(103)إنا كل شيئ خلقناه بقدر‏*‏
‏*‏ القمر‏:49*‏
بقلم الدكتور‏:‏زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في خواتيم سورة القمر وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏(55)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بذكر معجزة انشقاق القمر‏,‏ وهي إحدي المعجزات الحسية الكبري التي أيد الله‏(‏ تعالي‏)‏ بها خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ضد تكذيب كفار قريش‏,‏ وإنكارهم لبعثته الشريفة‏.‏
وقد روي هذه المعجزة الكبري عدد من الصحابة من أمثال عبدالله بن عباس‏,‏ عبدالله بن عمر‏,‏ عبدالله بن مسعود‏,‏ أنس بن مالك‏,‏ وجبير بن مطعم‏(‏ رضي الله تبارك وتعالي عنهم أجمعين‏),‏ وقد دون الحدث في كل من الحضارتين القديمتين الهندية والصينية‏.‏

ويدور المحور الرئيسي لسورة القمر حول قضيتي الإيمان والكفر‏,‏ والجزاء الوافي علي كل منهما في الدنيا قبل الآخرة‏,‏ وتحذر السورة الكريمة في مطلعها من اقتراب الآخرة‏,‏ ومن أهوالها‏,‏ وتستعرض موقف كفار قريش من خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وإعراضهم عنه‏,‏ واتهامهم له‏(‏ شرفه الله تعالي‏)‏ بالسحر وتكذيبهم لدعوته‏-‏ وهو المعروف عندهم بالصادق الأمين‏-‏ وذلك انطلاقا من غرورهم وصلفهم وكبرهم‏,‏ واتباعا لأهوائهم‏,‏ وقد جاءهم بالأنباء والنذر‏,‏ وتبدأ السورة المباركة بالتحذير من اقتراب الساعة‏,‏ وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ اقتربت الساعة وانشق القمر‏*(‏ القمر‏:1).‏
ومن الثابت عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قوله الشريف‏:‏بعثت أنا والساعة كهذا وأشار بإصبعيه السبابة والوسطي‏(‏ رواه الشيخان‏),‏ وصدق خاتم الأنبياء والمرسلين فيما أشار إليه لأننا نعلم اليوم من أنباء الكون الذي نحيا فيه أنه يرجع في القدم إلي أربعة عشر بليونا من السنين بينما بعث رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ منذ أربعة عشر قرنا‏,‏ ونعلم كذلك أن أقدم صخور الأرض قد يبس علي هيئته الصخرية منذ نحو الخمسة بلايين من السنين‏(4,6‏ بليون سنة‏),‏ فإذا أشار‏(‏ عليه الصلاة والسلام‏)‏ إلي ما بقي من عمر الكون بالنسبة إلي ما مضي منه بالمسافة بين السبابة والوسطي فقد صدق‏,‏ ونحن نري اليوم أن جميع العلامات الصغري للساعة قد تحققت‏,‏ وبقي أن تظهر أولي العلامات الكبري فيقفل باب التوبة‏,‏ ثم تتري باقي العلامات الكبري العشر الواحدة تلو الأخري ثم تقوم الساعة التي نسأل الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن يهون علينا أهوالها إنه هو الرحمن الرحيم‏.‏

وتابعت سورة القمر بالإشارة إلي معجزة انشقاق القمر‏,‏ والمعجزات الحسية لا تعلل لأنها خوارق للسنن المعهودة‏,‏ وللقوانين المعروفة‏,‏ وهي شهادة علي من رآها من الناس‏,‏ وليست حجة علي من لم يرها‏,‏ ولكنا نؤمن بها لوجود الإشارة إليها في هذه الآية الكريمة من كتاب الله‏,‏ وفي العديد من أحاديث رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ولثبوت شهادات من شاهدها من كبار صحابته‏(‏ عليهم رضوان الله‏),‏ خاصة أن أحدا من كفار ومشركي قريش لم ينكر وقوع تلك المعجزة‏,‏ بل تحايلوا علي التقليل من شأنها بإحالتها إلي السحر‏,‏ وهم أعلم الناس بصدق رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وأمانته‏,‏ وببعده عن مثل هذه السلوكيات المشينة كالسحر والشعوذة‏.‏
وكذلك اثبتها أحد ملوك ماليبار‏(‏ وهي إحدي مقاطعات جنوب غربي الهند‏)‏ وكان اسمه شاكاراواتي فارماس‏(SHAKARAWATIFARMAS)‏ كما هو مدون في إحدي المخطوطات الهندية القديمة والمحفوظة في مكتبة المركز الهندي بمدينة لندن‏(‏ تحت رقم‏2807/152-173)‏ وقد حققها المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد حميد الله‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ في كتابه المعنون‏:‏محمد رسول الله والذي ذكر فيه أن هذا الملك قد أعلن إسلامه بمجرد معرفته أن انشقاق القمر الذي شاهده هو في بلده كان معجزة مؤيدة لخاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه‏).‏

وقد أثبتت دراسات القمر مؤخرا وجود تمزقات طويلة جدا‏,‏ وغائرة إلي أعماق بعيدة في جسم القمر تتراوح أعماقها بين عدة مئات من الأمتار وأكثر من الكيلومتر‏,‏ ويتراوح عرضها بين نصف الكيلومتر والخمسة كيلومترات‏,‏ وتمتد أطوالها إلي مئات من الكيلومترات في خطوط مستقيمة أو متعرجة‏,‏ مرورا بالعديد من الحفر التي يزيد عمق الواحدة منها علي تسعة كيلومترات‏,‏ ويزيد قطرها علي الألف كيلومتر ومن أمثلتها الحفرة المعروفة باسم بحر الشرق‏(MareOrientalis),‏ وقد فسرت هذه الحفر العميقة باصطدام بعض الجسيمات الصلبة مثل النيازك الكبيرة بسطح القمر‏,‏ أما الشقوق الطولية المعروفة باسم شقوق القمر‏(RimaeorLunarCracks)‏ فقد فسرت علي أنها شروخ ناتجة عن الشد الجانبي لسطح القمر‏.‏
وفي الرد علي ادعاءات الكافرين الذين رأوا هذه المعجزة وكذبوها يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

وإن يروا أية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر‏*‏ وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر‏*‏ ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر‏*‏ حكمة بالغة فما تغني النذر‏*.(‏ القمر‏2-5).‏
وتأمر الآيات رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالإعراض عن هؤلاء الكافرين‏,‏ وبإنذارهم بالبعث وأهواله‏,‏ وما سوف يلقون فيه من عذاب وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏

فتول عنهم يوم يدع الداع إلي شيء نكر‏*‏ خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر‏*‏ مهطعين إلي الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر‏*(‏ القمر‏:6-8)‏
ومن الأمم التي استعرضتها سورة القمر قوم نوح الذين كذبوا رسول ربهم‏,‏ واتهموه بالجنون‏,‏ وزجروه‏,‏ ونهروه‏,‏ وسخروا منه‏,‏ فأغرقهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بأن فتح عليهم أبواب السماء بماء منهمر‏,‏ وفجر الأرض عليهم عيونا فالتقي الماء علي أمر قد قدر‏,‏ ونجي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ نوحا ومن آمن معه في السفينة التي كان قد أمره ببنائها‏,‏ وفي ذلك قال‏(‏ عز من قائل‏):‏

وحملناه علي ذات ألواح ودسر‏*‏ تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر‏*‏ ولقد تركناها آية فهل من مدكر‏*‏ فكيف كان عذابي ونذر‏*‏ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏*(‏ القمر‏:13-17).‏
ثم جاءت السورة الكريمة علي ذكر قوم عاد الذين كذبوا نبيهم هودا‏(‏ عليه السلام‏),‏ فعاقبهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بريح صرصر عاتية يصفها بقوله العزيز‏:‏

كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر‏*‏ إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر‏*‏ تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر‏*‏ فكيف كان عذابي ونذر‏*‏ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏*‏
‏(‏القمر‏:18-22)‏

ثم أتبعت السورة الكريمة ذلك بالإشارة إلي قوم ثمود الذين كذبوا نذر ربهم‏,‏ واستكبروا علي اتباع أوامر نبيهم‏,‏ وكذبوه‏,‏ وعقروا الناقة التي بعثها الله‏(‏ تعالي‏)‏ لهم آية‏,‏ فأرسل الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر أي كفتات الشجر اليابس الذي تبني منه حظائر البهائم‏.‏
ثم تحدثت الآيات في سورة القمر عن تكذيب قوم لوط لنبيهم‏,‏ وانكارهم لما جاء به إليهم من نذر‏,‏ فعاقبهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بإرسال ريح حاصبة عليهم‏(‏ أي من شدتها كانت ترميهم بالحصباء وهي الحصي الصغيرة‏),‏ ونجي الله آل لوط من تلك الريح الحاصبة بمعجزة منه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لأنهم كانوا من الشاكرين‏,‏ وتمت تنجيتهم قبيل الصبح‏,‏ ثم أتي قوم لوط مع الصباح الباكر عذاب دائم لا ينفك عنهم إلي أن يفضي إلي القضاء عليهم‏,‏ ومن ثم إلي عذاب القبر وعذاب الآخرة‏,‏ جزاء تكذيبهم لنبيهم‏,‏ وتشككهم فيما أنذرهم به من عذاب‏,‏ وتطاولهم بالسوء إلي ملائكة الله فطمس الله علي بصائرهم فلم يروا الملائكة‏,‏ وأنزل الله‏(‏ تعالي‏)‏ بهم عقابه المدمر الذي قضي عليهم في الساعات الأولي من النهار‏.‏

وبعد ذلك ذكرت سورة القمر تكذيب آل فرعون بنذر الله كلها وآياته فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر أي أخذ غالب في انتقامه منهم قادر علي أهلاكهم لأنه تعالي لا يعجزه شيء‏.‏
ثم توجه السورة أنظار الكافرين والمشركين من قريش ومن كل أمة من الأمم من بعدهم‏,‏ وفي كل زمان ومكان بأنهم لا وزن لهم في معيار الله‏,‏ كما كان جميع الكفار والمشركين من قبلهم‏,‏ وبالتالي فلا يمكن لهم أن يأمنوا من عذاب الله كما لم يأمن سابقوهم‏,‏ وتسألهم الآيات‏:‏ ألكفاركم براءة من العذاب فيما نزل من كتب الله السابقة فلذلك لا تخافون من عذاب الله؟ أم تدعون بأنكم سوف تنتصرون علي من خالفكم باتحادكم علي الكفر أو الشرك‏,‏ وترد عليهم الآيات بأنهم سوف يهزمون جميعا ويولون الدبر‏(‏ كناية عن الفرار‏),‏ وتتهددهم الآيات بالساعة الآخرة‏,‏ مؤكدة أنها سوف تكون أشد من كل صنوف العذاب في الدنيا‏,‏ وأدهي من الداهية الكبري‏,‏ وهي الأمر المنكر الفظيع الذي لا يمكن الخلاص منه‏,‏ ولا يهتدي إلي ذلك أبدا‏,‏ وأمر من المرارة إذا صار الشيء مرا أي بالغ الصعوبة والمشقة‏.‏

وتؤكد الآيات أن المجرمين في ضلال وسعر أي في مجافاة للحق والصواب ونيران مسعرة‏,‏ وأن الملائكة سوف تتشفي فيهم وهم يسحبون في النار علي وجوههم بقولهم لهم‏:‏ذوقوا مس سقر أي قاسوا آلام جهنم وعذابها لأن سقر اسم من أسماء جهنم‏.‏
ثم تأتي الحجة البالغة لله بأنه هو سبحانه وتعالي خالق كل شيء بقدر أي مقدرا تقديرا محكما مستوفيا كل ما تقتضيه الحكمة التي عليها مدار الكون كله‏.‏ والقدر اسم لما صدر عن القادر‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ الذي قرره قبل حدوثه أي تقدير الله الأشياء في القدم‏,‏ وعلمه‏(‏ سبحانه‏)‏ أنها سوف تقع في أوقات معلومة عنده‏,‏ وعلي صفات مخصوصة كما حددها‏,‏ فهي تجري وتقع علي ما حدده الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وهو إيجاد الله‏(‏ تعالي‏)‏ للأشياء علي قدر مخصوص‏,‏ وتقدير معين في ذواتها وأحوالها‏,‏ وتقديرها بمعني تحديد كل جزئية فيها بحدودها التي توجد عليها‏.‏

وتؤكد الآيات أن أمر الله‏(‏ تعالي‏)‏ في الخلق والإفناء هو بكلمة واحدة هي كن فيكون‏,‏ أي توجد بسرعة كلمح البصر‏,‏ لأن الزمن الذي يحد المخلوقين هو من صنع الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وعلي ذلك فهو لا يحده ولا يحد أوامره‏,‏ والتشبيه هنا من قبيل التقريب لعقولنا في سرعة تعلق القدرة الإلهية بالمقدور علي وفق إرادته‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وهي إرادة أزلية‏,‏ واللمح هو النظر بسرعة فائقة خاطفة‏.‏
وتعاود الآيات مرة أخري إلي مخاطبة كفار قريش بالإشارة إلي إهلاك الباطل وأهله واتباعه من الأمم السابقة‏,‏ وتحذرهم من إمكانية أن يصيبهم مثل ما أصابهم‏,‏ والتحذير مستمر للكفار والمشركين من الأمم اللاحقة بهم إلي يوم القيامة‏.‏ وتؤكد الآيات أن كل شيء يفعلونه هو مدون في كتب الحفظة‏,‏ لا مفر منه‏,‏ وكل صغير وكبير من الأفعال والأقوال والتصرفات مسطور عند الله‏(‏ تعالي‏),‏ ومحصي علي صاحبه‏,‏ ثم تختتم سورة القمر بالقرار الإلهي القاطع الذي يكرم الله‏(‏ تعالي‏)‏ به المتقين فيقول‏(‏ عز من قائل‏):‏

إن المتقين في جنات ونهر‏*‏ في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏*.‏
‏(‏القمر‏54:55)‏

ومقعد الصدق هو الجنة لأنها مقعد الحق‏,‏ ومجلس الرضا الذي لا لغو فيه ولا تأثيم‏,‏ عند ملك الملوك‏,‏ ورب السماوات والأرض‏,‏ صاحب القدرة المطلقة والأمر الذي لا يرد ولقد جاءت الإشارة أربع مرات في خلال سورة القمر بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏*‏
‏(‏القمر‏:40,32,22,17)‏

لعل الناس أن يأخذوا العبرة من استعراض تاريخ عدد من الأمم السابقة التي جاء ذكرها في سورة القمر وفي غيرها من سور القرآن الكريم‏.‏

من ركائز العقيدة في سورة القمر
تلح الآيات في سورة القمر علي الإيمان بمايلي‏:‏
‏(1)‏ حقيقة الآخرة‏,‏ والبعث‏,‏ والحساب‏,‏ والجنة‏,‏ والنار‏,‏ والخلود في أي منهما إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏.‏

‏(2)‏ حقيقة الوحي‏,‏ والنبوة‏,‏ والرسالة‏,‏ وجميع الأنبياء والمرسلين‏.‏
‏(3)‏ عقاب من كفر من الأمم السابقة من مثل قوم نوح الذين أهلكوا بالإغراق بماء كل من السماء والأرض‏,‏ وقوم عاد الذين أهلكوا بريح صرصر عاتية‏,‏ وقوم ثمود الذين أهلكوا بالصيحة‏,‏ وقوم لوط الذين أهلكوا بالريح الحاصب‏,‏ وقوم فرعون الذي أغرق وجنده باليم وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر‏.‏

‏(4)‏ إن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد خلق كل شيء بقدر‏.‏
‏(5)‏ أن أمر الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ واحدة كلمح بالبصر أي بـ كن فيكون‏.‏

‏(6)‏ أنه ما من عمل يعمله الإنسان‏,‏ أو حركة يتحركها‏,‏ أو نطق ينطق به‏,‏ إلا وهو مدون عند رب العالمين تدوينا كاملا صغر أم كبر‏.‏
‏(7)‏ أن المتقين لله سوف ينعمون في الآخرة بالخلود في جنات النعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏*.‏

الإشارات الكونية في سورة القمر
‏(1)‏ التأكيد علي وقوع معجزة إنشقاق القمر‏,‏ وعلي اقتراب الآخرة‏.‏
‏(2)‏ الإشارة إلي المخزون المائي تحت سطح الأرض وإلي أن أصله من ماء المطر‏.‏

‏(4)‏ التأكيد علي حقيقة عدد من الأمم البائدة من مثل قوم نوح‏,‏ وعاد‏,‏ وثمود‏,‏ ولوط‏,‏ وآل فرعون وعلي طرائق إهلاكهم‏.‏
‏(5)‏ التأكيد علي حتمية الآخرة‏.‏

‏(6)‏ التأكيد علي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد خلق كل شيء بقدر‏.‏
‏(7)‏ التأكيد علي أن الزمن من خلق الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ والمخلوق لا يحد الخالق‏,‏ ولذلك فإن أوامر الله‏(‏ تعالي‏)‏ لا تحتاج إلي زمن لتحقيقها وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر‏.‏

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها ولذلك فسوف أقصر الحديث هنا علي النقطة السادسة من القائمة السابقة والتي عبرت عنها الآية التاسعة والأربعون من سورة القمر‏,‏ وقبل الدخول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح هذه الآية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
إنا كل شيء خلقناه بقدر‏*.(‏ القمر‏:49)‏
‏*‏ ذكر ابن كثير يرحمه الله ما مختصره‏:..‏وقوله تعالي‏(‏ إنا كل شيء خلقناه بقدر‏)‏ كقوله‏(‏ وخلق كل شيء فقدره تقديرا‏)‏ وكقوله تعالي‏(‏ والذي قدر فهدي‏)‏ أي قدر قدرا وهدي الخلائق إليه‏,‏ ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة علي إثبات قدر الله السابق لخلقه‏,‏ وهو علمه الأشياء قبل كونها‏,‏ وكتابته لها قبل برئها‏,‏ وردوا بهذه الآية وبما شاكلها علي الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة‏....‏
‏*‏ وجاء في الجلالين‏(‏ رحم الله كاتبيه‏)‏ ما مختصره‏:...(‏ إنا كل شيء‏)‏ منصوب بفعل يفسره‏(‏ خلقناه بقدر‏)‏ بتقدير‏,‏ حال من‏(‏ كل‏)‏ أي‏:‏ مقدرا‏,‏ وقرئ‏(‏ كل‏)‏ بالرفع مبتدأ خبره‏(‏ خلقناه‏)...‏

‏*‏ أما صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ فبعد أن استعرض عددا من جوانب الاتزان في بناء السماء‏,‏ وفي الأرض‏,‏ وفي كل ما يحيط بنا وفي أجساد كل من الإنسان‏,‏ والحيوان‏,‏ والبنات‏,‏ خلص إلي أن حركة هذا الكون كلها بجميع أحداثها‏,‏ ووقائعها‏,‏ وتياراتها مقدرة ومدبرة تقديرا دقيقا‏,‏ وتدبيرا محكما‏,‏ صغيرها وكبيرها‏,‏ وأضاف‏:...‏ إن قدر الله وراء طرف الخيط البعيد لكل حادث‏,‏ ولكل نشأة‏,‏ ولكل مصير‏,‏ ووراء كل نقطة‏,‏ وكل خطوة‏,‏ وكل تبديل أو تغيير‏..‏ إنه قدر الله النافذ الشامل‏,‏ الدقيق العميق‏..!!‏ وأحيانا يري البشر طرف الخيط القريب‏,‏ ولا يرون طرفه البعيد‏,‏ وأحيانا يتطاول الزمن بين المبدأ والمصير في عمرهم القصير‏,‏ فتختفي عليهم حكمة التدبير‏,‏ فيستعجلون ويقترحون‏,‏ وقد يسخطون أو يتطاولون‏!!‏ والله يعلمهم في هذا القرآن أن كل شيء بقدر ليسلموا الأمر لصاحب الأمر‏,‏ وتطمئن قلوبهم وتستريح‏,‏ ويسيروا مع قدر الله في توافق وفي تناسق وفي انس بصحبة القدر في خطوه المطمئن الثابت الوثيق‏.‏
‏*‏ وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏(‏ رحم الله كاتبه‏)‏ ما نصه‏:...(‏إنا كل شيء خلقناه بقدر‏)‏ أي مقدرا محكما‏,‏ مستوفيا فيه ما تقتضيه الحكمة التي عليها مدار التكوين‏,‏ وهو كقوله تعالي‏:(‏وخلق كل شيء فقدره تقديرا‏).‏ والقدر‏:‏ اسم لما صدر عن القادر مقدرا‏.‏ يقال‏:‏قدرت الشيء وقدرته ـ بالتخفيف والتثقيل بمعني واحد‏,‏ أو المعني‏:‏ خلقناه مقدرا مكتوبا في اللوح قبل حدوثه‏,‏ فهو بالمعني المشهور الذي يقابل القضاء‏.‏

وقال النووي‏:‏ القدر تقدير الله الأشياء في القدم‏,‏ وعلمه تعالي أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحان‏,‏ وعلي صفات مخصوصة‏,‏ فهي تقع في حسب ما قدرها الله تعالي‏.‏ أ‏.‏هـ‏.‏
وفي شرح المواقف‏:‏ قضاء الله هو ارادته الأزلية المتعلقة بالأشياء علي ما هي عليه فيما لا يزال‏,‏ وقدره‏:‏ إيجاده إياها علي قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها‏...‏

‏*‏ وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ ما نصه‏:‏إنا خلقنا كل شيء‏,‏ وخلقناه بتقدير علي ما تقتضيه الحكمة‏.‏
‏*‏ وجاء في صفوة التفاسير جزي الله كاتبها خيرا ما نصه‏:‏أي إنا خلقنا كل شيء مقدرا مكتوبا في اللوح المحفوظ من الأزل‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
تؤكد دراسات الكون بمجمله‏,‏ ودراسة كل جزئية من جزئياته علي حقيقة الخلق‏,‏ وعلي عظمة الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وتشهد له بالألوهية‏,‏ والربوبية‏,‏ والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولاشبيه‏,‏ ولامنازع‏,‏ ولا صاحبة ولا ولد‏),‏ كما تشهد له‏(‏ سبحانه‏)‏ بدقة التقدير‏,‏ وروعة التدبير‏,‏ وإحكام الترابط والتوازن بين مختلف أجزاء هذا الكون الشاسع الاتساع‏,‏ الدقيق البناء‏,‏ المنضبط انضباطا شديدا في كل وحدة من وحداته وكل جزئية من جزئياته‏,‏ من أدق دقائقه إلي أكبر مكوناته‏,‏ من اللبنات الأولية للمادة الداخلة في بناء كل جزئية من بناء الذرة إلي المجموعات النجمية المكونة للمجرة‏,‏ ومن الأرض إلي باقي أجرام السماء‏,‏ ومن الفيروس إلي الإنسان‏,‏ وفي كل وسط بيئي محدد ـ علي تعدد تلك الأوساط وتباينها ـ مما يؤكد أن الخلق قد تم بتقدير محكم دقيق يعجز القلم عن إيفائه حقه لإحكام ذلك التقدير ولتعدد جوانبه‏,‏ بصورة لايمكن حصرها ولكن تكفينا هنا الإشارة إلي لمحات من ذلك علي النحو التالي‏:‏

أولا‏:‏ من لمحات التقدير في بناء الكون‏:‏
يحصي علماء الفلك في زماننا أن بالسماء من أمثال مجرتنا‏(‏ مجرة الطريق اللبني‏)‏ أكثر من مائتي ألف مليون مجرة‏,‏ بعضها أكبر من مجرتنا كثيرا‏,‏ والبعض الآخر أصغر قليلا‏,‏ ومجرتنا يقدر قطرها بمائة ألف سنة ضوئية‏,‏ ويقدر سمكها بعشر ذلك‏,‏ ويحصي فيها قرابة التريليون نجم‏,‏ لكل منها توابع كما أن لشمسنا توابع من الكواكب والكويكبات‏,‏ والأقمار والمذنبات‏,‏ وغيرها‏.‏
وتجري المجرات المعروفة لنا في جزء من السماء الدنيا يقدر قطره بأكثر من‏(24)‏ بليون سنة ضوئية‏(‏ والسنة الضوئية تقدر بنحو‏9.5‏ تريليون كيلومتر‏)‏ ويقدر عمر بنحو‏(14)‏ بليون سنة من سنينا‏.‏

وهذا الجزء من الكون دائم الاتساع إلي نهاية لايعلمها إلا الله‏(‏ تعالي‏),‏ حيث تتباعد المجرات عنا وعن بعضها البعض بسرعات تكاد تقترب أحيانا من سرعة الضوء المقدرة بنحو الثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية‏),‏ ومعني ذلك أنه كلما طور الإنسان أجهزة قياسه للكون وجد أن توسع الكون قد سبقه بمعدلات يعجز عن اللحاق بها‏,‏ وأن كلا من المادة والطاقة يتخلق من حيث لايعلم أحد لملء المسافات الناتجة عن هذا التوسع مما يجسد أمام أنظارنا حقيقة الخلق من العدم‏,‏ كما يجسد لنا حقيقة الإفناء إلي العدم ابتلاع النجوم الخانسة الكانسة المعروفة باسم الثقوب السود لكل ما تمر به أو يدخل في نطاق أفقها من مختلف صور المادة والطاقة‏.‏
وبالرجوع بعملية التوسع الكوني إلي الوراء مع الزمن يلتقي كل شيء من مختلف صور المادة والطاقة والمكان والزمان في نقطة واحدة‏,‏ متناهية الضآلة في الحجم إلي حد العدم حيث تلتقي فيها الأضاد فيفني بعضها بعضا‏,‏ وفي ذلك ما يؤكد حقيقة أن كوننا مخلوق محدث‏,‏ وليس بأزلي كما كان يدعي كثير من المبطلين‏.‏ وهنا أيضا يتضح جانب من جوانب التقدير الإلهي المبدع في فصل الأضاد من كل من المادة والطاقة عن بعضها البعض حتي يخلق هذا الكون بمختلف صور المادة والطاقة فيه وأضاد كل صورة باقية قائمة وشاهدة علي حتمية إفناء هذا الكون في اللحظة التي يشاؤها إله الكون وخالقه ومبدعه‏,‏ وبالطريقة التي يختارها‏,‏ وإن كان التقاء الأضاد كافيا لإفناء الكون بكل من فيه وما فيه إلي العدم إلا ما شاء الله‏;‏ وهذا جانب واحد من جوانب دقة التقدير في كون دائم الحركة منذ أربعة عشر بليونا من السنين‏,‏ ويجمع علماء الفلك علي أنه بعد مجاهدة كبيرة لم يتمكنوا من إدراك أكثر من‏10%‏ من كم المادة والطاقة المتكدستين في الجزء المدرك من سمائه الدنيا‏.‏

ثانيا‏:‏ من لمحات التقدير في حركة الكون‏:‏
تؤكد دراسة الكون أن لكل جرم من أجرام السماء مداره الخاص به‏,‏ ودوراته المتعددة حول محوره‏,‏ وحول مايدور في فلكه من الاجرام الأكبر منه‏,‏ وأن لكل جرم من هذه التريليونات وأضعافها من الاجرام سرعاته المقدرة تقديرا دقيقا محكما لتحفظ كلا منها في مداره المحدد إلي أجله المحدد‏,‏ وفي توافق تام مع بقية الأجرام في السماء الدنيا‏,‏ ومختلف حركاتها وسرعاتها‏,‏ وأحجامها‏,‏ وكتلها‏.‏
وسرعة جريان كل جرم من أجرام السماء تتباين من نقطة إلي أخري في مداره‏,‏ وتحكمه في ذلك قوتان متعارضتان من القوي التي أوجدها الخالق العليم الحكيم في الكون الذي أبدعه بعلمه وحكمته وطلاقة قدرته‏,‏ وأولي هاتين القوتين هي الجاذبية التي تشده إلي الجرم الأكبر الذي يدور حوله‏.‏

وثانيتهما هي القوة الطاردة النابذة المركزية التي تدفعه بعيدا عن ذلك الجسم الذي كان قد انفصل منه‏,‏ واندفع بواسطتها بعيدا عنه‏,‏ والتوازن الدقيق بين هاتين القوتين المتضادتين يحدد مدار كل جرم من أجرام السماء الدنيا علي هيئة بيضاوية إهليلجية تعرف باسم القطع الناقص ومن قوانين الحركة في مدار القطع الناقص أن السرعة المحيطية تخضع لقانون يعرف باسم قانون تكافؤ المساحات مع الزمن‏,‏ وهذا القانون يقتضي اختلاف مقدار السرعة علي طول المحيط‏,‏ فعندما يمر الجرم السماوي بالقطر الأصغر لمداره البيضاني يصبح أقرب ما يكون للجرم الذي يدور حوله فتزداد سرعته المحيطية‏,‏ وتزداد بالتالي القوة الطاردة النابذة المركزية بينهما‏,‏ وذلك للحيلولة دون جذب الجرم المركزي له مما قد يؤدي إلي ارتطامهما وتدميرهما‏,‏ وعلي النقيض من ذلك‏,‏ فإنه عند مرور الجرم بالقطر الأكبر لمداره البيضاني فإن سرعته المحيطية تتناقص وإلا انفلت من عقال جاذبية الجرم الذي يدور حوله إلي نهاية لايعلمها إلا الله‏.‏ وهذا هو حال القمر في جريه في مداره حول الأرض‏,‏ وفي جريهما معا في مدارهما حول الشمس‏,‏ وحال كل جرم من أجرام السماء الدنيا التي نعرفها‏.‏
وهذا التوازن الدقيق في حركة أجرام السماء الدنيا قد مكن من تحديد مواقع عدد من الكواكب في مجموعتنا الشمسية قبل رؤيتها‏.‏

ثالثا‏:‏ دقة التقدير في بناء ذرات العناصر‏:‏
بدراسة الجزء المدرك لنا من الكون اتضح تكونه اساسا من غاز الهيدروجين بنسبة تتعدي‏(74%),‏ وأن هذا الغاز يليه في الكثرة غاز الهيليوم بنسبة‏24%‏ من مادة الكون المنظور‏,‏ وأن باقي‏(105‏ عناصر‏)‏ يعرفها إنسان اليوم تكون أقل من‏(2%)‏ من مادة الجزء المدرك من الكون‏.‏ وقد قادت هذه الملاحظة إلي الاستنتاج الصحيح أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يخلق لنا جميع العناصر من غاز الهيدروجين باندماج نوي ذرات هذا الغاز‏(‏ وهو أخف العناصر وأبسطها بناء‏)‏ مع بعضها البعض‏,‏ ومع مضاعفات ذلك في داخل النجوم‏,‏ وينشأ عن هذا التفاعل النووي كل الطاقات الهائلة التي تنتجها تلك النجوم‏.‏
ويساعد علي اتمام عملية الاندماج النووي تلك دقة البناء الذري الذي وضعه الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ليحكم الكون من أدق لبناته إلي أكبر وحداته‏.‏

وتتركب الذرة من نواة في الوسط تحمل شحنة كهربائية موجبة‏,‏ ويدور حولها إليكترون واحد أو عدد من الإليكترونات التي تحمل شحنة كهربية سالبة تعادل في مجموعها شحنة نواة الذرة الموجبة حتي تحتفظ الذرة بحالة من التعادل والاتزان اللازمين لتواجدها‏,‏ ولذلك حفظ ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ الإليكترون السالب بأعداده المختلفة في مدارات محددة يدور فيها كل إليكترون دورة مغزلية حول محوره‏,‏ ويجري في مداره حول النواة كما تجري الكواكب في مجموعتنا الشمسية حول شمسنا‏,‏ مع الفارق الهائل في الأبعاد‏.‏
وتبلغ أجزاء الذرة من التناهي في الدقة ما يجعل أبعادها تقاس بجزء من عشرة ملايين جزء من الملليمتر‏,‏ وتسمي هذه الوحدة باسم الأنجستروم‏(Angstrom),‏ ويجعل أوزانها تقدر بجزء من تريليون التريليون جزء من الجرام‏(1X10-24‏ من الجرام‏),‏ وعلي ذلك فإن جراما واحدا من اليورانيوم يحتوي علي ألفي مليون تريليون ذرة من ذرات ذلك العنصر‏(2X2110‏ ذرة‏.‏

ويحمل الشحنة الموجبة في نواة الذرة جسيمات دقيقة تعرف باسم البروتونات‏,‏ وتوجد بالنواة أيضا جسيمات متعادلة تعرف باسم النيوترونات‏.‏
ويبلغ قطر الإليكترون‏100.000/1‏ من قطر الذرة‏,‏ وتبلغ كتلته‏1838/1‏ من كتلة ذرة الهيدروجين‏,‏ وقطر الذرة يكبر قطر نواتها بعشرين ألف مرة‏.‏

ويقابل الإليكترون في كتلته جزئ يحمل شحنة كهربية موجبة يعرف باسم البوزيترون‏(Positron),‏ ويعتقد علماء الفيزياء أن هذه الجسيمات الأولية للمادة تتركب من جسيمات أدق يتعدي عددها الثلاثين‏,‏ ولكل منها نقيضه‏.‏
ومن التجارب المختبرية أدرك العلماء أن نواة الذرة إذا مست بشعاع من النيوترونات فإنها تنفجر‏,‏ وبانفجارها تنفصم الروابط بين لبناتها الأولية مطلقة طاقة هائلة‏,‏ وبذلك أمكن إثبات أن المادة والطاقة وجهان لعملة واحدة تشهد للخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه الذي خلقه بتقدير مذهل من أدق دقائقه إلي أكبر وحداته‏.‏

ومن روعة هذا التقدير خلق جميع العناصر من غاز الهيدروجين‏,‏ وجعل صفاتها متضاعفة بطريقة دورية مكنت من ترتيبها في جدول يعرف باسم الجدول الدوري للعناصر‏,‏ وببناء هذا الجدول تركت فيه بعض الخانات التي لم تكن عناصرها قد اكتشفت بعد‏,‏ وبعد اكتشافها اتضحت مطابقة صفاتها للخانات التي تركت خالية قبل التعرف عليها‏,‏ وإن دل ذلك علي شيء فإنما يدل علي الدقة الفائقة في تقدير الخلق‏.‏

رابعا‏:‏ دقة التقدير في بناء الخلية الحية‏:‏
تشير دراسات الخلية الحية إلي أنها ـ علي دقتها المتناهية ـ تعتبر أعقد نظام عرفه الإنسان‏,‏ وعلي الرغم من تعدد الخلايا الحية إلا أنها مبنية كلها علي أساس من مخطط واحد يبلغ منتهي التعقيد في البناء‏,‏ والدقة في الأداء بصورة لايكاد العقل البشري أن يتصورها‏.‏
ويتراوح قطر الخلية الحية في المتوسط بين عشر الميكرون‏(10.000/1‏ من الملليمتر‏)‏ إلي‏300‏ ميكرون‏(‏ أي‏0.03‏ ـ من الملليمتر‏)‏ وللخلية الحية جدار سيليولوزي سميك‏,‏ وغير حي في النباتات التي تحتوي خلاياها علي مادة اليخضور القادرة علي القيام بعملية التمثيل الضوئي‏,‏ بينما الجدار غشائي رقيق وحي في كل من الحيوان والإنسان‏.‏ وفي هذه الحالة الأخيرة يتكون الجدار من طبقة دهنية محاطة بطبقتين بروتينيتين‏,‏ ويعطي الجدار للخلية شكلها‏,‏ ويقوم علي حمايتها‏,‏ وينظم عبور مختلف المواد من داخل الخلية إلي خارجها‏,‏ وبالعكس عبر ثغور محددة بدقة فائقة‏.‏

وتتقاسم الأنشطة الحيوية في داخل الخلية الحقيقية وحدات تركيبية متميزة تعرف باسم العضيات تعوم في سائل الخلية الذي يعرف باسم السيتوبلازم أو السائل الخلوي‏,‏ ويتكون من خليط معقد وغير متجانس من البروتينات‏,‏ والدهنيات‏,‏ والسكريات‏,‏ والمعادن‏,‏ ويساعد هذا السائل الخلوي علي التنسيق بين وظائف العضيات المختلفة التي يتم أغلبها من خلاله‏.‏
وتسبح في هذا السائل الخلوي نواة الخلية التي تمثل العقل المفكر لها‏,‏ ويحمل صفاتها الوراثية‏,‏ ويتحكم في جميع أنشطتها الحيوية‏,‏ وتنفصل نواة الخلية عن سائلها بغشاءين محددين‏,‏ ويرتبط هذان الغشاءان النوويان بجدار الخلية بواسطة شبكة خاصة تعرف باسم الشبكة الإندوبلازمية‏.‏ تتصل بها عضيات صغيرة تعرف باسم الرباسات‏(Ribosomes)‏ أعطاها الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ القدرة علي تصنيع مائتي ألف نوع من البروتينات تحتاجها الخلية الحية وتفرز منها بما يتفق مع الأوامر الصادرة إليها من نواة الخلية‏,‏ وهناك من العضيات مايعرف باسم عضيات اليحلول‏(Lysosomes)‏ تحتوي علي إنزيمات تصنعها الرباسات للمساعدة علي هضم المواد العضوية بداخل الخلية‏,‏ وتوجد الإنزيمات أيضا بداخل عضيات أخري تعرف باسم المتقدرات‏(Mitochondria)‏ يتم بداخلها تحويل المواد العضوية إلي طاقة لازمة لنشاطات الخلية الحية المتعددة‏.‏

وتحتوي نواة الخلية الحية علي شفرتها الوارثية التي تتحكم ـ بتقدير من الخالق سبحانه وتعالي ـ في جميع أنشطة الخلية بما في ذلك النمو‏,‏ والتكاثر الذي بواسطته تنقسم الخلية إلي خليتين جديدتين‏,‏ والتمييز الذي تتمكن بواسطته خلية جنينية ذات صفات عامة من التحول إلي خلية متخصصة ناضجة‏.‏
ويحتوي غشاء النواة علي مادة حبيبية دقيقة تعرف باسم السائل النووي الذي يحمل كلا من الصبغيات‏(‏ حاملات الوراثة‏)‏ ونوية واحدة أو أكثر من نوية‏.‏

وتتكون الصبغيات من جزيئات الحمض النووي وبعض البروتينات ويحدد عدد الصبغيات في داخل الخلية الحية نوع الكائن الحي‏.‏

ويتكون جزيء الحمض النووي من لفائف متناهية الدقة تعرف باسم الحلزون المزدوج‏,‏ ويتكون هذا الحلزون المزدوج الجدار من سلاسل من القواعد النيتروجينية الملتحمة بالوسط والمرتبطة في جوانبها بجدارين متوازيين من جزيئات السكر والفوسفات‏,‏ وتلتف هذه السلاسل حول بعضها عبر محور وهمي علي هيئة حلزونية‏,‏ وتنطوي علي ذاتها لتشغل حيزا لايزيد علي الواحد من المليون من الملليمتر المكعب‏,‏ ويبلغ قطره واحدا من نصف المليون من المليمتر‏,‏ ويبلغ سمك جداره واحدا من خمسين مليون من الملليمتر‏,‏ ولكن إذا فرد جزيء الحمض النووي فإن طوله يبلغ أربعة سنتيمترات‏,‏ بمعني أنه إذا تم فرد حلزونات الحمض النووي في الستة والأربعين صبغيا الموجودة في نواة خلية واحدة من خلايا جسم الإنسان التي لايتعدي قطرها‏0.03‏ مم في المتوسط وتم رصها بجوار بعضها البعض فإن طولها يصل إلي قرابة المترين‏(184‏ سم‏),‏ وإذا تم ذلك بالنسبة لمجموع الصبغيات الموجودة في مئات البلايين من الخلايا المكونة لجسد فرد واحد من بني البشر فإن طول شفرته الوراثية يزيد علي المسافة بين الأرض والشمس وهي مقدرة بنحو‏(150)‏ مليون كيلومتر‏.‏ وتتكون الشفرة الوراثية في الخلية البشرية الواحدة من‏18.6‏ بل
يون جزيء من القواعد النيتروجينية والسكر والفوسفات موزعة بالتساوي بين هذه المركبات الثلاثة‏,‏ ويتشابه بنو الإنسان في تركيب الحمض النووي بنسبة‏(99.9%),‏ ويختلفون في‏(0.1%)‏ فقط‏,‏ وتتجلي قمة التقدير في أن هذه النسبة الضئيلة من الاختلاف في تركيب الحمض النووي قد أعطت ـ بتقدير من الخالق سبحانه وتعالي ـ بصمة وراثية خاصة لكل فرد من بلايين البشر الذين عاشوا وماتوا‏,‏ وللبلايين التي تعمر الأرض اليوم‏,‏ وللبلايين التي سوف تأتي من بعدها إلي قيام الساعة‏,‏ تميزه عن غيره تمييزا يفوق تمييز بصمة الإبهام‏..!!‏ فأي تقدير هذا إلا تقدير الخالق البارئ المصور
‏...‏ الذي أعطي كل شيء خلقه ثم هدي‏*‏
‏(‏ طه‏:50).‏

‏...‏ وخلق كل شيء فقدره تقديرا‏*(‏ الفرقان‏:2).‏
الذي خلق فسوي‏*‏ والذي قدر فهدي‏*‏
‏(‏ الأعلي‏:3,2).‏
والقائل‏:‏ إنا كل شيء خلقناه بقدر‏*(‏ القمر‏:49).‏

ثم يأتي العلم بعد أربعة عشر قرنا من نزول هذه الآية الكريمة ليؤكد لكل ذي بصيرة وبالعديد من الشواهد الحسية الملموسة المدركة‏,‏ التي تركها لنا ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ واضحة جلية في كل شيء خلقه من الأحياء والجمادات‏,‏ وفي الأنفس والآفاق ما يشهد له‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بإحكام الخلق‏,‏ وإتقان التقدير‏,‏ وكمال الحكمة‏,‏ ويشهد بالصدق للقرآن الكريم‏,‏ ولهذه الآية الكريمة التي أنزلت فيه‏,‏ كما يشهد بأمانة التبليغ للنبي الخاتم الذي تلقي القرآن العظيم‏.‏
فالحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله الذي بعث به خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ والحمد لله علي حفظ القرآن الكريم بلغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها تحقيقا للوعد الإلهي الذي قطعه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي ذاته العلية فقال وهو أصدق القائلين‏:‏
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏*‏
‏(‏ الحجر‏:9).‏