(118)..‏ أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت‏*‏
‏*‏ الغاشية‏:17*‏
بقلم د. زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في نهاية الثلث الثاني من سورة الغاشية‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها ست وعشرون‏(26)‏ بعد البسملة‏,‏ ويدور محورها الرئيسي حول عدد من مشاهد الآخرة‏,‏ ومآل كل من الكفار والمشركين‏,‏ والطغاة المتجبرين فيها من جهة ـ ومصير كل من عباد الله الصالحين في جنات النعيم من جهة أخري‏.‏
وللتأكيد علي حتمية ذلك أوردت السورة الكريمة عددا من الآيات الكونية الدالة علي حقيقة الألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة للخالق العظيم الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته‏,‏ وخلق كلا من الجن والإنس لعبادته وطاعته وذلك بما أمر به‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ من عبادة‏,‏ وحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها والجهاد من أجل إقامة عدل الله فيها‏.‏ وتطالب السورة الكريمة النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بتذكير الخلق أجمعين وتبصيرهم بحقيقة الدين ومن أصوله فهم رسالة الانسان في هذه الحياة‏,‏ والتصديق بحتمية الموت والبعث والحساب ثم الخلود في حياة قادمة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏,‏ وأن يتم هذا التذكير ـ كما تم علي عهد السابقين من أنبياء الله‏,‏ والذين تكاملت رسالاتهم جميعا في بعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم ـ بغير ضغط ولا إكراه‏,‏ لأن أصلا من أصول الاسلام العظيم هو قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقي لا انفصام لها والله سميع عليم‏(‏ البقرة‏:256)‏

عرض موجز لسورة الغاشية
تبدأ السورة الكريمة بتوجيه الخطاب إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ له‏:‏
هل أتاك حديث الغاشية‏(‏ الغاشية‏:1)‏
و‏(‏الغاشية‏)‏ اسم من أسماء القيامة التي تغشي الناس بأهوالها فتنسيهم كل شئ‏,‏ وتجللهم بأفزاعها فتعميهم وتصرف أنظارهم عن أي شئ آخر‏,‏ وكان المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ اذا سمع هذه الآية الكريمة يجيب بقوله الشريف‏:‏ نعم قد جاءني مما يؤكد ان الخطاب موجه في الأصل الي هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ ومن ثم فهو خطاب الي الناس جميعا‏,‏ فالتحذير من القيامة ـ التي وصفها القرآن الكريم بأسماء عديدة منها الغاشية والقارعة‏,‏ والطامة‏,‏ والصاخة ـ هو جزء رئيسي من رسالة القرآن الكريم الي الخلق أجمعين‏,‏ وقد كان كذلك في كل رسالة سماوية نزلت قبل نزول القرآن الكريم انذارا للناس‏,‏ وتحذيرا لهم من هول تلك المفاجأة‏,‏ واحياء لها في قلوب وعقول وضمائر الناس حتي لايغفلوا عنها ويعملوا لها قبل ان يفاجأوا بوقوعها‏.‏

ثم تعرض الآيات بمشهد من مشاهد العذاب لأهل النار من الكفار والمشركين‏,‏ والطغاة المتجبرين‏,‏ والفسقة المفسدين في الأرض فتقول‏:‏
وجوه يومئذ خاشعة‏*‏ عاملة ناصبة‏*‏ تصلي نارا حامية‏*‏ تسقي من عين آنية‏*‏ ليس لهم طعام إلا من ضريع‏*‏ لايسمن ولايغني من جوع‏*(‏ الغاشية‏:2‏ ـ‏7)‏

وفي هذه الآيات الست التي عجلت السورة فيها بمشهد العذاب اتساقا مع جو الغاشية تصف وجوه المعذبين من الكفار والمشركين‏,‏ والظلمة والمفسدين في الأرض بأنها سوف تكون خاشعة من الذل‏,‏ والارهاق‏,‏ والتعب‏,‏ والخزي‏,‏ والهوان‏,‏ لأن الخشوع فيه تذلل وانكسار‏,‏ وتنكيس للرأس وتخفيض للصوت سواء كان هذا الخشوع تقربا الي الله‏(‏ تعالي‏)‏ او خشية من سوء العاقبة عنده خاصة عند مواجهة الحق في يوم القيامة‏,(‏ والعمل والنصب‏)‏ اللذان توصف بهما وجوه المعذبين من خلق الله يوم الغاشية قد يكون في الدنيا كما قد يكون في الاخرة‏,‏ ففي الدنيا يتعب غير الموفقين من الخلق في الجري وراء الدنيا ومادياتها وشهواتها‏,‏ ناسين او متناسين الآخرة فتشقيهم وتشقي بهم‏...‏ وذلك في الدنيا قبل الآخرة‏,‏ ثم تشقيهم اكثر في الآخرة حين يواجهون بعذاب الله فيقفون فيه موقف الخاسر الذليل ـ الذي خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين‏,‏ وعذاب النار فيه من مشاق العمل مافيه من حمل الأغلال‏.‏ وجر السلاسل‏,‏ والاكتواء بالنار الحامية‏,‏ والخوض في ظلماتها‏,‏ ومايصاحب ذلك كله من عمل ونصب‏,‏ والشرب من عين شديدة الحرارة بلغت أناها أي غاية حرها‏,‏ والأكل من الضريع الذي ليس لهم في النار غيره‏,‏ وهو من نبت جهنم‏,‏ وهو من الغيوب المطلقة التي لايعلمها إلا الله‏(‏ تعالي‏)‏ وان قربوها في التشبيه بنوع من الشوك اللاطئ بالأرض ترعاه الإبل وهو أخضر غض‏,‏ ويسمي‏(‏ الشبرق‏)‏ فاذا تم جمعه ويبسه صار اسمه‏(‏ الضريع‏)‏ وهو مادة سامة كاملة‏,‏ وذلك تقريبا للمعني في أذهان اهل الدنيا لأن الآخرة لها من السنن والقوانين مايغاير سنن الدنيا مغايرة كاملة‏,‏ وعلي ذلك فان أطعمة أهل النار من مثل الضريع‏,‏ والغسلين‏,‏ والزقوم والغساق وغيرها من صفاتها أنها‏..‏ لاتسمن ولاتغني من جوع إمعانا في تقريب لون من ألوان عذاب الآخرة الي عقول وأذهان أهل الدنيا فيحذرونه قدر الجهد والطاقة‏.‏

وفي مقابلة هذا الذل والهوان والعذاب والشقاء لأهل النار تعرض الآيات لشئ من جزاء أهل الايمان والتوحيد والتقي والصلاح فتقول‏:‏
وجوه يومئذ ناعمة‏*‏ لسعيها راضية‏*‏ في جنة عالية‏*‏ لاتسمع فيها لاغية‏*‏ فيها عين جارية‏*‏ فيها سرر مرفوعة‏*‏ وأكواب موضوعة‏*‏ ونمارق مصفوفة‏*‏ وزرابي مبثوثة‏*‏
‏(‏ الغاشية‏:8‏ ـ‏16)‏

وفي هذه الآيات التسع تصف سورة الغاشية جانبا من نعيم أهل الجنة فتصف وجوههم بأنها ذات حسن وبهجة‏(‏ من النعومة‏)‏ وذات رضي عن النعيم الذي أكرمها‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ به في الجنة‏(‏ من التكريم والتنعيم‏)‏ وليس أرضي للعبد من أن يستشعر رضي الله‏(‏ تعالي‏)‏ عنه بمعيته في الدنيا‏,‏ وباسباغ نعمه عليه في الآخرة‏,‏ ومن ثم فإن هذه الآيات الكريمة من سورة الغاشية تقدم هذا اللون من السعادة الروحية‏.‏ علي النعيم المادي في الآخرة‏,‏ فتقدم الرضي الروحي والنفسي والقلبي للعبد الصالح عن سعيه في الدنيا علي نعيم الجنة التي فيها مالاعين رأت‏,‏ ولا أذن سمعت‏,‏ ولا خطر علي قلب بشر‏,‏ ولكن من قبيل تقريب هذا النعيم الي تصورات أهل الأرض تصفه الآيات بعلو الجنة في ذاتها‏,‏ وفي قدرها‏,‏ وفي تعدد درجاتها ومقاماتها‏,‏ كما تصفه بهذا القدر الهائل من الشعور بالسلام والاطمئنان‏,‏ والسكون والهدوء الذي ينعم به أهل الجنة‏,‏ وفيها من التنزه عن كل لغو مما لافائدة منه ولا خير فيه من الأقوال والأفعال‏,‏ وعن كل باطل وقبيح منهما‏,‏ مما يجعل العيش فيها من صور النعيم المقيم الذي يضئ الله‏(‏ تعالي‏)‏ به علي عباده الصالحين في الجنة‏,‏ بعد صخب الدنيا وضجيجها‏,‏ وماامتلأت به من صور اللغو الباطل والقبيح والجدل العقيم العابث واللجاجة الفارغة‏,‏ والصراع الدائم‏,‏ والزحام‏,‏ والخصام‏,‏ وذلك من الدعوة لأهل الله في الأرض ان يتشبهوا فيها بأهل الجنة فينأون بأنفسهم عن كل مالاخير فيه من الأقوال والأفعال حتي يتميزوا علي أهل الباطل بمختلف أشكاله وألوانه‏.‏

ثم تأتي الآيات بعد ذلك بعدد من صور التنعيم الحسي لأهل الجنة في الجنة فتصفها بأن فيها من العيون والينابيع المتدفقة الجارية التي تنبض بالحياة‏,‏ وبالعديد من المتع الحسية والمعنوية ماتحمله المياه لأهل الصحاري الجافة القاحلة‏,‏ وفيها من السرر المرفوعة مايوحي بالنظافة والطهارة‏,‏ وبرفعة القدر عند الله‏,‏ ومن الأكواب الموضوعة مايشي بالتكريم والتعظيم لأنها مهيأة لشرابهم‏,‏ موضوعة بين أيديهم علي حواف العيون والينابيع المتدفقة بماء الجنة لايحتاجون إليها في طلب أو إعداد‏,‏ وفيها من وسائل التكريم أيضا النمارق المصفوفة وهي الوسائد والحشايا التي تصف بعضها الي جانب بعض للاتكاء والارتياح عليها‏,‏ والزرابي المبثوثة وهي الطنافس العراض السميكة الفاخرة‏(‏ السجاجيد والبسط ذات الخمل أي الهدب الرقيقة التي تبقي فوق النسيج للمزيد من راحة الجالس عليها‏)‏ وهي مبسوطة أو مفرقة في المجالس للراحة وللزينة سواء‏,‏ وواحدة‏(‏ الزرابي‏)‏ الزرب هي‏(‏ الزربي‏)‏ أو‏(‏ الزريبة‏).‏
وهذه الأوصاف والنعوت من قبيل تقريب مافي الجنة الي أذهان أهل الأرض‏,‏ وإلا فإن للجنة من الصفات والنعوت مالاعين رأت‏,‏ ولا أذن سمعت‏,‏ ولا خطر علي قلب بشر‏,‏ وللنار من النعوت أيضا مالاتقوي عقول أهل الأرض علي إدراكه‏.‏

ثم تنتقل الآيات في سورة الغاشية من وصف أحوال كل من أهل النار‏,‏ وأهل الجنة في الآخرة الي الاستشهاد بعدد من آيات الله‏(‏ تعالي‏)‏ في خلقه للتأكيد علي حتمية الاخرة ومافيها من البعث والرجوع الي الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ والعرض الأكبر عليه‏,‏ والحساب والجزاء‏,‏ ثم الخلود في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏.‏
أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت‏*‏ وإلي السماء كيف رفعت‏*‏ وإلي الجبال كيف نصبت‏*‏ وإلي الأرض كيف سطحت‏*‏
‏(‏الغاشية‏:17‏ ـ‏20)‏

وفي هذه الآيات الأربع من الأدلة المادية الملموسة ماينطق بطلاقة القدرة الإلهية المبدعة‏,‏ ويشهد للإله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولاشبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولاصاحبة‏,‏ ولا ولد‏),‏ كما يشهد له‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بالقدرة المطلقة علي إفناء خلقه وعلي إعادة بعثه كما وعد بذلك‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وكانت قضية البعث عبر التاريخ هي حجة الكافرين والمتشككين الذين أضلهم عن الحق الوقوع في جريمة القياس بمعايير البشر المحدودة علي قدرات الله المطلقة واللامحدودة‏,‏ انطلاقا من تشويه معني الألوهية في معتقداتهم الفاسدة‏,‏ وحصره في صنم ينحتونه بأيديهم‏,‏ أو وثن يتخذونه لعبادتهم‏,‏ أو بقرة أو كوكب أو نجم أو نار يعبدون أيا منها أو يشركونها في عبادة الله الخالق‏,‏ أو طفل رضيع يبكي ويضحك‏,‏ وينام ويصحو‏,‏ ويأكل ويشرب‏,‏ وله من باقي صفات البشر ماله‏,‏ والله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ منزه عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لايليق بجلاله‏:‏
‏...‏ ليس كمثله شئ وهو السميع البصير‏*(‏ الشوري‏:11)‏

وانطلاقا من هذا الكفر أو الشرك بالله أنكر المنكرون البعث أو تشككوا في إمكانية وقوعه‏.‏ ولذلك أورد ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في سورة الغاشية كما أورد في العديد من آيات القرآن الكريم الاشارة الي اتقان الخلق في كل أمر من أمور الكون ومكوناته مما يشهد لله‏(‏ تعالي‏)‏ بطلاقة القدرة في الخلق‏,‏ وبأنه كما أتقن كل شئ خلقه‏,‏ فهو‏(‏ سبحانه‏)‏ قادر علي افنائه وعلي إعادة بعثه‏.‏
وهذه الآيات الكونية الأربع التي تعرضها سورة الغاشية كانت متوافرة في بيئة الصحراء العربية حيث أنزل القرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة‏,‏ ولايزال مافيها من إبداع الخلق‏,‏ واتقان الصنعة‏,‏ ومن الاعجاز وطلاقة القدرة شاخصا أمام أعين أهل العلوم والتقنية في زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه‏,‏ وأمام بقية حواسهم وعقولهم إذا أحسنوا توظيفها في دراسة خلق الله بشئ من الموضوعية والحيدة‏.‏

فالإبل كانت ـ ولاتزال ـ من الحيوانات الأساسية في البيئة الصحراوية لأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد زودها بقدر من الصفات البدنية والتشريحية والوظائفية التي تميزها عن غيرها من الحيوانات الثديية المشيمية‏(PLACENTALMAMMALS)‏ بصفة عامة‏,‏ وعن كل من الأبقار والغزلان والزرافات التي يضعها علماء تصنيف الحيوان مع الجمال في مجموعة واحدة تعرف باسم مجموعة الحيوانات الثديية المشيمية المجترة‏RuminantPlacentalMammals‏ بصفة خاصة أو مايسمي باسم ذوات الحافر مزدوج الأصابع‏(Even`ToedUngulates=Artiodactyla‏ كذلك فإن في رفع السماء بغير عمد مرئية‏(‏ أو بعمد غير مرئية‏)‏ قد شغل بال الناس منذ القدم خاصة أهل الصحاري الذين تساءلوا دوما عن رفعها‏,‏ وعن ضرورة ان يكون لها رافع مبدع له من العلم والحكمة والقدرة ما مكنه من تحقيق ذلك‏,‏ وأن الذي رفعها قادر علي هدمها وعلي إعادة بنائها من جديد‏.‏
وللجبال في شموخها‏,‏ وارتفاعها‏,‏ وانتصابها فوق سطح الأرض مايشهد لله الخالق بطلاقة القدرة لأن جذورها تطفو في نطاق الضعف الأرضي الموجود تحت الغلاف الصخري للأرض مباشرة‏,‏ وتحكمها في ذلك قوانين الطفو فكلما أخذت عوامل التعرية من قممها ارتفعت جذور الجبال الي أعلي حتي تخرج من نطاق الضعف الأرضي بالكامل فيتوقف الجبل عن الحركة حتي تبريه عوامل التعرية بالكامل وتسويه بسطح الأرض‏.‏ وفي هذه العملية من الضوابط المحكمة مايشهد لله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بطلاقة القدرة‏,‏ وبديع الصنعة‏,‏ وإحكام الخلق‏.‏

ثم تأتي الاشارة الي كيفية تسطيح الأرض‏(‏ وإلي الأرض كيف سطحت‏*),‏ والعلوم المكتسبة تؤكد أن الأرض في مرحلة من مراحل بدء خلقها كانت معقدة التضاريس‏,‏ وذات وعورة شديدة‏,‏ لا تسمح للحياة أن تزدهر علي سطحها ثم سخر الله‏(‏ تعالي‏)‏ مختلف عوامل التعرية من المياه الجارية‏,‏ والرياح السافية‏,‏ والجاذبية الأرضية الحاكمة ماساعد علي شق الفجاج والسبل‏,‏ وتسوية القمم السامقة إلي السهول المنبسطة‏,‏ وتشكيل التلال والهضاب‏,‏ وتكوين التربة‏,‏ وخزن المياه في صخور الأرض‏,‏ وتركيز الخامات‏,‏ وتدفق الأنهار‏(‏ وغيرها من المجاري المائية‏)‏ إلي البحار والمحيطات‏,‏ وتكوين الشواطئ والسفوح والمنحدرات‏,‏ وكلها من وسائل تسوية سطح الأرض‏(‏ أي تسطيحها‏)‏ وهي من العمليات اللازمة لجعل الأرض صالحة للعمران بكل من النبات والحيوان والإنسان‏,‏ والشاهدة لله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بطلاقة القدرة علي ابداع الخلق‏,‏ وعلي افنائه‏,‏ وإعادة خلقه من جديد‏(‏ أي بعثه‏).‏
وبعد هاتين الجولتين في كل من عالمي الآخرة والدنيا‏,‏ تختتم سورة الغاشية بتوجيه الخطاب الي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

فذكر إنما أنت مذكر‏*‏ لست عليهم بمصيطر‏*‏ إلا من تولي وكفر‏*‏ فيعذبه الله العذاب الأكبر‏*‏ إن إلينا إيابهم‏*‏ ثم إن علينا حسابهم‏*‏
‏(‏الغاشية‏:21‏ ـ‏26)‏

وفي ذلك تحديد لدور الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ـ وهو دور كل نبي وكل رسول جاء قبله ـ ألا وهو التذكير بالله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وبضرورة الخضوع له بالطاعة والعبادة وبحقيقة الآخرة وما فيها من بعث وحساب وجنة ونار وثواب وعقاب‏,‏ والتذكير ببديع صنع الله‏(‏ تعالي‏)‏ في خلقه‏,‏ والاستدلال بما في عالم الشهادة من آيات الاحكام والابداع في الخلق علي مافي عالم الغيب من بعث وحساب وعقاب وثواب‏.‏
وبذلك يتحدد دور أنبياء الله ورسله في تبليغ الخلق بحقيقة الدين الذي يقرر القرآن الكريم بأنه لاإكراه فيه‏:‏

لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقي لاانفصام لها والله سميع عليم‏(‏ البقرة‏:256)‏
ومن هنا جاء الخطاب إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ لست عليهم بمصيطر‏*‏ أي أنك لاتملك من أمر القلوب شيئا فتقهرها علي الإيمان بالله‏,‏ فليس عليك إلا البلاغ المبين‏,‏ والهداية نعمة من رب العالمين يمن بها علي من يشاء من عباده بناء علي مايعلمه بعلمه المحيط من خير فيه أو شر‏.‏
وهنا يخلط كثير من الناس بين حقيقة ان الدين لابد وان ينبع عن قناعة قلبية وعقلية كاملتين دون أدني إكراه أو إجبار‏,‏ وبين الجهاد في سبيل الله الذي فرض لرفع الظلم عن المظلومين‏,‏ ولدفع العدوان علي بلاد المسلمين‏,‏ ولإزالة العقبات من وجه الدعاة الي الله من أجل تبليغ الناس بدين الله دون إكراه أو اجبار‏,‏ وبذلك يتحدد دور كل الأنبياء والمرسلين‏,‏ ودور خاتمهم أجمعين‏(‏ عليه وعليهم من الله تعالي أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏)‏ ودور كل داعية الي دين الله من بعدهم وبعده‏,‏ ولكن من تولي عن الايمان‏,‏ ورفض التسليم بأن القرآن الكريم هو وحي الله الخاتم‏,‏ وبأن النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه هو آخر أنبياء الله ورسله‏,‏ وأنه ليس من بعده‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ من نبي ولا من رسول‏,‏ وأن عدم الايمان به وببعثته الشريفة‏,‏ وبرسالته الخاتمة هو كفر بكل رسالات السماء‏,‏ وبالله الذي أرسلها علي فترة من الأنبياء والمرسلين‏,‏ وأتمها وأكملها وختمها في رسالته الخاتمة ممثلة في القرآن الكريم وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏),‏ كل من كفر بذلك فحسابه علي رب العالمين يعذبه العذاب الأصغر في الدنيا‏,‏ ثم العذاب الأكبر في الآخرة‏,‏ لأن الرجوع الي الله‏(‏ تعالي‏)‏ أمر حتمي‏,‏ لامفر منه‏,‏ ولاحيود عنه‏,‏ وكذلك حساب الله‏(‏ تعالي‏)‏ لخلقه بعد البعث‏,‏ وجزاؤه لهم بالخلود في الجنة ابدا أو في النار ابدا كما أخبرنا الصادق المصدوق‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وبذلك تختتم سورة الغاشية بحقيقة من أعظم حقائق الوجود يقررها الله‏(‏ تعالي‏)‏ بقوله الحق‏:‏
إن إلينا إيابهم‏*‏ ثم إن علينا حسابهم‏*‏
‏(‏الغاشية‏:26,25)‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
أفلا ينظرون إلي الأبل كيف خلقت‏*(‏ الغاشية‏:17)‏
‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ مامختصره‏:‏ يقول تعالي آمرا عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة علي قدرته وعظمته‏:(‏ أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت‏)‏؟ فإنها خلق عجيب وتركيبها غريب‏,‏ فانها في غاية القوة والشدة‏,‏ وهي مع ذلك تنقاد للقائد الضعيف‏,‏ وتؤكل‏,‏ ويشرب لبنها‏,‏ وينتفع بوبرها‏,‏ ونبهوا الي ذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل‏...‏

وجاء في الظلال‏(‏ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة‏)‏ مايلي‏:...‏ والإبل حيوان العربي الأول‏,‏ عليها يسافر ويحمل‏,‏ ومنها يشرب ويأكل ومن أوبارها وجلودها يلبس وينزل‏.‏ فهي مورده الأول للحياة‏,‏ ثم ان لها خصائص تفردها من بين الحيوان‏,‏ فهي علي قوتها وضخامتها وضلاعة تكوينها ذلول يقودها الصغير فتنقاد‏,‏ وهي علي عظم نفعها وخدمتها قليلة التكاليف‏.‏ مرعاها ميسر‏,‏ وكلفتها ضئيلة‏,‏ وهي أصبر الحيوان المستأنس علي الجوع والعطش والكدح وسوء الأحوال‏...‏ لهذا كله يوجه القرآن أنظار المخاطبين الي تدبر خلق الإبل‏,‏ وهي بين أيديهم‏,‏ لاتحتاج منهم الي نقله ولا علم جديد‏..‏ أفلا ينظرون إلي خلقتها وتكوينها؟ ثم يتدبرون‏:‏ كيف خلقت علي هذا النحو المناسب لوظيفتها‏,‏ المحقق لغاية خلقها‏,‏ المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعا‏!!‏ إنهم لم يخلقوها‏,‏ وهي لم تخلق نفسها‏,‏ فلا يبقي إلا أن تكون من إبداع المبدع المتفرد بصنعته‏,‏ التي تدل عليه‏,‏ وتقطع بوجوده‏,‏ كما تشي بتدبيره وتقديره‏.‏
‏*‏ وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ مانصه‏:‏ أيهملون التدبر في الآيات‏,‏ فلا ينظرون إلي الإبل‏,‏ كيف خلقت خلقا بديعا يدل علي قدرة الله؟‏!‏

وجاء في تعليق الخبراء بالهامش مانصه‏:‏ في خلق الإبل ايات معجزات دالة علي قدره الله ليتدبر في ذلك المتدبرون‏,‏ فمن المعروف ان من صفاتها الظاهرة مايمكنها من أن تكون سفن الصحراء بحق‏,‏ فالعينان ترتفعان فوق الرأس وترتدان الي الخلف فضلا عن طبقتين من الأهداب تقيانها الرمال والقذي‏,‏ وكذلك المنخران والأذنان يكتنفها الشعر للغرض نفسه‏,‏ فإذا ماهبت العواصف الرملية انقفل المنخران‏,‏ وانثنت الأذن ـ علي صغرها وقلة بروزها ـ نحو الجسم‏,‏ أما القوائم فطوال تساعد علي سرعة الحركة‏,‏ مع مايناسب ذلك من طول العنق‏,‏ وأما الأقدام فمنبسطة في صورة خفاف تمكن الإبل من السير فوق الرمال الناعمة‏,‏ وللجمل كلكل تحت صدره‏,‏ ووسائد قرنية علي مفاصل أرجله تمكنه من الرقود فوق الأرض الخشنة الساخنة‏,‏ كما أن علي جانبي ذيله الطويل شعرا يحمي الأجزاء الخلفية الرقيقة من الأذي‏.‏ أما مواهب الجمل الوظيفية فأبلغ وأبدع‏,‏ فهو في الشتاء لايطلب الماء‏,‏ بل قد يعرض عنه شهرين متتاليين إذا كان الغذاء غضا رطبا أو أسبوعين إن كان جافا‏.‏ كما أنه قد يتحمل العطش الكامل في قيظ الصيف أسبوعا أو أسبوعين‏,‏ يفقد في أثنائهما أكثر من ثلث وزن جسمه‏,‏ فإذا ما وجد الماء تجرع منه كمية هائلة يستعيد بها وزنه المعتاد في دقائق معدودات‏.‏ والجمل لايختزن الماء في كرشه كما كان يظن‏,‏ بل إنه يحتفظ به في أنسجة جسمه ويقتصد في استهلاكه غاية الاقتصاد‏,‏ فمن ذلك أنه لايلهث أبدا ولايتنفس من فمه ولايصدر من جلده إلا أدني العرق‏,‏ وذلك لأن حرارة جسمه تكون شديدة الانخفاض في الصباح المبكر‏,‏ ثم تأخذ في الإرتفاع التدريجي أكثر من ست درجات قبل أن تدعو الحاجة إلي تلطيفها بالعرق والتبخر‏,‏ وعلي الرغم من كمية الماء الهائلة التي يفقدها الجسم بعد العطش الطويل فإن كثافة دمه لاتتأثر إلا في الحدود المقبولة‏,‏ ومن ثم لايقضي العطش عليه‏.‏ وقد ثبت أن دهن السنام مخزن للطاقة يكفيه غوائل الجوع‏,‏ ولكنه لايفيد كثيرا في تدبير الماء اللازم لجسمه‏.‏ ومازال العلماء يجدون في الجمل كلما بحثوا مصداقا لحض الله تعالي لهم علي النظر في خلقه المعجز‏.‏
‏*‏ وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لا أري حاجة إلي تكراره هنا‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
تشير هذه الآية القرآنية الكريمة إلي مافي خلق الإبل من إعجاز يشهد للخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالألوهية‏,‏ والربوبية‏,‏ والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ كما يشهد له‏(‏ سبحانه‏)‏ بالقدرة علي إفناء ماقد خلق وعلي إعادة خلقه من جديد‏(‏ أي بعثه‏)‏ والإبل تنتمي إلي مجموعة من الحيوانات الثديية المشيمية المجترة
‏(RuminanrPlacentalMammals)‏
وإلي قسم خاص منها يعرف باسم ذوات الحافر‏(‏ الخف‏)‏ مزدوج الأصابع
‏(Even-ToedUngulates=Artiodactyla)‏
وهي من آكلات العشب التي يجمعها القرآن الكريم تحت مسمي الأنعام لما فيها من نعم الله العظيمة علي الإنسان‏,‏ وتشمل كلا من الإبل‏,‏ والبقر‏,‏ والضأن‏,‏ والمعز‏(‏ الماعز‏),‏ وتضم الإبل بالإضافة إلي الجمال مجموعة الغزلان وكلاهما يصنف في عائلة واحدة تعرف باسم عائلة الإبليات أو الجمليات وبها نوعان متميزان هما نوع الجمل‏(camelus)(Camelides)‏ ونوع اللاما‏(Lama),‏ ومن الجمال ماله سنام واحد وهو الجمل العربي‏(Camelusdromedarius)‏ وماله سنامان وهو الجمل الآسيوي‏(Camelusbactrianus)‏

وينتشر في آسيار الوسطي وصولا إلي منشوريا في بلاد الصين‏.‏ والإبل بأنواعها تتميز عن جميع الأنعام بميزات بدنية‏,‏ وتشريحية‏,‏ ووظائفية عجيبة ألمح إليها القرآن الكريم بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت
‏(‏الغاشية‏:17)‏
فالإبل عمرت الأرض قبل خلق الإنسان بحوالي الخمسين مليون سنة وازدهرت ازدهارا هائلا في عهد الإيوسين المعروف باسم فجر الحياة الحديثة‏.‏ والجمل العربي الذي يعيش في المناطق الصحراوية الجافة القاحلة الشديدة الحرارة في نهار الصيف‏,‏ والشديدة البرودة في ليل الشتاء قد تم استئناسه من قبل أربعة آلاف إلي خمسة آلاف سنة في شبه الجزيرة العربية من مجموعة برية كانت تعيش فوق هضاب حضرموت‏.‏

ومن الجزيرة العربية انتشرت الجمال العربية إلي كل من إفريقيا وآسيا وجنوب أوروبا عبر الوجود الإسلامي في تلك البلاد خاصة في شبه الجزيرة الأيبيرية‏(‏ بلاد الأندلس‏).‏
وقد ثبت للدارسين والمراقبين أن الحمل العربي هو بحق سفينة الصحراء وأنه أصلح الوسائل الفطرية للسفر والحمل والتفضل في الأراضي الصحراوية الجافة فهو يستطيع قطع مسافة تصل إلي الخمسين ميلا في اليوم متحملا الجوع والعطش لعدة أيام متتالية في شدة حرارة نهار صيف الصحراء‏,‏ ويستطيع حمل أكثر من نصف طن من المؤن والركاب والسير بهم وبها لأكثر من عشرين ميلا في اليوم دون طعام أو شراب لعدة أيام متتالية‏,‏ وذلك لما خص الله‏(‏ تعالي‏)‏ به هذا الحيوان من ميزات جسدية‏,‏ وتشريحية‏,‏ ووظائفية لاتتوافر لغيره من الحيوانات‏,‏ ومن هذه الميزات مايمكن إيجازه في النقاط التالية‏:‏

أولا‏:‏ من الصفات الجسدية للجمل العربي‏:‏
‏(1)‏ ضخامة الجسم‏,‏ وارتفاع القوائم‏,‏ وطول العنق في تناسق عجيب يمكن الجمل العربي من سرعة الحركة‏,‏ واتساع مجال الرؤية‏,‏ ومن اختزان كميات كبيرة من الماء والغذاء والدهون والطاقة تعينه علي احتمال الجوع والعطش لفترات لايقوي عليها حيوان آخر‏.‏
‏(2)‏ لرأس الجمل أنف ذو منخارين أعطاهما الله‏(‏ تعالي‏)‏ القدرة علي الانغلاق كليا تحاشيا لرمال الصحراء العاصفة ومنعا لجفاف القصبة الهوائية وزوج من العيون الحادة الإبصار‏,‏ ترتفعان فوق رأسه المحمول علي عنقه الطويل‏,‏ وجسده المرتفع عن الأرض مما يوسع مجال الرؤية‏,‏ ولكل واحدة من هاتين العينين المندفعتين إلي الخلف طبقة من الأهداب تقيانهما من هبوب العواصف الرملية في الصحراء وماتحمله من أذي وقذي‏.‏ ولفم الجمل شفتان عريضتان السفلي منهما مشقوقة حتي تمكنه من تناول الأعشاب الشوكية دون ان تؤذيه‏.‏

‏(3)‏ وعلي جانبي رأس الجمل أذنان صغيرتان يكتنف كلا منها شعر كثيف لوقايتها من الرمال العاصفة‏,‏ خاصة وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أعطاهما القدرة علي الانثناء إلي الخلف‏,‏ والالتصاق بجانبي الرأس لمنع دخول الرمال فيهما‏.‏
‏(4)‏ أقدام الجمل منبسطة علي هيئة الخف المكون من نسيج دهني سميك يعين الجمل علي السير فوق الرمال الناعمة وفوق غير ذلك من أنواع التربة الخشنة والصخور الناتئة‏.‏

‏(5)‏ ذيل الجمل محاط بشعر كثيف يحمي أجزاء جسده الخلفية من كل أذي خاصة من الرياح العاصفة المحملة بالرمال‏.‏
‏(6)‏ طول سيقان الجمل تبعده عن التأثر بحرارة الأرض‏,‏ وارتفاع سنامه يبعد غالبية جسده عن التأثر بحرارة الشمس لأن تكتل كمية كبيرة من الدهون في منطقة السنام يحول دون انتشار حرارة الشمس إلي داخل الجسم‏,‏ خاصة أن الخالق العظيم قد ألهم الجمل بالوقوف متعامدا مع أشعة الشمس قدر الاستطاعة حتي لايتعرض لها من جسده إلا أقل مساحة ممكنة‏.‏

‏(7)‏ خلق الله‏(‏ تعالي‏)‏ للجمل وسادة حرشفية‏/‏ قرنية أسفل صدره تعرف باسم الكلكل‏,‏ ووسائد مشابهة فوق كل ركبة من ركبه‏,‏ وهذه الوسائد تمكن الجمل من الرقود علي الأرض مهما كانت قاسية وخشنة دون أذي كما تعينه علي رفع جسده عن الأرض لعزله عن حرارتها وللسماح لتيار من الهواء يتحرك بينه وبين الأرض لتهويته وتلطيف درجة حرارته‏.‏
‏(8)‏ جعل الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ للجمل جلدا غليظا جدا‏,‏ قليل المرونة‏,‏ قادرا علي تحمل العواصف الحارة المحملة بالرمال عند هبوبها‏,‏ وعلي مقاومة لسعات الحشرات وقرصات غيرها من الحيوانات‏,‏ خاصة وأن هذا الجلد يغطيه وبرسميك يدفئ جسم الجمل في الشتاء ويحمي حراراته من التصرف الي الخارج ويحميه من حرارة الشمس الحارقة في الصيف‏,‏ خاصة وأنه يعكس أشعتها بلونه الفاتح‏,‏ وجلد الجمل يمتاز بقلة انتشار الغدد العرقية فيه مما يقلل من فقدان مخزونه المائي عن طريق العرق‏.‏

‏(9)‏ كذلك يساعد طول عنق الجمل وارتفاع أقدامه علي تمكينه من تناول أوراق الأشجار العالية‏,‏ وتساعد شفته السفلي المشقوقة علي تناول الأعشاب الشوكية دون أن تؤذيه‏,‏ خاصة وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد جعل للجمل ميلا فطريا للأعشاب المالحة التي تكثر في الصحاري الجافة وذلك مثل أنواع الحلفاء‏(Halophytes),‏ وللجمل قدرة فائقة علي استيعاب كميات كبيرة من أملاح هذه الأعشاب دون التأثير علي درجة ارتوائه أو شعوره بالعطش‏,‏ وذلك من مثل املاح الصوديوم‏,‏ والكالسيوم‏,‏ والسلينيوم‏,‏ والفوسفور‏,‏ والنحاس‏,‏ وغيرها‏.‏ وكل واحد من هذه الأملاح يلعب دورا مهم في حياة الجمل‏,‏ وفي تخليق أعداد من الإنزيمات اللازمة لنشاطه الحيوي‏.‏ والجمل يستهلك من كل من هذه الأملاح مايحتاجه ويختزن الباقي في الكبد لاسترجاعه عند الحاجة إليه‏.‏

ثانيا‏:‏ من الصفات التشريحية للجمل‏:‏
‏(1)‏ الجمل من الثدييات المشيمية المجترة‏,‏ ولكنه يختلف عن كثير منها بتضاؤل المعدة الثالثة‏,‏ وبوجود مايسمي ـ مجازا ـ باسم الأكياس المائية في المعدة الأولي‏,‏ وهذه الأكياس عبارة عن انثناءات تضم الملايين من الخلايا الغددية التي تلعب دورا رئيسيا في تفعيل عملية الهضم وانتاج كم كبير من السوائل‏.‏
‏(2)‏ كذلك فإن البلعوم الطويل للجمل يحتوي علي عدد هائل من الغدد التي تعمل علي ترطيب الوجبة الغذائية الجافة مما يعين علي سهولة تحركها إلي باقي أجزاء الجهاز الهضمي خاصة وان الجمل يعتمد في غذائه اساسا علي الأعشاب الجافة‏,‏ وأوراق الأشجار الشمعية القاسية‏.‏

‏(3)‏ زود الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ الجهاز الهضمي للجمل بالعديد من الانزيمات المنتجة فيه‏,‏ والكائنات الدقيقة المتعايشة معه لتقوم بتحليل المواد السيليولوزية القاسية في معدة الاجترار الي عدد من المركبات النيتروجينية مثل الأمونيا واليوريا ثم بناء عدد من الأحماض الأمينية‏,‏ والبروتينات والدهون‏,‏ وفي تجهيز عدد من الفيتامينات اللازمة لحياة الجمل‏,‏ ومن العجيب ان يصل تركيز أحد الفيتامينات المهمة مثل فيتامين د في جسم الجمل الي خمسة عشر ضعفا لما هو موجود في أجساد باقي الحيوانات المجترة علي الرغم من فقر غذاء الجمل بصفة عامة‏,‏ وذلك لأن هذا الفيتامين يلعب دورا مهما في تركيز الكالسيوم في العظام وهو أمر يحتاجه الجمل بهيكله العظمي الضخم‏.‏

ثالثا‏:‏ من الصفات الوظائفية لأعضاء جسم الجمل‏:‏
‏(1)‏ الجمل من ذوات الدم الحار‏,‏ ولكن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد وهبه القدرة علي تغيير حرارة جسده ليتوافق مع درجات الحرارة المحيطة به صيفا وشتاء‏,‏ ونهارا وليلا دون ان يصاب بأذي‏,‏ ويتراوح المدي الحراري لدماء الجمل بين‏34‏ م‏,42‏ م وهو مدي يعتبر قاتلا للعديد من الأحياء‏.‏
‏(2)‏ يؤدي نقصان كمية الماء في أجسام معظم الحيوانات الي زيادة لزوجة دمائها مما يؤدي إلي ارتفاع درجة حرارة الجسم وينتهي بالكائن إلي الوفاة‏.‏

أما الجمل فتبقي لزوجة دمه ثابتة مهما نقص الماء في جسمه مما يسمح لعملية النقل الحراري ان تتم بين القلب والأطراف‏.‏
‏(3)‏ الارتفاع في درجة حرارة جسم الجمل يعين علي نقص استخدام الأكسجين مما يبطئ من عملية التمثيل الغذائي في داخل جسمه وبالتالي يحد من ارتفاع درجة حرارته وهذا بعكس جميع المعروف من الحيوانات‏.‏

‏(4)‏ يستطيع الجمل العيش دون شرب الماء لعدة أسابيع‏,‏ وكمية الماء التي يتناولها ترتبط بنوعية الأكل الذي يأكله‏,‏ وعلي درجة الحرارة الخارجية حوله‏,‏ وقدر الماء الذي سبق له تناوله‏.‏
وفي الجو البارد يستطيع الجمل العيش علي كمية الماء الموجودة فيما يتناوله من طعام إذا كان غضا طريا‏,‏ وفي هذه الحالة يمكنه الاستغناء عن شرب الماء لمدة تصل الي الشهر الكامل‏,‏ أما في الأجواء الحارة ومع تناول الطعام اليابس فان الجمل بامكانه الاستغناء عن شرب الماء لمدة تصل الي الأسبوع‏.‏ ولذلك وهب الله‏(‏ تعالي‏)‏ الجمل القدرة علي تحمل ندرة كل من الماء ومصادر الغذاء في الصحراء‏,‏ وقلة تنوع تلك المصادر‏,‏ وضعف محتواها الغذائي‏,‏ كما أعطاه القدرة علي شرب كميات كبيرة من الماء عند توافره دون ان يؤذيه ذلك‏,‏ وأعطاه القدرة كذلك علي تحمل إنقاص وزنه بمعدل الثلث‏,‏ وزيادته بنفس المعدل دون التعرض لأية مخاطر صحية علما بأن ذلك قد يودي بحياة غيره من الحيوانات‏.‏

هذه الصفات قليل من كثير مما وهب الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ الجمل‏,‏ وهي لم تدرك الا في القرن العشرين‏,‏ والتلميح إليها في الآية التي نحن بصددها لمما يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق‏,‏ ويشهد للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته الي يوم الدين والحمد لله رب العالمين‏.‏