(110)يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه‏...*‏
‏*‏ النحل‏:69*‏
بقلم : د. ‏زغـلول النجـار
هذا النص القرآني المعجز‏,‏ جاء في أوائل النصف الثاني من سورة النحل‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏(128)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت كذلك باسم سورة النعم لورود ذكر كل من اللبن والعسل فيها‏,‏ وهما من أعظم نعم الله علي الإنسان في مجال الطعام والدواء‏.‏
ويدور المحور الرئيسي لسورة النحل‏,‏ حول العقيدة الإسلامية وما تحمله من دعوة الي الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ وتوحيده‏,‏ وتنزيهه عن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ وما يتطلبه هذا الإيمان من التزام صادق بمكارم الأخلاق‏,‏ التي تمثل ركيزة من ركائز الإسلام‏.‏

وفي مقام الاستشهاد علي حجية هذا الدين القيم‏,‏ أوردت السورة الكريمة عددا من آيات الله في الكون‏,‏ مدللة بها علي أن هذا الكون بما فيه ومن فيه لايمكن أن يكون نتاج الصدفة المحضة‏,‏ ولا أن يكون قد أوجد نفسه بذاته‏,‏ بل لابد له من موجد عظيم‏,‏ له من صفات الربوبية والألوهية مايغاير صفات خلقه‏.‏
وتبدأ سورة النحل بتأكيد وعيد الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ للمشركين والكافرين‏,‏ بأن الآخرة واقعة لا محالة‏,‏ وقد دنا وقتها فلا تستعجلوه‏,‏ والله المنزه عن الشريك‏,‏ هو الذي يخبركم بذلك‏,‏ وهو‏(‏ سبحانه‏)‏ ينزل الملائكة بوحيه علي من يشاء من عباده لينذروا الناس أنه لا إله يعبد بحق إلا الله فاتقوه‏,‏ والتزموا طاعته‏,‏ واجتنبوا معاصيه‏,‏ حتي يكون وقاية لكم من العذاب‏.‏

واستشهدت السورة الكريمة علي طلاقة القدرة الإلهية‏,‏ بخلق السماوات والأرض‏,‏ وخلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين‏,‏ وخلق الأنعام وما فيها من منافع للإنسان‏,‏ وخلق دواب الركوب والزينة من مثل الخيل والبغال والحمير‏,‏ والله قادر علي أن يخلق ما لا يعلمه الإنسان‏.‏
وعلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ ـ انطلاقا من رحمته بخلقه ـ أن يبين لهم الطريق المستقيم الموصل الي الخير‏,‏ وأن يحذر من ولوج الطرق المنحرفة التي تقود الي الهلاك‏,‏ وترك الخيار للإنسان بعد أن وهبه عقلا يدرك‏,‏ وإرادة حرة تختار‏,‏ ولو شاء الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هداية الناس أجمعين لهداهم‏,‏ ولكن الدنيا دار امتحان واختبار وابتلاء‏.‏

وعاودت السورة الكريمة الإشارة‏,‏ الي عدد من بديع صنع الله في الكون‏,‏ من مثل إنزال الماء من السماء لري كل من الإنسان والحيوان والنبات‏,‏ واخراج مختلف الزروع والثمرات‏,‏ ومن مثل تبادل كل من الليل والنهار‏,‏ وتسخير كل من الشمس والقمر والنجوم‏,‏ بأمر الله‏.‏ ومن مثل ما أبدع الله‏(‏ تعالي‏)‏ في الأرض‏,‏ من صنوف الخلق من الجمادات والنباتات والحيوانات والأناسي المختلفة الأشكال والألوان والصفات‏.‏
وأشارت سورة النحل بعد ذلك‏,‏ الي تسخير البحر للإنسان ليأكل منه لحما طريا‏,‏ ويستخرج منه ما يلبس حلية كاللؤلؤ والمرجان‏,‏ ولتجري فيه السفن حاملة الأقوات والأمتعة والأفراد‏,‏ تشق بها مياهه تحقيقا لمصالح الناس وابتغائهم من فضل الله‏.‏

ثم أشارت السورة الكريمة‏,‏ الي الجبال التي ألقاها الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في الأرض‏,‏ رواسي لها‏,‏ خشية أن تميد بالناس‏,‏ وجعل منها منابع للأنهار‏,‏ وسببا في تكوين الفجاج والسبل التي يهتدي بها الناس كعلامات علي الأرض‏.‏
وتذكر الآيات بالفوارق الهائلة بين الخالق والمخلوقين‏,‏ فتقول‏:‏ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون‏*(‏ النحل‏:17)‏

وتؤكد الآيات أن نعم الله علي العباد لا تحصي ولا تعد‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ غفور رحيم‏,‏ يعلم ما يسر الناس وما يعلنون‏,‏ وأن ما يشرك المشركون به عن جهل فاضح‏,‏ هم مخلوقون لا يقدرون علي الخلق والله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو الخلاق العليم‏,‏ وهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون‏*‏
‏(‏النحل‏:21).‏

وتؤكد السورة الكريمة‏,‏ وحدانية الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ولا ينكر وحدانيته المطلقة إلا منكرو الآخرة والمستكبرون علي الخضوع لله بالطاعة‏,‏ والله يعلم ما يسرون وما يعلنون‏,‏ وهو‏(‏ تعالي‏)‏ لا يحب المستكبرين الذين كذبوا بالحق لما جاءهم ووصفوه بأنه من أساطير الأولين‏,‏ وتعقب علي ذلك الآيات بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون‏*(‏ النحل‏:25).‏

وحذرت سورة النحل من مصائر الأمم السابقة‏,‏ الذين كادوا لأنبيائهم‏,‏ فعاقبهم الله في الدنيا بتدمير بيوتهم‏,‏ وذلك بوصف يشبه أحداث الزلازل كما نفهمها اليوم‏,‏ وليس لهم في الآخرة إلا النار وهي مثوي المتكبرين‏.‏
وبشرت السورة الكريمة المتقين‏,‏ بإحسان الله‏(‏ تعالي‏)‏ إليهم في الدنيا وبالجنة في الآخرة‏.‏

أما المشركون فلا ينتظرون إلا الملائكة تقبض أرواحهم‏,‏ أو يأمر الله بإهلاكهم جميعا‏,‏ كما أهلك الذين من قبلهم‏:‏ وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏*(‏ النحل‏:33).‏
وفي يوم القيامة‏,‏ يحاول الذين أشركوا الاعتذار بقدر الله الغالب عليهم‏,‏ ولا حجة لهم في ذلك‏.‏

وتخاطب الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ بألا يحزن علي شرك المشركين من قومه‏,‏ الذين حرص علي هدايتهم‏,‏ فالله لا يجبر علي الهداية من اختار الضلال‏,‏ وهؤلاء الضالون لن يجدوا من ينصرهم أو يحميهم من عذاب الله يوم القيامة‏,‏ فقد أنكروا البعث‏,‏ والله سوف يبعثهم جميعا لأنه‏(‏ تعالي‏)‏ قد أخذ العهد علي ذاته العلية بذلك‏,‏ والله لا يخلف عهده‏,‏ ولكن أكثر الناس لايعلمون‏,‏ ومن حكمة ذلك إظهار الحق‏,‏ وازهاق الباطل‏,‏ واعطاء كل ذي حق حقه‏,‏ وأمر الله بين الكاف والنون‏.‏
وتمتدح الآيات في سورة النحل موقف الذين هاجروا في الله‏,‏ بعدما ظلموا وتبشرهم بحسنة الدنيا‏,‏ وبالأجر الأوفر في الآخرة‏,‏ جزاء صبرهم وتوكلهم علي الله وتمسكهم بالحق‏,‏ ولو علم الظالمون ذلك ما ظلموهم أبدا‏.‏

وتعيد الآيات توجيه الخطاب الي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ مستنكرة طلب الكفار نزول الملائكة إليهم‏,‏ وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون‏*‏ بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون‏*(‏ النحل‏:43‏ و‏44).‏

وتحذر الآيات من نزول عذاب الله بكفار قريش‏,‏ وبمن تبعهم من الكفار والمشركين الذين يملأون أرضنا اليوم‏,‏ كما نزل بالذين من قبلهم من المكذبين فتخسف بهم الأرض‏,‏ أو يأتيهم العذاب فجأة وهم لا يشعرون‏,‏ أو يهلكهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بذنوبهم أثناء تنقلهم في الأرض‏,‏ والله لا يعجزه شيء من ذلك‏,‏ أو ينزل بهم العذاب علي مراحل‏,‏ وهم في رعب منه‏,‏ وتخوف من وقوعه‏,‏ فلا يجوز لمذنب أن يغتر بحلم الله‏(‏ تعالي‏),‏ فقد اقتضت رحمته ألا يعاقب إلا بعد انذار وإمهال طويلين‏.‏
وتعاود الآيات الإشارة الي مد الظل وقبضه مع دوران الأرض حول محورها أمام الشمس‏,‏ ومع جري القمر حول الأرض‏,‏ واعتبار ذلك صورة من صور السجود التسخيري الذي تقوم به كل المخلوقات غير المكلفة‏,‏ طاعة لله وانصياعا لأوامره‏,‏ مؤكدة أن جميع ما في السماوات وما في الأرض من الدواب والملائكة يسجدون لله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده بخضوع وانقياد تامين‏,‏ وخوف ورجاء كاملين من ربهم القادر القاهر‏,‏ ويفعلون ما يأمرهم به‏.‏

وتكرر الآيات النهي عن الشرك بالله‏,‏ وتأكيد وحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ وعلي ضرورة مخافته‏(‏ تعالي‏)‏ والرهبة من مخالفة أوامره‏,‏ لأنه هو‏(‏ تعالي‏)‏ مالك السماوات والأرض وما فيهن‏,‏ فالدين له وحده‏,‏ ومن حقه ـ دون غيره ـ أن يعبد ويحمد‏,‏ وأن ترجي رحمته‏,‏ ويتقي غضبه‏,‏ ويخاف عذابه‏,‏ فكل نعمة تصل المخلوقين هي منه‏,‏ وفي كل ضائقة لا يلجأ العباد إلا إليه متضرعين بأعلي الأصوات‏,‏ ثم اذا استجاب الله الدعاء وكشف الضر‏,‏ نسي بعض الناس حق الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليه من التوحيد الكامل واخلاص العبادة‏,‏ فيشركون بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ظلما وعدوانا وجهلا‏,‏ ويمهلهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ حتي يروا عاقبة كفرهم أو شركهم به‏.‏
ومن ضلالهم يجعل المشركون لأوثانهم نصيبا مما رزقهم الله من فضله‏,‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ يقسم بجلاله‏,‏ أنه سوف يسألهم عما كانوا يقترفون من باطل‏,‏ ويفترون علي الله من كذب‏,‏ من مثل اعتبارهم الملائكة بنات ينسبونهن كذبا لله ـ تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا ـ ويجعلون لأنفسهم ما يحبون من الذكور‏,‏ تطاولا علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ من جانب‏,‏ وكراهية لخلفة البنات من جانب آخر‏,‏ ولذلك كانوا يتشاءمون من ولادتهن‏,‏ ويسعون الي وأدهن‏,‏ وهو من الظلم البين‏.‏

وتؤكد الآيات أن لله المثل الأعلي‏,‏ وهو العزيز الحكيم‏,‏ الذي لا يحتاج الي الصاحبة أو الولد‏,‏ وللكافرين بالآخرة مثل السوء والعذاب المهين‏,‏ وتشير الي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ من حلمه يؤخر الظالمين الي وقت انتهاء أجلهم‏,‏ الذي اذا جاء فإنهم لا يتأخرون عنه لحظة ولا يتقدمون عليه لحظة‏,‏ ولو يعجل الله‏(‏ تعالي‏)‏ العقاب علي مظالم الناس ما ترك علي ظهر الأرض من دابة‏.‏
ومن جهلهم ينسب المشركون الي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ما يكرهون أن ينسب إليهم هم‏,‏ وتنطق ألسنتهم الكذب ـ علي الرغم من ذلك كله ـ بأن لهم عند الله الحسني‏,‏ وتجزم الآيات بأن مثواهم النار التي سوف يساقون إليها قبل غيرهم‏.‏

ومرة أخري‏,‏ يتوجه الخطاب الي سيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
تالله لقد أرسلنا إلي أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم‏*‏ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدي ورحمة لقوم يؤمنون‏*‏
‏(‏النحل‏:63‏ و‏64).‏

وتعاود الآيات الاستشهاد‏,‏ علي طلاقة القدرة الإلهية في إبداع الخلق بإنزال الماء من السماء‏,‏ وإحياء الأرض به بعد موتها‏,‏ وبإخراج اللبن من ضروع الأنعام من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين‏,‏ وبالرزق الحسن الذي أودعه الله‏(‏ تعالي‏)‏ في ثمرات النخيل والأعناب وإن أساء بعض الناس استخدامه في صناعة المسكرات‏,‏ وبوحي الله‏(‏ تعالي‏)‏ الي الشغالات من إناث النحل في اتخاذ بيوتها‏,‏ وبالأكل من كل الثمرات‏,‏ فتسلك بها سبل ربها ذللا‏,‏ حتي يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس‏,‏ وبرحلة الإنسان في هذه الحياة ونهايتها الموت‏,‏ إما بعد فترة قصيرة أو عمر طويل‏,‏ وبتفضيل الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعض العباد علي بعض في الرزق‏,‏ وبنعمة الزوجية والذرية للإنسان‏,‏ وبرزقهم من الطيبات‏,‏ وبعد ذلك كله يشرك به بعض الناس‏,‏ فيؤمنون بالباطل‏,‏ ويجحدون نعم الله المشاهدة‏,‏ ويعبدون من دونه‏...‏ ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون‏*‏
‏(‏النحل‏:73).‏

وانطلاقا من ذلك‏,‏ فلا يجوز افتراض الشريك أو الشبيه أو المنازع أو الصاحبة أو الولد لله‏,‏ فالله منزه عن ذلك كله‏,‏ وهو‏(‏ تعالي‏)‏ يعلم فساد الذين يدعون ذلك زورا وبهتانا وسوف يجازيهم عليه‏,‏ وهم في غفلة لا يعلمون‏.‏
وضربت الآيات أمثالا لفساد عقيدة الشرك‏,‏ وأكدت أن لله غيب السماوات والأرض وأن الساعة لا تأتي إلا بغتة‏,‏ كرد طرف العين‏,‏ أو هي أقرب سرعة من ذلك‏,‏ إن الله علي كل شيء قدير‏.‏

وعاودت الآيات في سورة النحل الي التذكير بمزيد من نعم الله علي الإنسان‏,‏ ومنها خلق حواس السمع والأبصار والأفئدة للطفل‏,‏ الذي يخرج من بطن أمه وهو لا يعلم شيئا‏,‏ ومنها تسخير الطيور في جو السماء‏,‏ وإلهام الإنسان بناء البيوت للسكن‏,‏ وتيسير جلود الأنعام له‏,‏ ليصنع منها خياما وأخبية يسكن فيها‏,‏ وينقلها في الحل والترحال‏,...‏ ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلي حين‏*(‏ النحل‏:80).‏
ومن نعم الله علي الإنسان‏,‏ توفير الظل وقاية من حرارة الشمس‏,‏ وإعداد الأكنان في الجبال وقاية من الريح والمطر‏,‏ ومقرا للسكن قبل بناء البيوت‏,‏ والإلهام بحياكة الملابس وقاية من كل من البرد والحر‏,‏ وبصناعة دروع الحديد وقاية من الأعداء‏,‏ وإتمام النعم بإنزال الدين القيم هداية للناس الي عبادة الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده‏,‏ والاستسلام التام لأوامره‏.‏

وللمرة الرابعة‏,‏ تعاود الآيات في سورة النحل توجيه الخطاب الي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين‏*‏
‏(‏النحل‏:82).‏

وتؤكد الآيات‏,‏ أن جحود نعمة الله بعد معرفتها‏,‏ يؤدي الي الكفر‏,‏ وأن الآخرة ليست دار توبة أو اعتذار‏...‏ حين يشهد كل نبي وكل رسول علي أمته‏,‏ ويقدم الذين ظلموا إلي العذاب فلا يخفف عنهم ولا ينظرون‏,‏ ويتخاصم الذين أشركوا مع شركائهم‏,‏ ثم يستسلمون لحكم الله وقضائه بعد بيان ضلالهم القديم‏,‏ ويضاعف العذاب للذين ضلوا وأضلوا غيرهم‏,‏ جزاء فسادهم في الأرض‏.‏
وتعاود الآيات للمرة الخامسة‏,‏ توجيه الخطاب الي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)..‏ بقول الله‏(‏ تعالي‏):‏

ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم‏,‏ وجئنا بك شهيدا علي هؤلاء‏,‏ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدي ورحمة وبشري للمسلمين‏*‏
‏(‏النحل‏:89).‏

ومن مكارم الأخلاق‏,‏ التي تدعو إليها سورة النحل قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون‏*‏ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون‏*‏ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربي من أمة إنما يبلوكم الله به ولنبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون‏*‏ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون‏*‏ ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم‏*‏ ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون‏*‏ ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏*‏ من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏*(‏ النحل‏:90‏ ـ‏97).‏
وتأمر الآيات كل قاريء للقرآن الكريم‏,‏ أن يبدأ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم‏,‏ مؤكدة أنه ليس له سلطان علي الذين آمنوا وعلي ربهم يتوكلون‏,‏ وأشارت الي قضية النسخ وإلي ربانية القرآن الكريم‏,‏ وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدي وبشري للمسلمين‏*.(‏ النحل‏:102)‏
وترد الآيات في سورة النحل‏,‏ علي ادعاء الكافرين بأن الذي يعلم الرسول‏((‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بشر وتندد بالذين لا يؤمنون بآيات الله‏,‏ مؤكدة كذبهم وغضب الله عليهم‏,‏ وأن لهم عذابا عظيما‏,...‏ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏....‏

وترد هذا الموقف السلبي من الكافرين الي أنهم‏...‏ استحبوا الحياة الدنيا علي الآخرة‏...‏ فخسروا هداية رب العالمين‏,‏ وطبع الله علي قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فأصبحوا من الغافلين‏,‏ وأنهم سوف يكونون حتما هم الخاسرين في يوم الدين‏.‏
وامتدحت الآيات الجهاد في سبيل الله‏,‏ والهجرة بدين الله‏,‏ والصبر علي هذا الطريق الذي يستوجب غفران الله ورحمته‏,‏ في الدنيا والآخرة حين‏...‏ توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون‏*(‏ النحل‏:111).‏

وضربت الآيات مثلا للعقاب الذي ينزله الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالكافرين بأنعمه‏...,‏ ودعت المؤمنين الي الأكل من رزق الله الحلال الطيب والشكر لله علي نعمائه‏,‏ وسجلت قائمة من المحرمات من الطعام‏,‏ منها الميتة‏,‏ والدم‏,‏ ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به‏,‏ وأضافت قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏...‏ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم‏*(‏ النحل‏:115).‏

وقررت الآيات أن التحليل والتحريم من سلطات الله‏,‏ لا ينازعه فيها منازع‏,‏ ولا يشاركه أحد‏,‏ ومن يفعل ذلك فإن لهم عذابا أليما‏,‏ وأشارت الآيات الي ما حرم الله علي الذين هادوا بظلمهم‏,‏ وأكدت أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ غفور رحيم‏,‏ للذين تابوا وأصلحوا من بعد ما عملوا السوء بجهالة‏.‏
وأثنت الآيات علي أبي الأنبياء إبراهيم‏(‏ عليه السلام‏),‏ ثم أمرت رسولنا‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ باتباعه‏,‏ وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين‏*(‏ النحل‏:123).‏
وأشارت الآيات الي اختلاف اليهود في يوم السبت‏,‏ وأكدت أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏,‏ وختمت بدعوة رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ومن بعده جميع الذين آمنوا به ـ الي عدد من مكارم الأخلاق‏,‏ يقول فيها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏*‏ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين‏*‏ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون‏*‏ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏*(‏ النحل‏:125‏ ـ‏128).‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):...‏ يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه‏...*(‏ النحل‏:69).‏
ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:..‏ ما بين أبيض وأصفر وأحمر‏,‏ وغير ذلك من الألوان الحسنة علي اختلاف مراعيها ومأكلها منها‏...‏
وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه‏,‏ لا أري حاجة الي تكراره‏.‏

من الدلالات العلمية للنص الكريم‏:‏
أولا‏:‏ في قوله‏(‏ تعالي‏):‏ يخرج من بطونها‏...‏
أصل‏(‏ البطن‏)‏ الجارحة‏,‏ أي الفراغ الحاوي علي الأحشاء الرئيسية لجسم كل حيوان أو إنسان‏,‏ وجمعه‏(‏ بطون‏),‏ ويعرف‏(‏ البطن‏)‏ لغة بأنه ضد الظهر في كل شيء‏,‏ ولفظة‏(‏ البطن‏)‏ تذكر وتؤنث‏,‏ ويقال‏(‏ بطن‏)‏ الوادي و‏(‏استبطنه‏)‏ أي دخل في بطنه‏,‏ و‏(‏بطنان‏)‏ الجنة وسطها‏.‏
ويقال‏:(‏ بطن‏)‏ الأمر‏,‏ أي عرف باطنه‏,‏ و‏(‏بطن‏)‏ بفلان‏,‏ أي صار من خواصه‏,‏ و‏(‏بطانة‏)‏ الرجل هي وليجته الذين يختصهم بالاطلاع علي باطن أمره‏,‏ ولذلك يقال‏:(‏ أبطنه‏)‏ أي جعله من خواصه‏,‏ و‏(‏استبطن‏)‏ الشيء‏,‏ أي أخفاه أو طلب ما في بطنه‏,‏ ومن هنا جاءت بطانة الثوب بمعني ظهارته‏,‏ ويقال‏:(‏ بطن‏)‏ الثوب‏(‏ تبطينا‏),‏ أي جعل له بطانة‏.‏

ويقال‏:(‏ بطن‏)‏ الرجل‏,‏ أي اشتكي بطنه‏,‏ و‏(‏المبطون‏)‏ هو عليل البطن‏,‏ و‏(‏المبطن‏)‏ هو الضامر البطن‏,‏ ويقال‏:(‏ بطنه‏)‏ أي أصاب بطنه‏,‏ و‏(‏بطن‏)‏ الرجل‏,‏ أي عظم بطنه من الشبع فصار‏(‏ بطينا‏)‏ أو‏(‏ مبطانا‏),‏ و‏(‏البطنة‏)‏ هي الامتلاء الشديد للبطن بالطعام‏,‏ و‏(‏البطن‏)‏ الذي لا يهمه إلا بطنه‏,‏ ويقال لكل غامض أو غير مدرك بالحواس‏(‏ بطن‏)‏ أو‏(‏ باطن‏),‏ ولكل جلي تدركه الحواس ظهر أو ظاهر‏.‏
و‏(‏البطن‏)‏ ـ تصنيفا ـ هو ما دون القبيلة‏,‏ ودونه‏(‏ الفخذ‏)‏ ثم العائلة‏.‏

وضمير الهاء في‏(‏ بطونها‏)‏ يعود علي إناث النحل من الشغالات‏,‏ وهن اللائي يصنعن الشراب المختلف الألوان الذي فيه شفاء للناس‏,‏ وهي حقيقة لم تدرك إلا بعد قرون متطاولة من تنزل القرآن الكريم‏.‏
وبطن الشغالة من إناث النحل‏,‏ تأتي بعد كل من الرأس والصدر‏,‏ ويتألف بطنها من ثماني حلقات رقيقة‏,‏ مرنة‏,‏ تحوي بداخلها كلا من الجهاز الهضمي‏,‏ والتنفسي‏,‏ والدوري‏,‏ والعصبي‏,‏ بالاضافة الي الجهاز التناسلي‏,‏ الذي يتحور في الشغالات الي الجهاز اللاسع‏,‏ كما يحتوي بطن الشغالة من إناث النحل علي عدد من الغدد المهمة‏.‏

فالجهاز الهضمي لشغالات النحل‏,‏ يبدأ بالفم وأجزائه المختلفة‏,‏ ومن أهمها الغدد الفكية‏,‏ والوجناتية‏,‏ وغدد خلف المخ‏,‏ وكلها يفرز مواد مساعدة لتطرية وتليين ولصق قشور الشمع التي تفرزها غدد الشمع من بطن الشغالة‏,‏ والغدد اللعابية‏,‏ وهي مسئولة عن إفراز الخمائر المهمة‏(‏ الإنزيمات‏)‏ اللازمة لتحويل السكريات المعقدة في رحائق الأزهار الي سكريات بسيطة سهلة الهضم والتمثيل والامتصاص‏,‏ ويلي الفم البلعوم وحوله الغدد البلعومية‏,‏ وهي تقوم بتكوين الغذاء الملكي‏,‏ ويلي البلعوم مريء طويل يصل الي المعدة‏,‏ ومعدة شغالة النحل تختلف عن معي جميع الحشرات‏,‏ إذ تنتفخ في أولها مكونة حوصلة خاصة تعرف باسم حوصلة العسل يجمع فيها هذا الشراب المختلف الألوان‏,‏ وقد أعطاها الله‏(‏ تعالي‏)‏ القدرة علي إفراغ محتوياتها الي أقراص الشمع بالخلية‏,‏ عن طريق خرطومها الفمي‏,‏ وذلك لتخزين العسل في الخلية‏,‏ وحوصلة العسل تلك تقابل القونصة في بقية الحشرات‏,‏ وتليها المعدة الأمامية‏,‏ ثم المعدة الخلفية ثم قنوات ملبيجي‏,‏ ثم الأمعاء الدقيقة‏,‏ ويليها المستقيم المزود بغدد خاصة تعمل علي تنظيم التوازن المائي في جسم الشغالة‏,‏ وفي تجويف نهاية البطن يقع الجهاز اللاسع ويتكون من غدتين‏,‏ إحداهما قلوية والأخري حامضية‏,‏ تفرزان سم النحل الذي فيه شفاء كذلك للعديد من الأمراض‏,‏ وهذا الجهاز اللاسع متحور عن آلة وضع البيض في اناث النحل‏,‏ التي تقلع ـ بتقدير من الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ـ عن هذه الوظيفة‏,‏ تاركة إياها للملكة حتي تتفرغ إناث الشغالات لمسئولياتها الأخري‏,‏ وهي عديدة جدا‏,‏ ولعل ما في بطن شغالة النحل من أجهزة وغدد مختلفة هي المقصودة بالسبل في قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):...‏ فاسلكي سبل ربك ذللا‏...‏ أي فاسلكي بما أكلت من كل الثمرات تلك السبل التي يسرها لك ربك لتخرجي من بطونك هذا الشراب المختلف الألوان‏,‏ الذي جعل الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيه شفاء للناس‏,‏ ونسبتها الي رب النحلة من قبيل التكريم تعظيما لشأن تلك السبل‏,‏ التي لا يقدر علي خلقها إلا الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏

ثانيا‏:‏ في قوله‏(‏ تعالي‏):...‏ شراب مختلف ألوانه‏...:‏
وهذا الشراب المختلف الألوان‏,‏ يشمل كلا من عسل النحل‏,‏ والغذاء الملكي‏,‏ وما بهما من حبوب اللقاح‏,‏ وصمغ النحل‏(‏ العكبر‏),‏ وشمع النحل‏,‏ وسم النحل‏,‏ وكلها يخرج من بطون الشغالات من إناث النحل في حالة سائلة‏(‏ شراب‏)‏ ثم يجمد أو يتبلور بعد ذلك‏,‏ ولذا جاءت الإشارة إلي هذا الخليط العجيب إشارة عامة‏(‏ شراب مختلف ألوانه‏...),‏ وقد فهم جميع المفسرين من هذه الإشارة‏,‏ أنها تقصد عسل النحل لأن بقية ما يخرج من بطن النحلة الشغالة لم يعرف إلا في القرنين التاسع عشر والعشرين‏.‏
ومكونات ذلك الشراب المختلف الألوان‏,‏ الذي فيه شفاء للناس‏,‏ يمكن ايجازها فيما يلي‏:‏

‏(1)‏ عسل النحل‏:‏ وهو سائل حلو‏,‏ كثيف القوام‏,‏ لزج‏,‏ يختلف في صفاته الطبيعية‏(‏ من مثل ألوانه‏,‏ وروائحه‏,‏ ونكهاته‏,‏ وكثافته‏,‏ ودرجة رطوبته وقابليته للتبلور‏),‏ وفي تركيبه الكيميائي وذلك باختلاف كل من نوع الزهور المستمد منها الرحيق وحبوب اللقاح‏,‏ ونوع الشغالة التي جمعت كل ذلك‏,‏ ووقت جمعه‏.‏
ويتكون عسل النحل أساسا‏,‏ من السكريات التي تشكل نحو‏77%‏ من كتلته‏(‏ من مثل سكر العنب‏,‏ وسكر الفواكه‏,‏ وسكر القصب‏),‏ والماء الذي تتراوح نسبته بين‏10%‏ و‏20%‏ في المتوسط‏,‏ بالاضافة الي نسب متفاوتة من الأحماض العضوية والبروتينات وبعض المواد الدهنية والانزيمات‏,‏ والفيتامينات‏,‏ والهرمونات‏,‏ وآثار للعديد من العناصر‏(‏ من مثل الحديد‏,‏ والنحاس‏,‏ والسيليكون‏,‏ والمنجنيز‏,‏ والألمنيوم‏,‏ والكالسيوم‏,‏ والمغنيسيوم‏,‏ والصوديوم‏,‏ والبوتاسيوم‏,‏ والفوسفور‏,‏ والكبريت‏)‏ وبعض المضادات الحيوية‏,‏ وعناصر ومركبات أخري غير معروفة‏.‏
ويتراوح لون عسل النحل بين الأبيض المائي والعنبري الغامق‏,‏ مع كل المراحل الوسطي الممكنة‏,‏ وهذا التباين مرده الي اختلاف نسبة المكونات الصبغية القابلة للذوبان في الماء والتي تستمدها الشغالات من رحائق الزهور‏,‏ وهي غنية بالصبغات النباتية من مثل الكلوروفيل الأخضر‏,‏ والكاروتين الأصفر‏,‏ والأكزانثو فيللات الحمراء‏.‏

كذلك تختلف رائحة العسل باختلاف نسب المواد الطيارة الموجودة فيه‏,‏ والتي استخلصتها شغالات النحل من رحائق الأزهار أيضا‏,‏ والكثافة النوعية لعسل النحل تساوي في المتوسط مرة ونصف كثافة الماء‏(‏ حوالي‏1,5‏ جرام للسنتيمتر المكعب‏),‏ وتزداد لزوجة هذا العسل بازدياد تركيزه‏,‏ أي كلما قلت نسبة الماء فيه‏,‏ وبعض أنواعه تصل كثافته الي حد كثافة المواد الجيلاتينية‏(‏ الهلامية‏).‏
وتختلف قابلية العسل للتبلور باختلاف تركيبه الكيميائي‏,‏ فبعضه يبقي سائلا لعدة سنوات‏,‏ والبعض الآخر يتبلور بعد إنتاجه مباشرة‏,‏ وتتباين سرعة تبلور عسل النحل بتباين نسب الأنواع المختلفة من السكريات فيه‏(‏ من مثل نسبة سكر العنب إلي سكر الفواكه‏),‏ وتباين نسب كل من المواد الغروية والرطوبة فيه‏,‏ ليس هذا فقط بل إنه من الثابت أن نسبة الماء في عسل النحل اذا تجاوزت‏21%‏ من كتلته‏,‏ فإنه يتخمر علي الرغم من أن الخمائر العادية لايمكنها النمو في عسل النحل نظرا للتركيز العالي للسكريات فيه‏,‏ فإذا انخفض هذا التركيز بزيادة نسبة الماء تمكنت بعض الخمائر من العيش في عسل النحل‏,‏ والعمل علي تخمره‏(‏ أي تحوله الي أنواع مختلفة من الكحول وثاني أكسيد الكربون‏)‏ وبعد ذلك تتحلل تلك الكحولات في وجود الأكسجين الي كل من الخل والماء‏,‏ ولذلك تقف بعض الشغالات أمام عيون الخلية ضاربة بأجنحتها لفترة طويلة‏,‏ من أجل تبخير أكبر قدر ممكن من ماء العسل كي لا يفسد‏.‏

‏(2)‏ الغذاء الملكي‏:‏ وهو مركب كيميائي معقد‏,‏ هلامي القوام فاتح اللون‏,‏ يميل الي الاصفرار حتي يصل الي لون القشدة‏,‏ تفرزه الغدد البلعومية لشغالات النحل‏,‏ ويتكون أساسا من البروتينات‏,‏ والأحماض الأمينية والدهنية‏,‏ والماء‏,‏ والسكريات‏,‏ وبعض العناصر المعدنية‏,‏ والمواد المختزلة‏,‏ والفيتامينات‏,‏ والهرمونات‏,‏ والانزيمات‏,‏ وبعض مكونات الحمض النووي‏,‏ وغير ذلك من المركبات التي لم تعرف بعد‏.‏
ولقيمته الغذائية العالية‏,‏ وتمثله بأكمله في الجسم‏,‏ ومروره مباشرة الي الدم دون حاجة الي هضم‏,‏ يصل وزن يرقة ملكة النحل‏(‏ التي تتغذي علي هذا الغذاء الملكي طيلة حياتها‏)‏ عند تمام نموها الي نحو‏(1800)‏ مرة قدر وزن غيرها من يرقات الخلية المختلفة‏,‏ وتعمر لمائة ضعف عمر قريناتها من الشغالات والذكور‏,‏ وتضع أكثر من مليوني بيضة في المتوسط طيلة حياتها‏.‏

‏(3)‏ شمع النحل‏:‏ وهو عبارة عن مادة شمعية بيضاء‏,‏ شفافة‏,‏ خفيفة‏,‏ ذات تركيب كيميائي معقد‏,‏ تفرزها الشغالات من إناث النحل من غدد خاصة في أسفل بطنها‏,‏ علي هيئة سائلة ثم تجف بمجرد تعرضها للهواء‏,‏ وتختزن في جيوب خاصة علي هيئة قشور‏,‏ تعاود الشغالة نقلها بأرجلها الي فمها لتعجنها بفكوكها وتصنع منها أقراص الشمع التي بها خلية النحل‏,‏ وشمع العسل عازل للحرارة‏,‏ ولا يتأثر بأي من الماء أو الكحول الباردين‏.‏
ويغلب علي تركيب شمع العسل مركب كيميائي يعرف باسم بالميتات المريسيل‏(MericylPalmitate)‏ وينتج عن اتحاد بعض الأحماض الدهنية مع بعض أنواع الكحول‏,‏ هذا بالاضافة الي نسبة من الأحماض الدهنية الحرة‏,‏ ومن المواد الكربوهيدراتية المشبعة والمواد العطرية‏.‏

‏(4)‏ صموغ النحل وغراؤه‏(‏ العكبر‏):‏ وهي مواد صمغية راتنجية لزجة‏,‏ تجمعها الشغالات من إناث النحل من قلف الأشجار وبعض براعمها‏,‏ ثم تفرز عليها من غدد وجناتها ما يحولها الي صموغ‏,‏ تستخدمها في تثبيت الأقراص الشمعية وفي ملء الشقوق الفاصلة بينها‏,‏ وتبطين عيونها السداسية من الداخل‏,‏ وتضييق مداخل الخلايا في فصل الشتاء‏,‏ وتحنيط الآفات الحيوانية التي تتسلل الي داخل الخلية بعد قتلها حتي لا تلوث البيئة‏,‏ ويتكون العكبر من صموغ‏,‏ وراتنجات‏,‏ وزيوت طيارة‏,‏ وبعض الأحماض العضوية والفيتامينات‏,‏ وبعض المضادات الحيوية القاتلة للبكتيريا والفطريات‏.‏

‏(5)‏ سم النحل‏:‏ وهو سائل شفاف‏,‏ سريع الجفاف‏,‏ ذو رائحة عطرية لاذعة وطعم مر‏,‏ يفرزه جهاز اللسع في الشغالات من إناث النحل‏,‏ للدفاع عن نفسها وعن خليتها‏,‏ ويتكون أساسا من البروتينات‏,‏ والزيوت الطيارة‏,‏ والأحماض‏,‏ والانزيمات‏(‏ نحو‏155‏ إنزيما‏)‏ وبعض مركبات العناصر‏,‏ ويستخدم في علاج عدد من الأمراض كما هو الحال في غيره من أنواع الشراب‏,‏ الذي يخرج من بطون شغالات النحل‏.‏

‏(6)‏ خبز النحل‏:‏ وهو من مكونات ذلك الشراب المختلف الألوان‏,‏ الذي يخرج من بطون الشغالات من اناث النحل‏,‏ التي تقوم بتغذية يرقات النحل في الأيام الثلاثة الأولي من حياتها بالغذاء الملكي‏,‏ وابتداء من اليوم الرابع تقدم لليرقات التي سوف تصبح شغالات أو ذكورا غذاء مكونا من حبوب اللقاح المخلوطة بالعسل‏,‏ يعرف باسم خبز النحل‏,‏ بينما تستمر اليرقات التي ستصبح ملكات علي الغذاء الملكي طيلة حياتها‏,‏ وعلي ذلك فإن كلا من خبز النحل وحبوب اللقاح يصبح جزءا من مكونات ذلك الشراب‏,‏ الذي يخرج من بطون الشغالات من إناث النحل‏,‏ فغذاء الملكات يتكون أساسا من كل من مستخلصات الرحيق وحبوب اللقاح‏,‏ وكذلك خبز النحل يتكون من فتات حبوب اللقاح المخلوط بالعسل‏,‏ وتتراوح نسبة البروتينات في حبوب اللقاح بين‏7%‏ و‏30%,‏ ويتكون الباقي من الأحماض الأمينية‏,‏ والدهون‏,‏ والهرمونات‏,‏ والخمائر‏(‏ الإنزيمات الممثلة بأكثر من‏97‏ إنزيما‏),‏ والفيتامينات‏,‏ والسكريات‏,‏ والمواد الطيارة‏,‏ وبعض مكونات الحمض النووي‏,‏ بالإضافة الي العديد من مركبات العناصر المعدنية والماء وبعض الأصباغ‏.‏

هذا الخليط العجيب‏,‏ الذي تعجز أكبر المصانع التي بناها الإنسان عن إنتاج شيء من مثله‏,‏ يخرجه ربنا تبارك وتعالي من بطون الشغالات من إناث النحل‏,‏ ولذلك جاءت الإشارة إليها‏,‏ والي بطونها‏,‏ والي هذا الخليط العجيب بالتسمية‏(‏ شراب مختلف الألوان‏),‏ وهي حقائق لم يبدأ الإنسان في التعرف عليها إلا بعد منتصف القرن التاسع عشر الميلادي‏,‏ وورودها في كتاب الله بهذه الصياغة العلمية الفائقة الدقة‏,‏ وهو كتاب أنزل علي نبي أمي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ من قبل أربعة عشر قرنا‏,‏ وفي أرض كانت غالبية قاطنيها من الأميين‏,‏ لمما يقطع بأن القرآن الكريم لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق‏,‏ ويشهد بالنبوة وبالرسالة للنبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه‏,‏ ومن تبع هداه ودعا بدعوته الي يوم الدين‏,‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏