‏(135)..‏ الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طيـن‏*‏
بقلم : زغـلول النجـار
الآية الكريمة جاءت في نهاية الربع الأول من سورة السجدة‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏(30)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الاشارة فيها إلي سجود المؤمنين لله الخالق الباريء المصور‏,‏ وتسبيحهم بحمده‏,‏ وخضوعهم لجلاله بالطاعة والعبادة كلما ذكروا بآياته‏.‏
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول ركائز العقيدة الاسلامية من الايمان بالله‏,‏ وملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ واليوم الآخر‏,‏ وتوحيد هذا الخالق العظيم‏,‏ وتنزيهه‏(‏ جل شأنه‏)‏ عن الشريك‏,‏ والشبيه‏,‏ والمنازع‏,‏ والصاحبة والولد‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ والتصديق برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وبمعجزته الكبري وهي القرآن العظيم‏,‏ الذي أوحاه الله‏(‏ تعالي‏)‏ إليه هداية للناس أجمعين‏,‏ وتعهد بحفظه إلي يوم الدين حتي يكون حجة علي الخلق كافة‏,‏ والايمان بالبعث‏,‏ والحساب‏,‏ والجزاء‏,‏ والخلود في الآخرة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏.‏

وتبدأ السورة الكريمة بالحروف المقطعة الثلاثة‏(‏ الم‏)‏ والتي جاءت في مطلع ست من سور القرآن الكريم‏.‏ والفواتح الهجائية افتتحت بها تسع وعشرون سورة قرآنية كريمة‏,‏ وقد قيل فيها أنها رموز إلي كلمات أو معان أو أعداد معينة متعلقة بالسورة التي استفتحت بها أو أنها أسماء للسور التي وردت في أوائلها‏,‏ أو أنها صورة من صور تحدي العرب بالقرآن الكريم وإثبات اعجازه‏,‏ لأنه لم يجاوز حروف لغتهم التي يتكلمون بها‏,‏ إلا أنهم لم ولن يستطيعوا أن يأتوا بشيء من مثله‏,‏ أو هي وسيلة من وسائل قرع أسماعهم وقلوبهم كي تنشط وتتنبه لتلقي القرآن الكريم‏,‏ أو أنها شهادة علي صدق نبوة خاتم المرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لنطقه بأسماء الحروف ـ وهو الأمي ـ مع أن الأمي لا يستطيع النطق إلا بأصوات الحروف دون اسمائها‏,‏ أو أنها تجمع بين ذلك كله‏,‏ أو أن هذه الفواتح الهجائية تبقي سرا من أسرار القرآن الكريم نكله إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ حتي يفتح علي أي من عباده بتفسيرها‏.‏
وبعد هذا الأفتتاح للسورة الكريمة يأتي التأكيد القاطع علي أن القرآن الكريم هو تنزيل من رب العالمين بلا أدني شك أو ريبة‏,‏ ويأتي هذا الحكم الإلهي دفعا لما ادعاه كفار قريش‏,‏ وادعاه أو يدعيه كل كافر من بعدهم إلي يوم الدين بالدعوي الباطلة أن القرآن الكريم من صناعة سيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وهو الذي شاء الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن يجعله أميا‏(‏ لا يقرأ ولا يكتب‏)‏ حتي يبطل هذه الحجة العاجزة في رفض الدين كما أنزله ربنا‏(‏ جلت قدرته‏),‏ وأكمله‏,‏ وأتمه‏,‏ في آخر رسالاته لهداية خلقه أجمعين من لحظة الوحي به وحتي قيام الساعة‏.‏

وترسيخا لربانية القرآن الكريم يقول منزله‏(‏ وهو خير القائلين‏):‏ تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين‏*‏ أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون‏*(‏ السجدة‏:2‏ و‏3)‏
ثم تعرض الآيات لشيء من صفات رب العالمين الذي أنزل القرآن بالحق علي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ومنها انه‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام‏(‏ أي ست مراحل متتالية‏)‏ ثم استوي علي العرض‏(‏ استواء يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل‏).‏

ثم توجه الآيات الخطاب إلي مشركي قريش خاصة‏,‏ وإلي الناس عامة بأن ليس لهم من دون الله من ولي ولا شفيع يتولي أمورهم في الدنيا أو يمنعهم من عذابه في الآخرة‏,‏ أو يشفع لهم عنده إلا بإذنه‏,‏ لأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يرعي خلقه في الدنيا‏,‏ ويحاسب عباده في الآخرة‏,‏ ولذلك تضيف الايات هذا السؤال التوبيخي‏:(‏ أفلا تتذكرون‏)‏؟ أي أفلا تتذكرون هذه الحقائق فتؤمنون بالله‏,‏ وبملائكته‏,‏ وكتبه ورسله‏,‏ وبخاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وبالكتاب الذي أوحي إلي هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ألا وهو القرآن الكريم؟
ثم تأتي الآيات بصفة أخري من صفات رب العالمين‏,‏ ألا وهي السرعة الفائقة التي يدبر بها أمور الكون‏,‏ لأن الزمن من خلق الله‏,‏ والمخلوق غير المكلف هو دائما في طوع الخالق لا يألو في طاعته جهدا‏,‏ ولايعصي له أمرا‏..,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
يدبر الأمر من السماء إلي الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون‏.‏

‏(‏السجدة‏:5)‏
وتؤكد الآيات جوانب أخري من صفات الله العزيز الحميد‏,‏ منزل القرآن المجيد فتقول‏:‏ ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم‏*‏ الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين‏*‏ ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين‏*‏ ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون‏*‏

‏(‏السجدة‏:6‏ ـ‏9)‏
وتندد الآيات بالمكذبين بالبعث والنشور الذين يرددون مقولتهم الساذجة‏:‏ أئذا متنا وتحللت لحومنا وعظامنا إلي تراب اختلط بتراب الأرض حتي غاب فيه‏,‏ ولم يتميز عنه‏,‏ هل يمكن أن يعاد خلقنا من جديد؟ وهو استبعاد للبعث‏,‏ واستهزاء بامكانية وقوعه ولذلك ختمت الآية بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ بل هم بلقاء ربهم كافرون‏*‏
وترد عليهم الآيات بتأكيد حقيقة الموت والبعث فتقول‏(‏ موجهة الخطاب إلي خاتم الأنبياءوالمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏

قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلي ربكم ترجعون‏*(‏ السجدة‏:11)‏
وبعد ذلك تناولت الآيات جانبا مما سوف يكون فيه المجرمون يوم القيامة من الذل والهوان‏,‏ والحسرة والندم فتقول‏:‏
ولو تري إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون‏*(‏ السجدة‏:12).‏

ويرد عليهم الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏*‏ فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون‏*(‏ السجدة‏:14,13).‏
ثم تستعرض الآيات حال السعداء من المؤمنين بآيات الله في الدنيا والآخرة فتقول‏:‏ إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون‏*‏ تتجافي جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون‏*‏ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون‏*‏ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لايستوون‏*‏ أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوي نزلا بما كانوا يعملون‏*(‏ السجدة‏:15‏ و‏16)‏

وبالمقابل تصف الآيات حال الفاسقين في الدنيا والآخرة فتقول‏:‏
وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون‏*‏ ولنذيقنهم من العذاب الأدني دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون‏*‏ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون‏*(‏ السجدة‏:20‏ ـ‏22).‏

والعذاب الأدني هو عذاب الدنيا‏,‏ والعذاب الأكبر هو عذاب الآخرة‏.‏
ثم يأخذ سياق سورة السجدة جولة جديدة مع نبي الله موسي ورسالته إلي قومه‏,‏ مشيرة إلي التوراة الأصلية التي أنزلها الله‏(‏ تعالي‏)‏ هداية لبني إسرائيل بعد أن كانوا قد ضلوا ضلالا بعيدا‏,‏ مؤكدة النقاء صاحب القرآن الكريم مع صاحب التوراة علي الأصل الواحد‏,‏ والعقيدة الثابتة التي تدعو إلي توحيد الله‏(‏ تعالي‏)‏ توحيدا مطلقا فوق جميع خلقه‏,‏ وتنزيهه عن الشريك‏,‏ والشبيه‏,‏ والمنازع‏,‏ والصاحبة‏,‏ والولد‏,‏ وعن كل وصف لايليق بجلاله‏,‏ ومؤكدة كذلك اصطفاء الصابرين الموقنين في كل عصر وفي كل جيل ليكونوا أئمة لأقوامهم‏,‏ مع بيان الصفات التي يستحق بها نفر من عباد الله الصالحين الإمامة والتمكين في الأرض ومنها التعرض بالدعوة لدين الله‏,‏ واليقين بآياته‏,‏ والصبر علي تكاليف ذلك وفي هذا المعني يقول رب العزة والجلال مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏
ولقد آتينا موسي الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدي لبني إسرائيل‏*‏ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون‏*‏ إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏(‏ السجدة‏:23‏ ـ‏25).‏
وأما أرتداد بني إسرائيل عن دينهم‏,‏ وتحريفهم لكتبهم‏,‏ وقتلهم لأنبيائهم وللصالحين من عباد الله كما يفعلون اليوم علي أرض فلسطين‏,‏ فأمرهم متروك إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ يحكم فيه يوم القيامة وهو أعدل الحاكمين‏.‏
ثم يأخذ السياق القرآني في سورة السجدة كلا من الكفار والمشركين المكذبين بالبعث‏,‏ أو بالدين الخاتم‏,‏ وبخاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في جولة مع مصارع الغابرين فيقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون‏(‏ السجدة‏:26).‏
وتستشهد السورة المباركة علي كمال قدرة الله علي البعث بإعادة إنبات الأرض الجرز التي قطع نباتها بالرعي الجائر‏,‏ أو جف ويبس واندثر لانقطاع الماء عنها‏,‏ فإذا ساق الله‏(‏ تعالي‏)‏ إليها الماء فإنها تخضر بعد جفاف وقحولة وتزدهر بمختلف أنواع الحشائش والزروع والأشجار والثمار‏,‏ التي يأكلون منها‏,‏ وتأكل أنعامهم‏.‏ وتتساءل الآية الكريمة هذا التساؤل التقريعي‏:(‏ أفلا يبصرون؟‏)‏ أي أفلا يبصرون أن الذي يخرج النبتة من بين تراب الأرض قادر علي أن يبعث الموتي من قبورهم؟‏,‏ والقرآن الكريم دوما يشبه بعث الأموات من قبورهم بإنبات النبات من بذوره‏,‏ ورسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يقول‏:‏ كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب
ويقول‏:‏ مابين النفختين أربعون‏...‏ ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل‏,‏ ليس من الإنسان شيء إلا يبلي إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب‏,‏ ومنه يركب الخلق يوم القيامة
وتختتم سورة السجدة بتهديد من الله‏(‏ تعالي‏)‏ للكفار والمشركين‏,‏ وبتوجيه لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ـ ولكل داعية إلي الإسلام العظيم من بعده ـ أن يعرض عن هؤلاء الجاهلين الذين هم من جهلهم وظلمهم لأنفسهم يستعجلون بالعذاب الذي يوعدون‏,‏ ويستهجنون ثقة المسلمين بنصر الله‏,‏ وبالفتح الذي وعدهم‏0‏ سبحانه وتعالي‏)‏ علي الكفار والمشركين الذي كانوا يستعجلون هذا الفتح تكذيبا له‏,‏ واستهزاء به‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
ويقولون متي هذا الفتح إن كنتم صادقين‏*‏ قل يوم الفتح لاينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون‏*‏ فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون‏(‏ السجدة‏:28‏ ـ‏30)‏
أي أعرض يامحمد عن الكفار والمشركين‏,‏ وأعرضوا عنهم يا أتباع محمد إلي يوم الدين‏,‏ ولا تبالوا بهم‏,‏ وانتظروا ماسوف يحل بهم من عذاب الله في الدنيا قبل الآخرة‏,‏ فإنهم متربصون بكم‏,‏ ومنتظرون مايحل بكم من حوادث الزمان‏,(‏ والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون‏),‏ وصدق الله العظيم إذ يقول‏:‏
‏..‏ ولن يجعل الله للكافرين علي المؤمنين سبيلا‏*(‏ النساء‏:141)‏

من ركائز العقيدة في سورة السجدة
‏(1)‏ الإيمان بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو رب العالمين‏,‏ رب هذا الكون ومليكه‏,‏ خالقه‏,‏ ومبدعه‏,‏ ومدبر أمره‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولامنازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏),‏ والإيمان بملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ واليوم الآخر‏,‏ وبالخلود في الآخرة إما في الجنة أبدا‏,‏ أو في النار أبدا‏,‏ وأن البعث والحساب والجنة والنار حق لا مراء فيه‏.‏
‏(2)‏ اليقين بأن القرآن الكريم هو كتاب حق لاريب فيه‏,‏ أنزله رب العالمين علي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ هداية للناس إلي يوم الدين‏.‏
‏(3)‏ التسليم بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو عالم الغيب والشهادة‏,‏ العزيز الرحيم‏(‏ الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين‏).‏
‏(4)‏ الإيمان بأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ جعل نسل الإنسان من سلالة من ماء مهين‏,‏ ثم سواه ونفخ فيه من روحه‏(‏ في خلال مراحله الجنينية‏),‏ وجعل السمع والأبصار والأفئدة نعما من عنده علي عباده تستوجب منهم الشكر للخالق العليم الحكيم‏.‏
‏(5)‏ التسليم بأن المؤمنين والكافرين لايستوون أبدا‏,‏ وأن الصالحين والفاسقين لايستوون أبدا‏,‏ وأن الذين يعملون الصالحات والمفسدين في الأرض لايستوون أبدا‏,‏ وأن مقيمي عدل الله في الأرض والظالمين للخلق لايستوون أبدا‏,‏ ولذلك أخذ الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ العهد علي ذاته العلية بعقاب كل كافر‏,‏ ومشرك‏,‏ وفاسق ومفسد وظالم فقال‏(‏ عز من قائل‏):...‏ ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏.‏

من ركائز العبادة في سورة السجدة
‏(1)‏ السجود لله‏(‏ تعالي‏)‏ وتسبيحه فور تذكير المسلم بآيات الله المقروءة أو المنظورة‏.‏
‏(2)‏ تحاشي الكبر في النفس‏,‏ والاستكبار علي الخلق لأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ يبغضه‏.‏
‏(3)‏ تجافي الجنوب عن المضاجع قياما لليل‏,‏ وتوجها إلي الله‏(‏ جل شأنه‏)‏ بالدعاء في جوف الليل خوفا وطمعا وهذه الساعات من ساعات الإجابة التي لايرد فيها الدعاء‏.‏
‏(4)‏ الحرص علي الإنفاق مما رزق الله‏(‏ تعالي‏)‏ في سبيله‏.‏
‏(5)‏ النهي عن الفسوق والعصيان‏,‏ وعن الظلم والطغيان‏,‏ وعن الإجرام والإفساد في الأرض‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة السجدة
‏(1)‏ الإشارة إلي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام‏(‏ أي ست مراحل متتالية‏)‏ يحاول العلم المكتسب اليوم تفسيرها‏(‏ كما جاء في الآية الرابعة من سورة السجدة‏),‏ وما تحويه هذه الآية الكريمة من إيحاء بوسطية الأرض من السماوات‏,‏ وهو ما لا يقوي علماء الفلك اليوم علي إدراكه‏.‏ وعلم الفلك في قمة من قممه وكشوفاته‏.‏
‏(2)‏ الإشارة إلي وجود سرعات كونية فائقة‏(‏ تفوق سرعة الضوء‏)‏ قبل أن يدرك الإنسان سرعة الضوء بقرون طويلة‏(‏ الآية الخامسة من سورة السجدة‏).‏
‏(3)‏ التأكيد علي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين‏(‏ السجدة‏:7)‏
‏(4)‏ إثبات أن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قد جعل نسل الإنسان من سلالة من ماء مهين‏,‏ ثم سواه ونفخ فيه من روحه‏(‏ أي أثناء مرحلة الجنين‏)(‏ السجدة‏:9,8)‏
‏(5)‏ الإشارة الي أن الخالق العظيم قد جعل للناس السمع والأبصار والأفئدة ليتمتعوا بها وباستخداماتها المختلفة في الدنيا‏,‏ ولعلهم أن يكونوا من الشاكرين‏.‏ وتقديم السمع علي الأبصار في هذه الآية الكريمة‏,‏ وفي العديد غيرها من سور القرآن الكريم فيه إلماح إلي سبق تكون حاسة السمع لتكون حاسة الإبصار في مراحل تكون الجنين في الإنسان‏,‏ وفي غيره من مخلوقات الله‏.(‏ السجدة‏:9).‏
‏(6)‏ تشبيه بعث الموتي من قبورهم في يوم القيامة بإخراج النبات من الأرض في هذه السورة المباركة‏,‏ وفي غيرها من سور القرآن الكريم‏,‏ وقد بدأت البحوث العلمية في قضية عجب الذنب‏(‏ وهو نهاية العصعص‏)‏ تثبته وتؤكده‏.(‏ السجدة‏:27).‏
‏(7)‏ الدقة العلمية الشديدة في اختيار لفظ‏(‏ الجرز‏)‏ في قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ أو لم يروا أنا نسوق الماء إلي الأرض الجرز فنخرج به زرعا‏..(‏ السجدة‏:27)‏
لأن‏(‏ الجرز‏)‏ في اللغة هو القطع‏,‏ و‏(‏ الأرض الجرز‏)‏ هي التي قطع نباتها بالرعي الجائر أو الحش الجائر‏,‏ أو التي يبس نباتها وجف واندثر لانقطاع الماء عنها‏,‏ ولكن تبقي الأرض صالحة للزراعة بتربتها ومخزونها من بقايا الحياة النباتية والحيوانية المدفونة فيها‏,‏ ولا يقال للأرض التي لا تنبت كالسباخ مثلا‏(‏ أرض جرز‏)‏ لأن تربتها غير صالحة للإنبات أصلا وعلي ذلك فلا يمكن أن يكون قد نما فيها غطاء خضري ثم اجتث بالقطع‏,‏ أو يبس واندثر لندرة الماء الصالح للري‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا السبع السابقة تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الثالثة منها والتي جاء ذكرها في الآية السابعة من سورة السجدة‏,‏ ولكن قبل الوصول الي ذلك لابد من استجلاء آراء عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين‏(‏ السجدة‏:7)‏
‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:‏ يقول تعالي مخبرا أنه الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها‏,‏ قال زيد بن أسلم‏:(‏ الذي أحسن كل شيء خلقه‏)‏ أي‏:‏ أحسن خلق كل شيء‏...‏ ثم لما ذكر تعالي خلق السماوات والأرض‏,‏ شرع في ذكر خلق الإنسان‏,‏ فقال تعالي‏:(‏ وبدأ خلق الإنسان من طين‏)‏ يعني خلق أبا البشر آدم من طين‏,...‏
‏*‏ وجاء في الظلال‏(‏ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة‏)‏ ما مختصره‏:...‏ ومن إحسانه في الخلق بدء خلق هذا الإنسان من طين‏.‏ فالتعبير قابل لأن يفهم منه أن الطين كان بداءة‏,‏ وكان في المرحلة الأولي‏.‏ ولم يحدد عدد الأطوار التي تلت مرحلة الطين ولامداها ولا زمنها‏,‏ فالباب فيها مفتوح لأي تحقيق صحيح‏....‏
‏*‏ وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لا حاجة إلي تكراره‏.‏
من الدلالات العلمية للآية الكريمة

مقدمة لازمة‏:‏
من القضايا الغائبة عن علم الإنسان غيبة مطلقة قضية الخلق بأبعادها الثلاثة‏(‏ خلق السماوات والأرض‏,‏ وخلق الحياة‏,‏ وخلق الإنسان‏).‏
وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق انفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا‏*‏
‏(‏الكهف‏:51)‏

وقد جاء الفعل‏(‏ خلق‏)‏ بمشتقاته في القرآن الكريم في أثنتين وخمسين‏(52)‏ موضعا‏.‏
ومن هذه القضايا الغيبية غيبة كاملة قضايا الإفناء‏,‏ والبعث‏,‏ والنشور وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ جل شأنه‏):‏
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون‏.(‏ النمل‏:65)‏

ويقول‏(‏ عز من قائل‏):‏
ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلي ربهم ينسلون‏*‏ قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون‏*‏ إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون‏*(‏ يس‏:51‏ ـ‏53)‏

ويقول‏(‏ سبحانه وتعالي‏):‏
واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب‏*‏ يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج‏*‏ أنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير‏*‏ يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير‏*(‏ ق‏:41‏ ـ‏44).‏
وقد جاء الفعل‏(‏ بعث بمشتقاته في سبعة وستين‏(67)‏ موضعا من القرآن الكريم منها‏(27)‏ مرة بمعني أرسل‏,‏ أو الإرسال والخروج‏,‏ و‏(3)‏ مرات بمعني الإيقاظ من النوم‏,‏ و‏(37)‏ مرة بمعني الإحياء من الموت‏.‏
كذلك جاء الفعل‏(‏ خرج‏)‏ بمشتقاته بمعني البعث‏(11)‏ مرة‏,‏ وجاء الفعل‏(‏ ينسلون‏)‏ مرة واحدة بمعني الخروج من القبور‏,‏ وجاء الفعل‏(‏ نشر‏)‏ بمشتقاته‏(7)‏ مرات بمعني البعث‏.‏
وعلي الرغم من هذه الغيبة المطلقة لكل من قضايا الخلق والبعث إلا أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يطالبنا في محكم كتابه بالنظر والتأمل والتفكر فيها فيقول‏(‏ عز من قائل‏):‏
أو لم يروا كيف يبديء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك علي الله يسير‏*‏ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله علي كل شيء قدير
‏(‏العنكبوت‏:20,19)‏

والجمع بين هذه الآيات‏(‏ الكهف‏:51,‏ النمل‏:65,‏ يس‏:51‏ ـ‏53,‏ ق‏:41‏ ـ‏44,‏ والعنكبوت‏:20,19,‏ والعديد غيرها‏)‏ يوضح لنا أنه علي الرغم من غيبة عمليات الخلق والبعث غيبة كاملة عن مشاهدة الإنسان‏,‏ إلا أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أبقي لنا في أجسادنا‏,‏ وفي الأرض من تحت أقدامنا‏,‏ وفي السماء من حولنا من الشواهد الحسية ما يمكن أن يعين الإنسان ـ بحسه المحدود‏,‏ وقدراته المحدودة ـ علي أن يصل إلي تصورات صحيحة لها‏,‏ ولكيفيات حدوثها إذا آمن بأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو خالق كل شيء‏(‏ الزمر‏:62,‏ غافر‏:62),‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ هو الخالق الباريء المصور‏(‏ الحشر‏:24),‏ وانه‏(‏ جل شأنه‏)‏ هو الخلاق العليم‏(‏ الحجر‏:86,‏ يس‏:81)‏ وآمن بخاتم الانبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وبما جاء به من الدين الخاتم المهيمن علي كل الرسالات والحافظ لها والمتمم عليها‏,‏ وفي هذا الدين الخاتم تبيان كيفيات الخلق والافناء والبعث بصورة كلية شاملة‏,‏ وهي في نفس الوقت دقيقة وفاصلة‏,‏ ولكن إذا اقتصر الانسان في نظرته الي هذه القضايا علي مشاهداته المادية وحدها دون ايمان بالخلق والخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ فإنه يتوه عن الحقيقة‏,‏ ويضل ضلالا بعيدا‏,‏ كما حدث في طروح نظرية التطور العضوي‏,‏ والتي حرصت علي وضع الطبيعة مكان الله الخالق في كل شيء‏...!!‏

من الاخطاءالرئيسية في نظرية التطور العضوي
علي الرغم من عدم كمال السجل المتوافر لبقايا الحياة القديمة في صخور الارض‏(‏ السجل الاحفوري‏)‏ إلا أنه أثبت بجلاء أن أرضنا قد عمرتها موجات من الحياة التي بدأت قليلة في العدد وبسيطة في التركيب‏,‏ ثم أخذت في التزايد في كل من العدد وتعقيد البناء عبر فترة تقدر بنحو الاربعة بلايين من السنين‏(3,8‏ بليون سنة‏)‏ حتي وصلت الي مستوي الحياة الارضية الحالي‏,‏ ولكن هذه الملاحظة الصحيحة استخدمت في ظل الحضارة المادية المعاصرة لنفي الخلق‏,‏ وإنكار الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بناء علي عدد من الاستنتاجات الخاطئة التي منها ما يلي‏:‏

‏(1)‏ الافتراض الخاطيء بعشوائية الخلق‏:‏
يدعي هذا الافتراض أنه إذا كانت الحياة قد تدرجت زيادة في العدد وتعقيدا في البناء عبر هذه الفترة الزمنية الطويلة فلابد وأنها بدأت ذاتيا بمحض الصدفة من مواد غير حية دون تخطيط مسبق‏,‏ بواسطة تفاعل أشعة الشمس مع طين الارض الذي أدي إلي تكوين عدد من الاحماض الامينية التي تجمعت بمحض الصدفة‏,‏ وارتبطت جزيئاتها وتشابكت تشابكا صحيحا بمحض الصدفة أيضا لتكون عددا من الجزيئات البروتينية العملاقة التي تجمعت فوق بعضها البعض بطريقة عشوائية كذلك لتبني جسد أول خلية حية‏,‏ وبتواصل عمليات الانقسام المتتابعة استطاعت هذه الخلية الحية أن تعطي ملايين الانواع المختلفة للحياة والتي مثل كل نوع منها بأعداد لا تكاد أن تحصي من الافراد‏,‏ وهو افتراض ساذج ترفضه كل الملاحظات العلمية الدقيقة لأسباب كثيرة أبسطها أن كلا من الاحماض الامينية‏,‏ والجزيئات البروتينية التي تنبني منها الخلايا الحية هي علي قدر من التعقيد في البناء‏,‏ ولها من الضوابط المحددة لكيفيات الترابط مع بعضها البعض ما ينفي إمكانية تكونها بمحض الصدفة‏,‏ هذا بالاضافة الي كون الخلية الحية المفردة تفوق في تعقيد بنائها كل ما استطاع الانسان ان يبنيه من مصانع‏,‏ فضلا عن كل ما فكر فيه دون أن يتمكن من إنشائه‏,‏ مما ينفي كل أحلام العشوائية والصدفة في إنتاج جزئ بروتيني واحد فضلا عن خلية حية واحدة في طول عمر الكون وأضعافه‏.‏

‏(2)‏ الافتراض الخاطيء بعشوائية التدرج في الخلق‏:‏
تفترض نظرية التطور العضوي ان عمليات الانقسام المتسلسل للخلية الحية الاولي كي تعطي هذا العدد الهائل من الخلق المتنوع تنوعا مذهلا قد تمت كذلك بمحض العشوائية والصدفة‏,‏ والكشوف العلمية الحديثة تؤكد أن عمليات إنقسام الخلية الحية لا تتم دون وجود أوامر داخلية من الشفرة الوراثية في نواة الخلية‏,‏ وهي بناء أكثر تعقيدا من جميع ما يمكن أن يتخيله عقل الانسان من نظم‏,‏ وأن كل نوع من أنواع الحياة له شفرته الوراثية الخاصة به‏,‏ والتي تحملها أعداد محددة من الصبغات‏(‏ حاملات الوراثة‏),‏ وعلي ذلك فلا يمكن أن تتم عمليات الانقسام والتكاثر بطريقة عفوية‏,‏ وبالتالي لا يمكن أن تتم عملية إعمار الارض بأنماط متدرجة من صور الحياة بطريقة عشوائية‏.‏
وينفي افتراض العشوائية والصدفة كذلك وجود العديد من حالات الاندثار المفاجيء لمجموعات الحياة الارضية‏,‏ والظهور المفاجئ لمجموعات اخري دون أية مراحل متوسطة‏,‏ وتنفيه كذلك الأدوار التي لعبتها مجموعات الحياة في كل مرحلة من مراحل تاريخ الأرض الطويل في تهيئة ظروفها البيئية لاستقبال المجموعات اللاحقة في شيء من التكامل الدقيق والمعجز حقا‏,‏ وذلك من مثل سبق الحياة المائية للحياة علي اليابسة‏,‏ وسبق الحياة النباتية للحياة الحيوانية بصفة عامة‏,‏ وعلي اليابسة بصفة خاصة مما يؤكد التدبير والقصد في الخلق‏,‏ وينفي أية إمكانية للعشوائية والصدفة‏.‏

‏(3)‏ الادعاء الباطل بربط الإنسان بالحياة الحيوانية السابقة علي خلقه‏:‏
تفترض نظرية التطور العضوي أنه إذا كانت الحياة قد وجدت بعملية ذاتية‏,‏ عشوائية‏,‏ بمحض الصدفة‏,‏ وتطورت كذلك بنفس الأسلوب لتعطي ملايين الأنواع‏,‏ وأعدادا لا تحصي من الأفراد لكل نوع‏,‏ فما الذي يمنع الانسان من كونه النهاية الحتمية لهذه العملية التطورية المحضة؟
وإذا انهار الافتراضان الأولان للنظرية انهار هذا الادعاء الباطل أيضا‏,‏ ويعين علي انهياره أن كلا من الصفات التشريحية الخاصة بجسم الإنسان والتي أشرنا إليها في مقال سابق‏,‏ والمميزات والملكات الضمنية والمعنوية المميزة التي خص الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بها هذا المخلوق المكرم ومنها‏:‏ الذكاء الملحوظ‏,‏ والقدرات المتعددة علي الادراك‏,‏ والشعور‏,‏ والانفعال‏,‏ والتعبير‏,‏ والتعلم‏,‏ والنطق بالكلام المنطقي المرتب‏,‏ واكتساب المهارات‏,‏ والقدرة علي التعليم ونشر المعرفة وغيرها‏,‏ كذلك فإن الصفات الوراثية الخاصة والتسلسل الجيني للإنسان وكل منهما ينتهي بجميع أفراد الجنس البشري الذين يملأون جنبات الأرض اليوم‏,‏ والذين عاشوا وماتوا‏,‏ والذين سوف يأتون من بعدنا إلي قيام الساعة‏,‏ تنتهي بكل هؤلاء إلي شفرة وراثية واحدة استمدت من أب واحد وأم واحدة هما أبونا آدم وأمنا حواء‏(‏ عليهما السلام‏),‏ وصدق الله العظيم إذ يقول‏:‏ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا‏*(‏ النساء‏:1)‏

لذلك فإنه إذا قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في وصف ذاته العلية‏:‏
الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين‏*(‏ السجدة‏:7)‏
لا يملك عاقل إلا أن يقول‏:‏ سمعنا وأطعنا‏,‏ لأن الحياة سر لا يعلمه إلا الله‏(‏ تعالي‏)‏فنحن نعرف تركيب الخلية الحية‏,‏ ولكن لا يستطيع الإنسان بناءها‏,‏ ونحن نري كيف تحول الكائنات الحية الغذاء المستمد من طين الأرض إلي خلايا حية تنمو وتتكاثر بها‏,‏ وتتجدد أجسادها منها‏,‏ ولكننا لا نستطيع أن ندرك سر ذلك كله‏,‏ كذلك فإننا نري قدرا من التشابه في التركيب الكيميائي لجسم الإنسان مع تركيب طين الأرض فكلاهما يحتوي علي الماء بنسب كبيرة‏(‏ الاكسجين والهيدروجين‏),‏ وعلي نسب أقل من كل من الكالسيوم‏,‏ الصوديوم‏,‏ والبوتاسيوم‏,‏ والمغنسيوم‏,‏ والحديد‏,‏ والمنجنيز‏,‏ والكبريت‏,‏ والفوسفور‏,‏ والكلور‏,‏ والفلور‏,‏ واليود‏.‏ وجسم الإنسان يحتوي علي نسب عالية من الكربون‏,‏ ونسبة اقل من النيتروجين وكذلك الطين الغني ببقايا الحياة أو المتعطن‏,‏ المليء بالغازات‏,‏ والطين عادة ما يحتوي علي سليكات الألومنيوم المميأة‏(‏ معادن الصلصال‏),‏ وجسم الإنسان لا يخلو من نسب ضئيلة منها‏,‏ ولذلك ذكر القرآن الكريم الخلق من تراب‏(‏ آل عمران‏:59,‏ الكهف‏:37,‏ الحج‏:5,‏ الروم‏:20,‏ فاطر‏:11,‏ غافر‏:67)‏ ومن طين‏(‏ السجدة‏:7),‏ ومن سلالة من طين‏(‏ المؤمنون‏:12,‏ ص‏:71:76‏ الإسراء‏:61,‏ الأنعام‏:2)‏ ومن طين لازب‏(‏ الصافات‏:11),‏ ومن صلصال من حمأ مسنون‏(‏ الحجر‏:33,28,26)‏ ومن صلصال كالفخار‏(‏ الرحمن‏:14)‏ وكلها مراحل متتالية في عملية الخلق‏.‏
ولذلك أيضا قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري‏*(‏ طه‏:55)‏

وقال‏(‏ عز من قائل‏):‏
والله أنبتكم من الأرض نباتا‏,‏ ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا‏*(‏ نوح‏:18,17)‏
ونحن نري الجنين في بطن أمه ينمو بتغذية من غذائها‏,‏ وأصله من طين الأرض‏,‏ ونري نمو الأطفال‏,‏ وتجدد أجساد البالغين‏,‏ مما يتناولون من طعام أصله من طين الأرض‏,‏ فليس غريبا أن يكون خلق أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ وهو الإنسان الاول من طين‏,‏ ويبقي السر في تحويل الطين إلي الخلايا الحية والأنسجة المتخصصة‏,‏ والأعضاء النابضة‏,‏ والنظم المتعاونة في دقة مبهرة من أعظم أسرار الخلق ومن شواهد طلاقة قدرة الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ الذي أنزل القرآن بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد وإلي أن يرث الأرض ومن عليها‏,‏ حتي يكون حجة علي الخلق أجمعين‏,‏ فالحمد لله علي نعمه الاسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والصلاة والسلام علي النبي الخاتم الذي تلقاه‏,‏ وعلي آله وصحبه‏,‏ ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏