131)...‏ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏...*‏
‏*(‏ الإسراء‏:44)*‏
بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هـــذا النص القرآني الكريم جاء في نهاية الثلث الأول من‏'‏ سورة الإسراء‏'‏ وهي سورة مكية وعدد آياتها‏(111)‏ بعد البسملة وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة في مطلعها إلي رحلة الإسراء من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلي المسجد الأقصي في بيت المقدس الذي ندعو الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن يعجل بتحريره من دنس اليهود الغاصبين لأنه قدس من أقداس المسلمين لا يجوز التفريط فيه أبدا‏.‏ وقد تلي رحلة الإسراء المعراج إلي السماوات العلي ثم العودة إلي بيت المقدس ومنه إلي مكة المكرمة في جزء من الليل لا يكاد يدرك وقد كان في هذه الرحلة المباركة من التكريم لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ما لم ينله مخلوق من قبل ولن يناله أحد من بعد إلي قيام الساعة‏.‏
وفي مقال سابق قمنا باستعراض سريع لسورة الإسراء ولركائز العقيدة والتشريعات الإسلامية والإشارات الكونية الواردة فيها ولأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة الآية الكريمة رقم‏(44)‏ منها ولمعني التسبيح في اللغـة وللفرق بين تسبيح التكليف‏(‏ الاختياري‏)‏ وتسبيح الفطرة‏(‏ التسخيري‏)‏ ولبعض صور التسبيح الفطري عند الأحياء غير المكلفين‏.‏ وفي هذا المقال نعرض لكل من التسبيح الفطري للملائكة والتسبيح التكليفي‏(‏ الإرادي الاختياري‏)‏ للأحياء المكلفين من الإنس والجن والتسبيح التسخيري‏(‏ الفطري‏)‏ لكل من الأحياء غير المكلفين والجمادات وهو ما لا تقوي كثير من العقول والقلوب المعزولة عن بارئها علي استيعابه أو فهمه علي الرغم من وضوح دلالة النص القرآني الذي نحن بصدده ووضوح غيره من نصوص القرآن الكريم وأقوال الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم
يؤكد ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في محكم كتابه‏:‏
‏...‏ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏...*‏
‏(‏ الإسراء‏:44)‏

أن جميع ما في الوجود من خلق الله سبحانه وتعالي‏(‏ بدءا بالملائكة المطهرين وانتهاء بكل من الجمادات والظواهر الكونية مرورا بكل من مؤمني الإنس والجن وبغيرهم من الأحياء ومنها جميع الحيوانات والنباتات وكل موجود من غير ذلك‏)‏ كل واحد من هؤلاء له قدر من الوعي والإدراك الذي يعينه في التعرف علي ذاته وعلي خالقه وعلي غيره من المخلوقات في محيطه وعلي سلوكياتهم وتصرفاتهم فيتوافق مع كل منضبط بسنن الفطرة ويتنافر مع كل مناقض لها أو متصادم معها وهذا الوعي والإدراك يجعلان كل ما في الوجود يعبد الله‏(‏ تعالي‏)‏ ويسبح بحمده ويقدس له إلا عصاة الإنس والجن لأن كلا من الآدميين والجن من الخلق المكلف صاحب الإرادة الحرة وحامل أمانة التكليف ولذلك ينقسم تسبيح المخلوقات لخالقها إلي تسبيح فطري‏(‏ تسخيري‏)‏ للخلق غير المكلف وتسبيح إختياري‏(‏ إرادي‏)‏ للمكلفين من خلق الله ويمكن إيجاز ذلك فيما يلي‏:‏

أولا‏:‏ التسبيح الفطري‏(‏ التسخيري‏)‏ للملائكة‏:‏
الملائكة خلق غيبي من عباد الله المكرمين ومن جنده المقربين خلقهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ من نور وفطرهم علي الطهر والعصمة وعلي البراءة من بواعث الشهوة ومن مبررات الغضب ودواعي الحقد والحسد ولذلك فهم مواظبون علي عبادة الله وتسبيحه وحمده وتقديسه وطاعته لا يفترون عن ذلك‏.‏ وهم كائنات عاقلة ولكنهم لا يعلمون إلا ما علمهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ ولذلك فهم لا يسبقون بالقول أبدا ويشهدون لله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ دوما بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏(‏ بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحبة ولا ولد‏)‏ ويسألونه‏(‏ جل شأنه‏)‏ أن يغفر للذين يشهدون بشهادتهم ويقرون بإقرارهم من توحيد لله‏(‏ تعالي‏)‏ وتنـزيه لجلاله عن كل وصف لا يليق بهذا الجلال‏.‏
والملائكة مكلفون بإبلاغ رسالة الله إلي المصطفين من عباده من الأنبياء والمرسلين ومؤتمنون علي ذلك بما فطرهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليه من براءة وطهر وما ميزهم به من العقل والنطق ومن الخضوع التام لله‏(‏ تعالي‏)‏ بالعبادة والطاعة‏.‏

وتسبيح الملائكة هو من أمور الغيب التي يعجز الإنسان عن إدراكها ولا سبيل له إلي معرفتها إلا عن طريق وحي السماء والقرآن الكريم هو الوحي السماوي الوحيد الموجود بين أيدي الناس اليوم بنفس اللغة التي أوحي بها‏(‏ اللغة العربية‏)‏ محفوظا بحفظ الله‏(‏ تعالي‏)‏ حرفا حرفا وكلمة كلمة وقد حفظه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية فقال‏(‏ عز من قائل‏):‏
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏*(‏ الحجر‏:9)‏
فإذا تحدث القرآن الكريم عن تسبيح الملائكة‏-‏ وقد أورد ذلك في تسع من الآيات البينات‏-‏ فلابد للمسلم من الإيمان بذلك وإن لم يستطع إدراكه بحسه المحدود وبقدراته المحدودة‏.‏

ثانيا‏:‏ التسبيح الإرادي الاختياري للمكلفين من عقلاء الأحياء من الإنس والجن‏:‏
يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في محكم كتابه‏:‏
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏*‏
‏(‏الذاريات‏:56)‏

والتسبيح من العبادة وتسبيح العقلاء المكلفين من الجن والإنس هو تسبيح إرادي اختياري يقوم به الصالحون منهم ويحرمه الكفار والمشركون من العصاة المغضوب عليهم ومن الضالين‏.‏ وهذا التسبيح يشمل ذكر الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي كـل حال بأسمائه الحسني وصفاته العليا وبكل نعت يليق بجلاله ويثبت له من صفات الكمال المطلق ما أثبته‏(‏ تعالي‏)‏ لذاته العلية وينـزهه عن كل وصف لا يليق بمقام الألوهية‏(‏ من مثل ادعاء الشريك أو الشبيه أو المنازع أو الصاحبة أو الولد‏).‏
ولا يقتصر ذكر العقلاء المكلفين من الإنس والجن وتسبيحهم لله‏(‏ تعالي‏)‏ علي مجرد تحريك اللسان بل لابد من موافقة النطق لاتصال القلب بالله‏(‏ جل جلاله‏)‏ وامتلائه بمحبته وتقواه ومراقبته ولالتزام الجوارح كلها بأوامر الله واجتناب محارمه وللاجتهاد في عبادته فإقامة أركان الإسلام ذكر لله وتسبيح بحمده بل في الأثر ما يكاد يخصص الذكر بالصلاة مع تسليمنا بأن مفهوم ذكر الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو أشمل وأعم من أداء الصلاة لأنه يشمل كل عمل أو نطق أو فكر يتذكر فيه العبد ربه ومراقبة هذا الإله العظيم له وحتمية الرجوع إليه‏.‏ ويربط القرآن الكريم في كثير من آياته بين ذكر الله‏(‏ تعالي‏)‏ وتسبيحه فيقول‏:‏
يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا‏*‏ وسبحوه بكره وأصيلا‏*‏
‏(‏ الأحزاب‏:42.41)‏
والأمر بالذكر والتسبيح هنا موجه إلي عقلاء كل من الجن والإنس وهم من الخلق المكلفين وإن كانت الجن من العوالم الخافية علينا إلا أن مجرد ذكر القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لهم يؤكد لنا وجودهم‏.‏ ويصفهم لنا ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بأنهم من المخلوقات العاقلة المكلفة ذات الإرادة الحرة وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد خلقهم من نار بينما خلق الملائكة من نور وخلق الإنسان من طين‏.‏ والجن يأكلون ويشربون ويتناسلون ويرون البشر من حيث لا يراهم البشر وهم مطالبون بعبادة الله‏(‏ تعالي‏)‏ بما أمر بغير إجبار ولا إكراه وعلي ذلك فمنهم المؤمن الصالح والكافر الطالح والكفار منهم هم شياطين الجن الذين يقابلون شياطين الإنس في إفسادهـم في الأرض وخروجهم علي أوامر الله‏(‏ تعالي‏)‏ ثم يموتون ويبعثون ويحاسبون وإلي جهنم يحشرون والصالحون منهم يقابلون صالحي الإنس الذين يعبدون الله‏(‏ تعالي‏)‏ بما أمر ويحسنون القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض وإقامة عدل الله فيها ويذكرون الله تعالي ويسبحونه ويمجدونه بإرادتهم الحرة حتي يلقوا الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيكون جزاؤهم جنات النعيم بإذن الله‏.‏

ثالثا‏:‏ التسبيح الفطري التسخيري للأحياء غير المكلفين‏:‏
منذ فترة قصيرة أدرك المتخصصون في علم سلوك الحيوان أن للعديد من المخلوقات من مثل القردة العليا وغيرها من الحيوانات الأرضية وأسود البحر والدلافين والحيتان وغيرها من الحيوانات البحرية والطيور من مثل الحمام والببغاوات والهداهد والغربان والحشرات من مثل ممالك النحل والنمل كل هذه المخلوقات لها قدرات متفاوتة علي التعبير بلغات خاصة بكل منها وعلي إدراك الذات والغير وعلي اكتساب المعارف المختلفة‏.‏ والقرآن الكريم قد سبق بأربعة عشر قرنا أو يزيد بالتأكيد علي أن كل خلق من خلق الله له قدر من الإدراك الخاص به والذي يعينه علي النطق بالكلام والشعور والإحساس وعلي التفاهم مع أقرانه وعلي معرفة خالقه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وعلي الخضوع له‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالطاعة والعبادة والذكر والتسبيح تسبيحا فطريا تسخيريا لا إرادة له فيه ولكنه يدركه ويعيه‏.‏ وأن هذا الإدراك الفطري يعين كل مخلوق أيضا علي التمييز بين العابدين الصالحين والعاصين المقصرين من الخلق المكلفين فيتعاطف مع صالحي المكلفين ويتنافر مع عصاتهم المقصرين وإلا فمن علم هدهد سليمان أن عبادة قوم سبأ للشمس كفر بالله‏(‏ تعالي‏)‏ وانحطاط عن مقام التكريم الذي من الله‏(‏ تعالي‏)‏ به علي بني آدم وأن السجود لا يجوز إلا لله رب العالمين فيقول‏:‏
إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم‏*‏ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون‏*‏ ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون‏*‏ الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم‏*(‏ النمل‏:23‏ و‏26)‏

كذلك من عرف نملة صغيرة بشخصية نبي الله سليمان‏(‏ عليه السلام‏)‏ ومن علم سليمان لغة النمل غير الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وفي ذلك يقول القرآن الكريم‏:‏
حتي إذا أتوا علي وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون‏*‏ فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلي والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين‏*(‏ النمل‏:18‏و‏19)‏

ولغات كل نوع من أنواع الحيوانات يعلمها الله‏(‏ تعالي‏)‏ لمن يشاء من عباده كما فهمها لعبده ونبيه سليمان‏(‏ عليه السلام‏)‏ معجزة خاصة به وخارقة تخالف مألوف البشر‏.‏
وفي التأكيد علي هذا الإدراك الفطري عند جميع المخلوقات يقول المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):'‏ إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتي النملة في جحرها وحتي الحوت ليصلون علي معلم الناس الخير‏'.(‏ الترمذي‏).‏

وفي حديث رواه الإمام أحمد عن جابر‏(‏ رضي الله عنهما‏)‏ أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:...‏ إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والإنس‏.‏
وعن أبي ذر الغفاري‏(‏ رضي الله تعالي عنه‏)‏ أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:'‏ إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوة يقول‏:‏ اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وما له إليه‏(‏ مسند الإمام أحمد وصحيح الجامع‏).‏

وعن زيد بن خالد عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أنه قال‏:'‏ لا تسبوا الديك فإنه يدعو إلي الصلاة‏'‏ وفي رواية أبي دواد‏:'‏ فإنه يوقظ للصلاة‏'.‏
وروي الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:'‏ لا تقوم الساعة حتي تكلم السباع الإنس وحتي يكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله بعده‏'.‏ وفي هذا المعني نفسه يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏*‏
‏(‏ النمل‏:82)‏

وهذه معجزة تتحدي الناس كافة قرب قيام الساعة بعد أن فتح الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليهم أبواب كل شيء واغتروا بما لديهم من أسباب التقدم العلمي والتقني فيأتي الله‏(‏ تعالي‏)‏ لهم بمعجزة تتحداهم ولا يقدرون علي مواجهتها لأنهم بكل ما أوتوا من مفاتيح العلوم والتقنية لا يستطيعون إجبار دابة علي الكلام بلغة يفهمونها فيقرون بعجزهم أمام قدرة الله‏(‏ تعالي‏).‏
وروي الإمام أحمد عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أنه مر علي قوم وهم وقوف علي دواب لهم ورواحل فقال لهم‏:'‏ إركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله‏(‏ تعالي‏)'.‏

وفي سنن النسائي عن عبدالله بن عمرو أنه قال‏:‏ نهي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ عن قتل الضفدع وقال‏:'‏ نقيقها تسبيح‏'.‏

رابعا‏:‏ تسبيح أجساد الكائنات الحية هو صورة من صور التسبيح الفطري التسخيري للجمادات‏:‏
من أعجب الاكتشافات العلمية الحديثة أن الأحماض الأمينية‏(‏ وهي اللبنات الأساسية لتكوين الجزء البروتيني الذي تنبني منه أجساد الكائنات الحية‏)‏ لها القدرة علي ترتيب ذراتها ترتيبا يمينيا أو يساريا وأنها في جميع أجساد الكائنات الحية تترتب ترتيبا يساريا ولكن الكائن الحي إذا مات فإن الأحماض الأمينية في بقايا جسده تعيد ترتيب ذراتها ترتيبا يمينيا بمعدلات ثابتة تمكن الدارسين من تقدير لحظة وفاة الكائن الحي بتقدير نسبة الترتيب اليميني إلي اليساري في جزيئات الأحماض الأمينية المكونة لأية فضلة عضوية متبقية عنه‏(‏ من مثل قطعة من الجلد أو الشعر أو العظم أو الصوف أو الخشب أو غير ذلك‏)‏ وتسمي هذه الظاهرة باسم ظاهرة إعادة ترتيب ذرات الأحماض الأمينية ترتيبا يمينيا‏(RacimizationoftheAminoAcids).‏ والأحماض الأمينية هي مركبات كيميائية معقدة من عناصر الكربون والإيدروجين والأكسجين والنيتروجين وقليل من الكبريت والفوسفور وبعض العناصر الأخري وتترتب هذه العناصر أساسا في مجموعة أمينية من النيتروجين والإيدروجين‏(NH2)‏ ومجموعة من الحمض الكربوكسيلي‏(COOH)‏ ولها الرمز الكيميائي العام التالي‏:‏

ويعجب العلماء للسر الخفي الذي يمكن تلك الذرات المتبقية عن الجسد الميت من إعادة ترتيب أوضاعها في داخل كل جزئ من جزيئات الحمض الأميني بمعدلات ثابتة لا تتوقف ولا تتخلف مما يشهد بأن المادة التي يصفها الإنسان بأنها صماء جامدة لا إحساس لها ولا شعور ولا إدراك هي في الحقيقة مليئة بالأسرار التي لا يعلمها إلا الله‏(‏ تعالي‏).‏
كذلك من المكتشفات العلمية المذهلة أن تنبني أجساد كل الكائنات الحية من عشرين حمضا أمينيا فقط وأن جميع ذرات هذه الأحماض الأمينية تترتب ترتيبا يساريا في جزيئاتها التي ينبني منها أكثر من مائتي ألف جزئ بروتيني مختلف تترتب أيضا ترتيبا يساريا في داخل هذه الجزيئات البروتينية العملاقة‏(‏ المبلمرات‏)‏ وكل ذلك يعيد ترتيب ذرات مكوناته من الأحماض الأمينية ترتيبا يمينيا بمعدلات ثابتة بعد وفاة الكائن الحي الذي كان يحملها في جسده‏.‏

وقد ثبت أن ترتيب الذرات في جزيئات كل من الأحماض الأمينية والبروتينية له أدوار أساسية في تنظيم وانضباط أنشطة الخلية الحية ومن هذه الأدوار تحرك الأمر من الحمض النووي‏(DNA)‏ إلي الحمض النووي الريبي‏(RNA)‏ بتكوين أكثر من مائتي ألف نوع مختلف من أنواع البروتينات اللازمة لبناء أجساد الكائنات الحية في داخل خلاياها المتناهية في الصغر‏.‏
كذلك لا تستطيع العلوم المكتسبة مجتمعة‏-‏ في زمن التقدم العلمي الذي نعيشه‏-‏ أن تفسر كيفية تحرك جزيئات البروتينات المختلفة إلي الأماكن المحددة من الجسم ولا كيفيات تعرف خلايا كل واحد من الأنسجة المتخصصة علي بعضها البعض حتي تبني عضوا محددا في جسم الكائن الحي ولا كيفيات تعاون تلك الأعضاء في الأجهزة المتخصصة ولا تعاون تلك الأجهزة من أجل حياة وسلامة جسم الكائن الحي الذي يحتويها ولا كيفيات إنقباض العضلات وانبساطها أو كيفيات تحكم الهرمونات في تنشيط عمليات نمو الخلايا أو إيقافها ولا كيفيات تحكم المورثات‏(‏ وهي مركبات كيميائية معقدة‏)‏ في أنشطة كل خلية حية ولا وسائل إدراك هذا الجسد لأي جسم غريب يدخل إليه ولا كيفيات تفاعله معه بالرفض أو القبول ونحن لا نعلم حتي اليوم شيئا عن كيفيات عمل دماغ الإنسان في حالات اليقظة والمنام علما بأن جميع هذه العمليات تتم بسرعات فائقة لم يستطع علم الإنسان وتقنياته المتقدمة أن تصل إلي شيء منها وتكفي في ذلك الإشارة إلي أن جسد الإنسان يفقد في كل ثانية من عمره حوالي‏(125)‏ مليون خلية في المتوسط ويتجدد غيرها في الحال مع بقاء الإنسان هو هو بذاكرته وعواطفه ومشاعره وشخصيته وقدراته وآماله وطموحاته ع
لما بأن جسد الفرد الواحد من بني البشر يحتوي علي مائة مليون مليون خلية في المتوسط وتتكون كل خلية من هذه الخلايا‏(‏ وقطرها في حدود‏0.03‏ من المليمتر‏)‏ من مليون جزئ من جزيئات البروتينات والأحماض النووية والدهون والشحوم والكربوهيدرات والفيتامينات والكهارل‏(‏ الإليكتروليتات‏)‏ وغير ذلك من المركبات العضوية وغير العضوية التي تترتب بنسب محددة في كيانات متميزة في داخل الخلية الحية التي تفوق في تعقيدها ودقة بنائها كـل ما أنشأ الإنسان من مصانع بل كل ما فكر في إنشائه ولم يتمكن بعد من تنفيذه‏.‏
ومن أعقد أجزاء الخلية الحية نواتها التي تعرف باسم‏'‏ عقل الخلية‏'‏ وتحتوي هذه النواة علي عدد محدد من الصبغيات‏(Chromosomes)‏ يعتبر عددها عاملا محددا لكل نوع من أنواع الحياة وهذه الصبغيات هي جسيمات متناهية التعقيد في البناء حيث تتكون من تجمعات للحمض النووي غير المؤكسد علي هيئة لفائف حلزونية مزدوجة الجانب‏(DoubleHelix)‏ لا يتجاوز سمك الجدار في الواحدة منها واحدا من خمسين مليونا من الملليمتر ويبلغ طوله إذا فرد حوالي المترين ويبلغ حجمه وهو مكدس داخل الصبغي واحدا من المليون من الملليمتر المكعب وعلي ذلك فإنه إذا تم فرد الصبغيات الموجودة في جسم فرد واحد من البشر ورصها بجوار بعضها البعض فإن طولها يزيد عن متوسط طول المسافة بين الأرض والشمس وهي مقدرة بحوالي المائة وخمسين مليون كيلومترا‏.‏

وكل واحد من الصبغيات‏(‏ حاملات الوراثة‏)‏ مقسم بعدد من العلامات المميزة إلي وحدات طولية تعرف باسم‏'‏ المورثات‏'(Genes)‏ وهي تتحكم في صفات الكائن الحي الذي تحملها خلايا جسده‏.‏
وينقسم كل‏'‏ مورث‏'(Gene)‏ إلي عدد من العقد المتناهية في الضآلة تعرف باسم النويدات‏(Nucleotides)‏ يتكون كل منها من زوج من القواعد النيتروجينية المستندة في كل جانب إلي زوج من جزيئات السكر والفوسفور التي تكون جداري اللفائف الحلزونية وتنتشر بينها القواعد النيتروجينية علي هيئة درجات السلم الخشبي وكأنها حروف تكتب بها الشفرة الوراثية التي تتكون من‏(6.2)‏ بليون من القواعد النيتروجينية التي تستند علي‏(12.4)‏ بليون جزئ من السكر والفوسفات بمجموع‏(18.6)‏ بليون جزئ في الخلية البشرية الواحدة‏.‏ ولكل جزئ من هذه الجزيئات ولكل ذرة من ذراته ذبذبات مستمرة تصدر أصواتا خافتة أمكن تضخيمها وتسجيلها وكأنها تسبيح للخالق سبحانه وتعالي وتمجيد وذكر‏.‏

خامسا‏:‏ تسبيح الذرات والجزيئات والعناصر والمركبات في صخور الأرض وجبالها‏:‏
من الجمادات‏:‏ الجبال وصخورها والمعادن المكونة لتلك الصخور والجزيئات والذرات المكونة لتلك المعادن واللبنات الأولية المكونة لتلك الذرات وكلها يسبح الله‏(‏ تعالي‏)‏ بلغته وأسلوبه وطريقته الخاصة به‏.‏ وقد أمكن الاستماع إلي أصوات ذبذبات اللبنات الأولية للمادة في الذرة‏.‏

وقد ورد ذكر تسبيح الجبال في القرآن الكريم ضمنيا مع تسبيح كل شئ ومع تسبيح ما في السماوات والأرض كما ورد محددا في آيتين كريمتين‏(‏ الأنبياء‏:79‏ ص‏:18)‏ وجاءت الإشارة إلي خشوع الجبل إذا أنزل عليه القرآن الكريم‏(‏ الحشر‏:21)‏ وإلي سجود الجبال لله‏(‏ تعالي‏)‏ مع بقية أجزاء الكون ومع كثير من الناس‏(‏ الحج‏:18)‏ وأشار القرآن الكريم إلي ترديد الجبال لتسبيح نبي الله داود‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ كما جاء في ثلاث من الآيات هي علي التوالي‏:(‏ الأنبياء‏:79‏ ص‏:18‏ سبأ‏:10).‏
والجبال ليست كتلا هامدة ولكنها تتحرك جانبيا بالتضاغط والتثني والطي كما تتحرك رأسيا بالتصدع والرفع من أسفل إلي أعلي بواسطة مختلف قوي الأرض الداخلية وبفعل عوامل التعرية التي كلما أخذت من قممها ارتفعت إلي أعلي حسب قوانين الطفو ويستمر هذا الارتفاع إلي أعلي حتي يتم خروج الامتدادات الداخلية للجبل بالكامل من نطاق الضعف الأرضي‏(‏ الموجود تحت الغلاف الصخري للأرض‏)‏ وحينئذ تتوقف حركة الجبل وتأخذ عوامل التعرية في بريه تدريجيا حتي تظهر أجزاءه التي كانت مدفونة‏(‏ جذوره‏)‏ علي سطح الأرض والجبال تمر مع الأرض مر السحاب وتترنح معها في دورانها حول محورها وتجري معها في مدارها حول الشمس ولعل هذه الحركات هي صورة من صور الخضوع لله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالعبادة والطاعة والتسبيح والذكر والسجود‏.‏

ويتحدث القرآن الكريم عن تكون الجبال من جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود وهي الألوان الأساسية للمعادن الرئيسية المكونة للجبال ولبقية صخور القشرة الأرضية‏.‏ وتتكون الصخور من المعادن التي تتكون بدورها من العناصر ومركباتها وتتكون العناصر من الجزيئات التي تتكون من الذرات وتتكون الذرات من اللبنات الأولية للمادة‏(‏ وتعرف باسم الكواركات والهيدرونات‏)‏ التي تشكل بدروها كلا من البروتونات الموجبة الشحنة والنيوترونات المتعادلة الشحنة في نواة الذرة التي يدور حولها عدد مكافئ من الإليكترونات السالبة الشحنة ويتحرك الإليكترون حركة مغزلية حول محوره وحركة مدارية حول النواة كما يقفز من مدار إلي آخر بسرعات مذهلة ترجح فناءه في مدار وإعادة خلقه في مدار آخر‏.‏
ونواة الذرة تبلغ في الحجم واحدا من مائة ألف مليون من الملليمتر بينما يبلغ حجم الذرة واحدا من عشرة ملايين من الملليمتر وتتركز كتلة الذرة في نواتها‏(99.95%‏ من مجموع كتلة الذرة‏).‏ وتقدر كتلة الإليكترون بواحد من ألفين من كتلة البروتون وكل من البروتون والإليكترون يدور حول نفسه‏(‏ أي حول مركز كتلته‏)‏ في حركة دائرية لا تتوقف ولا تتخلف حتي تفني الذرة بالكامل والجزيئات تنشأ عن اتحاد الذرات لتكون ما يسمي باسم المادة المكثفة وجسيمات هذه المادة المكثفة ليست فقط نقطا هندسية ثابتة في صفحة السماء أو في جسم الأرض ولكن لها ذاتية الامتداد في الكون علي هيئة موجات من الطاقة لكل منها طول موجي محدد وسرعة تردد محددة‏.‏

وللإليكترون في داخل الذرة خاصية الدوران المغزلي حول ذاته‏(‏ ويشبه ذلك الحركة المغزلية للأرض في دورانها حول محورها‏)‏ بالإضافة إلي الجري المداري حول النواة‏(‏ الذي يشبه جري الأرض في مدارها حول الشمس‏)‏ وعلي ذلك فإن الإليكترون يتصرف ككتلة من الطاقة لها حركة مغزلية زاوية وحركة مدارية علي هيئة كمية من المغناطيسية ولكل من هاتين الحركتين ما يصاحبها من طاقة حركة‏.‏
وكذلك فإن للجزيئات مستويات من الطاقة مرتبطة بكل من حركة الجزئ الدائرية ككل والحركة الاهتزازية للذرات بداخله وينتج عن ذلك أطياف تحت حمراء مميزة لكل جزئ‏.‏

والأجسام الصلبة المتبلورة تترتب فيها الذرات في أشكال هندسية محددة تميز كل عنصر من العناصر وكل مركب من المركبات الكيمائية‏.‏ والجزيئات ليست جامدة تماما لأن الرابطة بين الذرات المكونة لها هي رابطة متحركة تشبه الزنبرك وكذلك الإليكترونات الموصلة بين مختلف الذرات فإنها تتحرك بحرية كاملة‏.‏
وانطلاقا من ذلك فإن الجسيمات الأولية للمادة تهتز في داخل الذرة والذرات تهتز في داخل الجزيئات والجزيئات تهتز في داخل العناصر والمركبات المكونة للمادة والمادة بمختلف أشكالها تتحرك في داخل أجساد كل الكائنات الحية وتهتز بترددات منتظمة في داخل الجمادات وينتج عن هذه الحركات المتعددة موجات صوتية ذات ترددات تختلف باختلاف تركيبها وتتجمع علي هيئة كميات من الطاقة الاهتزازية التي تتذبذب بمقدار مليار ذبذبة في الثانية‏-‏ في المتوسط‏-‏ دون توقف أو تخلف أو انقطاع‏.‏

ولكل عنصر من العناصر ولكل مركب من المركبات موجاته الإهتزازية الخاصة به والتي تعتبر بصمة مميزة له ولغة خاصة به يعبر بها عن ذاته ويعبد بها ربه في تسبيح وتمجيد وذكر لا ينقطع‏.‏
ولا يستطيع أحد في زمن التقدم العلمي والتقني الراهن تفسير مصدر الطاقة المحركة لجسيمات المادة علي مختلف مستوياتها والمسببة لاهتزازاتها المنتجة للموجات الصوتية التي تميز كل صورة من صورها والتي قد تكون لغة لها ووسيلة من وسائل عبادة خالقها وتسبيحه وتمجيده وتقديسه‏.‏

وقد ذكر القرآن الكريم تسبيح الرعد بحمد الله والرعد ظاهرة جوية تنشأ عن تفريغ الشحنات الكهربية وهذا التفريغ صورة من صور التقاء اللبنات الأولية للمادة بما تحمله من طاقة وما تصدره من ذبذبات وأصوات وكأنها تسبيح لله وتمجيد وعبادة وحمد وخضوع له‏(‏ تعالي‏)‏ بالطاعة‏.‏
ومن رحمة الله بعباده أن أصوات الجمادات تبلغ من الضعف والخفوت ما يجعلها محجوبة عن آذان الخلق إلا بكرامة من الله‏(‏ تعالي‏)‏ وفضل منه أو باستخدام تقنيات متقدمة للغاية وشتان ما بين الوسيلتين ولذلك جاء في الآية الكريمة التي نحن بصددها ما نصه‏:‏

تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا‏*.‏
‏(‏ الإسراء‏:44)‏

حقا إنها رحمة من الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن حجب عنا تلك الأصوات وإلا لأصبحت الحياة جحيما لا يطاق إذا تكاثرت الأصوات من حولنا وتداخلت دون توقف أو انقطاع ولتعطلت قدرات الإنسان عن العمل أو التفكر أو التدبر أو العبادة أو النوم أو الراحة والاستجمام بل لفقد الإنسان عقله إذا استمع إلي جميع ما في الوجود من حوله وهو يتكلم في وقت واحد‏:‏ الجبل والحجر والنبت والشجرة والمدر والوبر ومختلف الحيوانات والنباتات والطعام واللباس والمـداس والتراب والغبار والهواء والماء والقمر والكواكب والشمس والنجوم وغير ذلك من صور الخلق إلي حركة الكون في مجموعه‏.‏ وقد روي الإمام البخاري عن ابن مسعود‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ قوله‏:‏ كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل وفي حديث ابي ذر‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كطنين النحل وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان‏(‏ رضي الله عنهم وعنا أجمعين‏).‏
وهذه الحقائق قد بدأت المعارف المكتسبة في الوصول إلي شئ منها وسبق القرآن الكريم بالإشارة إليها لمما يشهد لهذا الكتاب العزيز بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق ويشهد لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ الذي تلقاه بالنبوة والرسالة وبأنه‏(‏ صلوات الله وسلامه عليه‏)‏ كان موصولا بالوحي ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين والحمد لله رب العالمين‏.‏