الكلام فيما لا يعني
د. عمر عبدالكافي
بتصرف من حلقات آفات اللسان
هذه الآفة لا يكاد ينجو منها إنسان، إلا من رحم ربي، وهي الكلام في ما لا يعني، أن يتكلم الإنسان في مالا يعنيه.المشكلة أخوتي وأخواتي في الله أن الإنسان قد يحافظ على ماله لأنه هو الذي يعيشه في هذه الحياة ويجعله يعيش مستوراً أو ينفق منه فقبل أن ينفق من هذا المال، يحسب بدايةً ونهايةً من أين يأتي بهذا المال وأين ينفقه وأين يضع مصارفه لأن ماله يهمه، لكن يبدو أن وقت الناس والزمن والعمر غير واضح عند كثير من الناس ولا يأخذ أهمية عندهم.رأس مال العبد هو وقته، وهذا الوقت إذا أنفقته فيما لا يعنيني، ولم ادخره في ميزان حسناتي، فقد ضيعت رأس مالي. يعني رأس مال الإنسان هو وقته وعمره الذي يستثمره في طاعة الله سبحانه وتعالي، وطالما أن الإنسان يتقي الله رب العالمين فيحاول أن يراجع حساباته في وقته كي لا يضيع إلا في ما يرضى الله سبحانه وتعالى.........
العلماء بارك الله فيهم علمونا أن الإنسان المسلم له تركيز على أمور أربعة: (1)

1. اللفظات 2. النظرات 3. الخطوات 4. الخطرات

والذي يهمني في هذه الأربعة هي اللفظات، لأن اللفظ هو الذي أما يوضع لي في كتاب حسناتي، أو يوضع لي في صفحة سيئاتي، يعني إما أن تخرج الكلمة لتوضع بحسنة، أو توضع لهذه الكلمة سيئة، إن كانت خيراً توضع لها الحسنات، وان كانت غير ذلك، نسـأل الله السلامة، مما يغفل كثير من الناس عنه أنهم ينسون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يقول فيه: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (2). قال وبرة بن عبد الرحمن: أوصاني ابن عباس بكلمات لهن أحسن من الدهم الموقفة، (يعني لو أن عنده نعم خيل مربوطة استعدادا للقتال أو للاقتناء أو غير ذلك والفرس عند العربي له قيمته) قال لي: "يا وبرة، لا تعرض فيما لا يعنيك، فإن ذلك أفضل، ولا آمن عليك الوزر، ودع كثيراً مما يعنيك حتى ترى له موضعاً، فرب متكلم بحق تقي قد تكلم في الأمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعيب، ولا تمارين حليماً ولا سفيهاً؛ فإن الحليم يقليك، وإن السفيه يرديك، واذكر أخاك إذا توارى عنك بكل ما تحب أن يذكرك به إذا تواريت عنه، ودعه من كل ما تحب أن يدعك منه، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجزي بالحسنات مأخوذ بالسيئات (3).

أول هذه الوصايا العظيمة لحبر الأمة عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، ( لا تتكلم في مالا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر)، يقول: هذه أولى الخمس التي يحبها، لا تتكلم في مالا يعنيك، حتى يستطيع إنسان منا أن يكتبها ويضعها حكمة أمامه يراجعها في كل وقت وفي كل حين.

الوصية الثانية: (لا تتكلم في ما يعنيك حتى تجد له موضعاً)، يعني: حتى الكلام الذي يعنيني لا أتكلم إلا إذا وجدت أن هذا موضعاً مناسباً لقوله؛ فإنه رب متكلم في أمر يعنيه فوضعه في غير موضعه فعيب؛ لأنه وضع الكلام في غير موضوعه.

أما الثالثة: (لا تمار حليماً ولا سفيهاً) أي: لا تجادل ونحن قد تحدثنا سابقا عن آفة المراء والجدال، (فلا تمار حليماً ولا سفيهاً؛ فإن الحليم يقليك، والسفيه يؤذيك)، الحليم إذا جادلته ربما يبغضك، والسفيه إذا جادلته يؤذيك بكلام؛ لأنه سفيه لا يقدر الكلمة.

أما الرابعة: (اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به)، يعني: أنت تتمنى أن تذكر عند أخيك بالخير، فكما تتمنى أن تذكر عند أخيك بالخير، اذكر أنت أخاك بالخير.

أما الخامسة: (اعفه مما تحب أن يعفيك منه)، يعني: كم من أناس لهم ذنوب، ولنا نحن ذنوب كثيرة، فكما نتمنى أن يستر الناس عيوبنا، يجب أن نستر نحن عيوب الناس.

الوصية الأخيرة: (عامل أخاك بما تحب أن يعاملك به)، أنت تحب أن يعاملك أخوك بالاحترام وبالتبجيل وبالأدب وبالرفق واللين، فلا تكن فظاً ولا غليظ القلب، ولاتكن نهازاً للفرص، متتبعاً للعورات، باحثاً عن المعايب، تغتنم هذه السوءات، وكأن معك ميكروسكوباً أو عدسة مكبرة، تبحث بها عن عيوب الناس.إن الذباب، أعزكم الله، لا يحط إلا على الجرح والقاذورات، هكذا الذباب، و لكن الإنسان المسلم قد كرمه الله، وجعله أفضل مخلوق على وجه الأرض، فلا يكون أو يسلك في هذه الحياة مسلك الذباب الذي يبحث عن عيوب الناس، يعني: لا تكن كالذباب الذي يضع على العيوب والجروح فقط، استر عيوب الناس؛ فإنه من ستر عورة مسلم ستره الله في الدنيا و الآخرة، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالاحترام.يعني : هذه الأمور الست التي تكلم عنها عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، والله، إنها لتكتب بماء الذهب حتى تصير حكمة للإنسان نصب عينيه. أحيانا الإنسان يأخذه لغو الكلام فيتكلم فيما لا يعنيه ولو راجع نفسه وسكت عن هذا الكلام لن يأثم ولن يعود عليه هذا الكلام بالضرر، فمثلاً تجد إنساناً يعود من سفر معين، فيسأل كيف رأيت في سفرك؟ يقول والله رأيت أنهاراً وغابات ورأيت طبيعة جميلة ورأيت صحارى كذا ورأيت عادات غريبة لهذه البلاد التي زرتها. هو لو سكت عن هذا لن يأثم ولم يعد عليه بالضرر ولكن إذا بالغ في الازدياد فقد يأتي الشيطان ليزيد كلمة هنا، ويكذب في قضيه هنا، ويفاخر في مسألة هنا، ويقول والله لقد تعبنا كثيراً في هذا السفر ولكنني تحملت كذا وكذا ويظهر نفسه أمام الناس أنه كان قوياً وعنده جلد وعنده مروءة وهكذا، هذا الكلام قد يأتي على الإنسان بما يضيع وقته أولاً وربما يخوض في أمور كهذه لا يحبها الله سبحانه وتعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.أيضا من ضمن الأمور التي يحذر منها العلماء: إكثار الأسئلة على الناس دون داعي، يعني مثلاً تزور إنساناً أو تقابل إنساناً في الطريق، ونحن مثلاً في شهر غير شهر رمضان، يا فلان هل أنت صائم؟ فيتحرج هذا الإنسان، يخاف، والله إن قال لك نعم فهو يخاف على نفسه الرياء، لأنه بهذا أظهر عبادةً كان يعبد الله، بينه وبين ربه سبحانه وتعالى لا يريد أن يظهر أحد عليها فربما أدخلت أنت عليه الرياء في هذه المسألة، إن قال لك لا وهو صائم ولا يريد أن يظهر يعني أنه صائم كي لا يضيع ثوابه، يظن أن إذا قال نعم فقد ضاع ثوابه، يقول لك لا لست صائما فتكون بالتالي أنت ألجأت أخاك إلى الكذب، هو أولاً إذا قال لك صائم كشفت سره الذي يريد أن يعبد الله به سراً، وإن قال لك لا لكي يستر عبادته بينه وبين ربه فقد ألجأته أنت للكذب. وإن سكت ولم يجبك أنت تستشعر أنه يحتقرك ولا ينفعل معك ولا يرد عليك، أو ربما يحاول أن يجد كلمات ليخرج بها من هذه الورطة في السؤال.كما تذهب بعض الأخوات لزيارة أخواتهن فتجلس مثلاً عندها وتقول لها بكم هذه الطاولة؟ بكم هذه المنضدة؟ بكم هذه النجفة؟ بكم هذا الكرسي؟ أو هذا الذي نجلس عليه مثلاً أو هذه السجادة أو أي أثاث من الأثاث، أو بكم هذه الساعة التي في يدك؟ فهنا تحرج الأخت من أختها أو صديقتها، أو يحرج الأخ من سؤال أخيه، ربما جاءته هديه وربما لا يريد أن يقول هكذا وربما أهداها إليه أبوه أو أبوها أو أمها أو غير ذلك، فعندئذ يبدأ في الاضطرار إلى إجابات، نعم اشتريناها في مناسبة معينه، فيلح الضيف في المسألة: وبكم؟ وأين؟ وهل كانت في موسم التخفيضات؟ أم كانت في غير ذلك؟ فهذا كله مما لا يعني الإنسان. الكلام الأخطر من هذا إذا تاب الله على إنسان كان مشهوداً له بأنه كان يجاهر في المعصية ثم عافاه الله عز وجل وتاب عليه، فيقول له قص علينا أيام الفوضى وأيام الانحراف وأيام المعاصي، ماذا كنت تصنع؟ وماذا كنت تفعل في كذا وكذا؟ طالما أن الله قد عافاه فلا يجب عليك أبداً أن تذكره بهذه المرحلة التي ربما هو يريد أن ينساها ولا يريد أبداً أن يذكر هذه المرحلة التي كانت في حياته، هو فتح صفحة جديدة مع ربه ومع نفسه وبدأ في العبادة الحقة ودخل في مرحلة التوبة وصار من التائبين القريبين من الله عز وجل فلا داعي لأن تلجأه لمثل هذا الأمر.أحياناً نحن نتعجل بالأسئلة وربما لو سكتنا لجاءتنا المعلومة دون أن نسأل، ولو تعود الإنسان الصمت لجاءته كل المعلومات دون أن يدخل نفسه في حرج.
علاج آفة الكلام فيما لا يعني

كثير من الناس يلقون علينا أسئلة يقولون كيف نتخلص من هذه الورطة، كيف نتخلص من هذه الآفة، آفة الكلام فيما يعني كيف أتخلص منها؟

أولاً أعرف أن الشهيق والزفير هو رأس مالي، فإذا عرفت أن شهيقي و زفيري محسوب علي إذا تكلمت وإذا سكت، فلأحسب أيهما أفضل أأسكت أم أتكلم، أكيد السكوت يعني خير لأن كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا ما كان عالماً أو متعلماً أو ذاكراً أو محباً له، يعني: إما عالم أو متعلم أو ذاكر لله أو من يسأل أهل العلم كي يعرف وكي يتفقه، أما غير ذلك فكل الأمور التي نتكلم فيها قد تكون علينا، لذلك ربما يتكلم العبد بالكلمة لا يلقي لها بالاً بلغت من سخط الله عز وجل أنها هوت به سبعين خريفا في النار والعياذ بالله رب العالمين. ففي الحديث:" إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفع الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوى بها في جهنم" (4). فلعلاج هذه الآفة أقول: إن عمري هو أكبر أو أهم شيء أو رأس مالي الأساسي فلا أضيعه. وأن القضية أن الإنسان إما أن يحاول الاعتزال قدر الاستطاعة أو يعود من يجلس معه ألا يخوض في الكلام ولا يخوض في الحوار ولا يخوض في الحديث إلا إذا انتدب لذلك أو رأى أن الكلمة سوف تخرج لتقع بها الفائدة عند الآخرين، طبعا نحن في زمن تموج الحياة ولا يستطيع الإنسان أن يعتزل الناس يعني ينكر بقلبه إن رأى معصية ولم يستطع أن يغيرها، ينكر بقلبه إذا رأى أو كان في موقف لا يستطيع أن يتكلم إما لضعفه أو يخاف على نفسه أو على ماله أو على أسرته أو غير ذلك وهو يقيس الأمور، لكن لو عود نفسه قلة الكلام عندئذ سوف يكون من الذين لا يتكلمون بما لا يعنيهم.ولذلك دخل أحد الصالحين على السري السقطي، رحمه الله، فوجده يستف خبزاً قد طحنه، ويسفه، ويقول له: لم لا تتركه وتمضغه؟ قال: ما بين الاستفاف والمضغ، (يعني: ما بين أن أسف و ابتلع سريعاً والمضغ) قراءة خمسين آية (5). إذا هو عنده الوقت مهم جداً،عنده مسألة الوقت مسألة لا يضيعها، فهؤلاء هم الذين سعدوا في الدنيا والآخرة وأمسكوا ألسنتهم عما لا يعنيهم.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتوب علينا من كثير الكلام وسخط الكلام ولغو الكلام إن ربنا على ما يشاء قدير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 )- انظر :"إحياء علوم الدين" ( 3/37-48).

2 )- حسن قال العجلوني في"كشف الخفا" (2/377):" رواه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة ورواه أحمد عن الحسين بن علي.

3 )- "شعب الإيمان" للبيهقي (4/262)، و"الترغيب والترهيب" (3/342).

4 )- رواه البخاري في "صحيحه" (5/2377) رقم (6113) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.

5 )- انظر "حلية الأولياء" (10/110).