104)‏ وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون‏*‏
‏*‏ النحل‏:13*‏

هذه الآية الكريمة جاءت في العشر الأول من سورة النحل‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏128‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي مجموعات تلك الحشرة المباركة المعروفة باسم النحل‏,‏ التي نحل الله‏(‏ تعالي‏)‏ إناثها القدرة علي جمع رحيق الأزهار‏,‏ وهضمه وتحليله ثم إخراجه من بطونها شرابا مختلفا ألوانه فيه شفاء للناس‏.‏
ويدور المحورالرئيسي للسورة حول قضية العقيدة وركائزها الأساسية التي منها‏:‏
‏(1)‏ الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا واحدا أحدا‏,‏ لا شريك له في ملكه‏,‏ ولا منازع له في سلطانه‏,‏ ولا شبيه له من خلقه‏,‏ وتنزيهه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن الشريك والشبيه والمنازع والصاحبة والولد‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ واليقين بأن له غيب السماوات والأرض‏,‏ وأن أمره عاجل لايرد بين الكاف والنون‏(‏ أي بـ كن فيكون‏),‏ وأن الدين له‏(‏ تعالي‏)‏ وحده أمرا واجبا لازما علي الدوام‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ خالق كل شيء‏,‏ وأن كل ماسواه مخلوق بأمره‏,‏ وأن الخالق يختلف اختلافا كاملا عن خلقه
أفمن يخلق كمن لايخلق أفلا تذكرون‏Z(‏ النحل‏:17).‏

وأن الخلق يشهد لخالقه بالألوهية‏,‏ والربوبية‏,‏ والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ كما يشهد له بالعلم المحيط‏,‏ والحكمة البالغة‏,‏ والهيمنة الكاملة علي جميع مافي السماوات والأرض‏,‏ وكلهم يسجد لجلاله طوعا وكرها‏:‏
ولله يسجد مافي السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لايستكبرون‏Z‏ يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون مايؤمرون‏Z‏
‏(‏ النحل‏:50,49).‏

وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربي‏,‏ وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي‏,‏ كما يأمر بالوفاء بالعهود‏,‏ وبعدم نقض الأيمان بعد توكيدها‏,‏ ويأمر بالدعوة إلي سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وبجدال الآخرين بالتي هي أحسن‏,‏ ويأمر بالصبر في الشدائد مؤكدا معيته للمتقين المحسنين بقوله العزيز‏:‏
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏Z(‏ النحل‏:128).‏

وعلي ذلك فلا يجوز للمخلوقين أن يضربوا الأمثال للخالق‏,‏ فالله يعلم ذاته العلية ونحن لانعلمها‏.‏

‏(2)‏ الإيمان بحقيقة الوحي‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ ينزل ملائكته بهدايته لخلقه علي من يشاء من عباده الذين يصطفيهم بعلمه وحكمته لإبلاغ رسالته‏,‏ وأولها شهادة أن لا إله إلا الله‏,‏ وأن علي العباد أن يعبدوا ربهم‏,‏ وأن يتقوه في كل مايعملون‏,‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ قد بعث في كل أمة رسولا يهدي إلي عبادة الله وحده وإلي اجتناب الطاغوت‏,‏ وأنه ماعلي الرسول إلا البلاغ المبين‏,‏ وأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ أكمل دينه‏,‏ وأتم علي العباد نعمه في الرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وتأكيدا علي وحدة الرسالة السماوية وعلي وحدة الدين واكتماله في الرسالة الخاتمة يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في هذه السورة المباركة مقسما بذاته العلية
تالله لقد أرسلنا إلي أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم‏Z‏ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدي ورحمة لقوم يؤمنون‏Z(‏ النحل‏:64,63).‏
وتؤكد الآيات في سورة النحل أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم‏,‏ وأن خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ سوف يشهد علي أمته وعلي من تبعهم من الأمم إلي يوم الدين لأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أنزل إليه القرآن العظيم‏...‏ تبيانا لكل شيء وهدي ورحمة وبشري للمسلمين‏Z.‏
‏(‏ النحل‏:89).‏

‏(3)‏ الإيمان بحقيقة الآخرة‏,‏ بل بحتميتها‏,‏ وبأن موعدها قد اقترب‏,‏ وبحقيقة كل من البعث والحساب والجنة والنار‏,‏ وأن الجنة هي مثوي المتقين‏,‏ وبأن النار هي مثوي المتكبرين الذين لم يؤمنوا برسالات ربهم‏,‏ أو أشركوا به‏,‏ ولم يعتبروا بعقاب الأمم السابقة عليهم وبذلك ظلموا أنفسهم فأصابهم سيئات ماعملوا وحاق بهم ماكانوا به يستهزءون‏Z‏
‏(‏ النحل‏:34).‏
وإنكار كل من الآخرة والبعث والحساب والجنة والنار هو ضرب من الاستكبار‏,‏ والله لايحب المستكبرين‏.‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلي وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لايعلمون‏Z‏ ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين‏Z‏ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏Z(‏ النحل‏:38:40).‏
ويقول‏(‏ عز من قائل‏):‏
ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله علي كل شيء قدير‏Z.(‏ النحل‏:77)‏

‏(4)‏ الإيمان بأن كل مافيه العباد من نعم هو من فضل الله الذي لا تحصي نعمه ولا تعد‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد فضل بعض خلقه علي بعض في الرزق‏,‏ ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة‏,‏ وأن من نعم الله‏(‏ جل جلاله‏)‏ علي العباد أن جعل لهم من أنفسهم أزواجا‏,‏ وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة‏,‏ وهي نعمة لا يجوز الكفر بها أبدا‏.‏ ومن نعم الله علي الإنسان خلق السمع والبصر والفؤاد‏,‏ والمواليد يخرجهم الله من بطون أمهاتهم لايعلمون شيئا‏.‏

‏(5)‏ أن الهجرة في سبيل الله أجرها عظيم في الدنيا‏,‏ وأجرها أكبر في الآخرة
ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد مافتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏Z(‏ النحل‏:110).‏

‏(6)‏ أن الذين مكروا السيئات لا يأمنون أن يخسف الله بهم الأرض أو أن يأتيهم العذاب من حيث لايشعرون‏.‏ وأن كلا من المشركين بالله ومن الذين أشركوهم معه هم أموات غير أحياء ومايشعرون أيان يبعثون‏Z(‏ النحل‏:21).‏

‏(7)‏ أن من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فسوف يحييه الله حياة طيبة ولسوف يجزيه أجره بأحسن ما كان يعمل‏.‏ وأن الذين زين لهم الشيطان أعمالهم سوف يكون هو وليهم يوم القيامة‏,‏ وأن لهم عذاب أليم‏.‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ لو يؤاخذ الناس بظلمهم ماترك علي الأرض من دابة
‏..‏ولكن يؤخرهم إلي أجل مسمي فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون‏Z(‏ النحل‏:61).‏

‏(8)‏ الإيمان بأن الحاكمية لله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده‏,‏ ومن ثم فإن له‏(‏ تعالي‏)‏ وحده التحليل والتحريم‏,‏ ولايجوز هذا لأحد من الخلق أبدا‏.‏

‏(9)‏ الإيمان بأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قد وهب الناس عقولا تدرك‏,‏ وإرادة حرة تختار وتوجه‏,‏ وبين لهم طريق الاستقامة الموصل إلي الخير‏,‏ وطرق الانحراف المفضية إلي الشر‏,‏ وترك الخيار كاملا لكل فرد‏,‏ وأرسل أنبياءه ورسله‏,‏ وأنزل كتبه إلي مختلف الأمم وفي كل العصور لهداية الناس في القضايا التي لاتصل إليها عقولهم‏,‏ ولاتدركها حواسهم من مثل قضايا العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات‏,‏ وهي صلب الدين الذي أنزله علي فترة من الرسل وأتمه وأكمله وحفظه في رسالته الخاتمة التي أنزلها علي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏).‏

من مكارم الأخلاق في سورة النحل
‏(1)‏ الدعوة إلي إقامة عدل الله في الأرض‏,‏ والإحسان إلي الخلق‏,‏ والوفاء بالعهود والأيمان‏,‏ إلي غير ذلك من ضوابط السلوك‏,‏ وقواعد المعاملات بين الناس‏,‏ علي أن ينطلق ذلك كله من منطلق تقوي الله‏,‏ ورجاء رضوانه‏,‏ ومخافة عقابه‏,‏ بعد القناعة الكاملة بضرورة ذلك لاستقامة الحياة علي الأرض‏.‏

‏(2)‏ الدعوة إلي الإنفاق في سبيل الله‏,‏ وإلي إيتاء ذي القربي‏.‏

‏(3)‏ الدعوة إلي رفض الظلم ومقاومته بكل وسيلة مشروعة‏,‏ فإن تعذر ذلك فلتكن الهجرة في سبيل الله‏.‏

‏(4)‏ التحذير من الوقوع في الفتن ماظهر منها ومابطن‏,‏ ومن أخطرها فتنة الكفر بعد الإيمان‏,‏ أو الشرك بعد التوحيد الخالص لله‏(‏ تعالي‏).‏

‏(5)‏ النهي القاطع عن الفحشاء والمنكر والبغي‏.‏

‏(6)‏ التذكير بنعم الله العديدة علي العباد‏,‏ والحض علي شكرها‏,‏ فبالشكر تدوم النعم‏,‏ وتنكسر حدة الغرور في النفس الإنسانية‏,‏ التي تدرك أن ليس لها من مخرج في كل شدة من الشدائد إلا اللجوء إلي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏

‏(7)‏ التذكير برحلة الحياة مع الإنسان من مرحلة الجنين التي تبدأ بالنطفة‏,‏ إلي الميلاد الذي يخرج منه المولود وهو لايعرف شيئا‏,‏ إلي الشباب والفتوة‏,‏ ثم الشيخوخة والضعف والهرم حتي لايعلم من بعد علم شيئا‏,‏ ثم الاحتضار والموت‏,‏ ومايتخلل ذلك العمر من فترات الرخاء والنعم‏,‏ وفترات الابتلاء والنقم ومحصلة ذلك مما يلقي به العبد ربه‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏

من الإشارات الكونية في سورة النحل
حفلت سورة النحل بالعديد من الإشارات الكونية التي نوجزها فيما يلي‏:‏

‏(1)‏ التأكيد علي قضية الخلق وفي مقدمتها خلق السماوات والأرض‏,‏ وإفراد الله‏(‏ تعالي‏)‏ بهذه العملية المبدعة‏,‏ وبأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو خالق كل شيء‏.‏

‏(2)‏ خلق الإنسان من نطفة لا تري بالعين المجردة‏,‏ وعلي الرغم من ذلك فإنه بمجرد بلوغه إلي مرحلة الشباب والفتوة فهو كثيرا مايقابل فضل خالقه بالجحود والنكران‏.‏

‏(3)‏ خلق الأنعام‏,‏ من مثل الإبل والبقر‏,‏ والضأن‏,‏ والماعز‏,‏ وجعلها مليئة بالفوائد للإنسان‏.‏
‏(4)‏ خلق الخيل والبغال والحمير‏,‏ وغير ذلك من وسائل الركوب التي لم تكن معروفة في زمن الوحي‏,‏ والله الخالق قادر علي أن يخلق مايعلمه الناس ومالايعلمونه‏.‏

‏(5)‏ إنزال الماء من السماء للشراب ولإنبات كل من الشجر والزروع‏,‏ ومن أهمها الزيتون‏,‏ والنخيل‏,‏ والأعناب‏,‏ وغير ذلك من كل الثمرات‏,‏ وقد جعل ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ ذلك آية للذين يتفكرون‏.‏
‏(6)‏ تسخير الأرض كي تكون صالحة للعمران‏,‏ وذلك بتكويرها‏,‏ وتدويرها حول محورها أمام الشمس حتي يتبادل عليها الليل والنهار‏,‏ وبميل محورها حتي تتبادل عليها الفصول‏,‏ وغير ذلك من وسائل التهيئة‏,‏ وتسخير كل من الشمس‏,‏ والقمر والنجوم بأمر من الله‏(‏ تعالي‏)‏ لكي تستقيم الحياة علي الأرض وفي الكون كله‏.‏
‏(7)‏ نشر مختلف صور وأشكال وألوان المخلوقات من الأحياء والجمادات في الأرض‏,‏ وإعطاء الإنسان القدرة علي تمييزها‏.‏

‏(8)‏ تسخير البحر للإنسان‏,‏ بما فيه من أحياء ذات لحم طري‏,‏ وهياكل تصلح لعمل الحلي‏,‏ وقدرة علي حمل الفلك ذات الأحجام المختلفة التي تجري بمصالح العباد شاقة عباب مائه‏,‏ وعباب مافوق الماء من هواء‏.‏
‏(9)‏ إلقاء الجبال علي الأرض‏,‏ وجعلها رواسي لها‏,‏ كي لاتميد ولاتضطرب‏,‏ وارتباط تلك الأشكال الأرضية بمنابع الأنهار‏,‏ ودور تلك الأنهار أثناء اندفاعها من قمم الجبال إلي البحار في تفتيت الصخور‏,‏ وتكوين كل من التربة والصخور الرسوبية‏,‏ وركازات المعادن‏,‏ وفي شق الفجاج والسبل وتسوية سطح الأرض‏.‏

‏(10)‏ جعل تضاريس سطح الأرض علامات للاهتداء بها علي اليابسة في وضح النهار‏,‏ وجعل النجوم علامات للاهتداء بها في ظلمات كل من البر والبحر‏.‏
‏(11)‏ وصف عقاب بعض الأمم السابقة وصفا ينطبق بدقة فائقة علي ماتحدثه الزلازل في زماننا علي الأقل‏,‏ وذلك من قبل أن يدرك أحد من الخلق تفاصيل حدوث تلك الهزات الأرضية‏,‏ وتأكيد حقيقة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد خسف الأرض بالذين مكروا السيئات في الماضي‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قادر علي أن يخسفها بهم في الحاضر والمستقبل‏,‏ وأن الزلازل كغيرها من صور الابتلاءات الدنيوية هي من جند الله التي يسلطها علي مايشاء من مناطق الأرض عقابا للمذنبين‏,‏ وابتلاء للصالحين‏,‏ وعبرة للناجين‏.‏

‏(12)‏ الاشارة إلي دوران الأرض حول محورها أمام الشمس بظاهرة مد الظل وقبضه‏,‏ واعتباره صورة من صور السجود لله‏(‏ تعالي‏)‏ في خضوع وطاعة تامين‏.‏
‏(13)‏ تأكيد لمحة الإعجاز في خلق الأنعام‏,‏ وفي تكوين اللبن في ضروعها من بين فرث ودم‏,‏ وخروجه من تلك الضروع لبنا خالصا سائغا للشاربين‏.‏

‏(14)‏ جعل ثمار النخيل والأعناب مصدرا للرزق الحسن‏,‏ وإن أساء بعض الناس استخدامها في صناعة المسكرات‏.‏
‏(15)‏ خلق حشرة النحل‏,‏ ومنحها القدرة الفطرية علي تنظيم مجتمعاتها تنظيما مبهرا‏,‏ منه تخصيص الشغالات منها لبناء بيوتها في الجبال‏,‏ وفي الشجر‏,‏ وفي كل ما يعرش لها الناس بقدر من الدقة الهندسية المبهرة‏,‏ وإعطائها خصوصية جمع كل من الرحيق‏,‏ وحبوب اللقاح من العديد من الزهور عبر مساحات شاسعة الاتساع دون أن تضل عن بيوتها‏,‏ وتحويل ذلك كله في بطونها إلي ذلك الشراب العجيب‏,‏ المختلف الألوان‏,‏ الذي جعل الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيه شفاء للناس‏.‏

‏(16)‏ خلق جميع الأزواج الآدمية من نفس واحدة هي نفس أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏),‏ وخلق البنين والحفدة من الأزواج في دورة حياة تنطبق علي كل حي‏,‏ ومن هؤلاء الأبناء والحفدة من يتوفي‏,‏ ومنهم من يرد إلي أرذل العمر‏,‏ ومن مظاهره الضعف العام‏,‏ ومن صور ذلك الضعف فقدان الذاكرة جزئيا أو كليا‏.‏
‏(17)‏ الإشارة إلي السمع قبل البصر في هذه السورة المباركة وفي العديد من سور القرآن الكريم‏,‏ والعلوم الطبية والحياتية تثبت سبق خلق حاسة السمع قبل حاسة البصر في أجنة الإنسان إن لم يكن في كل الأجنة‏.‏

‏(18)‏ الإشارة إلي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ بقدرته التي لا تحد يمسك الطيور مسخرات في جو السماء‏,‏ وما يمسكهن إلا الله‏.‏
‏(19)‏ الإشارة إلي درجة الحرارة بلفظ‏(‏ الحر‏)‏ ليشمل كلا من الحر والبرد‏,‏ وهي حقيقة علمية لم تكن معروفة في زمن الوحي‏,‏ ولا لقرون متطاولة من بعده‏.‏

‏(20)‏ تحريم أكل أي من الميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو ما أهل لغير الله به‏,‏ والبحوث العلمية المتقدمة أثبتت خطر ذلك كله‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة السابعة فقط وهي نشر مختلف أنواع وأشكال وألوان المخلوقات من الأحياء والجمادات في الأرض‏,‏ وإعطاء الإنسان القدرة علي تمييزها وما في ذلك من دلالات علمية أصيلة‏,‏ وهو ما أشارت إليه الآية الثالثة عشرة من هذه السورة المباركة‏,‏ ولكن قبل الدخول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون‏.(‏ النحل‏:13)‏

‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:...‏ لما نبه تعالي علي معالم السماء نبه علي ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة والأشياء المختلفة‏,‏ من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات‏,‏ علي اختلاف ألوانها وأشكالها ومافيها من المنافع والخواص‏(‏إن في ذلك لآية لقوم يذكرون‏)‏ أي آلاء الله ونعمه فيشكرونها‏.‏

‏*‏ وجاء في تفسير الجلالين‏(‏ رحم الله كاتبيه‏)‏ ما مختصره‏:(‏ و‏)‏ سخرلكم‏(‏ ماذرأ‏)‏ خلق‏(‏ لكم في الأرض‏)‏ من الحيوان والنبات وغير ذلك‏(‏ مختلفا ألوانه‏)‏ كأحمر وأصفر وأخضر وغيرها‏(‏ إن في ذلك لآية لقوم‏)(‏ يذكرون‏)‏ يتعظون‏.‏

‏*‏ وذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ ما نصه‏:‏وما خلق الله في الأرض وما أودع فيها للبشر من مختلف المعادن التي تقوم بها حياتهم في بعض الجهات وفي بعض الأزمان‏.‏ ونظرة إلي هذه الذخائر المخبوءة في الأرض‏,‏ المودعة للناس حتي يبلغوا رشدهم يوما بعد يوم‏,‏ ويستخرجوا كنوزهم في حينها ووقت الحاجة إليها‏.‏ وكلما قيل‏:‏ إن كنزا منها قد نفد أعقبه كنز آخر غني‏,‏ من رزق الله المدخر للعباد‏..(‏ إن في ذلك لآية لقوم يذكرون‏)‏ ولا ينسون أن يد القدرة هي التي خبأت لهم هذه الكنوز‏.‏

‏*‏ وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏(‏ رحم الله كاتبه‏)‏ ما نصه‏:(‏وما ذرأ لكم في الأرض‏)‏ معطوف علي‏(‏ النجوم‏)‏ أي وما خلق لأجلكم في الأرض من حيوان ونبات ومعادن‏,‏ حال كونه‏(‏ مختلفا ألوانه‏)‏ أي أصنافه وأنواعه في الخلقة والهيئة‏,‏ والخواص والمنافع‏.‏

‏*‏ وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزاهم الله خير الجزاء‏)‏ ما نصه‏:‏
وبجوار ما خلقه لكم في السماء‏,‏ وهيأه لمنافعكم‏,‏ خلق لكم علي سطح الأرض كثيرا من أنواع الحيوان والنبات والجماد‏,‏ وجعل في جوفها كثيرا من المعادن المختلفة الألوان والأشكال والخواص‏,‏ وجعل كل ذلك لمنافعكم‏,‏ إن في ذلك كله لأدلة واضحة كثيرة لقوم يتدبرون فيها فيتعظون‏,‏ ويعرفون من خلالها قدرة خالقهم ورحمته بهم‏.‏

‏*‏ وجاء في صفوة التفاسير‏(‏ جزي الله كاتبها خيرا‏)‏ ما نصه‏:‏أي وما خلق لكم في الأرض من الأمور العجيبة‏,‏ من الحيوانات والنباتات‏,‏ والمعادن والجمادات‏,‏ علي اختلاف ألوانها وأشكالها‏,‏ وخواصها ومنافعها‏,(‏إن في ذلك لآية لقوم يذكرون‏)‏ أي لعبرة لقوم يتعظون‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
يقدر أن غالبية المعلومات التي تصل إلي ذهن الإنسان‏(‏ نحو تسعة أعشارها‏)‏ يصل عن طريق النظر‏,‏ والعشر الباقي يصل عن طريق بقية الحواس مجتمعة‏,‏ ولذلك يعتبر النظر من أعظم نعم الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي خلقه‏.‏ والإنسان هو أكثر مخلوقات الله اعتمادا علي حاسة البصر التي عن طريقها يميز النور عن الظلام كما يميز الألوان‏,‏ ويكتسب العديد من المعارف التي بدونها تصبح الحياة كئيبة مملة‏,‏ وإن نسي كثير من الناس قيمة هذه النعمة في زحام الحياة‏,‏ وفي غمرات الإلف والعادة‏.‏ ولذلك فإن فاقدي البصر منذ الميلاد ينعزلون عن عالم النور والألوان انعزالا كاملا‏,‏ فهم لا يعرفون له معني‏,‏ علما بأن الألوان من أهم الوسائل للتمييز بين الأشياء‏,‏ ولذلك يعوضهم الخالق سبحانه وتعالي بنمو بعض حواسهم نموا غير عادي‏,‏ بعد أن جعل من فقد أبصارهم تذكرة للناس حتي يدركوا فضل الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليهم بنعمة البصر وحدها‏,‏ ونعم الله‏(‏ جل جلاله‏)‏ علي العباد لا تعد ولا تحصي‏.‏

الألوان والنور والظلام
الأصل في الكون هو الظلام وأن نور النهار القادم مع أشعة الشمس‏,‏ وأشعتها المنعكسة نورا من علي سطح القمر‏,‏ وأضواء النجوم المشتتة نورا في ظلمة الليل هي من نعم الله تعالي علي أهل الأرض‏,‏ وإن بقي ضوء الشمس هو أهم تلك المصادر جميعا‏,‏ فبدونها ما كانت الحياة علي الأرض ممكنة لأنها مصدر الدفء والنور والحياة علي هذا الكوكب‏.‏
والشمس عبارة عن كتلة هائلة من غاز الهيدروجين الذي أداره الله‏(‏ تعالي‏)‏ حول ذاته‏,‏ فكدسه تكديسا شديدا مما رفع درجة حرارته إلي ملايين الدرجات المئوية‏,‏ فبدأت بين نوي ذراته عملية اتحاد تعرف باسم عملية الاندماج النووي تتحد فيها أربع نوي من نوي ذرات الهيدروجين لتكون نواة واحدة من نوي ذرات الهيليوم وتنطلق الطاقة التي تقدر بنحو‏4,6‏ مليون طن في كل ثانية‏.‏
وقدر الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ كمية الطاقة التي تصلنا من الشمس بتحديد بعد الأرض عنها‏.‏

وأشعة الشمس تصلنا علي هيئة موجات كهرومغناطيسية مكونة من سلسلة متصلة من مجموعات تلك الأمواج التي لا تختلف إلا في تردداتها أو أطوال موجاتها الذي يمتد بين نحو السنتيمتر الواحد وعدة كيلومترات بالنسبة للموجات الراديوية‏,‏ وبين جزء من عشرة آلاف مليون من المتر وجزء من مليون مليون جزء من المتر‏10-12‏ بالنسبة لأشعة جاما‏,‏ وبين هذين الحدين تمتد الأشعة تحت الحمراء بعد أشعة الراديو‏,‏ ثم أطياف الضوء المرئي‏,‏ ثم الأشعة فوق البنفسجية‏,‏ ثم الأشعة السينية التي تأتي قبل أشعة جاما مباشرة‏,‏ ويمتد الطول الموجي لهذه الأشعات الوسطي بين‏10+10,2-2‏ ميكرون‏(‏ والميكرون جزء من مليون جزء من المتر‏).‏
وأغلب أشعة الشمس هي أشعة غير مرئية‏,‏ بالنسبة لعين الإنسان‏,‏ والجزء الذي تستطيع عين الإنسان رؤيته جزء ضئيل للغاية لا يكاد طول موجته أن يتعدي الميكرون الواحد‏,‏ وتميز عين الإنسان في هذه الحدود من الأطياف سبعة هي الأحمر‏,‏ والبرتقالي‏,‏ والأصفر‏,‏ والأخضر‏,‏ والأزرق‏,‏ والنيلي‏,‏ والبنفسجي وهي نفس الألوان التي تميز قوس قزح الذي يزين السماء الصافية بعد سطوع الشمس في يوم مطير‏,‏ والطيف الأحمر هو أطول موجات الطيف المرئي وأقلها ترددا‏,‏ بينما الطيف البنفسجي هو اقصرها واعلاها ترددا وهذه الأطياف السبعة بتردد انعكاسها وتشتتها علي هباءات الغبار وقطيرات الماء وجزيئات الغاز التي تكون الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض تعطي لهذا الجزء من الغلاف الغازي للأرض المحيط بنصف الكرة الأرضية المواجهه للشمس‏(‏ إلي ارتفاع مائتي متر فوق مستوي سطح البحر‏)‏ نور النهار الأبيض الناصع‏.‏ والواقع أن بالطيف المرئي أعدادا لا نهائية من الألوان المتدرجة في التغير‏,‏ وإن كانت عين الإنسان لا تستطيع التمييز منها إلا علي هذه الألوان السبعة فقط‏,‏ وبدرجات متفاوتة من فرد إلي آخر‏.‏
والألوان الرئيسية الثلاثة من الطيف المرئي هي الأحمر‏,‏ والأخضر‏,‏ والأزرق‏,‏ والتي بخلطها بنسب متعددة يمكن الحصول علي اعداد لا حصر لها من الألوان‏,‏ وبإضافة اللون الأصفر إليها ينتج اللون الأبيض‏,‏ وكذلك الألوان الثلاثة الأحمر‏,‏ والأصفر‏,‏ والأزرق وهي الألوان الرئيسية الثلاثة للأصباغ والتي إذا خلطت بنسب محددة فإنها تعطي اللون الأسود‏,‏ وألوانا وسطي عديدة منها الأحمر المائل إلي الزرقة‏(Magenta),‏ والأخضر المائل إلي الزرقة‏(Cyan).‏

الألوان والإبصار
يكون نور النهار الأبيض الناصع من عدد هائل من الأطياف التي تستطيع عين الإنسان تمييز سبعة منها أطولها الطيف الأحمر الذي تبلغ طول موجته‏(0,0007--‏ مم‏)‏ وأقصرها البنفسجي ويبلغ طول موجته‏(0,0004‏ مم‏),‏ وحول حدود الضوء المرئي توجد الأشعة تحت الحمراء التي لا نراها ولكن ندرك حرارتها‏,‏ وكذلك الأشعة فوق البنفسجية وهي أيضا أشعة غير مرئية‏,‏ ولكن لطاقاتها العالية فإنها تفكك الروباط بين جزيئات المادة ولذلك تتسبب في العديد من سرطانات الجلد‏,‏ والتهابات العيون‏,‏ ولذلك سخر الله‏(‏ تعالي‏)‏ لنا صبغة الميلانين لحماية الجلد من هذه الأشعة الضارة عند التعرض لأشعة الشمس علي مدي ساعات طويلة‏,‏ فتلون البشرة بالألوان المائلة إلي الاسمرار‏.‏
وتستطيع عين الإنسان‏,‏ وعيون بعض الحيوانات رؤية الألوان‏.‏ ولذلك جاء الخطاب موجها إلي الإنسان في الآية الكريمة التي نحن بصددها والتي يقول فيها ربنا تبارك وتعالي مخاطبا ذلك المخلوق المكرم‏:‏
وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون‏.(‏ النحل‏:13)‏

ويرجع الفضل في ذلك إلي الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ الذي بطن تجويف العين بطبقة حساسة للضوء تعرف باسم شبكية العين وبهذه الطبقة نوعان من المستقبلات للضوء علي هيئة خلايا دقيقة جدا بعضها عضوية والأخري مخروطية الشكل‏,‏ ويوجد في شبكية العين الواحدة‏(120‏ مليون‏)‏ خلية عضوية و‏(7‏ ملايين‏)‏ من الخلايا المخروطية‏.‏ وتركز عدسة العين الشعاع الساقط عليها فوق تلك الخلايا المكونة للشبكية الحساسة للضوء‏.‏ والخلايا العضوية تفرق بين اللونين الأبيض والأسود‏,‏ وتعمل بكفاءة عالية في النور الخافت ولذلك تستخدم للرؤية في الليل‏,‏ أما الخلايا المخروطية فتعمل في النور الساطع ولذلك تستخدم للرؤية في النهار‏.‏
ويري بعض علماء البصريات وطب العيون أن قدرة الإنسان علي رؤية الألوان راجع إلي وجود ثلاثة أنواع من هذه الخلايا المخروطية‏,‏ يحتوي كل منها علي صبغة حساسة للون واحد فقط من الألوان الرئيسية الثلاثة‏:‏ الأحمر‏,‏ والأخضر‏,‏ والأزرق‏,‏ وباختلاط نسب محددة من هذه الألوان الثلاثة يمكن إنتاج أي لون آخر من الألوان التي تدركها عين الإنسان‏.‏
ولكن كيف يفسر المخ الألوان المرئية لا يزال أمرا غامضا تماما‏,‏ وإن كان يعتقد بأن كل مجموعة من الخلايا المخروطية تنتهي إلي خلية عصبية مزدوجة القطب تجمع الإشارات من خلاياها المخروطية وترسلها إلي مركز الإبصار في المخ عبر عصب واحد‏,‏ فيبني المخ صورة واحدة من تلك الإشارات العصبية المجمعة‏,‏ وإذا حدث خلل ما بالخلايا المخروطية ينتج عن ذلك مرض يعرف باسم عمي الألوان‏.‏

وعين الإنسان لا تري الأشعة تحت الحمراء بينما تراها عين الثعبان‏,‏ وتشير الإحصائيات إلي أن‏8%‏ من الرجال‏,‏ و‏10%‏ من النساء لا يستطيع التمييز بين الألوان الثلاثة‏:‏ الأحمر‏,‏ والأخضر‏,‏ والرمادي‏,‏ وأن غالبية الأنعام‏(‏ من مثل البقر‏)‏ لا تري ألوان الطيف المرئي علي الإطلاق‏,‏ وكذلك الأحصنة‏,‏ والقطط‏,‏ والكلاب‏,‏ وعين النحلة تري الأشعة فوق البنفسجية التي لا يراها الإنسان‏,‏ ولكنها لا تستطيع أن تري من أطياف الضوء المرئي إلا اللونين الأصفر والأزرق فقط‏,‏ بينماكل من الطيور والأسماك والزواحف لها قدرة هائلة علي تمييز الألوان‏,‏ أما الحيوانات التي ليست لها هذه القدرة فقد عوضها الله‏(‏ تعالي‏)‏ بتنمية حواسها الأخري من مثل السمع والشم لتستعيض بها عن حاسة الإبصار‏.‏
والنباتات الخضراء تبدو بهذا اللون المبهج الجميل لأنها تمتص كل أطياف النور الأبيض ما عدا الطيف الأخضر الذي تعكسه واذا جف ويبس بدي باللون الأصفر‏,‏ وهو الطيف الوحيد الذي يعكسه‏,‏ أما ثماره وازهاره فقد اعطاها الله‏(‏ تعالي‏)‏ القدرة علي عكس قدر هائل من الألوان المبهجة التي تسر الناظرين‏,‏ وكذلك فإن جميع الأشياء التي نراها لا نعرف لونها الحقيقي لأننا لا نري إلا الطيف المنعكس منها‏,‏ وهذا جانب من جوانب الغيب الذي لم يستطع حس الإنسان الوصول إليه بعد‏,‏ وذلك لأنه عندما يسقط الضوء علي جسم‏,‏ ما فإنه يمتص قسما من الطيف المرئي‏,‏ ويعكس الباقي الذي يتحد مع بعضه البعض ليعطينا اللون الذي نري به ذلك الجسم‏,‏ فإذا امتص الجسم جميع أطياف الضوء المرئي فإننا نراه أسود‏,‏ وإذا عكسها جميعا فإننا نراه أبيض‏,‏ وحقيقة اللون في الحالين غير معروفة لنا تماما‏.‏
وكذلك الألوان في مختلف العناصر‏,‏ والمعادن‏,‏ والصخور‏,‏ وفي مختلف المخلوقات من أدقها إلي أكبرها‏,‏ وفي مختلف الأوساط والبيئات الأرضية والمائية والهوائية‏,‏ وتحت مختلف المناخات‏.‏ في الصحاري والقفار‏,‏ وفي الغابات الاستوائية‏,‏ وفوق قمم الجبال وفي السهول والمنخفضات الأرضية‏,‏ وفي المناطق القطبية المتجمدة وفي المناطق الاستوائية الحارة الرطبة‏,‏ في كل ذلك تتعدد الألوان لتملأ الأرض تنوعا وتعددا وجمالا فطريا خلابا‏,‏ ولولا ذلك لكانت الحياة كئيبة شاحبة‏,‏ لا تدخل في العين بهجة ولا علي القلب انشراحا‏.‏ لذلك جاءت الإشارة في هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها إلي نعمة الألوان في الأرض‏,‏ وإلي ما تحتويه من أسرار الغيب‏,‏ وإلي القدرة الإلهية المبهرة في خلق خاصية الأشياء في التعامل مع الأشعة الضوئية وانعكاس الألوان من أسطحها‏,‏ وخلق حاسة الإبصار عند الإنسان بهذا القدر الهائل من التعقيد‏,‏ وإعطائها القدرة علي التمييز بين الألوان إمتاعا للإنسان وإدخالا للبهجة علي قلبه وفي حياته‏,‏ ولذلك قال‏(‏ عز من قائل‏):‏
وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون‏(‏ النحل‏:13)‏

وما كان لأحد في زمن الوحي‏(‏ منذ أكثر من أربعة عشر قرنا مضت‏),‏ ولا في القرون المتطاولة من بعده إدراك لشيء من هذه المعارف والعلوم التي أكدت طبيعة الألوان‏,‏ وأهميتها للحياة‏,‏ والمعجزة الإلهية في بناء حاسة الإبصار وإعطائها القدرة علي إدراك الألوان‏,‏ وتمييزها حتي يمتن علينا بها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ وهو صاحب الفضل والمنة ـ ويجعل منها آية مؤكدة للذين يتأملون في خلق الله بعين البصيرة والتدبر فيشهدون للخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏),‏ ثم يقرأون هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها وغيرها من آيات هذا الكتاب الحكيم فيشهدون بأنه كلام الله الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ دون أن يضاف إليه حرف واحد‏,‏ أو أن يحذف منه حرف واحد علي مدي يزيد علي الأربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏,‏ ويشهدون للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏