‏(129)..‏ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة
ومآ أكل السبع إلا ماذكيتم وما ذبح علي النصب‏...*‏
‏*(‏ المائدة‏:60)*‏

بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هـــذا النص القرآني المعجز جاء في مطلع سورة المائدة‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ وعدد آياتها‏(120)‏ بعد البسملة‏,‏ وهي من طوال سور القرآن الكريم‏,‏ ومن أواخرها نزولا‏,‏ وسميت بهدا الاسم لورود الإشارة فيها إلي المائدة التي أنزلها الله‏(‏ تعالي‏)‏ من السماء كرامة لعبده ورسوله‏:‏ المسيح عيسي ابن مريم‏(‏ عليهما السلام‏).‏ ويدور المحور الرئيسي للسورة حول التشريع الإسلامي بعدد من الأحكام اللازمة لإقامة دولة الإسلام‏,‏ ولتنظيم المجتمع فيها علي مختلف المستويات تنظيما ينطلق من ركائز العقيدة الإسلامية القائمة علي توحيد الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ ومراقبته في السر والعلن‏,‏ والاستعداد لملاقاته بعد هذه الحياة الدنيا بصفحة مليئة بصالح الأعمال علها تكسب مرضاة الله‏,‏ والفوز بالجنة‏,‏ والنجاة من النار‏,‏ وكذلك كان أول بنود هذا التشريع الإسلامي هو عقد الإيمان بالله ربا واحدا أحدا‏,‏ وبالإسلام دينا خالصا‏,‏ ولسيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ نبيا ورسولا‏,‏ وكان هذا العقد هو القاعدة التي تقوم عليها سائر العقود في حياة المسلمين‏,‏ أفرادا وجماعات‏,‏ ومن هنا نصت سورة المائدة علي الوفاء بالعقود‏.‏
ويتخلل آيات التشريع في هذه السورة المباركة التأكيد علي توحيد الله توحيدا كاملا خالصا مطلقا لذاته العلية‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولاشبيه‏,‏ ولامنازع‏,‏ ولا صاحبة ولا ولد‏),‏ واستعراض بعض قصص الأولين‏,‏ وتفنيد عقائد الكفار والمشركين‏,‏ وتدعو سورة المائدة إلي الإيمان ببعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وذلك يتكرر عدة مرات لعله أن يستجشن ضمائرهم‏,,‏ مثل قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم علي فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولانذير فقد جاءكم بشير ونذير والله علي كل شيء قدير‏*(‏ المائدة‏:19)‏
وتعرج سورة المائدة إلي التذكير بيوم القيامة الذي سوف تبعث فيه الخلائق للحساب والجزاء‏,‏ ومن بعده تساق إلي الخلود إما في الجنة أبدا‏,‏ أو النار أبدا‏,‏ كما تعرج إلي ذكر عدد من المعجزات التي أيد الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بها عبده ورسوله‏:‏ المسيح عيسي ابن مريم‏,‏ ومنها إنزال المائدة التي طلبها عدد من أتباعه من السماء‏,‏ والتي سميت باسمها هذه السورة المباركة التي ختمت بتبرئته وأمه‏(‏ عليهما السلام‏)‏ من دعاوي الألوهية التي افتري عليهما بها‏,‏ وما كان لأي منهما أن يدعيها مع اعترافهما بالعبودية الكاملة لله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وحده‏.‏

من التشريعات الإسلامية في سورة المائدة
‏(1)‏ الأمر بالوفاء بالعقود أي العهود المؤكدة بين العباد وخالقهم‏,‏ وبينهم وبعضهم البعض‏.‏ ومن العقود المبرمة بين العباد وخالقهم ـ والعباد بعد في عالم الذر ـ الإيمان بربوبيته‏,‏ وألوهيته‏,‏ ووحدانيته‏,‏ وتنزيهه عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏;‏ وعبادته تعالي بما أمر‏,‏ وحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض‏.‏

‏(2)‏ تأكيد ضرورة الحكم بما أنزل الله‏(‏ تعالي‏),‏ ومن ذلك أحكام القصاص‏,‏ والردة‏,‏ والحنث في اليمين‏,‏ وتأكيد قضية الولاء والبراء‏,‏ والأمر بالعدل في القضاء‏,‏ وبتقوي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في السر والعلن‏,‏ وبالتوكل عليه حق التوكل‏,‏ وبعدم خشية غيره‏,‏ وبطاعة الله ورسوله‏,‏ وبالحرص علي عمل الصالحات ومن ذلك الإحسان إلي الخلق‏.‏

‏(3)‏ الأمر بالمحافظة علي حرمات الدين وشعائره من مثل حرمة الكعبة المشرفة‏,‏ وحرمة كل من الحج ومناسكه‏,‏ والأشهر الحرم‏,‏ وما يهدي إلي البيت الحرام‏,‏ وما يقلد به الهدي‏,‏ وحرمة قاصدي البيت الحرام من الحجاج والمعتمرين‏,‏ وحرمة أمنهم وسلامتهم‏.‏

‏(4)‏ الأمر بالتعاون علي البر والتقوي‏(‏ أي علي حسن الخلق وفعل الطاعات‏),‏ والنهي عن التعاون علي الإثم والعدوان‏(‏ أي عن فعل المنكرات والمنهيات‏)‏ وعن مجاوزة حدود الله‏(‏ تعالي‏).‏

‏(5)‏ الأمر بالجهاد في سبيل الله‏,‏ طلبا لمرضاته‏,‏ واتبغاء للوسيلة إليه‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏

‏(6)‏ تحريم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق‏,‏ وتحديد عقوبة القتل‏.‏

‏(7)‏ تحريم قطع الطريق والاعتداء علي الخلق‏,‏ وتحديد عقوبة ذلك‏.‏

‏(8)‏ تحريم السرقة‏,‏ وأكل السحت بمختلف أشكاله وألوانه ومنه الرشوة‏,‏ والربا‏,‏ والغش في التجارة‏,‏ وتطفيف الموازين والمكاييل‏,‏ وعدم الأمانة في الصنعة والعمل‏,‏ وتحديد عقوبة كل واحدة من تلك الأعمال السيئة والخاطئة‏.‏

‏(9)‏ تحليل أكل لحوم الأنعام وشرب ألبانها‏(‏ من مثل كل من الإبل‏,‏ والبقر‏,‏ والغنم‏,‏ والماعز‏,‏ وما يمثلها من الثدييات اللبونة المجترة والمقتصرة علي أكل الأعشاب كالظباء‏,‏ والغزلان‏,‏ والزراف‏,‏ وبقر الوحش‏.‏ وأشباهها‏).‏

‏(10)‏ تحريم أكل كل من الميتة‏,‏ والدم‏,‏ ولحم الخنزير‏,‏ وما أهل لغير الله به‏,‏ والمنخنقة‏,‏ والموقوذة‏,‏ والمتردية‏,‏ والنطيحة‏,‏ وما أكل السبع‏(‏ إلا ما أدرك ذكاؤه من الأصناف الخمسة الأخيرة أي إتمام ذبحه قبل أن يموت‏),‏ وما ذبح علي النصب‏,‏ إلا من اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم‏.‏

‏(11)‏ تحريم الصيد علي المحرم‏,‏ وكفارة ذلك‏,‏ وهذا التحريم يشمل مجرد الانتفاع بالصيد سواء كان المحرم في الحل أو في الحرم‏,‏ ويقع في حكم المحرم من كان مقيما في الحرم وليس محرما‏.‏

‏(12)‏ تحريم كل من الخمر‏,‏ والميسر‏,‏ والأنصاب‏,‏ والأزلام‏,‏ والاستقسام بالأزلام يشمل كل محاولة لاستشراف الغيب بواسطة القداح‏,‏ وهي سهام كانت لدي أهل الجاهلية‏,‏ وذلك من مثل قراءة الطالع‏,‏ أو الكف‏,‏ أو الفنجان‏,‏ أو فتح أوراق اللعب‏,‏ وغيرها من وسائل الدجل والنصب المتعددة‏.‏

‏(13)‏ تحليل صيد البحر وطعامه‏,‏ وصيد البر المباح بعد ذكر اسم الله علي وسيلة الصيد من الجوارح قبل إطلاقها‏.‏

‏(14)‏ تحليل طعام أهل الكتاب‏,‏ وتحليل ذبائحهم إذا ذكروا اسم الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليها أثناء الذبح‏.‏

‏(15)‏ تحليل زواج المحصنات من المؤمنات أي‏(‏ العفيفات المترفعات عن الرذائل‏),‏ وزواج المحصنات من الذين أوتوا الكتاب‏,‏ بعد دفع مهورهن‏,‏ ومع عدم الاختلاء بهن قبل الزواج‏.‏

‏(16)‏ تفصيل أحكام الطهارة في جميع الحالات‏.‏

‏(17)‏ تفصيل أحكام الوصية‏.‏

‏(18)‏ الحكم بأن‏...‏ من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا‏...*(‏ المائدة‏:32).‏

‏(19)‏ الحكم بأن حزب الله هم الغالبون وأن‏...‏ الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم‏*(‏ المائدة‏:36).‏

من ركائز العقيدة في سورة المائدة
‏(1)‏ الإيمان بالله‏,‏ وملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ وباليوم الآخر‏,‏ وبأن لله المصير‏,‏ وتحريم الشرك بالله تحريما قاطعا لقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏ إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار‏,‏ وما للظالمين من أنصار‏*(‏ المائدة‏:72).‏

‏(2)‏ الإيمان ببعثة الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ الذي أكمل الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ببعثه الدين‏,‏ وأتم النعمة بتعهده‏(‏ جل شأنه‏)‏ بحفظ القرآن الكريم‏,‏ وبرضاه لعباده الإسلام دينا‏.‏

‏(3)‏ الإيمان بوحدة رسالة السماء‏,‏ وبالأخوة بين الأنبياء الذين بعثهم الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ جميعا برسالة واحدة هي الإسلام الذي دعا إلي عبادة الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏),‏ وإلي الإلتزام بمكارم الأخلاق‏,‏ وإلي حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض‏,‏ وإلي الاتباع في الدين‏,‏ وإلي عدم الابتداع فيه‏.‏

‏(4)‏ اليقين الجازم بأن المسيح عيسي ابن مريم هو عبد الله ورسوله‏,‏ وأنه قد خلت من قبله الرسل‏,‏ وأن أمه صديقة‏,‏ وأنهما كانا يأكلان الطعام‏,‏ وأنه بشر بمقدم خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏),‏ وأن الإيمان بالمعجزات التي أجراها الله‏(‏ تعالي‏)‏ له وعلي يديه كما رواها القرآن الكريم هو جزء لايتجزأ من إيمان المسلمين‏,‏ وأن الفضل فيها يعود لله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وحده‏.‏

‏(5)‏ التسليم بالحقيقة القرآنية التي مؤداها أن اليهود قد زيفوا رسالة الله إليهم‏,‏ وأنهم سماعون للكذب‏,‏ أكالون للسحت‏,‏ مسارعون في الإثم والعدوان‏,‏ ولذلك وصفهم الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بقوله‏(‏ عز من قائل‏:‏
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لايستكبرون‏*‏
‏(‏المائدة‏:82).‏

من الإشارات العلمية في سورة المائدة
‏(1)‏ تحريم أكل كل من الميتة‏,‏ والدم‏,‏ ولحم الخنزير‏,‏ وما أهل لغير الله به‏,‏ والمنخنقة‏,‏ والموقوذة‏,‏ والمتردية‏,‏ والنطيحة‏,‏ وما أكل السبع إلا ما تمت تذكيته من الأنواع الأربعة الأخيرة قبل وفاته‏,‏ وما ذبح علي النصب‏,‏ والتجارب المختبرية والسريرية تؤكد أخطار تناول كل هذه الأطعمة المحرمة‏.‏

‏(2)‏ التأكيد علي البينية الفاصلة بين الأرض والسماوات‏,‏ والعلوم المكتسبة قد بدأت في إدراك تلك الحقيقة مع تبين أن الغلاف الغازي للأرض هو خليط بين مادتي الأرض والسماء وليس خالصا لأي منهما‏.‏

‏(3)‏ تحريم كل من الخمر‏,‏ والميسر‏,‏ والأنصاب‏,‏ والأزلام‏,‏ والدراسات العلمية والإنسانية تؤكد حتمية ذلك التحريم من أجل سلامة وأمن كل من الإنسان ومجتمعه‏.‏

‏(4)‏ تأكيد كرامة الكعبة المشرفة‏.‏ والبحوث العلمية تؤكد تميز موقعها‏,‏ وتفرده بالعديد من الشواهد الحسية والروحية التي تشهد بتلك الكرامة‏.‏

‏(5)‏ اختيار الغراب دون غيره من الطيور لتعليم قابيل بن آدم كيف يواري سوءة أخيه بعد أن قتله‏,‏ والدراسات في علم سلوك الحيوان تثبت أن الغراب هو أدني الطيور علي الإطلاق‏.‏ وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصد حديثي علي الجزء الأخير من النقطة الأولي في القائمة السابقة وهو ما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة‏,‏ وقد سبق أن تناولنا الجزء الأول من هذه الآية الكريمة في مقال سابق‏,‏ ولكن قبل الوصول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لما قاله عدد من المفسرين في شرح هذا النص القرآني الكريم‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنفة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح علي النصب‏...*(‏ المائدة‏:3).‏
‏*‏ ذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ ما مختصره‏:...‏ وأما المنخنقة‏(‏ وهي التي تموت خنقا‏)‏ والموقوذة‏(‏ وهي التي تضرب بعصا أو خشبة أو حجر فتموت‏),‏ والمتردية‏(‏ وهي التي تتردي من سطح أو جبل أو تتردي في بئر فتموت‏),‏ والنطيحة‏(‏ وهي التي تنطحها بهيمة فتموت‏)‏ وما أكل السبع‏(‏ وهي الفريسة لأي من الوحوش‏)...‏ فهي كلها أنواع من الميتة إذا لم تدرك بالذبح وفيها الروح‏:(‏ إلا ما ذكيتم‏)‏ فحكمها هو حكم الميتة‏...,‏ وأما ما ذبح علي النصب ـ وهي أصنام كانت في الكعبة وكان المشركون يذبحون عندها وينضحونها بدماء الذبيحة في الجاهلية‏,‏ ومثلها غيرها في أي مكان ـ فهو محرم بسبب ذبحه علي الأصنام ـ حتي لو ذكر اسم الله عليه‏,‏ لما فيه من معني الشرك بالله‏.‏

‏*‏ وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه مع اختلاف في تعريف‏(‏ النصب‏)‏ بأنها كانت أحجارا منصوبة حول الكعبة‏,‏ وكان الجاهليون يذبحون عليها ويعظمونها ويلطخونها بالدماء‏,‏ وهي غير الأصنام‏,‏ إنما الأصنام هي الأحجار المصورة المنقوشة‏.‏

من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم
أولا‏:‏ في حكمة التحريم‏:‏
سبق لنا أن ناقشنا حكمة تحريم كل من الميتة‏,‏ والدم‏,‏ ولحم الخنزير‏,‏ وما أهل لغير الله به‏,‏ ونناقش هنا الحكمة من تحريم بقية المحرمات العشر المذكورة في الآية الثالثة من سورة المائدة وهي المنخنقة‏(‏ أي البهيمة التي ماتت خنقا‏),‏ والموقوذة‏(‏ أي البهيمة التي ضربت بمثقل غير محدد حتي تموت‏),‏ والمتردية‏(‏ أي البهيمة التي تسقط من علو فتموت من التردي أي الهلاك‏),‏ والنطيحة‏(‏ أي البهيمة التي تنطحها أخري فتموت‏),‏ وما أكل السبع‏(‏ أي ما بقي من البهيمة بعد أكل أحد الوحوش المفترسة منها‏),‏ وقول الله تعالي‏(‏ إلا ما ذكيتم‏)‏ وهو استثناء من التحريم أي إلا ما أدركتم ذكاته من الأنواع الأربعة السابقة وفيه بقية حياة‏,‏ وأضافت الآية الكريمة إلي قائمة المحرمات‏:‏ ما ذبح علي النصب‏(‏ أي ما ذبح لغير الله‏).‏ وهذه كلها حكمها حكم الميتة ولذلك يضيف الفقهاء إليها ما قطع من البهيمة وهي حية فحكمه حكم الميتة كذلك وذلك يقول رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ ماقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة‏(‏ رواه كل من أبي داود والترمذي‏).‏
وأما ما ذبح علي النصب فحكمه هو حكم ما أهل لغير الله به سواء بسواء‏,‏ فكلاهما ذبح لغير الله‏(‏ تعالي‏),‏ أو أشرك مع الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ غيره في الإهلال بالذبح فأصبح شركا صراحا‏,‏ والشرك بالله‏(‏ تعالي‏)‏ من أكبر الكبائر‏,‏ ومن السبع الموبقات المهلكات‏.‏

وهذه الآية الكريمة كغيرها من آيات التحريم لاتفيد الحصر‏,‏ فقد حرم رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أكل كل ذي مخلب‏(‏ ظفر‏)‏ من الطير وهو ما يعرف باسم الجوارح‏,‏ وكل ذي ناب من البهائم يسطو به علي غيره‏,‏ وهو ما يعرف باسم اللواحم أو الحيوانات آكلة اللحوم فقط‏(CarnivorousAnimals)‏ من الوحوش المفترسة‏(‏ السباع‏),‏ ومنها أيضا آكلات اللحوم والأعشاب معا‏(OmnivorousAnimals),‏ وذلك لقول ابن عباس‏(‏ رضي الله عنهما‏):‏ نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع‏,‏ وكل ذي مخلب من الطير‏(‏ مسلم‏).‏
وحرم رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أيضا أكل‏(‏ الجلالة‏)‏ من الطيور والبهائم المباحة‏,‏ و‏(‏الجلالة‏)‏ هي الحيوانات التي دأبت علي أكل النجاسات والمستقذرات من الأمور‏,‏ أو التي يفرض عليها من انواع الطعام غير الذي فطرها الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليه من مثل اطعام أكلات الأعشاب أو بروتينات حيوانية هي غير مهيأة لأكلها‏,‏ وأوصي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بحبس الحيوان الجلال‏,‏ وعلفه بالغذاء الطاهر لفترات تتناسب مع حجمه حتي يزول ما ببدنه من النجاسات‏,‏ ويعود إلي طهره‏,‏ وحينئذ يحل أكل لحمه‏,‏ وشرب لبنه إن كان من الحيوانات اللبونة‏.‏ ويسن في ذلك حبس الإبل أربعين يوما مع علفها علفا طاهرا‏,‏ وحبس البقر ثلاثين يوما‏,‏ وكل من الضأن والماعز سبعة أيام‏,‏ والطيور الصغيرة‏(‏ مثل البط والإوز والدجاج‏)‏ ثلاثة أيام كما جاء في الحديث الذي رواه ابن عمر‏(‏ رضي الله تبارك وتعالي عنهما‏).‏

وحرم رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ كذلك لحوم كل من الحمر الاهلية والبغال‏,‏ والقردة‏,‏ كما حرم كل خبيث من الطعام ولذلك وصفه الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بقوله العزيز‏:‏
‏...‏ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث‏...*(‏ الأعراف‏:157).‏

ويدخل في الخبائث كل مستقذر أو ضار أو شاذ من الأمور‏.‏
هذا وقد أثبتت الدراسات المختبرية أن لحوم كل من الجوارح والسباع‏(‏ أي الطيور والبهائم المفترسة‏)‏ لها حكم الدم تماما لكثرة ما تأكل من اللحوم النيئة وهي مليئة بالدماء أو لكثرة ما تشرب من تلك الدماء‏.‏ ويري فقهاء المسلمين أن المقصود بالتحريم في الدم هو نجاسته‏,‏ وفي الميتة هو حبس الدم في اللحم‏,‏ والبدء في تحللها أو تعفينهما معا‏.‏ أما كل ما عدا اللحم والدم‏(‏ مثل الجلد‏,‏ والصوف أو الشعر‏,‏ والقرون‏,‏ والأظلاف وغيرها‏)‏ فهو حلال طاهر يصح الانتفاع به مالم يطله شيء من تعفن لحم الميتة أو دمها‏.‏

ومن العجيب أنه تحت دعوي الشفقة بالحيوان فإن جميع المجازر في الدول غير الملتزمة بالقواعد الإسلامية تقوم بصعق الحيوان بالتيار الكهربائي أو بإلقاء إبرة ملتحمة بثقل كبير في مراكز محددة من المخ لإدخاله في دورة من الإغماء قبل ذبحه حتي لايشعر بألم الذبح‏.‏ وفي الغالبية الساحقة من الحالات يموت الحيوان قبل أن يذبح‏,‏ ويتجمد الدم في عروقه بالصعق الكهربي أو بصدمة إلقاء الإبرة الثقيلة في مخه‏,‏ وبذلك لاتخرج ذبائح غير المسلمين عن الميتة‏,‏ والدم‏,‏ والمنخنقة‏,‏ والموقوذة‏,‏ وكثيرا ما يغمي علي الحيوان فيتردي‏(‏ المتردية‏),‏ أو يصطدم ببعضه البعض‏(‏ النطيحة‏)‏ فلا تخرج ذبائح غيرنا عن المحرمات العشر التي نصت عليها الآية الكريمة التي نحن بصددها‏,‏ وأكدتها غير واحدة من آيات القرآن الكريم‏,‏ ذلك الكتاب المعجز حقا‏.‏ وقد بلغت هيمنة الشيطان علي غيرنا في الغرب والشرق علي أكل ما يسمي باسم المقانق السوداء أو السجق الأسود‏(TheBlackSausoges)‏ وهو عبارة عن أمعاء الخنزير المحشوة بدمه ودهونه‏,‏ وكأنهم لم يكتفوا بمصيبة واحدة وهي لحم الخنزير فأضافوا إليه دمه ودهنه‏,‏ وكل واحدة منها تدمر جسد الآدمي تدميرا كاملا بما تحمله من سموم ومسببات للأمراض‏.‏

ويدعي مسئولو المجلس الاستشاري البريطاني لرعاية المزارع الحيوانية‏
(TheBritishFarmWelfareAdvisoryCouncil)‏
أن طريقة الذبح الإسلامية بقطع زور الحيوان بسكين حاد وذلك لتخليص جسده من دمه تؤدي إلي شيء من تعذيب الحيوان‏,‏ وهي في الحقيقة أخف من عمليات الصعق أو الوقذ‏(‏ أي القذف بوزن ثقيل في رأسه‏)‏ التي يقومون بها‏,‏ وذلك لأنه بمجرد انقطاع تدفق الدم إلي المخ فإن الحيوان لايشعر بأية آلام علي الإطلاق‏,‏ وفي ذلك من الرأفة بالذبيحة ما لا يتوفر أبدا في عمليات الصعق الكهرابي أو بالوقذ التي يستخدمها غيرنا‏,‏ وفي هذه الطريقة الأخيرة من الغياب عن الوعي مايمكن ان يقتل الحيوان فورا‏,‏ أو يرديه أرضا مما يؤدي إلي قتله أو إلي اصدامه بغيره علي هيئة النطيحة‏,‏ وفيها أيضا من تعذيب الحيوان مالا يمكن أن يوصف بكلمات إذا لم تصب القذيفة الموضع المحدد في رأسه‏,‏ بينما بمجرد قطع الأوردة والشرايين الرئيسية بالعتق في عملية النحر الإسلامي يتوقف وصول الدم إلي المخ فيغيب الحيوان عن الوعي في جزء من الثانية‏,‏ ويصفي دمه في حوالي دقيقتين‏.‏

ثانيا‏:‏ الذي يستذله الشيطان يزين له أكل الخبائث‏:‏
بتاريخ‏2000/7/18‏ م وضعت علي شبكة المعلومات الدولية‏(‏ المعروفة باسم الشبكة العنكبوتية‏)‏ استغاثة من إحدي المنظمات الأمريكية تحمل اسم المدافعون الدوليون عن حرية الصحة‏:‏ تطلب من كل الناس استنكار إباحة بعض الإدارت الأمريكية بيع لحوم الحيوانات المريضة للمستهلكين في الأسواق المحلية والعالمية‏.‏ وذكرت هذه الاستغاثة أن هناك مشروع قانون أمام هذه الإدارات يخول مفتشي اللحوم بإباحة بيع الذبائح المصابة بأمراض مثل السرطان والأورام المختلفة‏,‏ والقروح المتعددة للمستهلكين في داخل الولايات المتحدة وخارجها وذلك بعد إزالة الأجزاء المصابة منها وختمها بأختام تشهد بصلاحيتها لاستهلاك الآدميين وإنزالها إلي اسواق المستهلكين المحلية والعالمية‏.‏
وأضافت الاستغاثة بأنهم هناك مقبلون علي برنامج مذبحة عامة للأمريكيين ولغيرهم من أبناء الدول المستوردة للحوم الأمريكية‏,‏ ويقول كاتبو الاستغاثة‏:‏ نحن نري هذه المذبحة بأعيننا ونرجو من كل من يقرأ استغاثتنا بذل الطاقة لإيقاف هذه الجريمة المقززة للأبدان‏...!!‏

وعلي الرغم من ذلك فإن الأسواق العربية لاتزال مفتوحة علي مصاريعها للحوم الأمريكية المصنعة وغير المصنعة‏,‏ علي الرغم من الأمراض المتفشية في الحيوانات المرباة عندهم من مثل‏:‏ أمراض الحمي القلاعية‏,‏ وحمي ضيق التنفس‏(SARS),‏ وجنون البقر الذي يهاجم مخ الحيوان فيدمره تدميرا بتحويله إلي حالة إسفنجية منخربة وقد ثبت أن هذا المرض ينتقل إلي آكلي لحوم وشاربي ألبان تلك الحيوانات المصابة بهذا المرض الخطير عن بني الإنسان فيدمر الجهاز العصبي المركزي عندهم فيما يعرف باسم مرض جاكوب‏.‏
وقد انتشر هذا المرض في العديد من الدول الغربية بسبب استخدام البروتينات الحيوانية في تغذية كل من الماشية والأغنام والدواجن وهي حيوانات فطرها الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ علي أكل الأعشاب والخضراوات والحبوب‏(Herbivorous)‏ ومخالفة الفطرة ولدت فيروسات غير عادية عند هذه الحيوانات العشبية تقاوم جميع المضادات الحيوية المعروفة‏,‏ كما تقاوم التسخين إلي درجات الحرارة العالية‏,‏ ولم يتمكن العلماء من رؤية هذا الميكروسكوب بعد حتي باستخدام المجاهر الإليكترونية والتي يصل تكبيرها إلي مليون ضعف الجسم المفحوص ولم يمكن تتبع هذا الفيروس الخطير أيضا عن طريق استخدام الجسيمات المضادة وذلك بسبب أنه لايثير أية جسيمات مضادة في الأبدان التي يصيبها‏,‏ وهذه الحقيقة تشهد لحديث رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في تحريم أكل لحم الجلاله وشرب ألبانها بالإعجاز العلمي‏,‏ وقد زاد بعض فقهاء المسلمين القول بتحريم ركوبها حتي تطهر خشية أن يتعرض راكبها للتلوث بنجاسة عرقها ونتنه وهذا من منازل الطهارة في الإسلام العظيم‏.‏

والذي يأكل لحما أو لبنا مصابا بجنون البقر فإن المرض ينتقل إليه علي هيئة مرض جاكوب أو أشباهه وفيه يهاجم فيروس المرض الجهاز العصبي للإنسان خاصة المخ والحبل الشوكي والغدة النخامية وبعض أجزاء أعصاب العين‏,‏ كما يهاجم الانسجة الضامة‏,‏ والطحال‏,‏ والمشيمة واللوزتين‏,‏ والزائدة الدودية ولا يكاد المصاب ان يحيا لسنة واحدة بعد ظهور أعراض المرض عليه‏,‏ لأن الفيروس‏(‏ الموجود علي هيئة بروتينات غير سوية تدعي البريونات‏)‏ يهاجم المخ وينخره بثقوب ميكروسكوبية عديدة تحيله إلي ما يشبه قطعة الإسفنج‏.‏
ومن أخطار مرض جاكوب وأشباهه أن الفترة بين الإصابة بفيروس المرض وظهور أعراضه قد تطول إلي ما بين العشر والخمس عشرة سنة أو إلي أكثر من ذلك‏,‏ ويمكن للمرض ان ينتقل إلي الأصحاء عن طريق تلوث الأجهزة الطبية أو عن طريق نقل الأعضاء‏,‏ أو نقل الدم‏,‏ أو بتناول اللحم المصاب‏.‏

ومن أعراض أشباه مرض جاكوب‏(VARIANTCJD)‏ شعور المصاب بعدد من الأعراض النفسية مثل القلق الشديد‏(ANXIETY),‏ والاكتئاب‏(DEPRESSION),‏ والميل إلي العزلة والانسحاب من المجتمعات‏,‏ والاضطرابات السلوكية المختلفة‏,‏ ثم يتطور المرض إلي سلسلة من الآلام المبرحة‏,‏ في الوجه والأطراف‏,‏ وشعور غريب في مختلف أجزاء الجسم‏,‏ ثم إلي خلل في التحكم بأجهزة الحركة‏,‏ فيأتي المريض بعدد من التقلصات الشديدة والحركات اللا إرادية‏,‏ ثم يبدأ الفيروس حتي في مهاجمة المخ حتي يفقد المريض ذاكرته‏,‏ وتأخذ حالته الصحية في التردي حتي الوفاة‏.‏ والطريقة الوحيدة لتشخيص مرض جاكوب وأشباهه بدقة هو بأخذ عينة من نسيج المخ بعملية جراحية أو في أثناء تشريح الجثة بعد الوفاة لمعرفة أسبابها‏.‏
ونظرا لتركز المرض في الجهاز العصبي للحيوان المصاب فإن أجهزة صحة الحيوان تمنع بيع كل من رؤوس الحيوانات وأمخاخها‏,‏ والمجموعات العصبية المتصلة بالمخ‏,‏ العيون‏,‏ اللوزتين‏,‏ الحبل الشوكي والأعصاب المرتبطة به‏,‏ وذلك لجميع أنواع الماشية التي تبلغ من العمر ثلاثين شهرا فما فوق ذلك‏.‏

من هذا الاستعراض السريع تتضح الحكمة من تحريم لحوم الذبائح التي تدخل في نطاق المحرمات التي أوردتها الآية الثالثة من سورة المائدة التي نحن بصددها‏,‏ وأكدتها الآيات في مواضع أخري من كتاب الله‏,‏ والذبح عند غيرنا يسبقه صعق الحيوان كهربيا أو بالضرب في الرأس بثقل كبير في نهايته إبرة حادة‏(‏ الوقذ‏),‏ أو بالخنق‏,‏ وفي أغلب هذه الحالات يموت الحيوان قبل أن يذبح‏,‏ ويبقي دمه في لحمه‏,‏ وتصفية الذبيحة من دمها هي عملية تطهير للحمها من السموم ومسببات الأمراض التي يحملها الدم‏,‏ ومن هنا كانت تسمية الذبح الشرعي الإسلامي باسم التذكية‏(‏ أو الذكاة‏),‏ ومن الغريب ان يحاول البعض فرض طرائق ذبحهم المعيبة علينا بدعوي الرفق بالحيوان‏,‏ وهم الذين يساهمون في قتل الملايين من البشر بدم بارد‏,‏ ثم يتباكون علي ما يمكن أن يصيب الحيوان من آلام أثناء الذبح الشرعي الإسلامي له‏,‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ لايشرع إلا كل مافيه الرحمة والخير كل الخير للإنسان وللحيوان ولكل خلق آخر من خلق الله‏.‏

ثالثا‏:‏ في قوله تعالي‏:(‏ إلا ما ذكيتم‏):‏
يقال في اللغة العربية‏(‏ ذكيت‏)‏ الشاة أي ذبحتها ذبحا شرعيا كي تذكو وتطيب‏,‏ والأصل في‏(‏ الذكاة‏)‏ التطيب‏,‏ ومنه رائحة‏(‏ ذكية‏)‏ أي طيبة‏,‏ ولذلك سمي الذبح الشرعي‏(‏ تذكية‏)‏ لأن لحم الذبيحة يطهر به مما كان منتشرا فيه من دماء وسوائل أخري متصلة بتلك الدماء مثل السوائل الليمفاوية‏,‏ وكلها يحمل أوساخ البدن ومسببات أمراضه‏,‏ ومن هنا كان من معاني‏(‏ الذكاة‏)‏ الشرعية هو التتميم‏,‏ أي تتميم تصفية بدن الذبيحة مما بها من دماء وملوثات‏,‏ ويتم ذلك بنحر الحيوان أي بقطع مجري الطعام والشراب والنفس من الحلق‏(‏ أي بقطع حلقومه ومريئه‏)‏ وبذلك يقطع الودجان وهما عرقان غليظان في جانبي ثغرة النحر فتنهر الدماء والسوائل الليمفاوية بتدفق شديد مع التسمية والتكبير‏(‏ باسم الله‏,‏ الله أكبر‏)‏ مستخدما في ذلك آلة حادة حتي لا يتألم الحيوان‏,‏ وذلك لقول رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ إن الله كتب الإحسان علي كل شيء‏,‏ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة‏,‏ وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة‏,‏ وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته‏(‏ الإمام مسلم‏).‏
من هنا كانت حكمة الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ من إضافة هذا الاستثناء‏(‏ إلا ما ذكيتم‏)‏ بعد ذكر الحالات الخمس‏:‏ المنخنقة‏,‏ والموقوذة‏,‏ والمتردية‏,‏ والنطيحة‏,‏ وما أكل السبع‏,‏ لأن كلا من البهيمة أو الطير‏(‏ من المباحات‏)‏ إذا مر بحالة من هذه الحالات وأدركها أو أدركه الإنسان قبل ان تموت أو ان يموت فذكاها أو ذكاه سال دمها ودمه‏,‏ وتطهر لحمها ولحمه وصار حلالا‏,‏ ولكن إذا لم يتدارك الحيوان في أي من هذه الحالات فمات قبل أن يذبح صار في حكم الميتة التي يحرم لحمها‏,‏ لأن دمها يبقي محتبسا في جسدها‏,‏ والدم هو حامل فضلات وسموم الجسم المختلفة‏,‏ وحامل مسببات أمراضه‏,‏ فضلا عن كونه مركبا من مواد قابلة للتجلط وللتعفن والتحلل السريع فإذا حبست في داخل جسم الحيوان بعد موته فإنها تساعد علي سرعة تحلل هذا الجسد وفساد لحمه وهو أيضا قابل للتحلل والتعفن والفساد خاصة إذا انقضي علي موت الحيوان وقت كاف يسمح بذلك‏.‏

ولكون الدم يحمل نواتج التمثيل الغذائي بما فيها من مواد نافعة وسموم قاتلة‏,‏ تكون في طريقها إلي أجهزة طرحها إلي خارج الجسم‏,‏ ولكون العديد من الطفيليات تمضي في الدم مراحل من دورة حياتها تطول أو تقصر‏,‏ وتلقي فيه سمومها‏,‏ وكذلك الفيروسات والميكروبات المختلفة فإن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد حرم علي عباده الصالحين أكل كل من الميتة والدم‏,‏ خاصة الدم المسفوح‏,‏ أما أكل كل من الكبد والطحال من الحيوان المباح المذكي فهو حلال لقول رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ أحل لنا ميتتان ودمان‏,‏ فأما الميتتان فالسمك والجراد‏,‏ وأما الدمان فالكبد والطحال‏(‏ رواه كل من الأئمة أحمد‏,‏ وابن ماجه‏,‏ والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا‏).‏
من الاستعراض السابق يتضح أن موت الحيوان دون تذكيته‏(‏ أي دون إراقة دمه‏)‏ يؤدي إلي احتباس الدم في العروق المنتشرة في جسمه من الأوردة والشرايين وتفرعاتهما إلي مختلف الأنسجة والخلايا‏,‏ ودم الأوردة يحمل كل نفايات الجسم‏,‏ وفضلات العمليات الحيوية المختلفة‏,‏ كما يحمل الدم بصفة عامة الجراثيم والطفيليات المتعايشة مع الحيوان‏,‏ والدم سائل قابل للتجلط السريع‏,‏ فإذا مات الحيوان دون ان يصفي دمه تجلط هذا الدم مختلطا باللحم والشحم والعظم‏,‏ وبدأ في التعفن والتحلل مما يؤدي إلي فساد اللحم خاصة إذا طالت الفترة بعد موت الحيوان‏,‏ ومن هنا فإن كلا من المنخنقة‏,‏ والموقوذة‏,‏ والمتردية‏,‏ والنطيحة‏,‏ وما أكل السبع إذا لم تدرك قبل موتها وتذكي فإن حكمها هو حكم الميتة ومن هنا يأتي تحريم أكلها‏.‏

رابعا‏:‏ وما ذبح علي النصب‏:‏
‏(‏النصب‏)‏ جمع‏(‏ نصاب‏)‏ وهي أحجار كان مشركو قريش ينصبونها حول الكعبة‏,‏ وكانوا يذبحون عليها‏,‏ ويعظمونها‏,‏ ويلطخونها بالدماء‏,‏ وهي غير الأصنام المنقوشة المصورة‏,‏ وبديهي أن الذبح لغير الله هو ضرب من الشرك‏,‏ ومغايرة للفطرة التي فطر الله‏(‏ تعالي‏)‏ خلقه عليها‏,‏ وكل مغايرة للفطرة محكوم عليها بالفشل‏.‏ والحيوان كغيره من مخلوقات الله متوائم مع الفطرة‏,‏ ومتنافر مع مغايرتها‏,‏ ولذلك فإن جسده لايستطيع ان ينتفض‏,‏ ولا عضلاته تستطيع أن تتقلص حتي يتخلص من دمائه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة إلا إذا سمع اسم الله وتكبيره‏.‏ وقد ثبت بالأبحاث المختبرية التي قام بها فريق من كبار العلماء السوريين علي مدي ثلاث سنوات كاملة أن نسيج اللحم المذبوح بدون التسمية باسم الله وتكبيره كان محتقنا بشيء من بقايا الدم‏,‏ ومصابا بمستعمرات إعداد من الجراثيم‏,‏ بينما جاء لحم الذبيحة التي سمي عليها‏(‏ باسم الله والله أكبر‏)‏ زكيا‏,‏ طاهرا‏,‏ خاليا من الدماء والجراثيم وذلك لشدة اختلاج أعضاء وعضلات جسم الحيوان المسمي عليه باسم الله في أثناء ذبحه مما يؤدي إلي اعتصار دمائه‏,‏ وطرد جراثيمه معها وبذلك يطهر لحم الذبيحة ويزكو‏.‏
ومن هنا كانت حكمة تحريم أكل ما ذبح علي النصب أي لغير الله‏(‏ تعالي‏).‏

ولو لم يرد في القرآن الكريم سوي هذا التحريم للمحرمات العشر التي جاءت في الآية الثالثة من سورة المائدة لكان كافيا للشهادة لهذا الكتاب الخالد بأنه لايمكن ان يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏),‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية فقال‏(‏ عز من قائل‏):‏ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
‏(‏الحجر‏:9)‏

فحفظ القرآن الكريم في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏.‏