‏(113)...‏ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب‏‏ ‏*‏ الحج‏:73*‏
بقلم الدكتور‏:‏زغـلول النجـار
هذا النص القرآني المعجز جاء في خواتيم سورة الحج‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ ومجموع آياتها ثمان وسبعون بعد البسملة‏,‏ وهي السورة الوحيدة من بين سور القرآن الكريم التي جمعت بين سجدتين من سجدات التلاوة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها بالأمر الإلهي إلي أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ بالأذان في الناس بالحج‏.‏
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من التشريعات الإسلامية بأحكام كل من الحج‏,‏ والطعام‏,‏ والإذن بالقتال والجهاد في سبيل الله دفاعا عن النفس‏,‏ وعن الدين وشعائره ومقدساته‏,‏ وعن أعراض وأموال وممتلكات وأراضي المسلمين‏,‏ دفعا لظلم الظالمين‏,‏ ولبغي الباغين المتجبرين في الأرض بغير الحق‏.‏
ويصحب هذه التكاليف وعد قاطع من الله‏(‏ تعالي‏)‏ بنصر المجاهدين في سبيله‏,‏ وبالتمكين لعباده المؤمنين الذين ينهضون في غير تردد لدفع كل عدوان باغ علي المسلمين‏,‏ أو علي غيرهم من البشر المسالمين‏,‏ مع تأكيد قوة الله البالغة‏,‏ وضعف الشركاء المزعومين‏,‏ والإشارة إلي مصارع الغابرين من الكفار والمشركين والبغاة الظالمين‏,‏ وإلي سنن الله‏(‏ تعالي‏)‏ في ذلك وهي سنن لا تتوقف ولا تتبدل ولا تتخلف‏.‏

عرض موجز لسورة الحج
تبدأ سورة الحج بدعوة الناس جميعا إلي تقوي الله وتحذرهم من هول الساعة‏,‏ وما يصاحبها من أحداث جسام‏,‏ ومن اتباع الشيطان لأنه يضل من يتبعه ويهديه إلي عذاب السعير‏,‏ وتحذر كذلك من الخوض في الذات الإلهية بغير علم‏,‏ وتؤكد حقيقة البعث‏,‏ مستشهدة علي حتميته بخلق الإنسان من تراب‏,‏ ومشبهة ذلك بإنبات الأرض بعد إنزال الماء عليها‏,‏ واتخاذه دليلا علي إحياء الموتي‏,‏ مؤكدة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي كل شيء قدير‏,‏ وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور‏.‏
وتعاود السورة الكريمة الحديث عمن يضلهم الشيطان فيجادلون في الذات الإلهية بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير‏,‏ ليضلوا غيرهم عن سبيل الله‏,‏ وهؤلاء لهم في الدنيا خزي‏,‏ ولهم في الآخرة عذاب شديد‏.‏ وتشير إلي أن من الناس من يعبد الله‏(‏ تعالي‏)‏ طمعا في كريم عطائه فقط‏,‏ فإن أصابه خير اطمأن به‏,‏ وإن ابتلي بفتنة انقلب علي عقبيه فخسر الدنيا والآخرة‏,‏ وذلك هو الخسران المبين‏.‏
وتحذر سورة الحج من الشرك بالله‏,‏ واصفة إياه بالضلال البعيد‏,‏ ومؤكدة عجز الشركاء المزعومين عن نفع أو ضر من أشركوهم مع الله‏(‏ تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا‏).‏

وتؤكد السورة الكريمة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏
‏...‏ يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد‏(‏ الحج‏:14).‏
وتضيف تأكيدا أن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قد تعهد بنصر خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وأتباعه في الدنيا والآخرة رغم كيد الكائدين وحقد الحاقدين‏.‏

وفي الإشارة إلي القرآن الكريم يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد‏(‏ الحج‏:16).‏

وفوضت الآيات الأمر إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ في الفصل بين أصحاب الملل والنحل المختلفة في يوم القيامة‏,‏ مؤكدة أن جميع ما في هذا الوجود ومن فيه يسجد لله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في عبودية كاملة‏,‏ وخضوع تام‏,‏ يمثلان قمة التكريم للمخلوقات لأن من يعرض عن ذلك من أصحاب الإرادة الحرة فليس له من مكرم‏.‏
ومايزت سورة الحج بين عذاب الكافرين في الآخرة‏,‏ ونعيم الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏,‏ وأشارت إلي أن من الكفر بالله‏:‏ الصد عن سبيله‏,‏ وعن المسجد الحرام‏,‏ والظلم والإلحاد فيه‏,‏ وأكدت أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد هدي إبراهيم‏(‏ عليه السلام‏)‏ إلي التوحيد الخالص‏,‏ وإلي مكان البيت الحرام‏,‏ وأمره برفع قواعده‏,‏ وإعادة بنائه‏,‏ والعمل علي تطهيره للطائفين والقائمين والركع السجود‏,‏ وأن يؤذن في الناس بالحج يأتوه من كل فج عميق‏,‏ وبذلك أقامت فريضة الحج وما فيها من تعظيم لشعائر الله‏,‏ وحذرت من انتهاك حرمات الله‏,‏ وأمرت بالحلال من الطعام‏,‏ وباجتناب الرجس من الأوثان‏,‏ واجتناب قول الزور‏,‏ كما أمرت بالحنيفية السمحة‏,‏ ونهت عن الشرك بالله‏,‏ وحذرت من عقاب المشركين‏,‏ وأكدت أن تعظيم شعائر الله من تقوي القلوب‏,‏ وأشارت إلي أن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قد جعل علي كل أمة قربانا تقدمه لله شكرا علي ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏.‏

وتكرر سورة الحج تأكيد وحدانية الله‏,‏ وضرورة الخضوع الكامل لجلاله بالإسلام له‏,‏ وتأمر خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن يبشر بخيري الدنيا والآخرة المتواضعين لله‏(‏ تعالي‏),‏ والمطمئنين إلي حكمه‏,‏ والذين تخشع قلوبهم بذكره‏,‏ والصابرين علي قضائه‏,‏ والمقيمين للصلاة‏,‏ والمنفقين مما رزقهم الله‏,‏ وأكدت أن من شعائر الحج النحر لله‏,‏ فإذا ذبحت البدن بعد ذكر اسم الله عليها أكل منها مقدمها وأطعم السائل وغير السائل ممن يتعرضون له‏,‏ ولذلك سخرها الله‏(‏ تعالي‏)‏ لهم ومن قبيل شكره علي وهبها‏,‏ وعلي هدايته‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لهؤلاء المحسنين الذين بشرهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالقبول فيقول‏(‏ عز من قائل‏):‏
لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوي منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله علي ما هداكم وبشر المحسنين‏*‏ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور
‏(‏الحج‏:38,37).‏

ويتكرر في سورة الحج الإذن بالقتال الدفاعي للذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله‏,‏ كما حدث ولا يزال يحدث مع إخواننا الفلسطينيين‏,‏ والعراقيين‏,‏ ومسلمي كل من البلقان‏,‏ والشيشان‏,‏ وكشمير‏,‏ وأراكان‏,‏ وجنوب الفلبين‏,‏ والصومال‏,‏ والسودان‏,‏ وسبتة ومليلة وغيرها من أراضي المسلمين المستباحة اليوم علي أيدي المعتدين الظلمة من غلاة الكافرين والمشركين‏,‏ الذين أغرقوا بلاد الإسلام في بحار من الدماء والأشلاء والخراب والدمار والمسلمون من حولهم يتفرجون في تخاذل وانهزام مذلين‏.‏
وتؤكد هذه السورة الكريمة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف ينصر من ينصره وهو القوي العزيز‏,‏ فعلينا بالرجوع إلي الله بصدق‏,‏ وهو القادر علي دحر كل المعتدين مهما تعاظمت أسلحتهم‏,‏ وخبث مكرهم‏.‏

وتصف سورة الحج أنصار الله بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور‏(‏ الحج‏:41).‏
وتخاطب الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في مواساة رقيقة من الله‏(‏ تعالي‏)‏ لتكذيب الكافرين والمشركين لبعثته الشريفة فيقول له رب العالمين‏:‏

وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود‏*‏ وقوم إبراهيم وقوم لوط‏*‏ وأصحاب مدين وكذب موسي فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير‏*‏ فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية علي عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد‏*‏ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور‏*‏ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون‏*‏ وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير‏(‏ الحج‏:42‏ ـ‏48).‏
وتطالب الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ بأن يعلن للناس جميعا أنه نذير مبين لهم فتقول‏:‏

قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين‏*‏ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم‏*‏ والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم‏(‏ الحج‏:49‏ ـ‏51).‏
وتؤكد سورة الحج أن الله العليم الحكيم قد أحكم آيات كتابه العزيز‏,‏ وحفظها من كل تدخل شيطاني حتي يبقي كتاب الله في صفائه الرباني محتفظا بالحق الذي أنزله ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏),‏ وفي ذلك يقول‏:‏

وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلي صراط مستقيم‏*‏ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتي تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم‏(‏ الحج‏:55,54).‏
وتكرر السورة الكريمة التفريق بين نعيم الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الآخرة‏,‏ وجحيم الذين كفروا وكذبوا بآيات الله‏,‏ وتؤكد ثواب المهاجرين في سبيل الله والمجاهدين من أجل إعلاء دينه‏,‏ وإقامة عدله علي الأرض‏,‏ وتؤكد كذلك أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أخذ علي ذاته العلية نصرة كل مظلوم‏.‏

واستشهدت السورة الكريمة بعدد من الآيات الكونية علي أن‏:‏
‏...‏ الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير‏(‏ الحج‏:62).‏
وركزت الآيات علي زجر المعارضين لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ من أهل الكتاب في زمانه وإلي زماننا وحتي قيام الساعة وتحذيرهم من مخالفته وعصيانه‏,‏ وتؤكد خروجهم علي ما جاءهم من كتب‏,‏ وما أنزل لهم فيها من الشرائع والعقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات‏(‏ النسك‏)‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏

ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير‏*‏ وإذا تتلي عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير‏.‏
‏(‏ الحج‏:72,71).‏

وتختتم سورة الحج بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير‏*‏ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلي الله ترجع الأمور‏*‏ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون‏*‏ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء علي الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولي ونعم النصير‏(‏ الحج‏:75‏ ـ‏78).‏

من أسس العقيدة الإسلامية في سورة الحج‏:‏
‏(1)‏ الإيمان بالله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ربا‏,‏ خالقا‏,‏ واحدا‏(‏ بغير شريك ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏),‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ هو الحق‏,‏ وهو القوي‏,‏ العزيز‏,‏ السميع‏,‏ العليم‏,‏ البصير‏,‏ مالك الملك‏,‏ الذي يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم‏,‏ ويفعل ما يشاء‏,‏ وهو علي كل شيء شهيد‏,‏ وهو‏(‏ سبحانه‏)‏ يدافع عن الذين آمنوا‏,‏ وقد أخذ علي ذاته العلية العهد بنصرة من ينصر دينه‏,‏ ويجاهد من أجل إعلاء كلمته وإقامة عدله علي الأرض‏,‏ ومن يهن الله فما له من مكرم‏,‏ وأن له يسجد كل من في السماوات والأرض‏,‏ وأن إليه ترجع الأمور‏,‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ يفصل بين أصحاب الملل المختلفة يوم القيامة‏.‏
‏(2)‏ الإيمان بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس‏,‏ والإيمان بملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ وبخاتمهم أجمعين‏,‏ وبالكتاب الخاتم الذي أنزل إليه‏(‏ القرآن الكريم‏)‏ المهيمن علي كل الكتب السابقة والناسخ لها‏.‏

‏(3)‏ الإيمان بضرورة تقوي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ومخافته‏,‏ والاعتصام بحبله المتين‏,‏ وتعظيم شعائره‏,‏ وأولها المسجد الحرام الذي قال‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ فيه‏:‏
‏...‏ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم‏(‏ الحج‏25).‏

‏(4)‏ الإيمان بحقيقة البعث وحتميته‏,‏ وبالحساب‏,‏ وبالجنة والنار‏.‏
‏(5)‏ الإيمان بعدم جدوي الجدل في الأمور الغيبية غيبة مطلقة‏.‏

من العبادات المفروضة في سورة الحج
‏(1)‏ إقامة الصلاة‏.‏
‏(2)‏ إيتاء الزكاة‏.‏
‏(3)‏ حج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا‏.‏
‏(4)‏ الجهاد في سبيل الله دفعا لظلم الظالمين ولبغي الباغين‏.‏
‏(5)‏ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏
‏(6)‏ التواصي بالحق والتواصي بالصبر‏.‏
‏(7)‏ محاربة الشيطان وعدم اتباع خطواته‏.‏
‏(8)‏ التخلص من الشرك بكل صوره وأشكاله‏.‏
‏(9)‏ الامتناع التام عن قول الزور والعمل به‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة الحج‏:‏
‏(1)‏ الإشارة إلي خلق الإنسان من تراب‏,‏ ووصف مراحل الجنين المتتالية بدقة بالغة حتي يخرج إلي الحياة طفلا‏,‏ يحيا ما شاء الله‏(‏ تعالي‏)‏ له أن يحيا‏,‏ ثم يتوفاه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عند نهاية أجله‏,‏ والذي يرد من البشر إلي أرذل العمر تضعف ذاكرته في أغلب الأحوال حتي لا يعلم من بعد علم شيئا‏.‏
‏(2)‏ الإشارة إلي اهتزاز الأرض‏,‏ وارتفاعها‏,‏ وإنباتها من كل زوج بهيج بمجرد إنزال الماء عليها‏,‏ وتشبيه خلق الإنسان من تراب الأرض وبعثه منها بعملية إنبات النبات‏.‏

‏(3)‏ تأكيد حقيقة أن جميع من في السماوات والأرض يسجد لله‏(‏ تعالي‏)‏ طوعا أو كرها‏.‏
‏(4)‏ الإشارة إلي نسبية كل من المكان والزمان في منظور الإنسان‏,‏ وإلي ضخامة أبعاد الكون وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏...‏ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
‏(‏ الحج‏:47).‏

‏(5)‏ والتعبير بولوج كل من الليل والنهار في الآخر عن كروية الأرض‏,‏ وعن دورانها حول محورها أمام الشمس‏.‏
‏(6)‏ الإشارة إلي اخضرار الأرض بمجرد إنزال الماء عليها من السماء‏.‏

‏(7)‏ تأكيد أن كل ما في الأرض مسخر للإنسان‏,‏ وكذلك جري الفلك في البحر بأمر الله‏.‏
‏(8)‏ الإشارة إلي حقيقة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يمسك السماء أن تقع علي الأرض إلا بإذنه‏.‏
‏(9)‏ تأكيد عجز كل المخلوقين‏(‏ من الأصنام‏,‏ والأوثان‏,‏ والأشخاص‏,‏ والقيم‏,‏ والأوضاع‏)‏ مجتمعين عن خلق ذبابة فضلا عن إمكانهم استنقاذ ما يسلب الذباب منهم مما يقدم لهم من قرابين أو مما يلطخون به من طيب‏,‏ أو مما يأكل الناس ويشربون‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الأخيرة في القائمة السابقة التي جاءت في الآية الثالثة والسبعين من سورة الحج‏,‏ وقبل شرح دلالتها العلمية لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالاتها اللغوية والمعنوية‏..‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب
‏(‏الحج‏:73).‏

‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:‏ يقول تعالي منبها علي حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها‏(‏ يا أيها الناس ضرب مثل‏)‏ أي لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به‏(‏ فاستمعوا له‏)‏ أي أنصتوا وتفهموا‏(‏ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له‏)‏ أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد‏,‏ علي أن يقدروا علي خلق ذباب واحد ما قدروا علي ذلك‏...,‏ ثم قال تعالي أيضا‏:(‏ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه‏)‏ أي هم عاجزون عن خلق ذباب واحد‏,‏ بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه‏,‏ لو سلبها شيئا من الذي عليها من الطيب‏,‏ ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت علي ذلك‏,‏ هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها‏,‏ ولهذا قال‏:(‏ ضعف الطالب والمطلوب‏),‏ قال ابن عباس‏:‏ الطالب‏:‏ الصنم‏,‏ والمطلوب‏:‏ الذباب‏;‏ واختاره ابن جرير‏,‏ وقال السدي وغيره‏:‏ الطالب‏:‏ العابد‏,‏ والمطلوب‏:‏ الصنم‏....‏
وجاء في الظلال‏(‏ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة جزاء ما قدم‏)‏ ما مختصره‏:‏
إنه النداء العام‏,‏ والنفير البعيد الصدي‏:(‏ يا أيها الناس‏)...‏ فإذا اجتمع الناس علي النداء أعلنوا أنهم أمام مثل عام يضرب‏,‏ لا حالة خاصة ولا مناسبة حاضرة‏:(‏ ضرب مثل فاستمعوا له‏)...‏ هذا المثل يضع قاعدة‏,‏ ويقرر حقيقة‏:(‏ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له‏)...‏ كل من تدعون من دون الله من آلهة مدعاة‏:‏ من أصنام وأوثان‏,‏ ومن أشخاص وقيم وأوضاع‏,‏ تستنصرون بها من دون الله‏,‏ وتستعينون بقوتها وتطلبون منها النصر والجاه‏...‏ كلهم‏(‏ لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له‏)...‏ والذباب صغير حقير‏,‏ ولكن هؤلاء الذين يدعونهم آلهة لا يقدرون ـ ولو اجتمعوا وتساندوا ـ علي خلق هذا الذباب الصغير الحقير‏!‏ وخلق الذباب مستحيل كخلق الجمل والفيل‏,‏ لأن الذباب يحتوي علي ذلك السر المعجز‏;‏ سر الحياة فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل‏...‏ لكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير لأن العجز عن خلقه يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل‏!‏ دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير‏.‏ وهذا من بدائع الأسلوب القرآني العجيب‏!‏ ثم يخطو خطوة أوسع في إبراز الضعف المزري‏:(‏ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه‏)...‏ والآلهة المدعاة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين يسلبها إياه‏,‏ سواء كانت أصناما أو أوثانا أو أشخاصا‏!‏ وكم من عزيز يسلبه الذباب من الناس فلا يملكون رده‏.‏ وقد اختير الذباب بالذات وهو ضعيف حقير‏.‏ وهو في الوقت نفسه يحمل أخطر الأمراض ويسلب أغلي النفائس‏:‏ يسلب العيون والجوارح‏,‏ وقد يسلب الحياة والأرواح‏...‏ إنه يحمل ميكروبات السل والتيفود والدوسنتاريا والرمد‏...‏ ويسلب ما لا سبيل إلي استنقاذه وهو الضعيف الحقير‏!.‏
وهذه حقيقة أخري كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز‏...‏ ولو قال‏:‏ وإن تسلبهم السباع شيئا لا يستنقذوه منها‏...‏ لأوحي ذلك بالقوة بدل الضعف‏.‏ والسباع لا تسلب شيئا أعظم مما يسلبه الذباب‏!‏ لكنه الأسلوب القرآني العجيب‏!.‏ ويختم ذلك المثل المصور الموحي بهذا التعقيب‏:(‏ ضعف الطالب والمطلوب‏),‏ ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال‏,‏ وما أوحي به إلي المشاعر والقلوب‏!.‏

وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ ما نصه‏:‏
يا أيها الناس‏:‏ إنا نبرز أمامكم حقيقة عجيبة في شأنها‏,‏ فاستمعوا إليها وتدبروها‏:‏ إن هذه الأصنام لن تستطيع أبدا خلق شيء مهما يكن حقيرا تافها‏,‏ كالذباب‏,‏ وإن تضافروا جميعا علي خلقه‏,‏ بل إن هذا المخلوق التافه‏,‏ لو سلب من الأصنام شيئا من القرابين التي تقدم إليها فإنها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تمنعه عنه أو تسترده منه‏,‏ وما أضعف الذي يهزم أمام الذباب عن استرداد ما سلبه منه‏,‏ ما أضعف الذباب نفسه‏,‏ كلاهما شديد الضعف‏,‏ بل الأصنام كما ترون أشد ضعفا‏,‏ فكيف يليق بإنسان عاقل أن يعبدها ويلتمس النفع منها؟‏.‏

وجاء في صفوة التفاسير‏(‏ جزي الله كاتبها خيرا‏)‏ ما نصه‏:‏
‏(‏يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له‏)‏ أي يا معشر المشركين ضرب الله مثلا لما يعبد من دون الله من الأوثان والأصنام فتدبروه حق التدبر‏,‏ واعقلوا ما يقال لكم‏(‏ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له‏)‏ أي أن هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله لن تقدر علي خلق ذبابة علي ضعفها وإن اجتمعت علي ذلك‏.‏ فكيف يليق بالعاقل جعلها آلهة وعبادتها من دون الله‏!‏ قال القرطبي‏:‏ وخص الذباب لأربعة أمور‏:‏ لمهانته‏,‏ وضعفه‏,‏ ولاستقذاره‏,‏ وكثرته‏,‏ فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوهم من دون الله علي خلق مثله ودفع أذيته‏,‏ فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين‏,‏ وأربابا مطاعين؟ وهذا من أقوي الحجج وأوضح البراهين‏(‏ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه‏)‏ أي لو اختطف الذباب وسلب شيئا من الطيب الذي كانوا يضمخون به الأصنام لما استطاعت تلك الآلهة استرجاعه منه رغم ضعفه وحقارته‏(‏ ضعف الطالب والمطلوب‏)‏ أي ضعف العابد الذي يطلب الخير من الصنم‏,‏ والمطلوب الذي هو الصنم‏,‏ فكل منهما حقير ضعيف‏.‏

من الدلالات العلمية للنص الكريم
أولا‏:‏ في قوله تعالي‏:...‏ وإن يسلبهم الذباب شيئا‏...:‏
و‏(‏الاستلاب‏)‏ في اللغة هو الاختلاس‏,‏ والسلب هو نزع الشيء من الغير علي القهر‏,‏ و‏(‏السلب‏)‏ و‏(‏السليب‏)‏ هو الشخص المسلوب‏,‏ والناقة التي سلب ولدها‏,‏ و‏(‏السلب‏)‏ أيضا هو الشيء المسلوب‏,‏ ويقال للحاء الشجر المنزوع منه‏.‏
وفي استخدام القرآن الكريم تعبير‏(...‏ وإن يسلبهم الذباب شيئا‏...)‏ ومضة معجزة لأن الذباب يختلس ما يأخذه من أشربة وأطعمة الناس اختلاسا‏,‏ وينزعها منهم نزعا علي القهر لعجزهم عن مقاومته في أغلب الأحوال‏.‏

فحركات الذبابة المنزلية علي درجة عالية من التعقيد إذ تبدأ في الاستعداد للطيران بتحديد العضلات التي سوف تستخدمها‏,‏ ثم تأخذ وضع التأهب للطيران وذلك بتعديل وضع أعضاء التوازن في الجهة الأمامية من الجسم‏,‏ حسب زاوية الإقلاع‏,‏ واتجاه وسرعة الريح وذلك بواسطة خلايا حسية خاصة موجودة علي قرون الاستشعار في مقدمة الرأس‏.‏ وهذه العمليات المعقدة لا تستغرق أكثر من واحد من مائة من الثانية‏.‏ ومن الغريب أن الذبابة لها قدرة علي الإقلاع عموديا من المكان الذي تقف عليه‏,‏ كما أن لها القدرة علي المناورة بالحركات الأمامية والخلفية والجانبية بسرعة فائقة لتغيير مواقعها‏,‏ وبعد طيرانها تستطيع الذبابة زيادة سرعتها إلي عشرة كيلو مترات في الساعة‏,‏ وهي تسلك في ذلك مسارا متعرجا ثم تحط بكفاءة عالية علي أي سطح بغض النظر عن شكله‏,‏ وارتفاعه‏,‏ واستقامته أو انحداره‏,‏ وملاءمته أو عدم ملاءمته لنزول شيء عليه‏.‏ ويساعد الذبابة علي هذه القدرة الفائقة في المناورة جناحان ملتصقان مباشرة بصدرها بواسطة غشاء رقيق جدا مندمج مع الجناح‏;‏ ويمكن لأي من هذين الجناحين أن يعمل بشكل مستقل عن الآخر‏,‏ وإن كانا يعملان معا في أثناء الطيران علي محور واحد إلي الأمام أو إلي الخلف يدعمهما نظام معقد من العضلات يعين هذين الجناحين علي أن يتما إلي مائتي خفقة في الثانية‏(‏ كما هو الحال في الذباب الأزرق‏),‏ وعليها أن تستمر علي ذلك لمدة نصف الساعة وأن تتحرك لمسافة ميل كامل علي هذه الحال‏.‏ وتستمد الذبابة مهاراتها الفائقة في الإقلاع‏,‏ والطيران‏,‏ والهبوط من التصميم المثالي لجسدها‏,‏ ولأجنحتها إذ أن النهايات السطحية للأوردة المنتشرة في تلك الأجنحة تحمل شعيرات حساسة جدا لقياس ضغط الهواء واتجاه الرياح‏,‏ كذلك فإن أجهزة الحس الموجودة تحت الأجنحة‏,‏ وخلف رأس الذبابة تقوم بنقل معلومات الطيران إلي دمائها باستمرار ثم إلي رأسها الذي يرسل أوامره إلي العضلات باستمرار أيضا لتوجيه الأجنحة في الاتجاه الصحيح‏,‏ وبذلك يتم توجيه الذبابة في أثناء الطيران بدقة وإحكام فائقين مما يعينها علي إصابة الهدف‏,‏ وتجنب المخاطر بكفاءة عالية‏.‏

ويعين الذبابة في ذلك أيضا عينان مركبتان‏,‏ لا يزيد حجم الواحدة منهما علي نصف الملليمتر المكعب‏,‏ وتتكون كل عين منهما من ستة آلاف عيينة سداسية لها القدرة علي الرؤية في جميع الاتجاهات‏,‏ وكل واحدة من هذه العيينات مرتبطة مع ثمانية أعصاب مستقبلة للضوء‏,‏ اثنان منها للألوان‏,‏ وستة متخصصة في ضبط تحركات الذبابة لأنها تكشف كل شيء في المجال البصري لها وبذلك يكون مجموع الخيوط العصبية في الواحدة من عيني الذبابة ما يقدر بـ‏48‏ ألف خيط عصبي يمكنها معالجة أكثر من مائة صورة في الثانية الواحدة‏.‏
هذا بالإضافة إلي مليون خلية عصبية متخصصة بالتحكم في حركة الذبابة من أعلي إلي أسفل وبالعكس‏,‏ ومن الأمام إلي الخلف وبالعكس‏.‏ كل ذلك يعين الذبابة علي الانقضاض علي الشراب أو الطعام فتحمل منه بواسطة كل من فمها والزغب الكثيف المتداخل الذي يغطي جسمها ما تحمل ثم تهرب مبتعدة في عملية استلاب حقيقية بمعنييها‏:‏ الاختلاس‏,‏ ونزع الشيء علي القهر‏.‏

ثانيا‏:‏ في قوله تعالي‏:...‏ لا يستنقذوه منه‏...:‏
يعرف العلماء اليوم من أنواع الذبابة الحقيقية‏(‏ المجموعة في رتبة ثنائيات الأجنحة‏DIPTERA)‏ حوالي‏100‏ ألف نوع‏,‏ وتنتشر هذه الأنواع من الذباب انتشارا هائلا في مختلف بيئات الأرض‏,‏ وتسيطر علي مساحات شاسعة من أماكن انتشارها سيطرة كاملة لا تمكن الإنسان من مجرد اجتيازها‏,‏ فضلا عن العيش فيها‏.‏
ومن حيث الانتشار علي الأرض تأتي الحشرات في المقام الأول بين مختلف مجموعات الحياة‏,‏ ويأتي الذباب في المرتبة الثالثة بعد كل من النمل والبعوض‏.‏ ولولا التوازن الدقيق الذي وضعه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بين مختلف مجموعات الحياة لغطت جيوش الذباب سطح الأرض بالكامل وجعلت الحياة عليها مستحيلة‏,‏ وذلك لأن الذبابة تضع نحو‏400‏ بيضة في المرة الواحدة في المتوسط‏,‏ وأن من أنواع الذباب ما يتكاثر بمعدلات أعلي من ذلك بكثير بحيث لو قدر لجميع بيضها أن يفقس‏,‏ وأن يعيش كل ما يخرج منه ويتوالد لنتج عن الزوج الواحد من الذباب خلال فصل واحد من فصول السنة ما تعداده يفوق الرقم عشرة مسبوقا بستين صفرا‏,‏ ولكن الله‏(‏ تعالي‏)‏ ـ من عظيم حكمته ـ يسلط من مخلوقاته مثل الطيور‏,‏ والنمل‏,‏ وغيرها ما يستهلك أغلب بيض الذباب كطعام له‏.‏

والذباب يتغذي عادة علي النفايات المختلفة‏,‏ وإن كانت أشربة الناس وأطعمتهم لا تسلم من هجماته‏,‏ والذبابة المنزلية تتذوق الشراب أو الطعام بمجرد أن تحط عليه‏,‏ وذلك بواسطة خلايا حساسة منتشرة في كل من شفتها وأقدامها فإن راقها سلبت منه ما تستطيع وهربت بسرعة فائقة كما يفعل اللصوص‏,‏ فإن كان ما سلبته شرابا امتصته بواسطة خرطومها‏,‏ ليصل إلي جهازها الهضمي المزود بالقدرة علي إفراز الخمائر القادرة علي هضمه وتمثيله تمثيلا كاملا في ثوان معدودة‏,‏ وبذلك لا يمكن استنقاذه منها‏.‏ أما إذا كان الطعام صلبا فإن الذبابة المنزلية تفرز عليه من بطنها عددا من الإنزيمات والعصائر الهاضمة بالإضافة إلي لعابها‏,‏ وهذه تبدأ في إذابة ما تقع عليه من الطعام الصلب فورا مما يمكن الذبابة من امتصاصه بخرطومها وبأجزاء فمها ذات الطبيعة الإسفنجية‏,‏ ومن ثم لا يمكن استرجاعه أبدا‏,‏ أو استنقاذه بأي حال من الأحوال‏.‏
وحتي الذباب الذي يعيش علي امتصاص بعض رحائق الأزهار أو امتصاص دماء غيره من الحشرات فإنه يقوم بتحقيق ذلك بواسطة خرطوم الفم الماص‏,‏ وأجزائه الاسفنجية المهيأة لذلك‏.‏
هذا بالإضافة إلي أن جسم الذبابة مغطي بزغب كثيف متداخل يغطي كلا من رأسها‏,‏ وصدرها‏,‏ وبطنها‏,‏ وأرجلها الست‏,‏ وأقدامها‏,‏ وجناحيها‏,‏ فإذا غطت نفسها في سائل من السوائل أو مسحوق من المساحيق حمل هذا الزغب منه ما لا يمكن استنقاذه أبدا‏.‏

ثالثا‏:‏ في قوله تعالي‏:...‏ ضعف الطالب والمطلوب‏:‏
من الثابت علميا أن البشرية كلها عاجزة كل العجز عن خلق خلية حية واحدة في الزمن الراهن ـ زمن التقدم العلمي والتقني المذهل وغير المسبوق في تاريخ البشرية كله ـ وهي بالتالي أعجز عن خلق ذبابة واحدة‏,‏ ونحن نعلم اليوم أن جسد الذبابة مكون من ملايين الخلايا المتخصصة‏,‏ الموزعة في أنسجة متخصصة‏,‏ وفي أجهزة متعددة تعمل في توافق تام من أجل حياة هذه الحشرة الصغيرة‏,‏ التي ينقسم جسمها إلي رأس‏,‏ وصدر‏,‏ وبطن‏,‏ وهو مكون من حلقات مغطاة بزغب كثيف‏,‏ ومزودة بثلاثة أزواج من الأرجل‏,‏ وبأقدام مغطاة أيضا بزغب كثيف علي هيئة الخف تفرز مواد لاصقة تعين الذبابة علي الالتصاق بأي سطح من الأسطح بهيئة معتدلة أو مقلوبة كالتصاقها بأسقف الغرف‏.‏
وإذا علمنا أن بجسم الذبابة أكثر من مليون خلية عصبية متخصصة بتحركات تلك الحشرة الضعيفة‏,‏ وأن هذه الخلايا العصبية مرتبطة بثمانية وثلاثين زوجا من العضلات منها سبعة عشر زوجا من هذه العضلات لحركة الجناحين‏,‏ وواحد وعشرون زوجا لحركات الرأس‏.‏ وإذا علمنا أيضا أن للذبابة زوجا من العيون المركبة التي تتكون الواحدة منهما من ستة آلاف عيينة سداسية‏,‏ يتصل بكل واحدة منها ثمانية خيوط عصبية مستقبلة للضوء بمجموع‏48‏ ألف خيط عصبي للعين الواحدة يمكنها معالجة مائة صورة في الثانية الواحدة‏.‏ وإذا فهمنا غير ذلك من الأجهزة المتخصصة وتعقيداتها في جسم الذبابة لأدركنا مدي التحدي الذي أنزله ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في سورة الحج بقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏

يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب
‏(‏الحج‏:73).‏

والطالب في هذه الآية الكريمة هو المسلوب الذي سلبه الذباب شيئا مما هو له‏,‏ والمطلوب هو الذباب السالب‏.‏ وسواء كان المسلوب هو المعبود من دون الله صنما‏,‏ كان أو بشرا‏,‏ أو نظاما‏,‏ أو قيما أو أوضاعا معينة فإنهم جميعا عاجزون عن خلق خلية واحدة‏,‏ فضلا عن ذبابة واحدة فما بالنا بمائة ألف نوع معروف من أنواع الذباب‏,‏ ويمثل كل نوع منه بلايين البلايين من الأفراد‏.‏
ويستمر القرآن الكريم في تحديه بأن الإنسان الكافر أو المشرك‏,‏ وما يعبد من دون الله من وثن أو بشر أو نظام لن يعجزوا فقط عن خلق الذباب‏,‏ بل إنهم عاجزون عن استنقاذ ما يسلبه الذباب منهم من طعام أو شراب أو طيب أو دهون‏.‏ فالذباب عندما يحط علي شيء من ذلك فإن كان سائلا سلب قطرة منه وأوصلها فورا إلي جهازه الهضمي الذي يمتصها ويحولها إلي جهازه الدوري ومنه إلي مختلف خلاياه‏,‏ وإن كان مادة صلبة صب عليها لعابه وإنزيمات معدته وعصائرها الهاضمة فيفككها فورا ويذيبها‏,‏ أي يهضمها قبل أن يمتصها ويوصلها مهضومة إلي جهازها الهضمي ومنه إلي جهازها الدوري ثم إلي مختلف خلايا جسم الذبابة‏,‏ حيث يتحول جزء من هذا الطعام إلي طاقة‏,‏ ويتحول جزء آخر إلي مكونات الخلايا والأنسجة‏,‏ وإلي عدد من المركبات العضوية التي يستخدمها الجسم‏,‏ ويتحول الباقي إلي فضلات تتخلص منها الذبابة‏,‏ ولا سبيل أبدا إلي استرجاع أي من ذلك‏.‏
هذه الحقائق لم يصل إليها علم الإنسان إلا في القرن العشرين‏,‏ وفي العقود المتأخرة منه‏,‏ وورودها في كتاب الله بهذه الإشارات الدقيقة‏,‏ المحكمة‏,‏ الموجزة لمما يشهد بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده‏,‏ في لغة وحيه نفسها‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد وإلي قيام الساعة‏,‏ ليبقي هاديا للناس جميعا‏,‏ وحجة علي أهل العلم منه خاصة إلي قيام الساعة‏.‏

‏...‏ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة وإن الله لسميع عليم‏(‏ الأنفال‏:42).‏