حتي إذا أتوا علي واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لايحطمنكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون‏*‏
‏*‏ النمل‏:18*‏
بقلم الدكتور‏:‏زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في الخمس الأول من سورة النمل وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏(93)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي وادي النمل الذي مر به نبي الله سليمان‏(‏ عليه السلام‏)‏ وجنوده‏,‏ فنطقت نملة ـ بلغتها الخاصة بها ـ محذرة رفاقها من إمكانية أن يطأهم سليمان وجنوده بأقدامهم أو بحوافر خيلهم فيحطموهم وهم لايشعرون‏,‏ ولذلك أمرتهم بدخول مساكنهم‏.‏ وفي هذه الواقعة من الدلالة علي وجود قدر من النطق و الإدراك عند أمة النمل‏,‏ وكذلك عند جميع المخلوقات وهي ماأكدته الدراسات العلمية في أواخر القرن العشرين‏.‏
و سورة النمل هي إحدي سور ثلاث نزلت متتالية بنفس ترتيبها في المصحف الشريف وهي‏:‏ الشعراء‏,‏ النمل‏,‏ و القصص‏,‏ ويكاد منهاجها يكون واحدا‏,‏ في استعراض قصص عدد من الأمم السابقة من أجل استخلاص العبرة‏,‏ والتعرف علي تاريخ البشرية في تعاملها مع رسالة السماء‏,‏ والتدبر في سنن الله الواقعة بعباده دون تغير‏,‏ أو تحول‏,‏ أو توقف‏,‏ والمقارنة بين مواقف مشركي قريش من خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ومواقف أعداد من الكفار والمشركين أمثالهم من رسل الله السابقين‏,‏ ومواقف أعداد أخري من الحكام اللاحقين من بعدهم‏,‏ الظلمة المتجبرين علي الخلق من الدعاة الصادقين إلي الله عبر التاريخ وإلي يومنا الراهن‏,‏ وحتي قيام الساعة‏.‏

ويدور المحور الرئيسي لسورة النمل حول إخلاص الإيمان بالله تعالي وحده‏,‏ وإخلاص العبادة له‏(‏ سبحانه‏)‏ وحده‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولاشبيه‏,‏ ولامنازع‏,‏ ولاصاحبة‏,‏ ولا ولد‏,‏ لأن هذه كلها من صفات المخلوقين‏,‏ والله تعالي منزه عن صفات خلقه‏),‏ ولذلك كان توحيد الله تعالي‏,‏ وتنزيهه عن كل وصف لايليق بجلاله هو صلب رسالة السماء إلي المخلوقين من لدن أبينا آدم إلي بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏),‏ ولذلك أيضا تكرر في سورة النمل هذا السؤال التقريري‏,‏ التقريعي‏,‏ التوبيخي الشديد‏:‏
أ إله مع الله؟ خمس مرات في سياق الاستدلال علي الوحدانية المطلقة لله‏(‏ تعالي‏)‏ فوق جميع خلقه من خلال دراسة هذا الخلق‏,‏ ويأتي الجواب في كل مرة صادعا‏,‏ قويا‏,‏ عنيفا‏:‏ بل هم قوم يعدلون‏,‏ بل أكثرهم لايعلمون‏,‏ قليلا ماتذكرون‏,‏ تعالي الله عما يشركون‏,‏ و قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين‏.‏

وبالإضافة الي التركيز علي وحدانية الله‏(‏ تعالي‏),‏ وتجريم وتكفير الشرك به‏,‏ شددت سورة النمل علي قواعد أخري من ركائز العقيدة الإسلامية ومنها حقيقة كل من النبوة‏,‏ والرسالة‏,‏ والوحي‏,‏ والآخرة التي استشهدت السورة الكريمة بعدد من علاماتها‏,‏ والمظاهر المصاحبة لها‏,‏ واشارت إلي البعث وأهواله‏,‏ والحساب ودقته‏,‏ والجزاء وعدله‏,‏ وأكدت حقيقة الغيب المطلق الذي لايعلمه إلا الله‏(‏ تعالي‏),‏ الخلاق‏,‏ الرزاق‏,‏ العليم‏,‏ واهب النعم‏,‏ ومجري الخيرات‏,‏ رب هذا الكون ومليكه‏,‏ صاحب الحول والطول والقوة المطلقة‏,‏ ولاحول ولاطول ولاقوة إلا به‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏
وقد استهلت سورة النمل بالحرفين المقطعين طس‏,‏ ومثل هذه المقطعات من حروف الهجاء التي افتتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم تعتبر من أسرار هذا الكتاب الخالد‏,‏ وهذا السر فوض غالب المفسرين الأمر فيه إلي الله‏,‏ وحاول البعض منهم إيجاد تفسير له‏,‏ ومن هؤلاء من رأي في هذه المقطعات وسائل تنبيه كالتي استخدمها العرب في مطالع أحاديثهم لاستثارة انتباه المستمعين إليهم ومنهم من رأي فيها رموزا إلي كلمات أو أعداد أو معان محددة‏,‏ أو أسماء للسور التي وردت في أوائلها‏,‏ ومنهم من رأي فيها وجها من أوجه تحدي العرب بالقرآن الكريم‏.‏ وإثبات إعجازه‏,‏ من باب أن هذه الحروف الأربعة عشر تشير إلي بقية حروف الهجاء التي هي في متناول أيديهم‏,‏ وعلي الرغم من ذلك فهم عاجزون ـ وسوف يظلون عاجزين ـ عن الإتيان بسورة من مثله‏,‏ وقد تحداهم القرآن الكريم بذلك في أكثر من موقع ولايزال هذا التحدي قائما دون أن يتقدم عاقل بسورة من مثل سور القرآن الكريم‏.‏ ومن المفسرين من رأي في الفواتح الهجائية‏(‏ التي جاءت في مطلع تسع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم‏)‏ معجزة للرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ تتمثل في نطقه بأسماء الحروف ـ وهو الأمي ـ والأمي ينطق بالحروف ولايعرف أسماءها‏.‏

ومن المفسرين من يميل إلي الجمع بين هذه الآراء جميعها‏,‏ ومنهم من يدعو إلي المزيد من الاجتهاد لعل الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن يأذن بمعرفتها فيفتح لأحد الصالحين المجتهدين باب علم فيها وما ذلك علي الله بعزيز‏.‏
وبعد الفاتحة الهجائية تستكمل أول آيتين في سورة النمل بالثناء علي القرآن الكريم وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين‏*‏ هدي وبشري للمؤمنين‏*‏
‏(‏النمل‏:2,1).‏

ثم تصف الآيتان التاليتان المؤمنين بأنهم هم‏:‏ الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون‏(‏ النمل‏:3).‏
كما تصف الذين لايؤمنون بالآخرة بأنهم‏(‏ يعمهون‏)‏ أي يتيهون في ضلالاتهم التي يتحيرون فيها كثيرا ويترددون‏.‏
وتؤكد الآيات بعد ذلك حقيقة أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق وذلك بتوجيه الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ له‏:‏
وإنك لتلقي القرآن من لدن حكيم عليم
‏(‏ النمل‏:6).‏

كذلك استعرضت الآيات في سورة النمل لمحات من سير عدد من أنبياء الله ورسله تأكيدا علي وحدة الرسالة السماوية التي كانت كلها إسلاما لله تعالي‏,‏ وتكاملت كلها في بعثة الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏
وتبدأ السورة الكريمة في هذا السرد الإلهي بحلقة من قصة موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ ناجاه فيها ربه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالبقعة المباركة من أرض سيناء‏(‏ جبل المناجاة‏)‏ وكلفه بإبلاغ رسالته إلي فرعون وقومه‏,‏ وأعطاه تسع آيات تشهد له بالنبوة وبالرسالة فكذبوا بها‏,‏ وأنكروها لما جاءتهم‏,‏ واعتبروها ضربا من السحر علي الرغم من تيقنهم من صدقها‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين‏*‏ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‏*‏
‏(‏ النمل‏:14,13).‏

ثم جاء ذكر كل من داود وولده سليمان‏(‏ عليهما السلام‏)‏ في قول ربنا تبارك وتعالي‏:‏
ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا علي كثير من عباده المؤمنين‏*‏ وورث سليمان داود وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين‏*‏ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون‏*‏ حتي إذا أتوا علي واد النمل قالت نملة‏:‏ ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون‏*‏ فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلي والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين‏*(‏ النمل‏:15‏ ـ‏19).‏
وكان الهدهد من ضمن ماحشر لسليمان من الطير‏,‏ ولكنه عندما تفقده لم يجده‏,‏ فتوعده بعذاب شديد‏,‏ ثم فاجأه الهدهد بنبأ جاء به من مملكة سبأ‏,‏ حيث وجد امرأة تحكمهم‏,‏ وقد أوتيت من كل شيء‏,‏ ولها عرش عظيم‏,‏ وأنها وقومها يسجدون للشمس من دون الله‏,‏ وانتقد الهدهد ذلك كما جاء في قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي لسانه إذ يقول‏:‏
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لايهتدون‏*‏ ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ماتخفون وماتعلنون‏#‏ الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم‏*‏
‏(‏ النمل‏:24‏ ـ‏26).‏

فأرسل سليمان الهدهد برسالة منه إلي أهل مملكة سبأ‏,‏ وتلقته ملكتهم فقالت ـ كما يقول الحق ـ تبارك وتعالي‏:‏
قالت ياأيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم‏*‏ إنه من سليمان وإنه باسم الله الرحمن الرحيم‏*‏ ألا تعلوا علي واتوني مسلمين‏(‏ النحل‏:29‏ ـ‏31)‏ وبعد مشاورات مع أهل الرأي عندها قامت ملكة سبأ بإرسال هدية إلي سليمان فرفضها‏,‏ وتوعدها بالحرب‏,‏ وأمر بالإتيان بعرشها فجئ به إليه وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
قال ياأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين‏*‏ قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين‏*‏ قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك‏...*‏
‏(‏ النمل‏:38‏ ـ‏40).‏

ثم جاءت ملكة سبأ لملاقاة سليمان‏,‏ وقد سبقها عرشها إليه‏,‏ فقالت كما تروي الآيات في سورة النمل‏:‏
‏..‏ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين‏*‏
‏(‏النمل‏:44)‏

وبعد ذلك انتقلت سورة النمل إلي جانب من قصة نبي الله صالح‏(‏ عليه السلام‏),‏ وكان أغلب قبيلته ثمود من المفسدين في الأرض فدعاهم إلي عبادة الله الواحد القهار‏,‏ وأبرز لهم من المعجزات الحسية مايشهد له بالنبوة ولكنهم كفروا برسالته‏,‏ وتآمروا عليه‏,‏ ومكروا به فدمرهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ أجمعين‏,‏ ونجي صالحا ومن آمن معه‏,‏ ويذكرنا ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بما حدث لهم قائلا‏:‏
فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين‏,‏ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون‏,‏ وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون‏.‏
‏(‏النمل‏:51‏ ـ‏53)‏

ثم عرجت سورة النمل إلي جانب من قصة نبي الله لوط‏(‏ عليه السلام‏),‏ والكافرين المفسدين في الأرض من قومه‏,‏ وهمهم بإخراجه ومن آمن معه من قريتهم بدعوي أنهم أناس يتطهرون‏,‏ فأنزل الله تعالي عقابه بهم‏,‏ ونجي لوطا والذين آمنوا معه‏.‏
وفي خواتيم سورة النمل وجهت الآيات الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
قل الحمد لله وسلام علي عباده الذين اصطفي آلله خير أما يشركون‏*‏ أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ماكان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون‏*‏ أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أ إله مع الله بل أكثرهم لايعلمون‏*.‏ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الإرض أ إله مع الله قليلا ماتذكرون‏*‏ أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أ إله مع الله تعالي الله عما يشركون‏*‏ أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أ إله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين‏*‏
‏(‏النمل‏:59‏ ـ‏64).‏

وتعاود الآيات في سورة النمل وصف كل من منكري الآخرة والمتشككين في وقوعها بالعمي‏,‏ وتطالب خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالرد عليهم بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين‏*‏
‏(‏النمل‏:69).‏

وتؤكد الآيات أن اليهود قد حرفوا دينهم واشتروا به ثمنا قليلا‏,‏ ممتدحة في نفس الوقت القرآن الكريم وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
إن هذا القرآن يقص علي بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون‏*‏ وإنه لهدي ورحمة للمؤمنين‏*‏
‏(‏النحل‏:77,76)‏

وتذكر الآيات في سورة النمل بواحدة من العلامات الكبري للساعة‏,‏ مؤكدة جحود أغلب الناس بآيات الله‏,‏ وذلك بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏*‏
‏(‏النمل‏:82)‏

ثم تذكر الآيات كذلك بيوم البعث وأهواله‏,‏ وبعدد من الأحداث المصاحبة له‏,‏ وتصف تمايز الناس فيه بين محسنين ومسيئين‏,‏ وجزاء كل منهم‏,‏ وتنتهي إلي قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي لسان خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏
إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين‏*‏ وأن أتلوا القرآن فمن اهتدي فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين‏*‏
‏(‏ النمل‏:92,91).‏

وتختتم هذه السورة المباركة بأمرمن الله‏(‏ تعالي‏)‏ إلي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يقول فيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون‏*‏
‏(‏النمل‏:93)‏

وفي هذه الخاتمة الكريمة إشارة إلي التقدم العلمي والتقني الذي حققته مسيرة البشرية في زماننا الراهن‏,‏ وماكان لأحد في زمن الوحي‏,‏ ولا لقرون متطاولة من بعده إدراك لإمكانية تحقيق ذلك أبدا‏.‏

من الاشارات الكونية في سورة النمل
‏(1)‏ التأكيد علي حقيقة الآخرة‏,‏ والعلوم المكتسبة تؤكد أن الكون مستحدث فان‏,‏ كانت له في الأصل بداية‏,‏ ولابد وأن ستكون له في يوم من الأيام نهاية‏,‏ لاتستطيع العلوم المكتسبة تحديدها‏.‏
‏(2)‏ الإشارة إلي عالمي الغيب والشهادة‏,‏ والعلوم المكتسبة تؤكد أن المعلوم لنا من الجزء المدرك من الكون لايتعدي‏10%‏ من الكتل المحسوبة رياضيا‏,‏ وفيزيائيا‏,‏ وفلكيا فيه‏,‏ وأن الغيوب في السماوات والأرض أكثر من أن تحصي‏.‏

‏(3)‏ الإشارة الي حقيقة أن للنمل ـ كما للطيور ولغيرهما من خلق الله ـ وعيا‏,‏ وإدراكا‏,‏ وذاكرة‏,‏ وقدرات متباينة علي التعبير عن الذات‏,‏ والتفاهم‏,‏ والاتصال‏,‏ وتبادل المعلومات‏,‏ وإصدار الأوامر‏,‏ وتلقيها من الآخرين في تجمعاتها ومع غيرها من الأفراد والجماعات‏,‏ وعلوم سلوك الحيوان تؤكد ذلك‏.‏
‏(4)‏ التلميح إلي سرعات فائقة تقترب من سرعة الضوء التي لم تعرف إلا في القرن العشرين‏,‏ وذلك من قبل أربعة عشر قرنا‏,‏ وفي مجتمعات لم يكن لها أدني قدر من المعرفة العلمية‏.‏

‏(5)‏ التأكيد علي حقيقة خلق السماوات والأرض وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يبدأ الخلق ثم يعيده‏,‏ والعلوم المكتسبة تدعم ذلك‏.‏
‏(6)‏ الإشارة إلي تصريف الرياح‏,‏ وإلي دورة الماء حول الأرض بالتأكيد علي إنزاله من السماء‏,‏ وإلي إنبات الأرض بمجرد إنزال ماء السماء عليها‏.‏

‏(7)‏ ذكر العديد من حقائق الأرض ومنها أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد جعلها قرارا‏,‏ وجعل خلالها أنهارا‏,‏ وجعل لها رواسي‏,‏ وجعل بين البحرين حاجزا‏.‏
‏(8)‏ إظهار حقيقة أن هداية الله‏(‏ تعالي‏)‏ للعباد في ظلمات البر والبحر بواسطة أضواء نجوم السماء ونور القمر هي من نعم الله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي يرزقهم من السماء والأرض‏.‏

‏(9)‏ الإشارة إلي ماعند جميع الحيوانات‏,‏ بل جميع المخلوقات من إيمان فطري‏,‏ وعبادة وتسبيح تسخيريين‏,‏ ووعي وإدراك ومنطق وذاكرة‏,‏ وأن الله تعالي يهب لمن يشاء من عباده القدرة علي استيعاب ذلك وفهمه‏.‏
‏(10)‏ الإشارة إلي حقيقة دوران الأرض حول محورها بتبادل كل من الليل والنهار‏,,‏ وكذلك بمرور الجبال كما يمر السحاب وهي تبدو للناظر إليها وكأنها جامدة وإبراز الحكمة من ذلك‏.‏

‏(11)‏ الجزم القاطع بأن المستقبل سوف يكشف صدق كل ماجاء به القرآن الكريم‏,‏ وفي ذلك استشراف للتقدم العلمي والتقني الذي نعيشه اليوم‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الثالثة فقط من القائمة السابقة والتي أشارت إليها الآية الثامنة عشرة من سورة النمل‏,‏ وقبل البدء في ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏ حتي إذ أتوا علي واد النمل قالت نملة ياأيها النمل أدخلوا مساكنكم لايحطمنكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون
‏(‏النمل‏:18)‏

‏*‏ ذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله برحمته الواسعة‏)‏ مانصه‏:‏
لقد سار الموكب‏,‏ موكب سليمان من الجن والإنس والطير‏,‏ في ترتيب ونظام‏,‏ يجمع آخره علي أوله‏,‏ وتضم صفوفه‏,‏ وتتلاءم خطاه‏,‏ حتي إذا أتوا علي واد كثير النمل‏..‏ قالت نملة لها صفة الإشراف والتنظيم علي النمل السارح في الوادي ـ ومملكة النمل كمملكة النحل دقيقة التنظيم‏,‏ تتنوع فيها الوظائف‏,‏ وتؤدي كلها بنظام عجيب‏,‏ يعجز البشر غالبا عن اتباع مثله‏,‏ علي ما أوتوا من عقل راق وإدراك عال ـ قالت هذه النملة للنمل بالوسيلة التي تتفاهم بها أمة النمل‏,‏ وباللغة المتعارفة بينها‏,‏ قالت للنمل‏:‏ ادخلوا مساكنكم كيلا يحطمنكم سليمان وجنوده‏,‏ وهم لايشعرون بكم‏.‏
‏*‏ وجاء في تعليق الخبراء علي شرح أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ مانصه‏:‏ يتضح من هذه الآية الشريفة أن النمل يعيش في جماعات‏,‏ أي أن له مجتمعا‏,‏ وأن من خصائصه اليقظة والحذر‏..‏

وقد عرف لمجتمع النمل منذ القدم خصائص عدة تشهد بأن له مجتمعا منظما‏,‏ له نظام دقيق في الحكم‏,‏ وأنه علي قدر كبير من الذكاء والدهاء‏,‏ وقوة الذاكرة‏,‏ وحب العمل والمثابرة‏,‏ والجهاد الذي لايعرف الكلل ولا اليأس‏,‏ كما عرف سعة الحيلة فيما يقوم به من أعمال‏,‏ وآية ذلك أن مجتمع النمل‏..‏ يقوم بدفن موتاه‏,‏ وتحرص جماعاته المختلفة علي الإلتقاء في صعيد واحد من حين إلي آخر‏,‏ ولهذا خصص أياما معينة لإقامة سوق تجتمع فيها جماعات لتبادل السلع وللتعارف‏.‏ وهذه الجماعات حين تلتقي تتجاذب أطراف الحديث باهتمام بالغ‏,‏ ويسأل بعضها البعض أسئلة تتصل بشئونها‏.‏
ومن مظاهر مجتمعها المترابط قيامها بمشروعات جماعية مثل إقامة الطرق الطويلة في أناة ومثابرة تثيران الدهشة‏..‏ ولاتكتفي هذه الجماعات بالعمل نهارا بل تواصله ليلا في الليالي القمرية‏,‏ ولكنها تلتزم مستعمراتها في الليالي المظلمة‏.‏ ولأعضاء هذا المجتمع في جمع المواد الغذائية‏,‏ وحملها‏,‏ وتخزينها والمحافظة عليها طرق فريدة في نوعها‏,‏ فإذا لم تستطع النملة حمل ما جمعته في فمها كعادتها لكبر حجمه‏,‏ حركته بأرجلها الخلفية ورفعته بذراعيها‏.‏ ومن عاداتها أن تقضم الجذور‏,‏ وتفلق بعض الحبوب قبل تخزينها حتي لاتعود إلي الإنبات مرة أخري‏,‏ وتجزيء البذور الكبيرة لكي يسهل عليها إدخالها في مستودعاتها‏,‏ وإذا ما ابتلت بفعل المطر أخرجتها إلي الهواء والشمس لتجف‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
أولا‏:‏ أن النمل يحيا في جماعات منظمة‏:‏
ويشير إلي هذه الحقيقة كل من اسم السورة والآية التي نحن بصددها‏,‏ فاسم السورة جاء بصيغة الجمع‏(‏ النمل‏)‏ ولم يأت بصيغة الإفراد التي سميت بها سور قرآنية كريمة أخري مثل سورة العنكبوت‏,‏ والعنكبوت يحيا حياة فردية‏,‏ والنمل لايحيا إلا في جماعات‏,‏ وإذا ضلت نملة منها عن جماعتها أو انفصلت عنها بسبب من الأسباب فإنها إما أن تنضم إلي جماعة أخري أو تموت‏.‏
وكذلك استخدمت الآية الكريمة التي نحن بصددها تعبير‏(‏ وادي النمل‏)‏ وقد ثبت أن النمل يحيا في جماعات يتفاوت عدد أفرادها بين بضع عشرات‏,‏ وعشرات الملايين‏,‏ يحكمها تنظيم دقيق‏,‏ تتنوع فيه المسئوليات والوظائف والأعمال‏,‏ التي تؤدي كلها بمستويات مبهرة من الإتقان في الأداء‏,‏ والتفاني في العطاء‏,‏ والثبات والإجتهاد والمثابرة التي يفتقر إليها كثير من الناس‏.‏

وتبدأ جماعة النمل بالملكة المخصبة التي تضع بيضها في مكان آمن ترعاه فيه حتي يفقس وتخرج منه اليرقات التي تتعهدها الملكة حتي يتم نموها إلي الحشرة الكاملة‏,‏ والملكات هي الإناث الخصبة من النمل التي أعطاها الله‏(‏ تعالي‏)‏ القدرة علي التكاثر‏,‏ ووضع البيض‏,‏ ورعاية صغارها حتي تصبح قادرة علي العمل‏,‏ وحينئذ تبدأ الشغالات القيام بمسئولية مستعمرة النمل قياما كاملا حتي تأتي ملكة جديدة‏,‏ وتستغرق هذه الدورة عدة سنوات تتفاوت من نوع من النمل إلي نوع آخر‏.‏
والشغالات التي تشكل الغالبية الساحقة في مستعمرة النمل هي إناث النمل العاقرة‏(‏ العواقر‏)‏ التي لادور لها في عملية التكاثر ولكنها تقوم بمسئوليات الجماعة كاملة‏,‏ أما ذكور النمل فيتحدد دورها في إخصاب الملكات‏,‏ وكل من الملكات وذكور النمل لها أجنحة تطير بها بعد نضجها مباشرة في أسراب تتم خلالها عملية التزاوج وإخصاب الملكات‏,‏ وبعد ذلك تموت الذكور مباشرة‏,‏ وتعود الملكة المخصبة الي عش النمل لتضع بيضها‏,‏ وتقصف أجنحتها حتي لاتتكرر عملية الإخصاب لها‏:‏ وتستمر الملكة في إدارة أمور جماعة النمل طيلة حياتها التي قد تمتد إلي خمس عشرة سنة‏,‏ بينما تعيش الشغالات لفترات تتراوح بين الأربع والسبع سنوات ثم تموت‏,‏ ولذلك تقوم علي مستعمرة النمل ملكة واحدة‏,‏ أو عدة ملكات بحسب حجم المستعمرة‏,‏ وتقوم الشغالات ببناء المستعمرة‏(‏ عش أو أعشاش النمل‏)‏ وشق الطرقات المؤدية إليها‏,‏ ونظافتها وصيانتها‏,‏ وحراستها‏,‏ والدفاع عنها‏,‏ كما تقوم بجمع الطعام‏,‏ وتجهيزه وتخزينه‏,‏ وغير ذلك من الأعمال‏.‏

وقد يحتوي عش النمل علي كائنات أخري تتعايش مع النمل في تكافل عجيب‏,‏ وذلك من مثل حشرة المن وبعض الخنافس‏.‏
وأمة النمل هي من أكثر الأمم الحية عددا‏,‏ وأوسعها انتشارا إذ يعرف منها اليوم أكثر من ثمانية عشر ألف نوع‏,‏ يمثل كل نوع منها ببلايين الأفراد التي تنتشر في جميع مناطق الأرض ماعدا المناطق القطبية‏,‏ ويزدهر إنتشار النمل في المناطق الحارة بمتوسط‏150‏ نملة في المتر المربع‏,‏ وهذه الأسراب من النمل تبني ملايين البيوت‏(‏ الأعشاش‏)‏ وتقضي علي بلايين الحشرات سنويا والتي لو تركت لدمرت الكساء الخضري للأرض‏,‏ وعلي ذلك فإن أسراب النمل تلعب دورا رئيسيا في عملية الإتزان البيئي للأرض‏,‏ وتمثل حلقة هامة منها‏,‏ وبالإضافة إلي ذلك فإن النمل بحفره المستمر في الأرض يقوم بدور هام في تهوية التربة‏,‏ وتسميدها‏,‏ وتعقيمها‏,‏ وتطهيرها من العديد من الآفات‏,‏ وبحركته وسط النباتات يقوم بدور في تلقيح بعض الزهور‏,‏ ونشر عدد من البذور عبر مساحات متباعدة من الأرض‏.‏

ثانيا‏:‏ أن لأمة النمل لغات خاصة بها‏:‏
وهذه الحقيقة أثبتتها الآية الكريمة التي نحن بصددها بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
حتي إذا أتوا علي واد النمل قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لايحطمنكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون‏*‏
‏(‏النمل‏:18)‏

وقد سمع نبي الله سليمان‏(‏ عليه السلام‏)‏ نصيحة النملة لرفاقها‏,‏ وفهم لغتها بنعمة من الله وفضل‏,‏ ولغات النمل ظل عدد من علماء الحشرات يحاولون فك رموزها لعشرات من السنين دون جدوي‏,‏ وقد وظفوا في ذلك كل وسائل المنهج العلمي وتقنياته المتطورة‏,‏ وأصبحت لغات التخاطب ووسائل الاتصال عند الحيوان علما من العلوم المستحدثة في زماننا ينطوي تحت مايعرف باسم علم سلوك الحيوان‏,‏ إلا أن هذا المنهج البشري في استقراء لغات الحيوان وفهم سلوكه يبقي منهجا جزئيا‏,‏ استنتاجيا‏,‏ تجريبيا يحتمل الصواب والخطأ‏,‏ بينما العلم الذي تلقاه نبي الله سليمان عن ربه‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ هو علم يقيني‏,‏ كامل‏,‏ صحيح‏,‏ علم به سليمان لغات عدد من الحيوانات كالطير والنمل وهي معجزة من المعجزات الحسية التي خصه الله‏(‏ تعالي‏)‏ بها‏,‏ وجعلها خارقة من الخوارق تخالف المألوف عند الناس‏,‏ وكانت هذه أول إشارة مؤكدة إلي وجود لغات محددة لكل أمة من المخلوقات العديدة التي أوجدها الخالق العظيم بعلمه وحكمته وقدرته‏.‏
وأحدث ما كتب عن النمل يؤكد أن هذه الحشرة العجيبة‏(‏ التي يتراوح طول الفرد من أفرادها بين الملليمتر الواحد والسبعة ملليمترات‏,‏ ولا يتعدي حجم مخه حجم حبة الملح المسحوق الناعم‏)‏ لها قدرة هائلة علي التخاطب بأكثر من لغة واحدة‏,‏ فلكل مستعمرة من مستعمرات النمل لغتها الخاصة بها التي يتحدث ويتفاهم بها أفرادها مع بعضهم البعض‏,‏ ولها لغة أخري تتفاهم بها مع النمل من غير مجموعتها‏,‏ ومع غيرها من الحشرات والحيوانات الأخري‏.‏
ولم يستطع العلم بكل تقنياته الراهنة المتطورة أن يستشف من لغات النمل إلا بعض الظواهر والحركات والأصوات المصاحبة للكلام والتي تم تلخيصها فيما يلي‏:‏

‏(1)‏ اللغة الكيميائية‏:‏ والتي تتمثل في إفراز عدد من المركبات الكيميائية الطيارة من جسم النملة لتعبر بكل مركب منها عن معني محدد من مثل إصدار الأوامر والتعليمات‏,‏ والتوجيهات والتحذيرات‏,‏ وغير ذلك من عمليات الاتصال‏,‏ وتبادل المعلومات والرسائل للإرشاد إلي بعض الأمور من مثل مواقع الغذاء أو مواد البناء التي تريد أن توجه أنظار الشغالات إليها‏.‏
وقد ثبت أن هذه الإفرازات الكيميائية تختلف في أنواع النمل المختلفة وتعرف عند علماء الحشرات باسم الإفرازات الدالة علي الأثر‏.‏
ومن هذه الإفرازات الكيميائية ما يستخدم للإنذار في حالات الأخطار وتعرف باسم إفرازات الإنذار‏.‏

‏(2)‏ اللغة الحركية‏:‏ وتتم بواسطة تحريك كل من الأرجل والبطن والملامسة بواسطة قرون الاستشعار‏,‏ وقد رصدت هذه الحركات بدقة شديدة في محاولة لايجاد تفسير لها‏.‏
‏(3)‏ اللغة الصوتية‏:‏ وهذه لم يفهم منها علماء السلوك الحيواني سوي ذبذبات صوتية مترددة كالصرير تلتقطها خلايا سمعية في أرجل كل واحدة من النمل‏.‏ وهذه الذبذبات الصوتية ـ وإن أكدت أن للنمل قدرة علي التخاطب ـ إلا أنها تبقي دون اللغة التي سمعها سليمان‏(‏ عليه السلام‏)‏ وفهم دلالاتها‏.‏

ثالثا‏:‏ أن للنمل قدرا من الذكاء والوعي والإدراك والشعور‏:‏
وهي حقيقة أكدتها الآية الكريمة بتعرف النملة علي شخص نبي الله سليمان ومن معه من الجنود‏..‏ وبتخويفهم من إمكانية أن يطأ الجند النمل بأقدامهم أو بحوافر خيلهم‏,‏ وبنصيحتها لأقرانها أن يدخلوا مساكنهم نجاة من تلك المخاطر‏,‏ وبإدراكها أن من صفات النبوة الرحمة بالخلق فأضافت هذه الجملة الراقية‏...‏ لايحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بمعني أنها تدرك أن من صفات المؤمنين الرفق بالخلق فإن حدث غير ذلك فإنما يكون عفوا بغير قصد منهم ولا شعور‏.‏
وقد أكدت الدراسات المتخصصة في علم سلوك الحيوان كل هذه الحقائق باكتشاف أن النمل ـ كغيره من المخلوقات ـ له من الغرائز الفطرية ما يعطيه قدرا من الذكاء‏,‏ والوعي‏,‏ والإدراك‏,‏ والشعور‏,‏ الذي يمكنه من معرفة الأشياء‏,‏ والأماكن‏,‏ والاتجاهات‏,‏ والأوقات‏,‏ والأشخاص ويعينه علي التمييز بين الحق والباطل وعلي توقي المخاطر وتجنبها‏,‏ وفي الإقدام علي المغانم واقتناص فرصتها‏,‏ وفي ترتيب وتنظيم وضبط حياته الاجتماعية بعدد من القواعد الدقيقة‏.‏ وفوق ذلك كله فإن الآيات القرآنية الكريمة‏,‏ والأحاديث النبوية الشريفة تؤكد أن أمة النمل ـ كغيرها من الأمم غير المكلفة ـ مفطورة علي الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده ربا وإلها‏,‏ وفاطرا ومعبودا ورازقا بغير شريك ولا شبيه ولا منازع‏,‏ وعلي عبادته وتقديسه‏,‏ والتسبيح بحمده‏,‏ عبادة وتقديسا وتسبيحا تسخيريا لا إرادة لها في شئ منها‏,‏ ولكنها تدركه وتعلمه وتعيشه‏.‏

وهذا يفسر تعرف النملة علي نبي الله سليمان‏,‏ والإشارة بهذا الأدب الجم إلي مقام النبوة الذي أفاء الله‏(‏ تعالي‏)‏ به علي هذا العبد الصالح‏.‏ وهذا العلم الوهبي الذي من الله‏(‏ تعالي‏)‏ بأقدار منه علي جميع مخلوقاته تتفاوت بتفاوت الأدوار المطلوبة من كل منها في هذه الحياة وفي الحدود التي وضعها الله تعالي لكل أمة من أمم الوجود الحيوي علي الأرض‏.‏
ولذلك تبسم نبي الله سليمان عند سماعه مقولة النملة‏,‏ والتي فهمها بما وهبه الله‏(‏ تعالي‏)‏ من علم‏,‏ وأعجب بقدرة الله البالغة التي أعطت النملة الضئيلة في الحجم هذا القدر من الإدراك والأدب والحكمة‏,‏ وأعطت رفاقها قدرة الفهم عليها‏,‏ والانصياع لأوامرها‏,‏ وأعطته هو القدرة علي إدراك ذلك فتوجه إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالدعاء أن يلهمه شكر النعم العديدة التي أسبغها عليه وعلي والديه‏,‏ وأن يوفقه إلي عمل الخير الذي يرتضيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏),‏ وأن يدخله الجنة مع عباده الصالحين‏.‏

ومن الأدلة المتجمعة علي ذكاء النمل‏,‏ ووعيه‏,‏ وإداراكه دقة تنظيم مجتمعاته‏,‏ وتوزيع العمل بين افراده‏,‏ وبناء أعشاشه وبيوته‏,‏ وتنظيم المخارج منها والمداخل إليها‏,‏ والمهارة في اصطياد وجمع طعامه‏,‏ وحسن تجهيزه وتخزينه وصيانته ورعايته‏,‏ وقدرته علي زراعة بعض النباتات‏(‏ مثل الفطر‏),‏ وحمايتها من الميكروبات بإفراز العديد من المضادات الحيوية‏,‏ وقدرته كذلك علي التعايش في توازن وتكافل تامين مع العديد من الحشرات الأخري مثل المن والخنافس‏.‏
هذه الحقائق لم يدركها علم الإنسان إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين‏,‏ وسبق القرآن الكريم بالوحي بها من قبل أربعة عشر قرنا في زمن لم يتوافر لأي من البشر أدني إلمام بشيء منها مما يؤكد أن هذا الكتاب الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بحفظه في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ وحفظه حفظا كاملا تحقيقا لوعده الذي قطعه علي ذاته العلية فقال‏(‏ عزمن قائل‏):‏

إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏)(‏ الحجر‏:9).‏
وهكذا بقي القرآن الكريم محتفظا بنصه الإلهي‏,‏ وإشراقاته النورانية‏,‏ والحق المطلق الذي جاء به علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد‏,‏ وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏,‏ بقي المصدر الوحيد للهداية الربانية في أمر الدين الذي تعرضت كل رسالاته السابقة للضياع التام‏,‏ وبقيت من بعضها ذكريات متناثرة ظلت تتناقل شفاها‏,‏ تفسرها الأهواء‏,‏ وتضيف إليها‏,‏ وتحذف منها‏,‏ وتحرفها كيفما تشاء حتي تم إخراجها عن إطارها الرباني‏,‏ وإلقاؤها في أحضان عدد من الوثنيات القديمة والفلسفات الوضعية التي جعلتها عاجزة عن هداية البشرية‏,‏ وهذا هو السبب الحقيقي من وراء المظالم التي تسود الأرض في زماننا‏...!!‏
وحين تم التدوين لبعض هذه الذكريات القديمة تم بلغات غير لغات الوحي‏,‏ وبواسطة أقلام متفرقة‏,‏ في أماكن متعددة‏,‏ وفي أزمنة متباعدة وصلت إلي العديد من القرون بعد موت أو رفع الرسول الذي تلقي الرسالة الأصلية والتي فقدت أصولها السماوية بالكامل‏,‏ ولذلك تعددت الأسفار‏,‏ وتناقضت المعلومات‏,‏ وكثرت المراجعات إلي يومنا الراهن وستظل إلي ما شاء الله‏.‏
وللخروج من هذه الدوامات العاتية من الشك والشرك والشقاق والنفاق فإننا ندعو كل مؤمن بالله إلي قراءة القرآن الكريم بحيدة وموضوعية ثم الحكم بنفسه إن كان هذا هو كلام الله الخالق أم كلام البشر المخلوقين؟ ونحن معشر المسلمين نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر‏,‏ ولا نفرق بين أحد من رسله‏,‏ ونؤمن بوحدة الدين‏,‏ وبوحدة تجميع رسالات السماء‏,‏ وبالأخوة الإنسانية‏,‏ وبأنه لا إكراه في الدين‏,‏ وانطلاقا من ذلك كله نقدم القرآن العظيم للبشرية التائهة‏,‏ عسي الله تعالي أن يهديها إلي طريقه القويم وما ذلك علي الله بعزيز وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏,‏ وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏.‏