127)‏ إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد *‏ فقال إني أحببت حب الخير
عن ذكر ربي حتي توارت بالحجاب‏ * ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق‏ * )
‏(‏ ص‏:31‏ ـ‏33)‏
بقلم الدكتور‏:‏زغـلول النجـار
هـــذه الآيات القرآنية الكريمة جاءت في بداية الثلث الثاني من سورة ص وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏(88)‏ بعد البسملة‏,‏ وكطبيعة السور المكية يدور محورها الرئيسي حول ركائز العقيدة الإسلامية وفي مقدمتها توحيد الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ توحيدا كاملا لا تداخله أدني شبهة من شبهات الشرك‏,‏ وتنزيهه‏(‏ جل شأنه‏)‏ عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لايليق بجلاله‏.‏
ومن ركائز العقيدة الإسلامية الإيمان بالوحي إلي سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين بدءا بآدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ وانتهاء بخاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ والذي كمل في بعثته الدين‏,‏ وتمت نعمة رب العالمين علي عباده بحفظ هذا الدين في القرآن الكريم‏,‏ وفي سنة سيد المرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

ومن ركائز العقيدة في الإسلام الإيمان بالآخرة‏,‏ وما فيها من بعث‏,‏ وحساب‏,‏ وجزاء‏,‏ وخلود أبدي إما في الجنة أبدا‏,‏ أو في النار أبدا‏.‏
وتبدأ السورة الكريمة بالحرف الهجائي المفرد‏(‏ ص‏),‏ وهذه الفواتح الهجائية التي جاءت في مطلع تسع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم بصيغ شتي مكررة‏(19‏ مرة‏)‏ وغير مكررة‏(10‏ مرات‏)‏ قيل فيها انها إما رموز إلي كلمات أو معان أو أعداد في صلب السورة‏,‏ أو أنها أسماء للسور التي جاءت في مطالعها‏,‏ أو هي أسلوب من أساليب تحدي العرب ـ وهم في قمة من قمم الفصاحة والبلاغة وحسن البيان ـ أن يأتوا ولو بسورة واحدة من مثل سور القرآن الكريم الذي نزل بلغتهم‏,‏ واستخدم نفس الحروف التي يستخدمونها‏,‏ ولكن هيهات هيهات‏,‏ أو أنها وسيلة من وسائل قرع الأسماع‏,‏ وتنبيه القلوب لتلقي كلام الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ أو أنها من الأدلة القاطعة علي صدق رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لنطقه بأسماء الحروف ـ وهو الأمي ـ والأمي ينطق بأصوات الحروف ولايعرف أسماءها‏,‏ أو هي تشمل ذلك كله وغيره مما لايعلمه إلا الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏

وبعد هذا الاستفتاح يقسم ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ ـ وهو الغني عن القسم لعباده ـ بـ‏(‏ والقرآن ذي الذكر‏)‏ أي ذي الشرف والمكانة‏,‏ والذكري والموعظة‏,‏ والمذكور فيه كل مايحتاج إليه الإنسان من أمور الدين‏,‏ أن الذين كفروا هم دوما في استكبار عن اتباع الحق‏,‏ ودوما في محاربة لأهله دون أدني اعتبار بهلاك الأمم الكافرة والباغية من قبلهم‏,‏ وفي قراءة أخري أن جواب القسم محذوف وتقديره صدق ماتضمنه سياق السورة بكاملها‏,‏ أو أن تقديره هو خطاب موجه من الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ إلي سيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يقول له فيه‏:(‏ إنك بحق لخاتم الأنبياء والمرسلين‏)‏ وذلك بدليل قوله‏(‏ تعالي‏)‏ بعد آيتين اثنتين من إطلاق هذا القسم الإلهي العظيم‏:(‏ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم‏..).‏
ثم تناقش الآيات في‏(‏ سورة ص‏)‏ قضية استغراب مشركي قريش‏(‏ ومن بعدهم استغراب كل مشرك وكافر في كل زمان ومكان‏)‏ لبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ واستنكار دعوته إلي توحيد الله‏,‏ وإلي تنزيهه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لايليق بجلاله‏,‏ وإصرارهم علي الكفر بالله أو الشرك به‏(‏ وهو كفر بالله‏),‏ وإنكارهم لقضية البعث‏,‏ واستهزاءهم بها إلي حد استعجال عذاب الآخرة في الدنيا قبل يوم الحساب‏,‏ وهي صورة من صور فجر الكافرين وغفلتهم وتعنتهم‏.‏

وفي سياق استعراض سير بعض الكافرين والمكذبين من الأمم السابقة جاء ذكر عدد من الأقوام منهم‏:‏ قوم نوح‏,‏ وعاد‏,‏ وفرعون‏,‏ وثمود‏,‏ وقوم لوط‏,‏ وأصحاب الأيكة‏,‏ وتمت الإشارة إلي مانزل بهم من عقاب الله في الدنيا وإلي ماينتظرهم من عذاب في الآخرة‏.‏
كذلك جاء ذكر عدد من أنبياء الله منهم‏:‏ آدم‏,‏ وإبراهيم‏,‏ واسحق‏,‏ ويعقوب‏,‏ واسماعيل‏,‏ واليسع‏,‏ وذو الكفل‏,‏ وداود‏,‏ وسليمان‏,‏ وأيوب‏(‏ علي نبينا وعليهم من الله السلام‏).‏

وفي استعراض جانب مما أغدق الله‏(‏ تعالي‏)‏ به من فضل علي عبديه داود وسليمان من النبوة‏,‏ والملك‏,‏ والسلطان‏,‏ وتسخير كل من الجن‏,‏ والريح‏,‏ والجبال‏,‏ والطير‏,‏ قضي ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ أن يدرك كلا منهما شيء من الضعف البشري‏,‏ ثم تتداركهما رحمة الله فيتوبا إليه‏,‏ ويقبل الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ توبة كل منهما وإنابته إليه‏,‏ وتتضح حكمة الله البالغة من إظهار ضعفهما البشري حتي لايفتن أحد من الخلق بما وهبهما الله‏(‏ تعالي‏)‏ من نعم غير عادية فيعبدهما من دون الله‏,‏ أو يشرك بهما معه‏,‏ ثم جاءت قصة نبي الله داود تجسيدا لابتلاء الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ للصالحين من عباده وتطهيرا لهم‏,‏ وتكفيرا عن خطاياهم مهما قلت‏,‏ وتزكية لنفوسهم ورفعا لدرجاتهم عند ربهم‏,‏ وتجسيدا أيضا لصبر نبي الله داود علي البلاء حتي كشفه عنه رب العالمين برحمته‏.‏
وجاء هذا القصص توجيها لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وللمؤمنين به في كل زمان وفي كل مكان بالصبر علي ما يلقاه ويلقونه من تكذيب الكفار والمشركين‏,‏ وتأكيدا له ولهم أن التوفيق‏,‏ والفضل‏,‏ والرعاية‏,‏ والهداية‏,‏ والنصر‏,‏ والتأييد‏,‏ والتمكين في الأرض كله من الله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي تعهد بنصرة عباده المؤمنين‏,‏ وفي ذلك دعوة له‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ولمن تبعه من المؤمنين بالصبر علي ما يلقونه من مختلف صور العنت‏,‏ والقسر‏,‏ والاضطهاد‏,‏ والظلم‏,‏ وهي كلها من صور الابتلاء الذي ليس من ورائه إلا النصر المبين إن شاء الله رب العالمين‏.‏

وتعاود الآيات تعظيم القرآن الكريم بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب‏(‏ ص‏:29).‏

وتعرض‏(‏ سورة ص‏)‏ لمشهد من مشاهد الآخرة يصور ماينتظر المتقين من نعيم مقيم وما ينتظر الكفار والمشركين من عذاب مهين وتخاصم في النار ـ أيا كانت مكانتهم في الدنيا‏,‏ ومهما استكبروا وعلوا فيها‏,‏ وتجبروا علي المستضعفين من خلق الله‏.‏
وتأييدا لخاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ تورد‏(‏ سورة ص‏)‏ جانبا من قصة أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ وهو في الملأ الأعلي‏,‏ وما جاء في ذلك يشهد لهذا النبي الخاتم والرسول الخاتم بالنبوة وبالرسالة لأنه لايمكن له أن يكون قد تلقي هذه المعلومات الدقيقة عن غير الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وفي ثنايا تلك القصة ما يؤكد عداوة إبليس اللعين لبني الإنسان أجمعين‏,‏ وحسده لأبيهم آدم‏,‏ ومعصيته لرب العالمين مما كان سببا في طرده من الجنه ولعنته إلي يوم الدين‏,‏ ولذلك تعهد بمحاولة غواية أبناء آدم أجمعين إلا عباد الله الصالحين‏.‏
وتختتم‏(‏ سورة ص‏)‏ بأمر من الله‏(‏ تعالي‏)‏ لخاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن يقول لقومه من أهل الجزيرة العربية‏,‏ وللبشرية كلها من بعده أنه لايسأل أحدا الأجر علي دعوته التي لم يتكلفها من عنده‏,‏ بل هو وحي الله الخالق الذي أنزله بعلمه‏,‏ وأمره بتبليغه‏,‏ وحفظه بعهده لكي يكون ذكرا للعالمين إلي يوم الدين‏,‏ وأن كل ما في القرآن الكريم من حروف‏,‏ وكلمات‏,‏ وآيات‏,‏ وسور‏,‏ وأوصاف‏,‏ وتشبيهات وأمثال‏,‏ وأحكام‏,‏ وأوامر‏,‏ ونواه‏,‏ وقصص هي حق مطلق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏,‏ وأن هذا الحق سوف يتجلي للناس بعد زمن المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ كما تجلي لهم بوجوده بينهم‏,‏ وكما يتجلي لنا في زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه‏,‏ ولغيرنا من بعد ذلك إلي يوم الدين بكيفيات ووسائل يعلمها رب العالمين‏.‏

من ركائز العقيدة الإسلامية في‏(‏ سورة ص‏)‏
‏1‏ـ الإيمان بأنه مامن إله إلا الله الواحد القهار‏,‏ العزيز الغفار‏,‏ وأن خزائن رحمته لاتنتهي‏,‏ وأنه هو الوهاب‏,‏ وأن توحيده سبحانه وتعالي حق له علي جميع خلقه توحيدا خالصا‏,‏ وتنزيها كاملا‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏).‏
‏2‏ـ التسليم بأن القرآن الكريم هو وحي الله الخاتم الذي أكمل به الدين‏,‏ وأتم النعمة بتعهده‏(‏ جل شأنه‏)‏ بحفظه إلي يوم البعث‏,‏ وأنه كتاب مبارك لايدرك قدره إلا أولو الألباب‏.‏

‏3‏ـ اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ أنزل هدايته للبشرية بالوحي إلي سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين الذين ختمهم ببعثة سيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وأن الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله ـ بغير تمييز ولا تفريق ـ هو من صلب الدين‏,‏ وأن تكذيب أي من رسل الله يستوجب العقاب في الدنيا قبل الآخرة‏.‏
‏4‏ـ التصديق بأنه ما علي الرسول من رسل الله إلا البلاغ المبين‏,‏ ولذلك وصف الله‏(‏ تعالي‏)‏ خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بأنه نذير مبين‏.‏
‏5‏ـ التصديق بما أصاب الكفار والمشركين من الأمم السابقة من عذاب‏.‏

‏6‏ـ الإيمان بالآخرة وبما فيها من بعث للخلائق‏,‏ وعرضهم أمام الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وحسابهم علي ما قدموا في الدنيا من أعمال‏,‏ ومجازاتهم عليها إما بدخول الجنة أو بدخول النار‏,‏ وبأنها لجنة أبدا أو نار أبدا‏,‏ أي خلود بلا موت‏.‏
‏7‏ـ اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف يملأ جهنهم بإبليس وبجميع من تبعه من خلق الله الذين سوف يتخاصمون في النار بغير طائل ولا جدوي‏.‏

‏8‏ـ التصديق بكل المعجزات التي أجراها الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ علي أيدي كل واحد من أنبيائه ورسله‏,‏ كما جاء وصفها في القرآن الكريم‏,‏ وبكل ما أورده هذا الكتاب الحكيم من قصص‏.‏
‏9‏ـ التصديق بوصف القرآن الكريم لنعيم الجنة من جهة‏,‏ ولجحيم النار من جهة أخري‏,‏ وبجميع الأحداث المستقبلية في كل منهما انطلاقا من اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يري الماضي والحاضر والمستقبل في وقت واحد لأنه خالق كل من المكان والزمن الذي يحد بهما حركات الخلائق وسكناتهم‏,‏ وهما لايحدان الذات‏,‏ لأن المخلوق لايحد خالقه أبدا‏.‏

‏10‏ـ اليقين بأن رزق الله‏(‏ تعالي‏)‏ لاينفد أبدا‏,‏ وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين‏.‏
‏11‏ـ الإيمان الكامل بقصة الخلق كما أوردها القرآن الكريم‏,‏ علي الرغم من كل تخرصات المتخرصين‏.‏

من الإشارات الكونية في‏(‏ سورة ص‏)‏
‏1‏ـ الإشارة إلي وجود حيز فاصل بين السماوات والأرض‏,‏ والعلوم المكتسبة تؤكد أن الغلاف الغازي للأرض مكون جزئيا من غازات أطلقها الله‏(‏ تعالي‏)‏ من داخل الأرض‏,‏ فاختلطت بالمادة بين أجرام السماء اختلاطا كاملا حتي أصبحت تركيبا مغايرا لكل من الأرض والسماء‏,‏ ولعل ذلك هو المقصود بتعبير ما بين السماوات والأرض‏,‏ والذي جاء ذكره مرتين في هذه السورة المباركة وعشرين مرة في القرآن الكريم كله‏.‏
‏2‏ـ تأكيد خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق أي بعدد من القوانين المنضبطة‏,‏ والسنن الصحيحة التي تعكس شيئا من صفات الخالق العظيم‏,‏ وتنفي الادعاءات الباطلة بالعشوائية والصدفة‏.‏

‏3‏ـ الإشارة إلي خلق الإنسان من طين‏,‏ والتركيب الكيمائي لجسم الإنسان يؤكد هذه الحقيقة‏.‏
‏4‏ـ ذكر تسبيح كل من الجبال والطير‏,‏ والعلوم المكتسبة تؤكد أن كل خلق من خلق الله من الجمادات والأحياء له قدر من الإدراك الخاص به‏,‏ والذي يعينه في قضية التعرف علي خالقه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وعلي المداومة بذكره‏,‏ والتسبيح بحمده بلغة لايدركها إلا ذووا القلوب الطاهرة‏,‏ والنفوس الشفافة‏,‏ والأرواح العارفة بخالقها‏.‏

‏5‏ـ وصف الخيل بوصف‏(‏ الصافنات الجياد‏),‏ والإشارة إلي أن من أفضل وسائل التآلف معها‏,‏ وترويضها هو المسح بكل من سيقانها وأعناقها وهذه من مواطن الإحساس المرهف فيها‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولكني سوف أركز هنا علي النقطة الأخيرة من القائمة السابقة والتي عرضتها الآيات‏(31‏ ـ‏33)‏ من سورة‏(‏ ص‏),‏ ولكن قبل البدء في ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح هذه الآيات الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد‏*‏ فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتي توارت بالحجاب‏*‏ ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق‏(‏ ص‏:31-33).‏

‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏),‏ ما مختصره‏:‏ يقول تعالي مخبرا أنه وهب لداود‏(‏ سليمان‏)‏ أي نبيا‏,‏ كما قال عز وجل‏(‏ وورث سليمان داود‏)‏ أي في النبوة‏,‏ وإلا فقد كان له بنون غيره‏,‏ وقوله تعالي‏:(‏ نعم العبد إنه أواب‏)‏ ثناء علي سليمان بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلي الله عز وجل‏,‏ وقوله تعالي‏:(‏ إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد‏)‏ أي إذ عرض علي سليمان عليه الصلاة والسلام في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات‏,‏ قال مجاهد‏:‏ وهي التي تقف علي ثلاث وطرف حافر الرابعة‏,‏ والجياد السراع‏...‏ وقوله تبارك وتعالي‏:(‏ فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتي توارت بالحجاب‏)‏ ذكر غير واحد من السلف والمفسرين‏:‏ أنه اشتغل بعرضها حتي فات وقت صلاة العصر‏,‏ والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا‏,‏ بل نسيانا‏,‏ ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال‏,‏ والأول أقرب لأنه قال بعده‏:(‏ ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق‏)‏ قال الحسن البصري كأنه قال‏:‏ لا والله لاتشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك‏,‏ ثم أمر بها فعقرت‏,‏ وقال السدي‏:‏ ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف‏,‏ ولهذا عوضه الله عز وجل ماهو خير منها‏,‏ وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب‏,‏ غدوها شهر ورواحها شهر‏,‏ فهذا أسرع وخير من الخيل‏,‏ وأغلب الظن أن هذا التفسير الأخير من الإسرائيليات التي تسربت إلي كتب التفسير‏.‏

‏*‏ وذكر الشهيد سيد قطب‏(‏ رحمه الله رحمة و اسعة جزاء ما قدم‏)‏ كلاما رائعا نوجزه فيما يلي‏:....‏ والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة‏,‏ وعن الجسد الذي ألقي علي كرسي سليمان‏..‏ كلتاهما اشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما‏,‏ فهي إما اسرائيليات منكرة‏,‏ وإما تأويلات لاسند لها‏..‏

‏....‏ أما قصة الخيل فقيل‏:‏ إن سليمان ـ عليه السلام ـ استعرض خيلا له بالعشي‏,‏ ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب‏,‏ فقال‏:‏ ردوها علي‏,‏ فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه‏.‏ ورواية أخري أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراما لها لأنها كانت خيلا في سبيل الله‏..‏ وكلتا الروايتين لادليل عليها‏,‏ ويصعب الجزم بشيء عنها‏.‏ ومن ثم لايستطيع متثبت أن يقول شيئا عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن الكريم‏.‏ وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله أنبياءه ليوجههم ويرشدهم‏,‏ ويبعد خطاهم عن الزلل‏.‏ وأن سليمان أناب إلي ربه ورجع‏,‏ وطلب المغفرة‏,‏ واتجه إلي الله بالدعاء والرجاء‏:(‏ قال‏:‏ رب اغفر لي وهب لي ملكا لاينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب‏)‏ وأقرب تأويل لهذا الطلب من سليمان ـ عليه السلام ـ أنه لم يرد به أثرة‏,‏ إنما أراد الاختصاص الذي يتجلي في صورة معجزة‏,‏ فقد أراد به النوع‏,‏ أراد به ملكا ذا خصوصية تميزه عن كل ملك آخر يأتي بعده‏,‏ وذا طبيعة معينة‏,‏ ليست مكررة ولا معهودة في الملك الذي يعرفه الناس‏.‏ وقد استجاب له ربه‏,‏ فأعطاه فوق الملك‏,‏ ملكا خاصا لايتكرر‏,‏ وصفه الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بقوله‏:‏

فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب‏.‏ والشياطين كل بناء وغواص‏.‏ وآخرين مقرنين في الأصفاد‏.‏ هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب‏.‏ وإن له عندنا لزلفي وحسن مئاب‏(‏ ص‏:36‏ ـ‏40).‏

‏*‏ وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لما ذكره ابن كثير‏,‏ وإن تميز بعض المفسرين عن بعض في إيراد عدد من التفاصيل التي لم يذكرها غيره‏,‏ وبعض الاستنتاجات الخاصة به‏,‏ وقد رد الشهيد سيد قطب‏(‏ رحمه الله‏)‏ علي ذلك وفنده‏.‏

من الدلالات اللغوية لألفاظ الآيات القرآنية الثلاث
‏(‏ عرض‏):‏ بمعني أبرزت له حتي نظر إليها من‏(‏ عرض‏)(‏ يعرض‏)(‏ عرضا‏)‏ أي أظهر يظهر ظهورا‏,‏ والفعل في الآية الكريمة مبني للمجهول‏.‏

‏(‏العشي‏):‏ من زوال الشمس إلي غروبها‏,‏ وصلاتا العشي هما الظهر والعصر‏,‏ فإذا غابت الشمس فهو العشاء الأول والآخر وإن قال بعض اللغويين أن‏(‏ العشي‏)‏ و‏(‏العشية‏)‏ من صلاة المغرب إلي العتمة‏,‏ و‏(‏العشاء‏)‏ مثل‏(‏ العشي‏)(‏ والعشاءان‏)‏ المغرب والعتمة‏.‏ ورغم البعض ان العشاء‏,‏ من زوال الشمس إلي طلوع الفجر‏,‏ وهو تعريف مبالغ فيه‏.‏ و‏(‏العشا‏)‏ مقصور مصدر‏(‏ الأعشي‏)‏ وهو الذي لايبصر بالليل‏,‏ ويبصر بالنهار‏,‏ والمرأة‏(‏ عشواء‏),‏ ويقال‏:(‏ أعشاه‏)‏ الله‏(‏ فعشي‏),(‏ يعشي‏)(‏ عشا‏).‏

الصافنات‏:(‏ الصافن‏)‏ من الخيل هو القائم علي ثلاث قوائم‏,‏ وقد أقام الرابعة علي طرف الحافر‏.‏ ويقال‏:(‏ صفن‏)‏ الفرس‏(‏ يصفن‏)(‏ صفونا‏)‏ فهو‏(‏ صافن‏)‏ أي صف أقدامه‏,‏ وجمعه‏(‏ صفون‏)‏ وذلك لأن‏(‏ الصفن‏)‏ هو الجمع بين الشيئين ضاما بعضهما إلي بعض‏,‏ و‏(‏الصفون‏)‏ صفة دالة علي فضيلة في الفرس‏.‏

الجياد‏:‏ جمع‏(‏ جواد‏),‏ وهو الفرس السريع الجري‏,‏ الجيد الركض‏,‏ السابق في العدو‏(‏ ذكرا كان أو أنثي‏),‏ يقال‏:‏ فرس‏(‏ جواد‏)‏ أي يجود بمدخر عدوه‏,‏ ويقال‏:(‏ جاد‏)‏ الفرس‏(‏ يجود‏)(‏ جودة‏)‏ فهو‏(‏ جواد‏)‏ إذا أسرع في جريه وعدوه‏,‏ والجمع‏(‏ جياد‏)‏

و‏(‏الجواد‏)‏ في الأصل منسوب إلي‏(‏ الجود‏)‏ وهو بذل الكثير من المقتنيات مالا كان أو علما أو جهدا‏,‏ ولذلك يقال‏:‏ رجل جواد‏,‏ وفرس جواد‏,‏ كما يقال فرس‏(‏ حصان‏)‏ لكونه حصنا لراكبه‏,‏ ويطلق علي كل ذكر من الخيل‏,‏ وجمع الحصان‏(‏ أحصنة‏).‏ واسم‏(‏ الخيل‏)‏ مستمد من الخيلاء لأن‏(‏ الخيل‏)‏ تتخايل في سكونها‏,‏ وفي حركاتها لما تستشعره من فضل الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليها من الجمال‏,‏ والقوة والذكاء‏,‏ والقدرة علي إدراك الكثير من الأشياء التي قد لايدركها كثير غيرها من الحيوانات‏.‏ ولفظ‏(‏ الخيل‏)‏ كما يطلق علي الأفراس فإنه يطلق مجازا علي الفرسان كذلك‏,‏ تأولا لما قيل إنه لايركب أحد فرسا إلا وجد في نفسه شيا من الخيلاء والزهو والشجاعة والنخوة وذلك من نحو ما قيل‏:‏ ياخيل الله إركبي‏,‏ والخطاب هنا للفرسان‏,‏ وقول المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ عفوت لكم عن صدقة الخيل يعني الأفراس و‏(‏الخيالة‏)‏ هم أصحاب الخيول‏.‏ ويقول‏(‏ عز من قائل‏):‏ والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالا تعلمون وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ ومن رباط الخيل‏.‏

من الدلالات العلمية للآيات الكريمة الثلاث
أولا‏:‏ الاشارة إلي فضيلة الخيل في السكون والحركة‏:‏
في هذه الآيات القرآنية الكريمة وصفت خيل نبي الله سليمان‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ بوصفين هما‏(‏ الصافنات الجياد‏)‏ وهو مدح لها واقفة‏(‏ الصافنات‏),‏ وجارية‏(‏ الجياد‏),‏ فإذا وقفت كان ذلك علي ثلاث قوائم‏,‏ وعلي طرف حافر القائم الرابع‏,‏ وذلك من علامات السكون‏,‏ والاطمئنان‏,‏ والثقة في نفسها‏,‏ والخيلاء بما أفاء الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليها من قوة في البنية‏,‏ وجمال في المظهر‏,‏ وقدرات علي الحس والإدراك وإذا جرت كانت في عدوها سباقة‏,‏ بسرعة‏,‏ راكضة كأحسن ماتكون الجياد‏,‏ ولذلك فإن نبي الله سليمان من شدة إعجابه بها‏,‏ وانبهاره بجمالها وحسن مظهرها‏,‏ لم يدرك مرور الوقت طيلة استعراضه لها حتي فات عليه ذكر خاص له كان يؤديه في ذلك الوقت ولم يتذكره حتي غابت الشمس‏,‏ واختفت الخيل عن الأنظار‏,‏ فتأسف علي ذلك أسفا شديدا يرويه القرآن الكريم علي لسانه فيقول‏:‏
‏..‏ إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتي توارت بالحجاب‏.(‏ ص‏:32)‏

أي أثرت حب الخيل حتي شغلتني عن ذكر الله‏,‏ ولم أتذكره حتي توارث الخيل عني باحتجابها‏,‏ أو توارث الشمس بغروبها‏,‏ أو حتي حدث الأمران معا‏.‏
والخيل من الحيوانات الثديية المشيمية ذات الحافر‏(ungulareplacenralmammals)‏ وتجمع في رتبه خاصة بها تعرف باسم رتبه فردية أصابع الحافر‏(oddtoedungulates)‏ ويكتب هذا الاسم باللاتينية علي النحو التالي‏(orderperissodactyla)‏ وذلك لتميزها بإصبع واحد كبير عامل في كل قدم‏,‏ وهومغطي بالحافر الواقي له من الصدمات من أجل حمايته‏.‏ والحيوان الحافري إما أن يكون فردي الأصابع من مثل الخيل‏,‏ والبغال‏,‏ والحمير‏,‏ والحمير الوحشية وأشباهها‏,‏ وإما أن يكون زوجي الأصابع‏(EventoedungulatesorderArtiodactyla)‏ من مثل مختلف الأنعام‏(‏ الإبل‏,‏ والبقر‏,‏ والغنم‏,‏ والماعز‏,‏ والغزلان‏,‏ والزرافات‏,‏ وأشباهها‏)‏

والخيل من الحيوانات آكلة الأعشاب‏(Herbivorous)‏ ولذلك تتميز بأسنانها الكبيرة‏,‏ ذات السطوح العريضة‏,‏ المزودة بعدد من البروزات المناسبة لجرش وطحن هذا النوع من الغذاء‏(‏ مثل الحشائش‏,‏ التبن‏,‏ الدريس‏,‏ الردة‏,‏ الفول‏,‏ الشعير‏,‏ الشوفان وغيرها من الحبوب‏)‏ وتكثر هذه البروزات علي أسطح تيجان طواحين الخيل‏,‏
ويتبع الحصان‏(Equushorse)‏ فصيلة الأحصنة وأشباهها‏(FamlyEquidae)‏ التي تشمل كلا من الحصان‏,‏ والحمار‏,‏ والحمار الوحشي‏(‏ المخطط‏),‏ وهي جزء من رتيبة الأفراس المعروفة باسم‏(SuborderHippomorpha)‏ والتي تشمل بالإضافة إلي فصيلة الأحصنة عددا من الفصائل المنقرضة التي عمرت الأرض منذ حوالي خمسين مليون سنة مضت في‏(‏ عهد الإيوسين‏)‏ أما الحصان الذي نعرفه اليوم فلم يعرف قبل المليونين الأخيرين من عمر الأرض المقدر بحوالي خمسة آلاف مليون سنة علي أقل تقدير‏,‏ وهو يحيا عادة في قطعان وذلك من قبل إستئناسه‏,‏ وقد تم إستئناس الأحصنة منذ حوالي خمسة آلاف سنة مضت وذلك لاستخدامها في الركوب‏,‏ وحمل الأثقال‏,‏ وجر العربات‏,‏ وفي غير ذلك من أعمال الانتقال‏,‏ والزراعة‏,‏ والحروب‏,‏ والرياضة‏,‏ وغيرها‏.‏

والحصان حيوان قوي البنية‏,‏ شديد الذكاء بصفة عامة‏,‏ نبيل الطباع‏,‏ قوي الذاكرة‏,‏ له قدرة هائلة في التعرف علي الأشخاص‏,‏ وفي الحكم علي المواقف‏,‏ كما ان له قدرات فائقة‏,‏ علي الشم‏,‏ والسمع‏,‏ وعلي معرفة الاتجاهات والطرق والأماكن وتذكرها حتي بالليل وبعد فترات زمنية طويلة من مغادرتها‏.‏
وبالاضافة الي ذلك فان الحصان حيوان هاديء ورصين‏,‏ ليست له طبيعة عدوانية إلا إذا هوجم بشيء من القسوة‏,‏ وهو يهرب عادة من المواجهة التي يخافها ويقلق لأقل سبب لما له من طبيعة رقيقة‏,‏ ويظهر ذلك عليه بشيء من الوجوم وعدم الحركة ولكن اذا جوبه بالخطر أو اذا سيئت معاملته فإنه يستطيع ضرب عدوه برجليه الاماميتين وبرقبته حتي يطرحه أرضا‏.‏ والحصان له رأس مستطيل‏,‏ تحمل أكبر عينين لحيوان معاصر مقارنة الي حجمه ولذلك فإن الذاكرة البصرية عنده عالية جدا مما يجعله يجفل عند رؤيته لمكان أو لشيء أفزعه من قبل‏,‏ وكذلك فإن ذاكرته السمعية لاتقل حدة عن ذاكرته البصرية‏,‏ مما يدفع بالمدربين للجياد إلي استخدام نفس الجمل‏,‏ ونفس نبرات الصوت في توجيهها‏,‏ بل إن بعض الجياد يمكنها استقراء رغبات راكبيها قبل أن ينطق الراكب بها‏.‏ والجواد فوق ذلك يستشعر الحالة النفسية لراكبه من قلق واضطراب‏,‏ أو ثقة واطمئنان ويتصرف علي أساس من ذلك‏,‏ فإذا اساء الراكب معاملته فإن الجواد يستطيع الانتقام منه بطرق متعددة‏,‏ كما يمكن له أن يعبر عن طاعته لصاحبه‏,‏ وعن وفائه له وثقته فيه وعاطفته تجاهه وذلك بتعبيرات وجهه‏,‏ وحركات أذنيه‏,‏ وإيماءات رأسه‏,‏ أو إظهار أسنانه‏,‏ او العض عليها‏,‏ وبصوته ومختلف نبرات صهيله‏,‏ او بالركل بأرجله الخلفية في تناغم جميل كما يمكنه الاتيان بالعديد من الاعمال التي تعبر عن ذكائه من مثل فتح غطاء صندوق العلف المغلق أمامه‏,‏ او فتح باب الاصطبل الذي يحتجز فيه إذا أراد الخروج منه‏.‏ وتتفاوت قدرات الخيل في ذلك تفاوتا كبيرا حتي ليكاد أن يكون لكل فرد منها شخصيته الخاصة‏,‏ وصفاته المميزة له‏.‏

وللخيل قدرات فائقة علي التلقي والإدراك‏,‏ وعلي التعاطف مع من يعتنون بها‏,‏ أو مع أفراد معينين من أسرة مالكيها‏,‏ كما أن لها القدرة علي كراهية أفراد آخرين والنفور منهم دون سبب واضح‏.‏
ولشدة الحاسة السمعية عند الخيل فإنها تستشعر الهزات الأرضية عند بدء انبثاقها فتهرب منها‏,‏ وذلك قبل ان يدركها الانسان بعدة ساعات‏.‏ وللحصان ثماني عشرة عضلة لتحريك الأذن في‏(180)‏ درجة‏,‏ ولذلك فهو شديد الانتباه إلا في حالات النوم العميق‏,‏ وهذا لايحدث إلا علي فترات قصيرة جدا في كل يوم‏.‏

وبالاضافة الي ذاكرتيها البصرية والسمعية فإن للخيل حاسة شم قوية يتعرف بها كل فرد منها علي رفاقه‏,‏ وعلي أصحابه‏,‏ كما يمايز بها بين طعام صالح أو فاسد‏,‏ وماء عذب أو آسن‏,‏ ووسط نظيف أو قذر‏,‏ وذلك لأن الخيل تأنف من الروائح الكريهة‏,‏ وهذه الصفات كلها‏(‏ وغيرها كثير‏)‏ تشير الي فضائل الخيل بصفة عامة وخيل سليمان‏(‏ عليه السلام‏),‏ بصفة خاصة‏.‏

ثانيا‏:‏ الاشارة إلي أن اللمس يلعب دورا مهما في حياة الخيل‏:‏
تقول الآيات القرآنية الكريمة التي نحن بصددها في وصف تعامل نبي الله سليمان‏(‏ عليه السلام‏)‏ مع خيله مانصه‏:‏
‏...‏ فطفق مسحا بالسوق والأعناق‏(‏ ص‏:33)‏

والدراسات المتأخرة في علم سلوك الحيوان تؤكد أن لمس الإنسان لسيقان الخيل وأعناقها يلعب دورا مهما في تطمينها وإشعارها بالود والمحبة‏,‏ فجلد الخيل من أكثر اجزاء جسده حساسية للمس‏,‏ لدرجة أنها تشعر بالذبابة تحط عليه‏,‏ وتعمل علي طردها بحركة عضلاتها القوية التي تنقبض وتنبسط بسرعة فائقة فتهش الذبابة عن جسمها‏.‏ وأكثر مناطق جسم الحصان حساسية للمس هي سيقانه وعنقه وما حول رأسه لأن لكل حصان نقطة توازن في مركز رأسه وخلف كتفيه‏,‏ ومن هنا كانت الإشارة القرآنية الي فعل سليمان بخيله والتي يقول فيها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):....‏ فطفق مسحا بالسوق والأعناق
ومن مناطق الحس المرهف للحصان كذلك العين والأذن‏,‏ فهو لايحب أن تشد أذنه‏,‏ ولايحب أن ينظر إلي عينه مباشرة أحد غير صاحبه‏,‏ لأنه يشعر أن في ذلك نوعا من التهديد له‏,‏ لأن لكل عين من عيني الحصان جهازا خاصا لتضخيم كم الضوء الواصل إليها باعادة عكسه لعدة مرات علي شبكية العين مما يعينها علي وضوح الرؤية مهما كان الضوء ضعيفا وإن كانت الخيل تنزعج من العتمة الكاملة ولذلك تنشط الخيل في الفجر وعند الغسق‏,‏ وتقلق لرؤية أي عارض ولو من بعيد‏,‏ وتدرك أبسط الحركات أثرا من حولها‏,‏ لأنها تستطيع الرؤية بكل عين منفردة‏,‏ كما أن لها رؤية مزدوجة بالعينين معا في حدود‏(60)‏ إلي‏(70)‏ درجة من الأفق أمامها‏,‏ وبذلك تكاد تغطي الأفق كاملا بالعينين معا وبكل عين منفردة في جهتها‏.‏
ويمكن لراكب الفرس أن يعبر له أو لها بما يشاء عن طريق اللمس‏,‏ كذلك يمكن للفرس أن يتفاهم مع غيره من الأفراس عن طريق لمس جسديهما ببعض

ثالثا‏:‏ الاشارة إلي دور أنثي الخيل في تدبير أمر جماعتها‏:‏
تثبت الدراسات المتأخرة في علم سلوك الحيوان أن الخيل هي حيوانات اجتماعية بطبيعتها الفطرية‏,‏ تحيا منطلقة في البراري في قطعان من أربعة الي عشرة أفراد في المتوسط‏,‏ وان كانت بعض قطعانها قد يصل إلي أكثر من عشرين في العدد‏.‏ وتعتمد كل واحدة من هذه الجماعات علي العائلة التي تضم مهرة واحدة أو مهرتين وأنسالهما حتي أعمار سنتين الي ثلاث سنوات‏,‏ وعلي مهر أو أكثر من مهر واحد في المجموعة‏.‏
والإناث في جماعة الخيل هي الآمرة‏,‏ الحاكمة‏,‏ صاحبة القرار علي باقي افراد القطيع‏,‏ والمهر الذي يصحبه‏(‏ أو المهران أو الأمهار إذا كانوا أكثر من اثنين‏)‏ دوره حراسة القطيع‏,‏ دون ان يكون له دور في القيادة‏,‏ ومن هنا كانت الإشارة في الآيات القرآنية المستشهد بها هنا الي الجياد بالتأنيث‏(‏ الصافنات الجياد‏),‏ ومن العجيب ان تتبادل الإناث في القطيع الواحد قيادة القطيع‏,‏ الواحدة تلو الأخري حتي لاتكون السيادة مطلقة لواحدة منهن‏,‏ بينما في عالم الأناسي من وصل إلي كرسي السلطة لايريد أن يغادره أبدا‏.‏

وأنثي الخيل هي الموجهة الفعلية والمربية الحقيقية لصغارها‏,‏ فإذا أخطأ أحدهم نهرته وعاقبته‏,‏ ويصل العقاب الي حد الطرد من مرافقة القطيع لفترات تطول بنسبة تتوافق مع حجم الجرم المقترف‏,‏ فإذا انتهت مدة العقاب عاد إلي حدود أرض القطيع مستأذنا بالانضمام إليه فاذا واجهته رئيسة القطيع بأنفها كان في ذلك‏,‏ وإذن بعودته للانضمام إلي القطيع‏,‏ وإن قابلته بمؤخرتها كان ذلك رمزا لرفض طلبه‏,‏ واستمرارا للعقوبة عليه فعاد من حيث أتي‏.‏
هذه الإشارات إلي فضائل الخيل في كل من السكون والحركة‏,‏ وإلي خيلائها بما حباها الله‏(‏ تعالي‏)‏ من الذكاء والفطنة والجمال والقدرة علي الادراك‏,‏ وإلي أحساسها المرهف للمس خاصة حول رأسها وعنقها وسيقانها‏,‏ وإلي دور الأنثي في قطعانها‏,‏ هذه كلها من الحقائق التي لم تصل الي علم الانسان إلا بعد اهتمامه بعلوم سلوك الحيوان في القرنين الماضيين علي أحسن تقدير‏,‏ ومن هنا كان ورودها بهذه الدقة والوضوح في القرآن الكريم الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة علي نبي أمي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين لمما يشهد لهذا الكتاب الخالد بأنه لايمكن ان يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ويشهد للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة

‏....‏ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏(‏ الأحزاب‏:4)‏
وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا‏.‏