏,‏ والعلوم المكتسبة تؤكد أن الغلاف الغازي للأرض مكون من اختلاط غازات اندفعت ـ ولا تزال تندفع ـ من باطن الأرض مع المادة التي تملأ المسافات بين أجرام السماء‏,‏ وعلي ذلك فإن هذا النطاق البيني يمثل تركيبا مغايرا لكل من الأرض والسماء‏,‏ ولعل هذا هو المقصود بتعبير السماوات والأرض ومابينهما والذي ورد عشرين مرة في القرآن الكريم منها مرتان في هذه السورة المباركة‏.‏
‏(2)‏ تأكيد خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق أي بالقوانين المنضبطة‏,‏ والسنن الحاكمة الدقيقة التي تعكس شيئا من صفات الخالق العظيم‏,‏ وتنفي كل الادعاءات الباطلة بالعشوائية والمصادفة‏.‏

‏(3)‏ الاشارة الي خلق الإنسان من طين‏,‏ والتركيب الكيميائي لجسمه يؤكد ذلك‏,‏ واغتذاؤه علي عناصر مستمدة من طين الأرض بواسطة النباتات‏,‏ أو مختزنة في أجساد حيوانات تتغذي علي النباتات تضيف التأكيد علي ذلك‏,‏ ومرور جسد الانسان في مراحل تحلله بعد وفاته بمرحلة طينية قبل أن يجف ويتواري في تراب الأرض مما يزيد ذلك تأكيدا‏.‏
‏(4)‏ ذكر التسبيح بواسطة كل من الجبال والطير‏,‏ والعلوم المكتسبة تقترب اليوم من التأكيد علي أن كل مخلوق من مخلوقات الله غير المكلفة مثل الجمادات‏,‏ والنباتات‏,‏ والحيوانات له قدر من الإدراك الخاص به‏,‏ والذي يتواءم مع مستواه‏,‏ ويعينه في التعرف علي خالقه‏,‏ وفي المداومة علي حمده وتسبيحه بلغة لا يدركها إلا أصحاب الأرواح الصافية‏,‏ والقلوب العامرة بحب الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحب خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

‏(5)‏ وصف الخيل بـ‏(‏ الصافنات الجياد‏),‏ وعلوم سلوك الحيوان تؤكد أن الخيل من الحيوانات المتميزة بشيء من الخيلاء والاعتداد بالنفس والاعتزاز بنعم الله تعالي عليها‏,‏ وكذلك‏(‏ تصفن‏)‏ أي تقف علي ثلاثة أرجل وعلي حافر الرجل الرابعة‏,‏ وجاء الوصف بالتأنيث لأن الأنثي هي الزعيمة الآمرة الناهية في قطيع الخيل‏.‏
ووصفت الآيات كيفية تعامل نبي الله سليمان‏(‏ عليه السلام‏)‏ مع الخيل بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):...‏ فطفق مسحا بالسوق والاعناق‏*‏ وعلم سلوك الحيوان يؤكد أن من أفضل وسائل ترويض الخيل والتآلف معها هو المسح بكل من سيقانها وأعناقها لأنها من أكثر مواطن الاحساس إرهافا فيها‏.‏

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج الي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الثالثة من القائمة السابقة والمتعلقة بخلق ابينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ من طين والتي جاءت في الآية الحادية والسبعين من سورة ص‏,‏ وقبل الوصول الي ذلك أري ضرورة الرجوع الي أقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين‏*(‏ ص‏:71).‏
‏*‏ أورد ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:‏ هذه القضية ذكرها الله تبارك وتعالي في سورة البقرة‏,‏ وفي أول الأعراف‏,‏ وفي سورة الحجر‏,‏ والإسراء‏,‏ والكهف‏,‏ وههنا‏,‏ وهي أن الله سبحانه وتعالي‏,‏ أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام‏,‏ بأنه سيخلق بشرا من طين‏..‏

‏*‏ وذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ ما مختصره‏:‏ لقد خلق الله هذا الكائن البشري من الطين‏,‏ كما أن سائر الأحياء في الأرض خلقت من طين‏,‏ فمن الطين كل عناصرها‏,‏ فيما عدا سر الحياة‏..‏ ومن الطين كل عناصر ذلك الكائن البشري فيما عدا ذلك السر‏,‏ وفيما عدا تلك النفخة العلوية التي جعلت منه إنسانا من الطين كل عناصر جسده‏,‏ فهو من أمه الأرض‏,‏ ومن عناصرها تكون وهو يستحيل الي تلك العناصر حينما يفارقه ذلك السر الإلهي المجهول‏,‏ وتفارقه معه آثار تلك النفخة العلوية التي حددت خط سيره في هذه الحياة‏....‏

مراحل خلق آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏
في الكتاب والسنة
جاء ذكر خلق أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ وخلق نسله من بعده في العديد من آي القرآن الكريم وأحاديث خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ ومن ذلك نختار الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التالية‏:‏

أولا‏:‏ خلق آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ من تراب‏:‏
‏(1)‏ إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون‏*‏
‏(‏آل عمران‏:59).‏
‏(2)‏ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب‏..*(‏ الحج‏:5).‏
‏(3)‏ ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون‏*.(‏ الروم‏:20).‏
‏(4)‏ والله خلقكم من تراب‏..*.(‏ فاطر‏:11).‏
‏(5)‏ هو الذي خلقكم من تراب‏...*‏
‏(‏غافر‏:67).‏

ثانيا‏:‏ تحويل التراب الذي خلق منه آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ إلي طين‏:‏
‏(1)‏ هو الذي خلقكم من طين‏..*(‏ الأنعام‏:2)‏
‏(2)...‏ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين‏*(‏ الأعراف‏:12).‏

‏(3)‏ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا‏*(‏ الإسراء‏:61)‏
‏(4)‏ الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين‏*(‏ السجدة‏:7)‏
‏(5)‏ إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين‏*‏ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏*‏ فسجد الملائكة كلهم أجمعون‏*‏ إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين‏*‏ قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين‏*‏ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين‏*(‏ ص‏:71‏ ـ‏76).‏

ثالثا‏:‏ اختيار مايناسب من خلاصة الطين لخلق آدم عليه السلام
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏*(‏ المؤمنون‏:12).‏

رابعا‏:‏ الجفاف النسبي للطين حتي أصبح لازبا أي ملتصقا بعضه ببعض‏:‏
‏...‏ إنا خلقناهم من طين لازب‏*‏
‏(‏الصافات‏:11)‏

خامسا‏:‏ جفاف الطين حتي اسود وانتن وأصبح صلصالا من حمأ مسنون‏:‏
ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون‏*‏ والجان خلقناه من قبل من نار السموم‏*‏ وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون‏*‏ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏*‏ فسجد الملائكة كلهم أجمعون‏*‏ إلا إبليس أبي أن يكون مع الساجدين‏*‏ قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين‏*‏ قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون‏*(‏ الحجر‏:26‏ ـ‏33).‏

سادسا‏:‏ تيبس الطين علي هيئة صلصال كالفخار‏:‏
خلق الإنسان من صلصال كالفخار‏*(‏ الرحمن‏:14)‏
ولذلك جاءت الإشارات القرآنية العديدة الي خلق الإنسان من الأرض من مثل قوله‏(‏ تعالي‏):‏

‏*‏ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري‏*(‏ طه‏:55).‏
‏*‏ والله أنبتكم من الأرض نباتا‏*‏ ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا‏*‏
‏(‏نوح‏:17‏ ـ‏18).‏

‏*...‏ هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم‏...*‏
‏(‏النجم‏:32).‏
‏*‏ وللتأكيد علي أن بني آدم جميعا كانوا في صلب أبيهم لحظة خلقه جاء قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين‏(‏ الأعراف‏:11)‏
‏*‏ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين‏(‏ الأعراف‏:172).‏

‏*‏ ولتفسير ذلك قال رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض‏,‏ فجاء بنو آدم علي قدر الأرض‏.‏ جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك‏,‏ والخبيث والطيب وبين ذلك‏(‏ أخرجه الإمام أحمد عن أبي موسي الأشعري‏,‏ وأخرجه أبو داود والترمذي عن عوف الأعرابي مرفوعا إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم‏).‏
‏*‏ كذلك قال رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ إن الله‏(‏ تعالي‏)‏ خلق آدم يوم الجمعة وفي رواية أخري في آخر ساعة من يوم الجمعة مما يؤكد علي أن خلقه كان خلقا خاصا بالأمر الإلهي كن فيكون‏.‏

سابعا‏:‏ ثم سواه ونفخ فيه من روحه‏...:‏
وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين‏*‏ ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ماتشكرون‏(‏ السجدة‏:7‏ ـ‏9).‏
ونسبة الروح إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ هي من قبيل التشريف لآدم‏(‏ عليه السلام‏),‏ لأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ منزه عن جميع صفات خلقه‏,‏ ومنها التجزيء‏,‏ والتبعيض‏,‏ والتنسيب إلي أب وأم أو إي صاحبه وولده‏.‏
والروح التي نفخت في آدم هي من جنس ما استأثر الله بعلمه لقوله‏(‏ تعالي‏):‏ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏.(‏ الاسراء‏:85)‏

‏*‏ وللتأكيد علي أن الخلق عملية مغايرة للتسوية والتصوير جاء قول ربنا‏(‏ جلت قدرته‏):‏ يا أيها الإنسان ماغرك بربك الكريم‏*‏ الذي خلقك فسواك فعدلك‏*‏ في أي صورة ماشاء ركبك‏)‏
‏(‏الانفطار‏:6‏ ـ‏8).‏
وفي الحديث الذي أخرجه كل من الأئمة الكبار البخاري ومسلم وأحمد عن كل من أبي حاتم وأبي هريرة أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏ إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم علي صورته والضمير في كلمة‏(‏ صورته‏)‏ يعود علي الأخ المضروب‏,‏ لا علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ لأن الله‏(‏ سبحانه‏)‏ لا يشبهه أحد من خلقه‏.‏ وإن كان كل من اليهود والنصاري والمشركين والوثنيين في كل عصر قد اعتقدوا خطأ أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد خلق آدم علي هيئة الذات الإلهية‏,‏ والله الخالق الباريء المصور منزه عن الشبيه‏,‏ والشريك‏,‏ والمنازع‏,‏ والصاحبة والولد‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏.‏

خلق الإنسان من طين
يتضح من هذا الاستعراض السريع لقضية خلق الإنسان في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة أن الإنسان مخلوق مكرم‏,‏ خلقه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في أحسن تقويم‏,‏ وسواه بيديه‏,‏ ونفخ فيه من روحه‏,‏ وأمر الملائكة بالسجود له‏,‏ وعلمه من علمه‏,‏ وفضله علي كثير من خلقه‏,‏ وحمله أمانة الاستخلاف في الأرض بعمارتها‏,‏ وإقامة عدل الله فيها‏,‏ وعبادة خالقه بما‏,‏ والإنسان هو المخلوق المتميز بالعقل والذكاء‏,‏ وبالقدرة علي كسب المعارف وتعليمها‏,‏ وعلي كسب المهارات وتطبيقها‏,‏ وعلي التفكير والإبداع‏,‏ وعلي الشعور والانفعال‏,‏ وعلي البيان المنطقي المرتب‏,‏ والتعبير عن الذات وعن المشاعر بدقة ووضوح‏,‏ ومن ثم كان الإنسان مكلفا بمسئولية الاستخلاف في الأرض‏,‏ ومحاسبا علي أقواله وأعماله ومختلف نشاطاته فيها‏.‏
والإنسان توازن دقيق بين المادة والروح‏,‏ وميزانه في ضبط هذا التوازن هو عقله الذي يعينه علي تحصيل المعارف المكتسبة من تفهم للقوانين الحاكمة للكون ولسنن الله فيه‏,‏ وتوظيف ذلك كله في عمارة الأرض‏,‏ وفي التعرف علي الخالق العظيم من خلال التعرف علي خلقه‏,‏ وتلقي هدايته الربانية في الأمور التي لايقوي علي وضع ضوابط صحيحة لنفسه فيها من مثل ركائز الدين من العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات‏,‏ فيخضع لخالقه بالطاعة والعبادة بما أمر‏,‏ وبالالتزام بمكارم الأخلاق وطيب المعاملات حتي يتحقق له الارتقاء في معراج الله إلي أعلي الدرجات‏,‏ والوصول إلي رضاء الله وهي الغاية من وجوده في الأرض‏.‏

والإنسان بالإضافة إلي روحه وعقله هو جسد مادي من عناصر الأرض‏,‏ ولذلك فهو خاضع لقوانين المادة ولسنن الله فيها‏,‏ وهذا الجسد الإنساني يتكون أساسا من الماء‏(54%‏ إلي أكثر من‏70%)‏ بالإضافة إلي قدر من المواد البروتينية‏(‏ من‏11%‏ إلي‏17%)‏ والدهون‏14%‏ إلي‏26%)‏ وعدد من العناصر والمركبات غير العضوية‏(5%‏ إلي‏6%)‏ وتشمل الكالسيوم‏,‏ الفوسفور‏,‏ الكبريت‏,‏ البوتاسيوم‏,‏ الصوديوم‏,‏ الكلور‏,‏ الماغنيسيوم وآثار طفيفة من كل من اليود والفلور‏,‏ والبروم والحديد والنحاس‏,‏ والمنجنيز‏,‏ والزنك‏,‏ والكروم‏,‏ والكوبالت‏,‏ والنيكل‏,‏ والموليبد ينوم‏,‏ والقصدير‏,‏ والفاناديوم‏,‏ والسيليكون‏,‏ والألومنيوم وكلها من عناصر الأرض‏.‏ ولو اختلفت نسب بناء جسم الإنسان قليلا ما صلحت لبنائه‏,‏ وحتي شوارد العناصر التي توجد بنسب في حدود الآحاد من الألف في المائة فإن أقل خلل في نسبها بالزيادة أو النقصان قد يؤدي إلي اعتلال جسم الإنسان أو افنائه‏.‏

ويتكون جسم الإنسان من ألف مليون مليون خلية حية في المتوسط‏,‏ وهي خلايا متخصصة تتنوع بتنوع وظائفها‏,‏ وتنتظم كل مجموعة متخصصة من تلك الخلايا في أنسجة متخصصة‏,‏ ثم في أعضاء متخصصة‏,‏ ثم في أجهزة أو نظم متخصصة تتعاون كلها في خدمة هذا الكيان المبهر في دقة بنائه‏,‏ والعلماء يعجزون اليوم عن إدراك كيفية تعرف الخلايا المتخصصة علي بعضها البعض لبناء الأنسجة المتخصصة‏,‏ ولا معرفة كيفية تعرف الأنسجة‏,‏ ولا توافق الأجهزة لبناء هذا الجسد المتكامل الأداء‏,‏ بذاتها ولكنه تدبير الخالق العظيم‏.‏
والخلية الحية التي لايتعدي قطرها في المتوسط‏00,03‏ من المليمتر ولايتعدي وزنها جزءا من مليار جزء من الجرام تعتبر بناء فائق التعقيد والكفاءة في الأداء‏,‏ يفوق في تعقيده جميع المصانع التي أقامها الإنسان‏,‏ بل التي فكر في إقامتها ولم يتمكن من ذلك بعد‏.‏ فالخلية البشرية لها جدار حي‏,‏ ولها سائل خاص يعرف باسم الهيولي‏(‏ السيتو بلازم‏),‏ ولها نواة تمثل مركز التحكم في الخلية‏(‏ عقل الخلية‏),‏ ويغلف النواة غشاء خاص يسمح بتبادل المعلومات والبروتينات النووية مع هيولي الخلية‏,‏ بدقة وإحكام بالغين‏.‏

وللخلية جسيمات حية متناهية الضآلة في الحجم تعوم في سائل الخلية وتعرف باسم العضيات‏(Organelles),‏ ومنها مولدات الطاقة أو المقتدرات‏(Mitochondria),‏ ومراكز تصنيع البروتينات أو الريباسات‏,(Ribosomes),‏ وغيرها‏,‏ ويحيط بالخلية الحية غشاء خلوي له كفاءة عالية في المحافظة علي كيان الخلية كوحدة مستقلة دون عزلها عما حولها من الخلايا التي تتعايش معها في تفاعل كامل‏.‏
وفي داخل النواة توجد الشفرة الوراثية المكونة من الصبغيات علي هيئة شبكة صبغية تحمل نوية واحدة‏,‏ وعدد الصبغيات محدد في كل نوع من أنواع الحياة‏,‏ وهي تحمل الصفات الوراثية كما تحمل مراكز توجيه صنع البروتينات المختلفة التي يحتاجها الجسم‏.‏ وتستطيع الخلية الحية علي ضآلة حجمها انتاج مائة ألف صنف من البروتينات يكفي الجسم منها ألف بروتين أساسي‏,‏ ويعجز الإنسان عن انتاج هذا العدد من البروتينات في أضخم المصانع التي تم إنشاؤه في الزمن الذي تنتجه الخلية الحية‏.‏ ويختلف بناء الجزيء البروتيني باختلاف عمله فهناك بروتينات الغضاريف‏,‏ والعضلات‏,‏ والأوعية الدموية‏,‏ والأنسجة الرئوية‏,‏ وبروتينات كل من الجلد والشعر‏,‏ وبروتينات الدم وتجلطه‏,‏ وهناك الإنزيمات والهرمونات المختلفة‏,‏ وغيرها من المركبات الكيميائية والفيتامينات المختلفة التي يحتاجها الجسم وتنتجها الخلية حسب الحاجة‏.‏

هذه العجالة تؤكد أن تكون خلية واحدة من أكثر من مائة تريليون خلية حية في المتوسط في جسم الفرد الواحد منا لايمكن أن يتم بعشوائية أو بمصادفة‏,‏ بل يحتاج إلي تقدير الخالق الباريء المصور‏,‏ بل إن تكوين جزيء بروتيني واحد‏,‏ بل جزيء واحد من جزيئات الأحماض الأمينية المكونة للجزيء البروتيني لايمكن أن يتم إلا بتقدير مسبق وتدبير حكيم‏,‏ فالمصادفة لا تجدي في إنتاجه أبدا‏.‏
وإذا قرر العلم ذلك‏,‏ فلا مفر من الاعتراف بحقيقة الخلق‏,‏ وتدبير الخالق‏,‏ وإذا قال الخالق العظيم‏:...‏ إني خالق بشرا من طين فإن المخلوقات لا يملكون التمحك في تفسير ذلك مهما توفرت المشاهدات‏,‏ لأنهم لم يشهدوا خلق أنفسهم والشواهد علي الخلق هي في الواقع قليلة ومتناثرة مع إيماننا بالأمر الإلهي‏:‏ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخرة إن الله علي شيء قدير
‏(‏العنكبوت‏:20).‏

ومع ندرة شواهد الخلق وتناثرها‏,‏ فإن مناقشتها بمعزل عن الهداية الربانية تصبح مضيعة للوقت والجهد دون أدني طائل‏,‏ وهنا يتضح دور القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في تجليه مثل هذه الأمور‏.‏