محبة الله عز وجل:



قد سبق لك أسباب المحبة، وأن كل سبب منها يوجب المحبة على انفراده، وإن كان بعضها أقوى من بعض. فإذا أمكن أن تجتمع هذه الأسباب كلها في شيء واحد، وجب أن تكون محبته أتم أنواع المحبة وآكدها وأشدها، ولا يتصور ذلك على الحقيقة إلا في الله تعالى، كما ستعلم:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}[البقرة: ١٦٥]. فإذا نظرت بعين التحقيق وصادفك نور التوفيق، وجدت كل سبب من الأسباب المتقدمة يقضي عليك بحب الله تعالى، بل إذا دققت النظر وأمعنت الفكر، ورقَّت كثافة حجابك وعلوت عن أرض طبيعتك، وترقيت عن درجة المحسوسات التي يشاركك فيها جميع الحيوانات، إلى أفق قلبك، وأشرقت عليك شمس بصيرتك، وجدت المستحق للمحبة على الحقيقة إنما هو الله تعالى دون غيره.

فإذا كان الإحسان يقتضي محبة المحسن، فلا إحسان كإحسانه تعالى {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}[إبراهيم: ٣٤]. فإحسانه عليك في إفاضة وجودك، وإعطائك ضرورياتك وحاجياتك وكمالياتك: من عقلك، وسمعك، وبصرك، وذوقك، وجميع حواسك، وصفاتك الظاهرة والباطنة، وأنواع النعم الخارجة عن ذاتك، مما تندفع به ضرورتك، أو تزول حاجتك، أو تتم به لذتك - هذه الإحسانات الفائضة، والمنن المتواترة، لا تكاد تحصى أصنافها فضلا عن جزئياتها. ولو نظرت إلى نعمه المودعة في الهواء أو الماء، أو نور الشمس والقمر، وخلق الليل والنهار، لانقطعت أثناء سيرك ولم تفز إلا بقدر يسير منها، بل لا إحسان في الحقيقة إلا له تعالى، فإن من أنعم عليك من الخلق بشيء فإنما يقصد نفع نفسه بارتفاع الصيت وجميل الثناء أو حسن الجزاء، فهو في الحقيقة بائع أخرج من يده شيئًا ليعتاض عنه ما هو أعز منه عنده عاجلا أو آجلا.

ولا يتصور الإحسان الحقيقي الذي لا يقصد به عوض إلا من الله تعالى. على أنه هو الذي سخر لك قلب ذلك المحسن، وأودع فيه محبتك، أو الشفقة عليك، أو رجاء الخير من الله، أو من الناس بمساعدته إياك. ولو شاء لعكس كل ذلك وصرف قلبه عنك، وألقى في روعه ما ينفره منك (والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن).

فإن كنت تحب أحدًا لأجل إحسانه فاعرف المحسن الحقيقي؛ ولا يكن نظرك كنظر الحيوان يحب سائسه الذي يقدم له العلف، ولا يحب مالكه الذي أمر السائس وأعطاه على ذلك أجرًا.

وإن كنت تحب وجود نفسك وبقاءها وكمالها، فأحب من أعطاك ذلك كله من غير أن تسأله. بل كان في تدبيرك من قبل وجودك، وقد أعطاك من كمال الخلقة الظاهرية والباطنية ما لا يمكنك أن تهتدي إليه حتى تطلبه منه.

وإن كنت تحب أحدًا من أجل صفاته الجليلة ونعوته الجميلة كما تحب الملوك العاملين أو الفضلاء الكاملين وإن لم ترج خيرهم والانتفاع بهم، فأحب خالق الكمال والجمال الذي تنزه عن كل نقص، واتصف بكل صفات الكمال، والتي لا يصل إليها العلم، ولا يحيط بها العقل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».

وإن كل من تحبه لهذا السبب فإنما تحبه لصفات معدودة وكمالات محدودة. فلتكن واسع النظر، نافذ البصيرة، عالي الهمة، عظيم العلم، كبير الفهم، حتى تحب من لا تعد صفاته، ولا تنتهي كمالاته. وأنت مستعد لإدراك الجمال المعنوي والكمال الإلهي، وهي خاصتك التي امتزت بها عن سائر الحيوان. وعلى قدر ذلك تلتحق بالملائكة ويتحقق فيك روح الإنسانية.

وكل من بطلت فيه خاصة نوعه فليس في الحقيقة من ذلك النوع؛ لأن النوع لا يوجد بدون خاصته على الحقيقة، فهيج من نفسك الشوق إلى تلك المعارف التي هو ألذ من كُلِّ شيء، ولا تُمت تلك الحاسة الباطنية التي هي أعلى حواسك وأشرف مزاياك.

فلذة العلم عند ذويها فوق اللذائذ كلها؛ لأنها لا توجد إلا في سماء الإنسانية دون أرض الحيوانية. واللذائذ مرتبة على حسب درجات العوالم، ولذة العلم بعد ذلك على قدر ما تدرك من شرف المعلوم. فليس علمك بأسرار الملِك وشؤونه في مملكته كعلمك بأحوال رجل من السوقة. فإذًا يكون العلم بأشرف المعلومات ألذ العلوم، وليس هناك أجل من الله تعالى الذي لا يثني عليه حق ثنائه غيره، ولا يحيط بكماله سواه.

فطهر قلبك من أدناس الرذائل كلها، وهيئه لغرس تلك المحبة التي هي أتم اللذات وأكبر السعادات؛ وهي مطلب قلبك لو كان باقيًا على صحته، ومأرب روحك لولم تتشعب بها الطرق وتظلها الأهواء {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلا قَلِيلاً}[الإسراء: ٨٥].

هذا ويجمل بك ها هنا أن تعرف أن المحبة أنجع وسيلة إلى تهذيب الأخلاق وتكميل النفوس، بل إن شئت فقل إنها تقلب الطباع وتغير الحقائق: فتجعل الشحيح من أسخى الأسخياء، والجبان من أشجع الشجعان. فإذا اتفق لك أنك وصلت إلى حد الكمال في محبة الله تعالى ومحبة رسوله ومحبة الكاملين من أمته، سارعتْ إليك الكمالات، وترادفت عليك الخيرات، وانطبعت في مرآة قلبك صفاتهم، فتبدلت منك الرذائل بالفضائل. وعلى قدر المحبة يكون انطباع صفات المحبوب في نفس المحب.

وناهيك بمن وصل إلى تلك الدرجة من محبة الله تعالى ومحبة رسوله: كيف تترادف عليه البركات، وتغمره الفيوضات، فيستحق من الكرامة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

واذكر هنا قوله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب». واعرف شرف تلك المعية وما لذويها من الدرجة العلية. فالحب أكبر وسيلة من وسائل الخير والكمال.

كما أنه أعظم ذرائع الفساد إن تعلق بغير ذلك. فهو ترياق نافع، وسم ناقع، على حسب ما يتعلق به من المحبوبات. ويكفيك هذا التلميح. والله يتولى هداك.


بقلم الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي