105)‏ أفرأيتم النار التي تورون‏**‏ الواقعة‏:71*‏
بقلم‏:‏ زغلول النجار
هذه الآية الكريمة جاءت في الربع الأخير من سورة الواقعة‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها ست وتسعون بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بذكر القيامة‏,‏ و‏(‏الواقعة‏)‏ اسم من أسمائها‏,‏ ومن دلالاته حتمية وقوعها ووجوبها‏.‏ ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية البعث‏,‏ والرد علي منكريه‏,‏ والتأكيد علي حتميته‏.‏
وتبدأ سورة الواقعة بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
إذا وقعت الواقعة‏.‏ ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة
‏(‏ الواقعة‏:1‏ ـ‏3).‏

ومن معاني وقعت الواقعة نزلت صيحة القيامة‏,‏ وذلك حين ينفخ في الصور لقيام الساعة‏.‏
ومن معاني قوله‏(‏ تعالي‏):‏ خافضة رافعة أنها تخفض أقواما كانوا في الدنيا من أصحاب الجاه والسلطان والسلطة إلي أسفل سافلين في جحيم النار لكفرهم أو شركهم‏,‏ أو ظلمهم وتجبرهم علي الخلق‏,‏ وتكبرهم علي عبادة الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وترفع أقواما آخرين إلي أعلي عليين في جنات النعيم كانوا في الدنيا من البسطاء المغمورين ولكن امتلأت قلوبهم بالإيمان بالله‏,‏ وخشيته وتقواه‏,‏ وبرحمة المخلوقين والإحسان إليهم‏,‏ وبحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض‏,‏ وإقامة عدل الله فيها‏,‏ في تواضع لله‏(‏ تعالي‏)‏ وانكسار لجلاله‏.‏

ثم تتابع سورة الواقعة بوصف عدد من الأحداث الكبري المصاحبة للقيامة فتقول‏:‏ إذا رجت الأرض رجا‏*‏ وبست الجبال بسا‏*‏ فكانت هباء منبثا
‏(‏ الواقعة‏:4‏ ـ‏6).‏

ومن معاني رجت الأرض رجا‏:‏ زلزلت زلزلة شديدة‏,‏ تفوق كل الهزات الأرضية المعروفة بمعدلات غير مسبوقة‏,‏ وتعرف باسم زلزلة الساعة‏.‏
ومن معاني بست الجبال بسا‏:‏ أي أصبحت هباء منبثا كرهج الغبار الذي ذرته الريح فصار متفرقا‏,‏ أو نسفت نسفا فأصبحت كالعهن المنفوش‏,‏ أو فتتت تفتيتا فصارت كالدقيق المبسوس‏,‏ وهو المبلول‏.‏

وتصنف الآيات الناس في هذا اليوم العصيب إلي مجموعات ثلاث‏:‏
‏(1)‏ السابقون السابقون‏:‏ وهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين وثوابهم من الله عظيم‏.‏
‏(2)‏ وأصحاب اليمين‏:‏ وهم الأبرار من المسلمين‏,‏ ومنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين‏,‏ وهم عند الله‏(‏ تعالي‏)‏ من المكرمين الناجين من النار‏.‏
‏(3)‏ وأصحاب الشمال‏:‏ وهم أغلب البشر‏,‏ وعامة أهل النار الذين يستذلون في الآخرة‏,‏ ويهانون‏,‏ ويعذبون‏,‏ مهما تكن مراكزهم في الدنيا‏,‏ وذلك بسبب كفرهم أو شركهم بالله‏(‏ تعالي‏)‏ وتجاوزهم لحدوده‏,‏ أو إنكارهم لقضية البعث‏,‏ أو تجبرهم علي الخلق وظلمهم والتعدي علي حقوقهم‏,‏ أو الفساد في الأرض وإشاعة الفاحشة بين الخلق أو غير ذلك من مسببات غضب الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وسخطه علي العبد من عباده‏.‏

وتفصل الآيات جزاء كل مجموعة من هذه المجموعات الثلاث‏,‏ ثم تؤكد حقيقة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق الإنسان‏,‏ ومدبر الكون بكل صغيرة وكبيرة فيه‏,‏ وتستعرض عددا من الآيات الكونية الدالة علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الكون من أجل التأكيد علي ذلك‏,‏ منها خلق الإنسان من مني يمني‏,‏ ثم تقدير الموت عليه‏,‏ ثم إعادة بعثه من جديد‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
نحن خلقناكم فلولا تصدقون‏*‏ أفرأيتم ما تمنون‏*‏ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون‏*‏ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين‏*‏ علي أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون‏*‏ ولقد علمتم النشأة الأولي فلولا تذكرون‏*‏
‏(‏ الواقعة‏:57‏ ـ‏62)‏

ومن هذه الأدلة الشاهدة بطلاقة القدرة الإلهية المبدعة إنبات الزروع التي يقول فيهاربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
أفرأيتم ما تحرثون‏.‏ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون‏.‏ لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون‏.‏ إنا لمغرمون‏.‏ بل نحن محرومون
‏(‏ الواقعة‏:63‏ ـ‏67)‏

ومن ذلك أيضا إنزال الماء من السحاب عذبا زلالا من رحمة الله وفضله‏,‏ ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوب الناس‏,‏ ولو شاء الله لجعله مرا زعافا لولا شكر بعض الصالحين‏,‏ وفي ذلك يمتن علينا ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بقوله‏:‏
أفرأيتم الماء الذي تشربون‏.‏ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون‏.‏ لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون‏(68‏ ـ‏70)‏

ومن آيات الله الدالة علي إبداعه في خلقه إعطاؤه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ للشجر الأخضر القدرة علي تخزين قدر من طاقة الشمس علي هيئة عدد من الروابط الكيميائية‏,‏ التي تتحول بعد جفاف النبات إلي مصدر من مصادر النار‏(‏ أي الطاقة‏),‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
أفرأيتم النار التي تورون‏.‏ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون‏.‏ نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين‏.‏ فسبح باسم ربك العظيم
‏(‏ الواقعة‏:71‏ ـ‏74)‏

ثم يقسم ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ ـ وهو الغني عن القسم ـ بمواقع النجوم‏,‏ مؤكدا أنه قسم عظيم لو يعلم الناس قدره علي أن كتابه الخاتم وهو القرآن الكريم هو كتاب معظم‏,‏ محفوظ بحفظ الله‏,‏ ومن سمات تعظيمه ألا يمسه إلا المطهرون‏,‏ وأنه تنزيل من رب العالمين‏,‏ أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بحفظه الذي لا يزول ولا يحول أبدا‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
فلا أقسم بمواقع النجوم‏*‏ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم‏.‏ إنه لقرآن كريم‏.‏ في كتاب مكنون‏.‏ لا يمسه إلا المطهرون‏.‏ تنزيل من رب العالمين
‏(‏الواقعة‏:75‏ ـ‏80).‏

ثم توجه الآيات الخطاب إلي الكفار والمشركين الذين كفروا ببعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ ولم يؤمنوا بقدسية القرآن العظيم‏,‏ ولا بأنه كلام رب العالمين بدلا من التوجه بالشكر إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي هذه النعمة الربانية العظيمة المتمثلة في القرآن الكريم الذي جمع الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيه كل قواعد الهداية الربانية التي أوحي بها إلي مائة وعشرين ألف نبي من أنبيائه‏,‏ وأنزلها في عدد من الرسائل المتفرقة التي خص بها ثلاثمائة وبضعة عشر رسولا اصطفاهم من هذا المجموع الهائل من عدد أنبيائه‏,‏ وتعهد بحفظ هذه الرسالة الخاتمة إلي قيام الساعة‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ مبكتا هؤلاء المكذبين‏:‏
أفبهذا الحديث أنتم مدهنون‏.‏ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏(‏ الواقعة‏:81‏ ـ‏82).‏

وتتهدد السورة الكريمة في ختامها هؤلاء المكذبين بالدين ـ الذي لا يرتضي ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ من عباده دينا سواه ـ والرافضين للقرآن العظيم ـ وهو كلام رب العالمين الوحيد الموجود بين أيدي الناس اليوم محفوظا بحفظ الله‏(‏ تعالي‏)‏ كما أنزل‏:‏ كلمة كلمة وحرفا حرفا بنفس لغة الوحي التي أنزل بها‏(‏ اللغة العربية‏)‏ ـ تتهدد الآيات في ختام سورة الواقعة هذا الصنف من البشر بلحظة الاحتضار‏,‏ ونزع الروح‏,‏ وحشرجة الصدر‏,‏ والإنسان المحتضر فيها عاجز كل العجز عن دفع قدر الله الغالب‏,‏ وجميع من حوله من الأهل والأبناء‏,‏ والإخوان والأصدقاء‏,‏ بل البشرية كلها تقف مشدوهة مذهولة‏,‏ عاجزة كل العجز عن دفع قضاء الله وقدره الذي لا راد له‏,‏ والنفس المحتضرة في ضيق وكرب وشدة‏,‏ وقد افصلت عمن حولها‏...‏ لأن للموت لسكرات‏,‏ وهي لا تملك من أمرها شيئا إلا ما قدمت وما كسبت‏...‏
ويخلص الأمر كله لله‏,‏ وتعجز الدنيا كلها‏,‏ وبجميع إمكاناتها‏,‏ عن رد روح واحدة إلي جسدها بعد نفاذ قضاء الله فيها‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

فلولا إذا بلغت الحلقوم‏.‏ وأنتم حينئذ تنظرون‏.‏ ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون‏.‏ فلولا إن كنتم غير مدينين‏.‏ ترجعونها إن كنتم صادقين
‏(‏الواقعة‏:83‏ ـ‏87).‏

وكما بدأت سورة الواقعة بتقسيم الناس في يوم القيامة إلي السابقين‏,‏ وأصحاب اليمين‏,‏ وأصحاب الشمال‏,‏ قسمتهم في ساعات الاحتضار إلي المقربين‏,‏ وأصحاب اليمين‏,‏ وإلي المكذبين الضالين‏,‏ وكما أوضحت السورة المباركة في أولها جزاء كل صنف من الأصناف الثلاثة‏,‏ أوضحت في ختامها أنه يدرك جزاءه في ساعة الاحتضار‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
فأما إن كان من المقربين‏.‏ فروح وريحان وجنة نعيم‏.‏ وأما إن كان من أصحاب اليمين‏.‏ فسلام لك من أصحاب اليمين‏.‏ وأما إن كان من المكذبين الضالين‏.‏ فنزل من حميم‏.‏ وتصلية جحيم
‏(‏الواقعة‏88‏ ـ‏94).‏

وتختتم هذه السورة الكريمة بتأكيد أن ما جاء بها من حقيقة البعث‏,‏ ومن مصائر الناس في الآخرة‏,‏ ومن سكرات الموت وأهواله‏,‏ وعجز الدنيا كلها عن رد قضاء الله به‏,‏ وعن معرفة الروح لحظة الاحتضار بمصيرها في الآخرة الباقية‏,‏ وهي تغادر الدنيا الفانية‏,‏ وتفرح لهذا المصير أو تفزع منه‏,‏ هذا كله من حق اليقين الذي أنذر الله‏(‏ تعالي‏)‏ به كل حي في حياته حتي لا يدعي إنسان أنه كان جاهلا به‏,‏ ولذلك تختتم السورة المباركة بأمر رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ومن بعده كل مسلم مؤمن بالله ورسوله أن يسبح باسم ربه العظيم تسبيحا يليق بجلاله‏,‏ وتنزيها له‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن كل وصف من صفات خلقه لأن للخالق من الأسماء الحسني‏,‏ والصفات العليا ما لا يتوافر لأحد من خلقه حتي يتفرد بالألوهية‏,‏ والربوبية‏,‏ والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏,‏ لأن ذلك كله من صفات المخلوقين‏,‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ منزه عن صفات خلقه‏..‏ ولذلك قال المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏
كلمتان خفيفتان علي اللسان‏,‏ ثقيلتان في الميزان‏,‏ حبيبتان إلي الرحمن‏:‏ سبحان الله وبحمده‏,‏ سبحان الله العظيم‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة الواقعة
‏(1)‏ الإيمان بحقيقة الآخرة‏,‏ وبحتميتها‏,‏ وأهوالها‏,‏ وأن الناس فيها يتمايزون إلي السابقين‏,‏ وأهل اليمين‏,‏ وأهل الشمال‏,‏ ولكل منهم جزاؤه المحدد‏.‏

‏(2)‏ اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق كل شيء‏,‏ ومدبر كل صغيرة وكبيرة من أمور الكون‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ مقدر الآجال‏,‏ ومجري الموت علي الخلق‏,‏ وهو الحي الباقي‏,‏ المستحق وحده للعبادة‏,‏ والتسبيح‏,‏ والتمجيد‏,‏ والتقديس‏,‏ ومن معاني ذلك تنزيهه عن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ والذكر الدائم له بكل اسم‏,‏ ووصف‏,‏ وفعل نسبه لذاته العلية‏,‏ وذلك من قبيل الشكر لله‏(‏ تعالي‏)‏ علي عظيم نعمه‏.‏

‏(3)‏ الإيمان بالبعث الذي يؤكده الخلق الأول‏,‏ وبأن في هذا البعث سوف ينشأ الناس فيما لا يعلمون من هيئة‏.‏

‏(4)‏ الإيمان بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بحفظه في نفس لغة وحيه منذ أربعة عشر قرنا وإلي قيام الساعة‏,‏ وأن كل ما جاء فيه هو حق اليقين‏.‏

‏(5)‏ اليقين بأن الموت حق علي العباد‏,‏ وهو قرار إلهي لا يستطيع أحد من الخلق إيقافه أو تأجيله‏,‏ وأن كل محتضر يري مكانه عند ربه في لحظة الاحتضار وهو يغادر الدنيا الفانية إلي الآخرة الباقية‏,‏ وكثير من المخلوقين كان يتشكك فيها أثناء حياته الدنيوية‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة الواقعة
أشارت سورة الواقعة إلي عدد من حقائق الكون التي منها ما يلي‏:‏
‏(1)‏ خلق الإنسان من مني يمني في مراحل متتابعة من نشأته الجنينية‏,‏ حتي ميلاده‏,‏ ونموه‏,‏ ثم احتضاره ووفاته‏.‏

‏(2)‏ حتمية الموت علي جميع المخلوقين‏,‏ وتسلسل الخلق من بعدهم إلي يوم الدين‏,‏ وهذا الخلق الأول دليل قاطع علي إمكان البعث‏,‏ بل علي ضرورته وحتميته‏.‏

‏(3)‏ إنبات الأرض بمختلف الزروع من الأمور المعجزة‏,‏ وهي صورة من صور خلق الحياة بيد القدرة الإلهية المبدعة‏,‏ التي لولاها ما أنبتت الأرض‏,‏ ولا أثمرت‏,‏ ولو شاء إفناء النبات بعد نبته وإثماره لفعل‏,‏ وما ذلك علي الله بعزيز‏.‏

‏(4)‏ إنزال الماء من السحاب المشبع ببخار الماء‏(‏ المزن‏)‏ عذبا‏,‏ زلالا‏,‏ طيبا هو من رحمة الله بعباده‏,‏ ومن ضرورات تهيئة الأرض لاستقبال الحياة‏,‏ ولو شاء الله‏(‏ تعالي‏)‏ لأنزله مالحا‏,‏ مرا‏,‏ أجاجا‏,‏ لا يستساغ له طعم‏,‏ ولا تصلح به حياة‏.‏

‏(5)‏ إعطاء الشجر الأخضر إمكانية خزن جزء من طاقة الشمس علي هيئة عدد من الروابط الكيميائية التي تشكل كل صور الوقود للإنسان‏,‏ والوقود هو مصدر النار‏,‏ والنار من مصادر الطاقة‏.‏

‏(6)‏ الإشارة إلي أن الإنسان لا يمكن له أن يري النجوم من مكانه علي الأرض أبدا‏,‏ لكنه يري مواقع مرت بها تلك النجوم ثم غادرتها نظرا لقدم تلك النجوم‏,‏ وضخامة أبعادها عنا وعن بعضها البعض‏,‏ ولانحناء الضوء في تحركه بين أجرام السماء‏,‏ ولسرعة جري تلك النجوم في مداراتها‏.‏

‏(7)‏ التأكيد علي عجز البشرية كلها عن إنقاذ محتضر يعاني سكرات الموت من قدر الله وقضائه المحدد‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة ولذلك سوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الخامسة في القائمة السابقة التي جاءت الإشارة إليها في الآية الحادية والسبعين من سورة الواقعة‏,‏ وقبل الدخول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم
‏(‏الواقعة‏:71‏ ـ‏74).‏

‏*‏ ذكر بن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:...‏ ثم قال‏:(‏ أفرأيتم النار التي تورون‏)‏ أي تقدحون من الزناد وتستخرجونها من أصلها‏(‏ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون‏)‏ أي بل نحن الذين جعلناها مودعة في موضعها‏,‏ وللعرب شجرتان‏:‏ إحداهما‏(‏ المرخ‏)‏ والأخري‏(‏ العفار‏)‏ إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحك أحدهما بالآخر تناثر من بينهما شرر النار‏,‏ وقوله‏(‏ تعالي‏):(‏ نحن جعلناها تذكرة‏)‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ أي تذكر النار الكبري‏...‏
وقوله تعالي‏:(‏ ومتاعا للمقوين‏)‏ قال بن عباس ومجاهد‏:‏ يعني بالمقوين المسافرين‏,‏ واختاره بن جرير‏,‏ وقال بن أسلم‏:‏ المقوي ها هنا الجائع‏,‏ وقال ليث‏,‏ عن مجاهد‏(‏ ومتاعا للمقوين‏):‏ للحاضر والمسافر‏,‏ لكل طعام لا يصلحه إلا النار‏,‏ وعنه‏(‏ للمقوين‏)‏ يعني المستمتعين من الناس أجمعين‏,‏ وهذا التفسير أعم من غيره‏,‏ فإن الحاضر والبادي من غني وفقير‏,‏ الجميع محتاجون إليها للطبخ والاصطلاء والإضاءة‏,‏ وغير ذلك من المنافع‏,‏ ثم من لطف الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن أودعها في الأحجار وخالص الحديد‏,‏ بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه‏,‏ فإذا احتاج إلي ذلك في منزله أخرج زنده وأوري وأوقد ناره‏...‏ وقوله‏(‏ تعالي‏):(‏ فسبح باسم ربك العظيم‏)‏ أي الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة‏....‏

‏*‏ وجاء في الظلال‏(‏ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة جزاء ما قدم‏)‏ كلام مشابه نقتبس منه قوله‏:...‏ والإنسان يوري النار أي يوقدها‏.‏ ولكن من الذي أنشأ وقودها؟ من الذي أنشأ الشجر الذي توقد به النار؟‏...‏ أما معجزة النار وسرها عند العلماء الباحثين فهو مجال للبحث والنظر والاهتمام‏,‏ وبمناسبة ذكر النار يلمح السياق إلي نار الآخرة‏(‏ نحن جعلناها تذكرة‏)‏ تذكر بالنار الأخري‏...‏ كما جعلناها‏(‏ متاعا للمقوين‏)...‏ أي للمسافرين‏.‏ وكان لهذه الإشارة وقعها العميق في نفوس المخاطبين‏,‏ لما تمثله في واقع حياتهم من مدلول حي حاضر في تجاربهم وواقعهم‏.‏
وحين يبلغ السياق إلي هذا الحد من عرض هذه الحقائق والأسرار‏,‏ الناطقة بدلائل الإيمان‏,‏ الميسرة للقلوب والأذهان‏,‏ يلتفت إلي الحقيقة التي تنتهي إليها هذه الحقائق‏,‏ حقيقة وجود الله وعظمته وربوبيته‏,‏ وهي حقيقة تواجه الفطرة مواجهة ذات قوة وسلطان‏,‏ فيهيب بالرسول‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن يحيي هذه الحقيقة ويؤدي حقها‏,‏ ويلمس القلوب بها في حينها‏:(‏ فسبح باسم ربك العظيم‏)....‏
وجاء في باقي التفاسير كلام مشابه لا أري حاجة لتكراره هنا‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
من الدلالات العلمية المستفادة من الآيات‏(‏ رقم‏71‏ ـ‏74)‏ من سورة الواقعة أن هناك علاقة وطيدة بين النار التي يوقدها الناس وبين الشجر الأخضر‏,‏ وقد فهمت هذه العلاقة في بادئ الأمر في أطر بدائية بسيطة مثل‏(‏ الزناد‏)‏ الذي كانت تقدح به العرب في القديم‏,‏ وهو علي هيئة عودين من شجر أخضر كالمرخ والعفار والكلح يقدح بهما بحك أحدهما علي الآخر فيوري شررا تستمد منه النار‏,‏ ولذلك يقال‏(‏ وري الزند‏)‏ أي خرجت ناره‏,‏ و‏(‏أوراه‏)‏ غيره أي استخرج ناره‏.‏
ثم تطورت العلاقة بين النار والشجر الأخضر إلي مفهوم الصور المختلفة للوقود من الحطب‏,‏ والقش‏,‏ والخشب الجاف‏,‏ وكل من الفحم النباتي والحجري‏,‏ ثم إلي غاز الفحم‏,‏ ثم إلي النفط ومشتقاته وما يصاحبه من غازات طبيعية‏,‏ هذا بالإضافة إلي كل من الزيوت والدهون النباتية والحيوانية‏.‏

ومع تطور المعرفة العلمية اتجهت هذه العلاقة بين النار والشجر الأخضر إلي عملية البناء‏(‏ التمثيل‏)‏ الضوئي في النباتات الخضراء‏,‏ والتي زودها الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بصبغة خضراء تعرف باسم اليخضور‏(‏ الكلوروفيل‏)‏ وجعل لتلك الصبغة القدرة علي امتصاص جزء من طاقة الشمس وتحويله إلي طاقة كيميائية توظفها في تركيب العديد من المواد الكربوهيدراتية مثل السكريات بمختلف أنواعها‏,‏ والنشا‏,‏ والسيليولوز وغيرها‏,‏ وذلك بتحليل الماء الذي تمتصه من التربة إلي الأكسجين الذي ينطلق إلي الجو‏,‏ والإيدروجين الذي يحتفظ به النبات‏,‏ ثم تحليل ثاني أكسيد الكربون الذي يمتصه النبات من الجو وتحليله إلي الأكسجين‏(‏ الذي ينطلق إلي الجو أو يتحد مع بعض الأيدروجين ليكون الماء‏)‏ والكربون الذي يتحد مع كل من الأيدروجين والأكسجين المتوافرين داخل ورقة النبات الأخضر ليكون سلاسل من الكربوهيدرات‏,‏ وتعرف هذه العملية باسم عملية التمثيل الضوئي أو الكربوني‏,‏ وبواسطتها يبني النبات خلاياه وزهوره وثماره‏,‏ وتعتبر أساسا لبناء جميع المواد الغذائية علي الأرض‏.‏

المادة الخضراء في النبات
هي مصدر الطاقة والغذاء
خص الله‏(‏ تعالي‏)‏ النباتات الخضراء بصبغ أخضر يعرف باسم اليخضور‏(‏ أو الكلوروفيل‏)‏ الذي يلون أوراق وأنسجة النباتات ذاتية التغذية باللون الأخضر‏.‏ وهناك ثمانية أنواع من هذه الأصباغ الخضراء التي تشبه في تركيبها الكيميائي جزيء الهيموجلوبين مع استبدال ذرة الحديد المركزية في الهيموجلوبين بذرة الماغنسيوم مما يشير إلي وحدة الخلق‏,‏ ووحدة الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وهذه الأصباغ الخضراء توجد في داخل جسيمات دقيقة للغاية تعرف باسم البلاستيدات ومن هذه البلاستيدات الخضراء‏,‏ والبيضاء‏,‏ وذات الألوان الأخري‏.‏
وتوجد البلاستيدات أساسا في عدد من الخلايا الطولية المتعامدة علي جدر الأوراق النباتية‏,‏ وقد جعل الله‏(‏ تعالي‏)‏ لها قدرا من حرية التحرك داخل الخلية لتصيد أشعة الشمس من أية زاوية تسقط منها علي الخلية‏.‏

والبلاستيدات هي جسيمات دقيقة جدا‏,‏ بويضية أو قرصية الشكل عادة‏,‏ توجد في خلايا النباتات الراقية‏,‏ وفي بعض البكتيريا‏(‏ مثل بكتيريا البناء الضوئي‏)‏ ويحاط كل منها بغشاءين رقيقين‏,‏ الخارجي منهما أملس‏,‏ والداخلي متعرج بثنيات تفصلها صفائح رقيقة جدا‏,‏ وتحتوي هذه الثنيات علي الأصباغ النباتية التي أهمها الصبغة الخضراء‏(‏ اليخضور‏),‏ بينما تفتقر إليها الصفائح الفاصلة بينها‏,‏ وبالإضافة إلي محتواها من الأصباغ النباتية‏,‏ تحتوي البلاستيدات علي العديد من الأحماض الأمينية‏,‏ والمركبات البروتينية كالدهون المفسفرة وبعض العناصر مثل الماغنسيوم‏,‏ وغيرها‏,‏ كما يوجد داخل جينة البلاستيدة جسيمات خاصة بصناعة البروتينات وتحتوي علي الإنزيمات التي تساعد علي دورة أخري تتم في الظلام‏,‏ ومراكز لتجميع الطاقة الضوئية‏,‏ ويقوم الصبغ الأخضر في داخل البلاستيدات بالتقاط أشعة الشمس واستخدامها في تحليل الماء الموجود داخل ورقة النبات إلي مكوناته الأساسية وهي الأكسيجين الذي ينطلق إلي الجو عبر ثغور ورقة النبات‏,‏ والإيدروجين الذي يتفاعل مع غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يأخذه النبات من الجو‏,‏ وذلك لتكوين الكربوهيدرات والماء في عمليات متتالية ومعقدة لم تعرف تفاصيلها بعد‏,‏ يشترك في بعض خطواتها عدد من الإنزيمات‏,‏ ويمكن تقسيمها إلي مرحلتين‏:‏ تتم إحداهما في الضوء‏,‏ وتتم الأخري في الظلام وإن اعتمدت علي نتائج التفاعل الضوئي ومن ثم تعتبر عملية مكملة له‏.‏

ومع سيادة الصبغة الخضراء في جميع النباتات الراقية إلا أن غيرها من الأصباغ النباتية مثل أشباه الكاروتينات الصفراء يلعب دورا مهما في عملية امتصاص الطاقة الضوئية من أشعة الشمس‏,‏ ولكل طيف من أطياف تلك الأشعة الشمسية صبغ نباتي خاص قادر علي امتصاصه في عمليات معقدة للغاية لم يمكن تفسيرها بالكامل بعد وإن بذلت محاولات عديدة في سبيل تحقيق ذلك‏.‏

تكوين الكربوهيدرات بواسطة
عمليات التمثيل الكربوني
الكربوهيدرات مركبات عضوية تتكون جزيئاتها باتحاد ذرات الكربون مع ذرات كل من الإيدروجين والأكسجين بنسبة وجود العنصرين الأخيرين في الماء‏,‏ ولذلك فالصبغة العامة لجزيء الكربوهيدرات هي‏Cn(H2O)n.‏ وتشمل السكريات الأحادية‏,‏ والثنائية‏,‏ والثلاثية‏,‏ والعديدة التي قد يصل عدد الوحدات فيها إلي أكثر من مائتي وحدة‏,‏ كما هو الحال في كل من النشا والسيليلوز‏.‏ ومن أمثلة السكريات‏:‏ الجلوكوز‏(‏ سكر العنب‏),‏ الفركتوز‏(‏ سكر الفاكهة‏),‏ المالتوز‏(‏ سكر الشعير‏),‏ والمانوز‏(‏ سكر المن‏),‏ واللاكتوز‏(‏ سكر اللبن‏).‏
وتتكون الكربوهيدرات في داخل النباتات بعدد من التفاعلات المتتابعة والمعقدة يسهم فيها عدد من الإنزيمات حتي يصل هذا التفاعل المتسلسل إلي إنتاج الجلوكوز الذي يتحول بدوره إلي النشا‏.‏ وتتم هذه العمليات المعقدة علي مرحلتين تنجز الأولي منهما في الضوء‏,‏ وتبخر الثانية في الظلام‏,‏ والمرحلة الأولي يتم فيها تأين الماء إلي مكوناته من أيونات كل من الأكسيجين والإيدروجين‏,‏ وأعداد من الإليكترونات التي يتحد بعضها مع أيونات الأكسيجين الذي ينطلق إلي الجو‏,‏ ويستخدم كل من أيونات الإيدروجين والإليكترونات الطليقة مع غاز ثاني أكسيد الكربون في المرحلة الثانية التي تتم في الظلام والتي من نتائجها تخليق الكربوهيدرات‏.‏
ويحرق الكربوهيدرات في وجود الأكسيجين تحدث عملية معاكسة تماما إذ تتحول هذه المركبات المعقدة من السكريات والنشويات والمواد السيليولوزية إلي ثاني أكسيد الكربون والماء وتنطلق الطاقة‏(‏ النار‏).‏

تكوين بعض البروتينات النباتية
بواسطة عمليات التمثيل الكربوني
بالإضافة إلي الكربوهيدرات فقد أعطي الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعضا من النباتات القدرة علي إنتاج عدد من البروتينات مثل الزيوت والدهون النباتية‏,‏ والإنزيمات‏,‏ والهرمونات‏,‏ والفيتامينات‏,‏ وبعض الإفرازات النباتية كالمواد الراتنجية والصمغية والمطاطية وغيرها‏.‏
والبروتينات مركبات عضوية معقدة تتكون جزيئاتها العملاقة من اتحاد سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية‏,‏ ويقدر عدد الأحماض الأمينية التي تشترك في تكوين أكثر من عشرين ألف بروتين معروف في حدود عشرين حمضا ترتبط مع بعضها البعض بروابط محددة‏(‏ روابط البيبنتيد‏)‏ حتي تتكون منها البروتينات‏.‏

والأحماض الأمينية مواد صلبة‏,‏ متبلورة‏,‏ سهلة الذوبان في الماء في أغلب الأحوال‏,‏ وتتكون جزيئاتها أساسا باتحاد ذرات الكربون مع ذرات كل من غازات الإيدروجين والأكسيجين والنيتروجين‏.‏ فباستمرار عمليات التمثيل الكربوني في داخل أوراق النبات الخضراء تركز بلايين البلايين من ذرات الكربون المكونة لثاني أكسيد الكربون الذي يمتصه النبات من الجو‏(‏ حيث لا تزيد نسبته علي‏0.03%)‏ فتتكون مختلف أنواع الكربوهيدرات‏,‏ وبإضافة النيتروجين الصاعد مع العصارة الغذائية أو الممتص من الجو تتكون البروتينات في داخل مختلف خلايا النبات‏,‏ أو تتحول الكربوهيدرات إلي مختلف أنواع البروتينات في أجساد الحيوانات التي تتغذي علي النبات‏,‏ أما الحيوانات المفترسة فهي تتناول البروتينات مباشرة من أجساد ما تفترسه من حيوانات‏.‏ وباستمرار هذه العمليات المعقدة تزداد نسبة كل من الكربوهيدرات والبروتينات علي الأرض وهي من رزق السماء‏.‏
ويقدر معدل الإنتاج السنوي من المواد العضوية النباتية بأكثر من أربعة آلاف تريليون طن‏.‏ وتقوم النباتات الخضراء سنويا بتثبيت أكثر من أربعمائة مليار طن من الكربون في خلاياها‏,‏ وتستخلص هذا الكم الهائل من الكربون من غاز ثاني أكسيد الكربون الجوي الذي لا تزيد نسبته علي‏(0.03%)‏ بالغلاف الغازي للأرض‏.‏ ولما كان كل من الإنسان وبعض أنواع الحيوان يتغذي علي المواد النباتية ومنتجاتها‏,‏ كما يتغذي علي بعض أنواع الحيوان فإن جزءا من طاقة الشمس ينتقل إلي هؤلاء عن طريق ما يتناولونه من طعام‏,‏ وبتمثيله تتحلل الكربوهيدرات والبروتينات إلي مكوناتها الأساسية التي تعود إلي الجو‏.‏ والذي يبقي من تلك المواد العضوية المعقدة في أجساد كل من النبات والحيوان يتحول إلي مصدر من مصادر الطاقة‏(‏ النار‏)‏ بتجفيفه أو دفنه وتحلله بمعزل عن الهواء‏.‏

الشجر الأخضر هو أصل
المصادر الأساسية للطاقة
تقوم النباتات الخضراء سنويا بتثبيت أكثر من أربعمائة مليار طن من الكربون المستخلص من ثاني أكسيد الكربون الجوي في خلاياها‏,‏ وبذلك لعبت البقايا النباتية دورا مهما كمصدر من مصادر الطاقة عبر التاريخ‏,‏ ففي المجتمعات البدائية استخدم القش والتبن‏,‏ والحطب‏,‏ والخشب الجاف‏,‏ والفحم النباتي‏,‏ وكل من الزيوت والدهون النباتية والحيوانية كمصدر من مصادر الطاقة‏(‏ النار‏).‏
وفي المجتمعات الصناعية استخدم الفحم الحجري الذي اكتشفت منه بلايين الأطنان في صخور الأرض‏,‏ والتي تجمعت عبر جزء من تاريخ الأرض الطويل خاصة في صخور العصر الكربوني‏.‏

كذلك استخدم غاز الفحم علي نطاق واسع‏,‏ ثم استخدم كل من النفط والغازات الطبيعية المصاحبة له‏,‏ وكل ذلك لا يمكن إغفال دور النبات فيه‏,‏ فعندما تتغذي الحيوانات البحرية‏(‏ خاصة الحيوانات الدقيقة منها‏)‏ علي النباتات الدقيقة‏,‏ أو علي فتات النباتات الكبيرة ونواتج تحللها‏,‏ فإن طاقة الشمس المختزنة علي هيئة عدد من الروابط الكيميائية في كل ذلك تتحول إلي مواد بروتينية في أجساد تلك الحيوانات من مثل الزيوت والدهون الحيوانية التي تتحلل بمعزل عن الهواء إلي النفط والغازات الطبيعية المصاحبة له‏,‏ وإذا زادت الحرارة والضغط علي النفط المخزون في مكامنه بالقشرة الأرضية تحول بالكامل إلي الغاز الطبيعي وبعض المكثفات البترولية‏.‏ وكل ذلك هو من مصادر الطاقة الطبيعية أي الوقود الذي يحرق طلبا للطاقة الحرارية الكامنة فيه‏(‏ النار‏),‏ وبحرق أي من مصادر الطاقة الطبيعية تلك يتحد أكسجين الجو مع الكربون المتجمع فيها محولا إياه إلي غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق من عقالها عائدا مرة أخري إلي الغلاف الغازي للأرض مع غيره من الغازات والأبخرة‏.‏ وبذلك تكون طاقة النار التي تنطلق من إحراق أي من مصادر الطاقة الطبيعية في جو من الأكسيجين هي جزء من طاقة الشمس الواصلة إلي الأرض التي احتجزها الشجر الأخضر بما وهبه الله‏(‏ تعالي‏)‏ من قدرة علي ذلك‏,‏ وبذلك يكون الشجر الأخضر هو أصل كل المصادر الطبيعية للطاقة باستثناء الحرارة الأرضية‏,‏ وطاقة الرياح‏,‏ وطاقات كل من المد والجزر والمساقط المائية‏,‏ والطاقة الشمسية المباشرة‏.‏

وعلي ذلك فإن عمليات التمثيل الكربوني هي عمليات تقوم بها أغلب النباتات لاختزان جزء من كربون الغلاف الغازي للأرض علي هيئة أعداد من المركبات الكيميائية المعقدة مثل الكربوهيدرات والبروتينات‏,‏ وعمليات الإحراق للمصادر الطبيعية المختلفة للطاقة هي عمليات أكسدة لذرات الكربون المختزنة في تلك المصادر لتعود مرة أخري إلي الغلاف الغازي للأرض علي هيئة ثاني أكسيد الكربون وما يصاحبه من غازات وأبخرة أغلبها بخار الماء وأكاسيد كل من النيتروجين والكبريت‏.‏
وعمليات الاحتراق تلك تشبه تماما عملية التنفس في كل من الإنسان والحيوان حيث يستخدم الأكسيجين الجوي في أكسدة ذرات كل من الكربون والإيدروجين والنيتروجين والكبريت الموجودة في المواد الغذائية وتحويلها إلي أكاسيدها التي تنطلق إلي الغلاف الغازي للأرض‏,‏ والتي قامت النباتات المختلفة باستخلاصها أصلا منه‏.‏

فالمادة العضوية التي تكون أجساد كل من الإنسان والحيوان والنبات مستخلصة أصلا من عناصر الأرض‏,‏ وعناصر كل من غلافها المائي والهوائي‏,‏ ومن أشعة الشمس‏,‏ والنبات‏(‏ بصفة عامة‏)‏ والشجر الأخضر منه‏(‏ بصفة خاصة‏)‏ يستخدم طاقة الشمس بكفاءة وهبه إياها الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لتحويل هذه المركبات البسيطة إلي مركبات معقدة يبني منها كل خلاياه‏,‏ وأزهاره وثماره‏,‏ مما يصلح غذاء لأي من الإنسان أو الحيوان‏,‏ وفي أثناء هذه العملية المهمة يطلق النبات الأخضر غاز الأكسجين إلي الجو‏,‏ وهو غاز أساسي لحياة كل من الإنسان والحيوان‏,‏ اللذان يطلقان إلي الجو بكميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون الذي يحتاجه النبات الذي يمثل الغذاء الرئيسي للإنسان ولبعض الحيوان‏,‏ والإنسان يتغذي كذلك علي بعض الحيوان‏,‏ وكذلك بعض الحيوان يتغذي علي بعض‏,‏ وفضلات كل من الإنسان والحيوان تصلح سمادا للنبات‏,‏ وبقايا كل من النبات والحيوان تصلح وقودا للإنسان‏,‏ والوقود مصدر طبيعي للطاقة‏(‏ أو النار‏).‏
وعلي ذلك فإن الشجر الأخضر هو الوسيلة الوحيدة لتمكين الإنسان من وضع يده علي قدر من طاقة الشمس المحرقة بطريقة غير مباشرة‏,‏ ولذلك يمتن علينا ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ ـ وهو صاحب الفضل والمنةـ بهذه الحقيقة التي لم تدرك إلا في العقود القليلة الماضية فيقول‏(‏ وهو أحكم القائلين‏):‏

أفرأيتم النار التي تورون‏.‏ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون‏.‏ نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين‏.‏ فسبح باسم ربك العظيم
‏(‏الواقعة‏:71‏ ـ‏74).‏

وبطبيعة كل الآيات الكونية في كتاب الله صاغت هذه الآيات الأربع إحدي حقائق الكون المبهرة بصياغة معجزة‏,‏ يفهم منها أهل كل عصر معني من المعاني يتناسب مع مستوي المعارف العلمية في زمانهم‏,‏ ويبقي نص الآيات الكريمة يتسع مع كل عصر مع اتساع المعرفة العلمية لأهله‏,‏ في تكامل لا يعرف التضاد‏,‏ ليبقي القرآن الكريم مهيمنا علي المعرفة الإنسانية مهما اتسعت دوائرها وليس هذا لغير كلام الله الخالق‏,‏ البارئ‏,‏ المصور‏,‏ وهذا عندي من أعظم جوانب الإعجاز في كتاب الله الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ حفظا كاملا‏:‏ كلمة كلمة‏,‏ وحرفا حرفا علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏.‏ فالحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله الذي تعهد بحفظه علي الدوام‏,‏ والصلاة والسلام التامان الأكملان علي النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقي القرآن الكريم‏,‏ وعلي آله وصحبه‏,‏ ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏.‏