97)‏ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكري لأولي الألباب
بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في الثلث الأول من سورة الزمر‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏75‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي أن الناس في يوم القيامة سوف يقسمون إلي زمر من أهل الجنة‏,‏ وزمر من أهل النار‏,‏ أي إلي جماعات جماعات‏,‏ فيساق الذين اتقوا ربهم إلي الجنة زمرا‏,‏ ويساق الذين كفروا إلي جهنم زمرا‏.‏
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول فضل القرآن الكريم‏,‏ وتعظيم التوحيد الخالص لله‏,‏ والأمر به‏,‏ وتشنيع الشرك به‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ والنهي عنه‏,‏ والتأكيد أن الشرك يحبط الأعمال‏,‏ ويجعل الواقع في وحلة من الخاسرين في الدنيا والأخرة‏,‏ كما تركز السورة الكريمة علي حقيقة الآخرة‏,‏ وتصور لنا عددا من مشاهدها‏,‏ مؤكدة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ لا يغفر أن يشرك به‏,‏ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من عباده‏,‏ وتمتدح السورة المؤمنين‏,‏ وتذكر طرفا من إكرام الله‏(‏ تعالي‏)‏ لهم‏,‏ وتذم الكفار والمشركين‏,‏ وتذكر طرفا من عقابهم‏,‏ وتشير إلي شيء من طبائع النفس الإنسانية‏,‏ وتلمح إلي عدد من الآيات الكونية الدالة علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة‏,‏ وتضرب عددا من الأمثال للناس‏,‏ موجهة الخطاب بين الحين والآخر إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏

وتبدأ سورة الزمر بتأكيد الحقيقة الواقعة أن القرآن الكريم هو تنزيل من الله العزيز الحكيم‏,‏ أنزله إلي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ بالحق المبين الذي أمره بعبادة الله‏(‏ تعالي‏)‏ مخلصا له الدين ـ وهو الإسلام العظيم ـ ذلك الدين الخالص لله تعالي وحده‏,‏ بغير شريك ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏,‏ لأن هذه كلها من صفات المخلوقين‏,‏ والله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ منزه عن صفات خلقه أجمعين‏,‏ وعلي ذلك يكون الشرك بالله كذبا عليه‏(‏ سبحانه‏),‏ وكفرا به‏,‏ والله لا يهدي من هو كاذب كفار‏,‏ ولذلك تنفي الآيات في سورة الزمر ـ كما تنفي في غيرها من سور القرآن الكريم ـ كل دعاوي المبطلين بنسبة الولد إليه‏(‏ تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا‏)‏ وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
لو أراد الله أن يتخذ ولدا لا صطفي مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار‏*‏
‏(‏الزمر‏:4)‏

ثم تستعرض سورة الزمر عددا من الآيات الكونية الشاهدة لله‏(‏ تعالي‏)‏ بأنه خالق الكون‏,‏ وإلهه‏,‏ وربه‏,‏ ومليكه‏,‏ مؤكدة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يرضي من عباده الشكر علي نعمه‏,‏ ولا يرضي منهم الكفر‏,‏ فإن كفروا فإن الله‏(‏ تعالي‏)‏ غني عن العالمين‏,‏ وتقرر أن نفسا لا تحمل إثم أخري‏,‏ وتؤكد أن إلي الله مرجع الجميع‏,‏ فينبئهم بما كانوا يعملون إنه عليم بذات الصدور أي بما تكنه القلوب التي في الصدور‏.‏
وتتحدث الآيات عن جانب من جوانب النفس الإنسانية ومنها اللجوء إلي الله في الشدائد‏,‏ ونسيان ذلك في حالات الرخاء والسعة‏,‏ والتبجح بالشرك لإضلال الخلق عن الحق‏,‏ وأن هذا الصنف من الناس قد يتمتع بكفره قليلا‏,‏ ولكن مصيره في الآخرة إلي جهنم وبئس المصير‏...!!‏

وتقارن الآيات بين هذه الحالة من حالات النفس الإنسانية وبين الذين يرجون رحمة الله ويحذرون الآخرة‏,‏ فيجتهدون في العبادة آناء الليل وأطراف النهار‏,‏ وتقرر أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏,‏ وأنه لا يتذكر إلا أولو الألباب‏.‏
وتوجه الآيات الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن يطالب الذين آمنوا من عباد الله بتقوي الله‏,‏ مؤكدا أن للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة‏,‏ وأنه لا يجوز للمؤمن بالله أن يقبل الظلم أبدا‏,‏ فأرض الله واسعة‏,‏ وأن الصبر علي مجاهدة الظلم والظالمين من أعظم القربات إلي رب العالمين‏,‏ وأن الصابرين يوفون أجرهم بغير حساب‏,‏ وتطالبه الآيات‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن يقول للناس كافة‏:‏
‏...‏ إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين‏*‏ وأمرت لأن أكون أول المسلمين‏*‏ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم‏*‏ قل الله أعبد مخلصا له ديني‏*‏ فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين‏*‏
‏(‏الزمر‏:11‏ ـ‏15)‏

وتقارن الآيات بين عذاب الخاسرين من الكفار والمشركين يوم القيامة‏,‏ وبين نعيم الذين اجتنبوا الطاغوت‏,‏ وأنابوا إلي الله من أولي الألباب الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه‏,‏ مؤكدة أن الذي شرح الله صدره للإسلام فهو علي نور من ربه يختلف حاله تماما عن الذين أعرضوا عن دين الله‏,‏ فضلوا ضلالا بعيدا‏,‏ وأصبحت قلوبهم قاسية إلي الحد الذي لا يحركها ذكر الله‏,‏ ولا النظر في آياته‏.‏
وتعاود الآيات ابراز قدر القرآن الكريم عند رب العالمين‏,‏ وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلي ذكر الله ذلك هدي الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد‏*(‏ الزمر‏:23)‏
وتعاود سورة الزمر المقارنة بين مصائر الصالحين والطالحين يوم القيامة‏,‏ كما تشير إلي عقاب المكذبين من الأمم السابقة بالخزي في الدنيا وبالعذاب في الآخرة‏,‏ وتضرب للناس الأمثال بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون‏*‏ قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون‏*(‏ الزمر‏:28,27)‏
ومن هذه الأمثال تشبيه المشرك برجل مملوك لعدد من الشركاء المتنازعين فيه‏,‏ وتشبيه الموحد لله برجل ملكيته خالصة لفرد واحد‏,‏ وواضح الأمر أنهما لا يستويان مثلا‏,‏ فالحمد لله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي أقام الحجة علي عباده وإن كان أكثرهم لا يعلمون‏.‏

وتخاطب الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بحقائق الموت والبعث والحساب‏,‏ وذلك بقول ربنا تبارك وتعالي له‏:‏
إنك ميت وإنهم ميتون‏*‏ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏*(‏ الزمر‏:31,30)‏

وتقرر الآيات أن من كذب علي الله فنسب إليه ما لا يليق بجلاله‏,‏ أو كذب بالحق الذي أوحاه إلي أنبيائه ورسله‏,‏ والذي أتمه‏,‏ وأكمله‏,‏ وحفظه في بعثة خاتمهم أجمعين فإنه قد ظلم نفسه لأن مثواه سيكون في جهنم‏,‏ وهي مثوي الكافرين‏,‏ أما الذين صدقوا الله‏(‏ تعالي‏)‏ وصدقوا بما أنزله علي خاتم أنبيائه ورسله فأولئك هم المتقون‏,‏ المحسنون الذين لهم عند ربهم ما يشاءون‏.‏
وتؤكد سورة الزمر أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يكفي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ والمؤمنين برسالته من بعده كل ما يواجهون من تحديات الكفار والمشركين‏,‏ فكفار قريش ومشركوها كانوا يتوعدون رسول الله‏(‏ صلوات الله وسلامه عليه‏)‏ بأصنامهم وأوثانهم التي عبدوها من دون الله‏,‏ والله يهدي من يشاء لعلمه أنه اختار الهداية علي الضلالة‏,‏ ويضل من يشاء لعلمه‏(‏ سبحانه‏)‏ أنه اختار الضلالة علي الهدي‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏...‏ ومن يضلل الله فما له من هاد‏*‏ ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام‏*‏
‏(‏ الزمر‏:37,36)‏

وفي النهي عن الشرك والتحقير من شأنه تخاطب الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون‏*‏ قل يا قوم اعملوا علي مكانتكم اني عامل فسوف تعلمون‏*‏ من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم‏*‏
‏(‏ الزمر‏:38‏ ـ‏40)‏

وفي التأكيد مرة ثالثة علي قدر القرآن الكريم عند رب العالمين‏,‏ وفي قدرته علي هداية الخلق تعاود الآيات توجيه الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدي فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل‏*(‏ الزمر‏:41).‏

وتنعي الآيات علي المشركين اتخاذهم شفعاء يتقربون بهم إلي الله‏,‏ وهم يعلمون حق العلم أن هؤلاء الشفعاء لا يملكون شيئا ولا يعقلون‏,‏ ولذلك تؤكد حقيقة أن الشفاعة كلها لله وحده‏,‏ لا ينالها أحد إلا برضاه‏,‏ وهو وحده الذي له ملك السماوات والأرض‏,‏ وهو الذي سوف يرجع الخلق جميعهم إليه فيحاسبهم علي أعمالهم‏.‏
وتنتقد الآيات علي المشركين أنهم إذا ذكر الله وحده ـ دون ذكر الذين أشركوهم في عبادته زورا وبهتانا ـ انقبضت قلوبهم‏,‏ وإذا ذكر شركاؤهم الذين أشركوهم في عبادة الله فإنهم لكفرهم يستبشرون‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ موجها الخطاب إلي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏

قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون‏*(‏ الزمر‏:46)‏
وتعاود الآيات التحذير من الظلم بمختلف أبعاده‏,‏ وأشكاله‏,‏ وصوره ومنها ظلم النفس بإغراقها في دياجير الكفر بالله أو الشرك به‏,‏ وظلم الآخرين باغتيالهم‏,‏ أو اغتيال حقوقهم‏,‏ أو ممتلكاتهم‏,‏ أو أعراضهم‏,‏ أو حرياتهم وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ محذرا الواقعين في الظلم من سوء العاقبة فيقول‏(‏ عز من قائل‏):‏

ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏*‏ وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون‏*(‏ الزمر‏:48,47)‏
وتتحدث الآيات مرة ثانية عن جانب من جوانب النفس الإنسانية فتقول‏:‏

فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته علي علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون‏*‏ قد قالها الذين من قبلهم فما أغني عنهم ما كانوا يكسبون‏*‏ فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين‏*‏ أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏*(‏ الزمر‏:49‏ ـ‏52)‏
وتحذر الآيات من قنوط الذين أسرفوا في المعاصي من رحمة الله‏,‏ ومن التكذيب بالرسالة الخاتمة والرسول الخاتم‏,‏ ومن الاستكبار علي الحق‏,‏ وتدعو إلي سرعة التوبة والإنابة إلي الله وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ موجها الخطاب إلي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏
قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم‏*‏ وأنيبوا إلي ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون‏*‏ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون‏*‏ أن تقول نفس يا حسرتي علي ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين‏*‏ أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين‏*‏ أو تقول حين تري العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين‏*‏ بلي قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين‏*‏
‏(‏ الزمر‏:53‏ ـ‏59)‏

وتعرض الآيات لمشهد من مشاهد يوم القيامة يقول فيه الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ويوم القيامة تري الذين كذبوا علي الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوي للمتكبرين‏*‏ وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون‏*(‏ الزمر‏:61,60)‏

ومعني هاتين الآيتين الكريمتين أن الذين كذبوا علي الله فنسبوا إليه من الصفات ما لا يليق بجلاله‏(‏ كالصاحبة أو الولد‏)‏ سوف يأتون يوم القيامة ووجوههم مسودة من الكذب علي الله في الدنيا‏,‏ ثم يلقون في نار جهنم وبئس مثوي المكذبين بالحق‏,‏ المتكبرين عليه والمتعالين عن اتباعه‏,‏ بينما ينجي الله الذين اتقوه في الدنيا بفوزهم بالجنة‏,‏ لا يمسهم السوء ولا يغشاهم شيء من الحزن الذي يغشي الكفار والمشركين في يوم الفزع الأكبر‏.‏
ثم تؤكد الآيات أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق كل شيء‏,‏ وأنه علي كل شيء وكيل‏,‏ وأن له ـ وحده ـ تصريف أمور السماوات والأرض‏,‏ ولذلك فإن الكافرين بالله وآياته المنظورة والمقروءة هم بالقطع الخاسرون في الدنيا والآخرة‏.‏

ولذلك تنعي الآيات علي المشركين شركهم وتوجه الخطاب إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون‏*‏ ولقد أوحي إليك وإلي الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين‏*‏ بل الله فاعبد وكن من الشاكرين‏*(‏ الزمر‏:64‏ ـ‏66)‏

وتؤكد الآيات أن الذين كفروا بالله‏(‏ تعالي‏)‏ أو أشركوا به‏(‏ سبحانه وتعالي عما يشركون‏)‏ لم يعظموه التعظيم الذي يليق بجلاله‏,‏ وسوف يرون جانبا من قدر الألوهية في يوم القيامة والأرض جميعا في قبضته‏,‏ والسماوات مطويات بيمينه‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏
وبعد ذلك تشير الآيات إلي نفخة الصور‏,‏ وما يتبعها من موت من في السماوات والأرض إلا من شاء الله‏,‏ ثم ينفخ فيه أخري فإذا الجميع قائمون من قبورهم‏,‏ وفي هذا اليوم ـ يوم الفزع الأكبر‏,‏ وكل واحد منتظر مصيره ـ تشرق الأرض بنور ربها‏,‏ ويوضع الكتاب‏,‏ ويحضر النبيون والشهداء ليشهدوا علي أممهم‏,‏ فيفصل الله بين الخلائق بالحق‏,‏ ويعطي كل نفس حقها جزاء ما عملت‏(‏ وهم لا يظلمون‏,‏ والله أعلم بما يفعلون‏).‏
ثم تصور الآيات ختام الحساب الإلهي بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

وسيق الذين كفروا إلي جهنم زمرا حتي إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلي ولكن حقت كلمة العذاب علي الكافرين‏*‏ قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوي المتكبرين‏*‏ وسيق الذين اتقوا ربهم إلي الجنة زمرا حتي إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين‏*‏ وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين‏*(‏ الزمر‏:71‏ ـ‏74)‏
وتختتم سورة الزمر بتصوير مشهد آخر من مشاهد الآخرة يجسد الخشوع لله يقول فيه الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وتري الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين‏*‏

الإشارات الكونية في سورة الزمر
في سياق الاستشهاد علي طلاقة القدرة الإلهية في ابداع الخلق‏,‏ والاستدلال من ذلك علي وحدانية الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وعلي حتمية البعث وضرورته جاء في سورة الزمر عدد من الإشارات إلي الكون وبعض مكوناته وظواهره يمكن ايجازها فيما يلي‏:‏
‏1‏ ـ وصف عملية خلق السماوات والأرض بأنها تمت بالحق أي حسب قوانين وسنن منضبطة تشهد لخالقها بأنه الحق‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏

‏2‏ ـ الإشارة الضمنية الرقيقة إلي كروية الأرض‏,‏ وإلي دورانها حول محورها أمام الشمس‏,‏ وإلي جريها في مدارها‏,‏ وجري كل من الشمس والقمر ـ وبالتالي كل أجرام السماء ـ إلي أجل مسمي‏.‏
‏3‏ ـ التأكيد علي خلق البشر كلهم من نفس واحدة‏.‏

‏4‏ ـ ذكر عملية إنزال ثمانية أزواج من الأنعام‏,‏ والإنزال هنا قد يشير إلي انزال الشفرة الوراثية الخاصة بكل منها‏.‏
‏5‏ ـ الإشارة إلي خلق جنين الإنسان في ظلمات ثلاث‏.‏

‏6‏ ـ التأكيد علي عدم مساواة الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏,‏ وأن الذين يتدبرون ويفهمون ويتذكرون هم أولو الألباب والنهي‏.‏
‏7‏ ـ الإشارة إلي أن أصل الماء تحت سطح الأرض هو ماء المطر الذي يسلكه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ ينابيع في الأرض‏,‏ ثم يخرج به زروعا مختلفة الأنواع والألوان‏,‏ ثم بعد النضج ييبس الزرع ويجف بعد نضارته‏,‏ ويصفر لونه‏,‏ ثم يتحطم ويصبح فتاتا متكسرا‏.‏

‏8‏ ـ الإشارة إلي مفارقة الروح للجسد في حالتي النوم والممات‏,‏ ثم يعاد إرسالها للنائم لحظة يقظته‏,‏ وإمساكها عن جسد الميت لحظة وفاته‏.‏
‏9‏ ـ التأكيد علي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق كل شيء‏,‏ وأنه علي كل شيء وكيل‏.‏

‏10‏ ـ الإشارة إلي أن الأرض سوف تكون في قبضة الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في يوم القيامة‏,‏ وأن السماوات سوف تكون مطويات بيمينه‏.‏
‏11‏ ـ الإشارة إلي أن الأرض في الآخرة سوف تشرق بنور ربها كما أشرقت أرض الدنيا بنوره‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة السابعة في القائمة السابقة والتي جاءت في الآية رقم‏(21)‏ من سورة الزمر‏,‏ ولكن قبل الشروع في ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآية المباركة‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكري لأولي الألباب‏*(‏ الزمر‏:21)‏

‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما نصه‏:‏ يخبر تعالي أن أصل الماء في الأرض من السماء كما قال عز وجل‏(‏ وأنزلنا من السماء ماء طهورا‏)‏ فإذا أنزل الماء من السماء كمن في الأرض ثم يصرفه تعالي في أجزاء الأرض كما يشاء وينبعه عيونا ما بين صغار وكبار بحسب الحاجة إليها ولهذا قال تبارك وتعالي‏:‏ فسلكه ينابيع في الأرض‏..‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء ولكن عروقا في الأرض تغيره فذلك قوله تعالي‏:(‏ فسلكه ينابيع في الأرض‏)‏ فمن سره أن يعود الملح عذبا فليصعده‏,‏ وكذا قال سعيد بن جبير وعامر الشعبي‏...,‏ وقوله تعالي‏:(‏ ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه‏)‏ أي ثم يخرج بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعا مختلفا ألوانه أي أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه‏(‏ ثم يهيج‏)‏ أي بعد نضارته وشبابه يكتهل فتراه مصفرا قد خالطه اليبس‏(‏ ثم يجعله حطاما‏)‏ أي ثم يعود يابسا يتحطم‏(‏ إن في ذلك لذكري لأولي الألباب‏)‏ أي الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلي أن الدنيا هكذا تكون خضرة نضرة حسناء ثم تعود عجوزا شوهاء والشاب يعود شيخا هرما كبيرا ضعيفا وبعد ذلك كله الموت‏,‏ فالسعيد من كان حاله بعده إلي خير‏,‏ وكثيرا ما يضرب الله تعالي مثل الحياة الدنيا بما ينزل الله من السماء من ماء وينبت به زرعا وثمارا ثم يكون بعد ذلك حطاما كما قال تعالي‏:(‏ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله علي كل شيء مقتدرا‏*‏
وجاء في كل من تفسير الجلالين‏,‏ والظلال‏,‏ وصفوة البيان لمعاني القرآن‏,‏ والمنتخب‏,‏ وصفوة التفاسير كلام مشابه‏,‏ وإن تميز كل تفسير بأسلوب كاتبه‏,‏ وطريقة عرضه‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
أولا‏:‏ الإشارة إلي أن الماء المخزون تحت سطح الأرض كله من ماء المطر‏:‏
تشير هذه الآية الكريمة إلي دورة الماء حول الأرض وهي دورة لم تعرف إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي‏,‏ ففي الوقت الذي ساد الاعتقاد بأن الماء المتجمع تحت سطح الأرض مندفع إلي داخل كتل القارات من ماء البحار والمحيطات بتأثير من حركة الرياح‏,‏ نزل القرآن الكريم مؤكدا أن كل ماء الأرض‏(‏ والمقدرة كميته حاليا بنحو‏1,4‏ بليون كيلو متر مكعب‏)‏ قد أخرجه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ كله من داخل الأرض‏,‏ وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
والأرض بعد ذلك دحاها‏*‏ أخرج منها ماءها ومرعاها‏*(‏ النازعات‏:31,30)‏

ونعلم اليوم أن هذا الكم الهائل من الماء قد أخرجه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي هيئة بخار الماء المتصاعد من فوهات البراكين‏,‏ ومن صدوع الأرض العميقة‏,‏ وعند انبثاق هذا البخار المائي وجد أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد هيأ له وسائل التكثيف من الرياح التي حملته إلي الأجزاء العليا من نطاق المناخ الذي يتراوح سمكه بين‏7‏ و‏16‏ كيلو مترا‏,‏ والذي يتميز بانخفاض درجات الحرارة فيه مع الارتفاع حتي تصل عند قمته إلي ستين درجة مئوية تحت الصفر‏(‏ ـ‏60‏ م‏)‏ فوق خط الاستواء‏,‏ وبوصول بخار الماء إلي تلك المستويات يكثف علي هيئة السحب‏,‏ ثم لقحت الرياح تلك السحب بهباءات الغبار وغيرها من نوي التكثف حتي تكونت السحب الممطرة‏(‏ المزن أو السحب المزنية‏),‏ وتكونت فيها قطيرات الماء في باديء الأمر دقيقة الحجم جدا حتي يتمكن هذا الجزء من الغلاف الغازي للأرض من حملها‏.‏ وبتكرار عمليات التكثف يزداد حجم تلك القطيرات وكتلة كل منها بالتدريج حتي تسقط بمشيئة الله وتقديره علي هيئة زخات من المطر أو رشات من البرد أو الثلج‏,‏ جرت علي سطح الأرض وفاضت إلي منخفضاتها لتكون البحار والمحيطات‏,‏ وبتعرض الماء في تلك المنخفضات لأشعة الشمس يتبخر جزء منه وبذلك بدأت دورة الماء حول الأرض‏.‏

وبتصريف الرياح ـ بمشيئة الله وارادته ـ تكونت السحب ولاتزال تتكون‏,‏ وشحنت ولا تزال تشحن بمزيد من بخار الماء وذلك بالتفاعل بين الكتل الهوائية المختلفة وهي دافئة ورطبة فوق المسطحات المائية بالمناطق المدارية‏,‏ وحارة جافة فوق صحاريها‏,‏ وباردة جافة فوق المناطق القطبية‏,‏ وبتداخل هذه الكتل الهوائية مع بعضها البعض بتصريف الله‏(‏ تعالي‏)‏ لها تتكون السحب الممطرة والأعاصير‏,‏ وغير ذلك من المظاهر الجوية التي تعقد تضاريس سطح الأرض من أنشطتها‏.‏
وعندما يسخن الهواء بملامسته سطح الأرض بحيث يصبح أدفأ من كتل الهواء المحيطة به فإنه يتمدد‏,‏ فتقل كثافته ويرتفع إلي أعلي‏,‏ وبارتفاعه يتناقص ضغطه‏,‏ وتنخفض درجة حرارته حتي تصل رطوبته إلي درجة التشبع فيبدأ ما به من بخار الماء في التكثف‏.‏

وبحمل مزيد من بخار الماء للسحب المتكونة‏,‏ وبتوافر مزيد من نوي التكثف‏(‏ من مثل الهباءات الدقيقة من الغبار وبعض المركبات الكيميائية التي لها جاذبية لبخار الماء‏(‏ من مثل كبريتات النشادر‏),‏ وبعض دقائق الأملاح المتصاعدة مع بخار الماء‏)‏
تزداد قطيرات الماء حجما وكتلة حتي تسقط بفعل الجاذبية الأرضية متي وحيث يريدها الله‏,‏ وبالكم الذي يقدره‏(‏ سبحانه‏)‏

وتشير الدراسات الحديثة إلي أن الـ‏1,4‏ بليون كم‏3‏ من الماء الأرضي تتوزع حاليا علي النحو التالي‏:‏
وتشير هذه الدراسات أيضا إلي أن حرارة الشمس تبخر من ماء الأرض سنويا‏380,000‏ كيلو مترا مكعبا من الماء‏(320,000‏ كيلو متر مكعب منها تتبخر من أسطح البحار والمحيطات‏,60,000‏ كيلو مترا مكعبا تتبخر من ماء اليابسة السطحي ومما تحت سطح الأرض‏,‏ ويتبخر أيضا وتنفس وافرازات كل من الإنسان والحيوان‏),‏ وأن هذه الكمية المتبخرة من ماء الأرض تعود كلها إلي الأرض ثانية في نفس السنة‏,‏ ولكن يعاد توزيعها بعلم الله وحكمته وبفضل منه ورحمة‏,‏ فيعاد إنزال‏284,000‏ كيلو متر مكعب من ماء المطر علي البحار والمحيطات‏,96,000‏ كيلو متر مكعب منه علي اليابسة‏(‏ بفارق‏36,000‏ كيلو متر مكعب من الماء تنقص من مجموع ما تبخر من ماء البحار والمحيطات وتزيد علي مجموع ما تبخر من ماء اليابسة‏,‏ فتجري علي سطحها لتفيض في النهاية إلي البحار والمحيطات ليبقي منسوب الماء فيها ثابتا عند مستوي محدد في كل فترة زمنية محددة‏,‏ وماء المطر أثناء جريه علي سطح الأرض يروي كلا من النبات والحيوان والإنسان‏,‏ ويتسرب جزء منه إلي داخل القشرة الأرضية عبر الصخور المنفذة فيخزن فيها بمشيئة الله‏(‏ تعالي‏)‏ وارادته وتقديره حتي يخرجه ربنا تبارك وتعالي لنا علي هيئة العيون والينابيع الطبيعية‏,‏ أو يصل إليه الإنسان بواسطة حفر الآبار مختلفة الأعماق‏.‏

ويقوم ماء المطر عند هطوله بتفتيت صخور الأرض‏,‏ وتكوين التربة وشحنها بقدر من الرطوبة‏,‏ كما يقوم بشق الفجاج والسبل‏,‏ وتسوية سطح الأرض‏,‏ وتلطيف الجو‏,‏ والمحافظة علي رطوبة الهواء‏,‏ وبإذابة العديد من الأملاح التي في الصخور وحملها إلي البحار والمحيطات‏,‏ وتركيز العديد من الخامات المعدنية والثروات الأرضية المختلفة‏.‏
ولولا هذه الدورة لماء الأرض لفسد وتعفن وأسن‏,‏ لأن الأوساط المائية يعيش ويموت فيها البلايين من الكائنات الحية في كل لحظة‏,‏ ولذلك يمن علينا ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في هذه الآية الكريمة وفي العديد غيرها من الآيات القرآنية بإنزال الماء طهورا مباركا ثجاجا من السماء وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين‏*:‏
‏(‏الحجر‏:22)‏

وقوله‏:‏ وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا علي ذهاب به لقادرون‏*(‏ المؤمنون‏:18)‏

وقال‏(‏ عز من قائل‏):‏
وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا‏*(‏ الفرقان‏:48)‏

وقال‏(‏ تبارك اسمه‏):‏
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها‏...*(‏ فاطر‏:27)‏

وقال‏(‏ سبحانه وتعالي‏):‏
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض‏...*(‏ الزمر‏:21)‏

وقال‏(‏ تعالي‏):‏
أفرأيتم الماء الذي تشربون‏*‏ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون‏*(‏ الواقعة‏:69,68)‏

وقال‏(‏ وهو أحكم القائلين‏):‏
قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين‏*(‏ الملك‏:30)‏

وقال‏(‏ وهو رب العالمين‏):‏
وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا‏*‏
‏(‏ النبأ‏:14)‏

هذه الحقائق أنزلها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ من قبل أربعة عشر قرنا‏,‏ وكان فلاسفة الحضارة الاغريقية من قبل ذلك يعتقدون أن الماء المتجمع تحت سطح الأرض مندفع إلي داخل القارات من ماء البحار والمحيطات بتأثير حركة الرياح‏,‏ وأن الماء المخزون في صخور الأرض يعاود الحركة إلي المحيطات عبر هوة خيالية سحيقة أطلقوا عليها اسم تاتار‏,‏ وقد سادت هذه الخرافات فكر الحضارة الاغريقية وتبناها العديد من فلاسفتهم من أمثال طاليس في القرن السابع قبل الميلاد‏,‏ وكل من أفلاطون وأرسطو‏(‏ في القرن الرابع قبل الميلاد‏),‏ وأضاف الأخير أن بخار ماء التربة يتكثف في التجاويف الباردة للجبال مما يشكل بحيرات تحت سطح الأرض تغذي الينابيع المائية‏,‏ وقد تبعه في ذلك سينيكا‏(‏ في القرن الأول الميلادي‏),‏ واستمر اعتقاد الأوروبيين في هذه الخرافات حتي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي‏(1877‏ م‏)‏ علي الرغم من أن عالما فرنسيا باسم برنارد باليسي‏(BernardPalissy)‏ كان قد أشار في سنة‏1580‏ م‏(‏ أي بعد بدء تنزل القرآن الكريم بنحو القرون العشرة‏)‏ إلي أن الماء الأرضي يعود أصله إلي ماء المطر‏,‏ ووافقه علي ذلك كل من ماريوت‏(E.Mariotte)‏ وبيرو‏(P.Perraut)‏ في القرن السابع عشر الميلادي‏,‏ وعارض الجميع بالخرافات القديمة واحد من أبرز مفكري القرن السابع عشر وهو رينيه ديكارت‏(ReneDescartes)‏ المتوفي سنة‏1650‏ ميلادية‏.‏
ومن الثابت علميا اليوم أن الماء الذي خزن في صخور الأرض بتقدير من الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ أصله كله من ماء المطر الذي أنزله ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي فترات متطاولة من الزمن‏,‏ وأن هذا الماء يتحرك رأسيا في مناطق التشبع السطحية‏,‏ ثم يتحرك أفقيا أو مائلا حتي يخزن في أحد مكامن الماء التي أعدتها الإرادة الإلهية بحكمة بالغة‏,‏ لمدد قد تطول إلي عدة آلاف من السنين‏,‏ وقد تتجدد بماء المطر السنوي أو لا تتجدد‏,‏ وقد يصادف هذا الماء المخزون تحت سطح الأرض في حركته بعض الصدوع‏,‏ أو الفواصل أو الشقوق فيصعد منها إلي سطح الأرض علي هيئة ينابيع أو عيون مائية‏,‏ ولذلك قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):...‏ فسلكه ينابيع في الأرض‏...*‏

ثانيا‏:‏ إخراج الزروع مختلفة الألوان بمجرد إنزال المطر‏:‏
يعرف العلم في زماننا الراهن أكثر من‏350,000‏ نوع من أنواع النباتات‏,‏ ويمثل كل نوع منها ببلايين الأفراد‏,‏ وكل نوع من هذه الأنواع له من صفاته الخارجية‏(‏ الشكلية‏)‏ والداخلية‏(‏ التشريحية‏)‏ ما يميزه عن غيره‏,‏ والمزهر من هذه النباتات له زهوره‏,‏ وثماره الخاصة به‏,‏ وكل ثمرة من تلك الثمار لها طعومها‏,‏ وروائحها‏,‏ وألوانها‏,‏ وأشكالها المميزة لها‏.‏ ومن هذه النباتات ما يزرع‏,‏ ومنها ما ينبت بطريقة فطرية‏,‏ وإن كان الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد خلقها كلها في باديء الأمر بطريقة فطرية لا دخل للإنسان فيها لأنها كلها سابقة علي وجوده‏.‏
وإخراج كل هذه النباتات والزروع المتباينة في صفاتها‏,‏ وكلها يسقي بماء واحد يشير إلي ما أعطاه الله‏(‏ تعالي‏)‏ لكل نبتة من قدرة فائقة علي اختيار ما يناسبها من عناصر الأرض ومركباتها‏,‏ ولولا هذه القدرة الإلهية المبدعة في بناء الشفرة الوراثية لكل نوع من أنواع النبات‏,‏ بل لكل فرد منها‏,‏ ما أنبتت الأرض علي الاطلاق‏,‏ ولولا إنزال الماء من السماء ما نشطت تلك الشفرة الوراثية‏,‏ ولولا ما أعطي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ للبذرة النابتة من قدرة علي امتصاص الماء‏,‏ وزيادة في الحجم‏,‏ وإحداث ضغوط هائلة علي أغلفتها حتي تتشقق وتنفجر ما أنبتت تلك البذور‏,‏ ولا كانت تلك النباتات‏...!!‏

ولولا ما أعطي الله‏(‏ جل جلاله‏)‏ للجنين في داخل البذرة أو النواة من قدرة علي اليقظة من سباته بمجرد وصول الماء إليه وهو كامن‏,‏ ساكن في داخل بذرته أو نواته‏,‏ ثم النمو بسرعة ملحوظة ما أنبتت تلك البذور‏,‏ ولا كانت تلك النباتات والزروع‏.‏
ولولا ما وضع الله‏(‏ تعالي‏)‏ في تربة الأرض من قدرة علي التفاعل مع ماء السماء‏,‏ واتحادها به‏,‏ وانتفاشها بتشربه‏,‏ وارتفاعها إلي أعلي حتي ترق رقة شديدة ما استطاعت السويقة الطرية الندية المنبثقة من داخل البذرة النابتة من الصعود إلي سطح الأرض‏.‏
هذا إذا كان المقصود بألوان الزروع والنباتات هنا هو أنواعها وأصنافها العديدة‏,‏ أما إذا كان المقصود ألوانها التي تتراءي لعين كل من الإنسان والحيوان نتيجة لامتصاصها بعض أطياف نور النهار الأبيض الناصع فإننا نعلم اليوم أن ألوان كل من الزهور‏,‏ والثمار‏,‏ والأوراق في النباتات المزهرة تصنعها يد القدرة الإلهية المبدعة عن طريق عدد من الأصباغ الأساسية‏(‏ من مثل الكلورفيلات الخضراء‏,‏ والأنثوسيانينات الحمراء‏,‏ والكاروتينات الصفراء‏)‏ وعدد آخر من الأصباغ الثانوية التي تعرف باسم أصباغ الإحساس‏,‏ وبتباين نسبها إلي بعضها البعض تكون هذه الأطياف المبهرة لألوان الزروع والنباتات المختلفة الذي جعلها الله‏(‏ تعالي‏)‏ متعة للناظرين‏.‏

ثالثا‏:‏ ثم يهيج فتراه مصفرا‏:‏
في بدء حياة النبتة من الزروع المختلفة تطغي الأصباغ الخضراء علي لونها‏,‏ وذلك لحاجة النبات إليها في عملية التمثيل الضوئي التي بني بواسطتها غذاءه‏,‏ وعند تمام نضج الثمار تتوقف حاجة النبات إلي الغذاء‏,‏ وبالتالي تتوقف قدرته علي انتاج الأصباغ الخضراء‏,‏ وما تبقي منها يبدأ في التحلل والتحول إلي عدد من المركبات الكيميائية التي تفتقر إلي الخضرة‏,‏ وهنا تبدأ الأصباغ الصفراء الشبيهة بأصباغ الجزر‏(‏ الأصباغ الكاروتينية‏)‏ في الظهور التدريجي حتي تسود‏.‏
وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ ثم يهيج فتراه مصفرا‏.‏

رابعا‏:‏ ثم يجعله حطاما‏:‏
يكون الماء أغلب أنسجة النباتات‏(‏ نحو‏80%‏ في المتوسط‏),‏ وعند نضج الثمار فإنها تفقد نسبا متباينة من مكوناتها المائية‏,‏ خاصة في حالة الحبوب الجافة‏,‏ وكذلك تفقد باقي أنسجة النبات ماءها في حالة المحاصيل الحولية‏,‏ وتبقي موادها الصلبة‏,‏ وما كان ذائبا في مائها من أملاح‏,‏ وهنا تتوقف حياة النبات‏,‏ وتبدأ مادته الجافة‏,‏ في التحلل بواسطة العديد من النباتات المتطفلة مثل الحزازيات‏(Mosses)‏ والأشنات‏(Lichens),‏ والأبواغ‏(Spores),‏ والفطريات‏(Fungi)‏ والتي تفرز أعدادا من الانزيمات التي تساعد علي تحلل بقايا النبات‏,‏ وقد تأتي جيوش من البكتيريا لتتم عملية التحلل‏,‏ كما قد تساعد عوامل التعرية المختلفة علي تفتيت جسم النبات اليابس أو المتحلل حتي تجعله حطاما‏,‏ وقد يتحول هذا الحطام في النهاية إلي مكوناته الأساسية التي تمتصها التربة‏,‏ وهي صورة مصغرة لدورة الحياة والموت التي يتعرض لها كل مخلوق ولذلك تختم الآية الكريمة بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):...‏ إن في ذلك لذكري لأولي الألباب‏*‏
هذه الحقائق لم تبدأ في التكشف للإنسان إلا علي مراحل متطاولة في القرون الثلاثة المتأخرة ولم تتم بلورتها إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي‏,‏ وورودها في كتاب الله بهذه الدقة العلمية‏,‏ والشمول والإحاطة‏,‏ والكمال ـ وهو كتاب أنزل قبل معرفة الإنسان بتلك الحقائق ـ بنحو عشرة قرون كاملة لما يثبت لكل ذي بصيرة أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وتعهد بحفظه في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ فحفظه كلمة كلمة‏,‏ وحرفا حرفا علي مدي يزيد علي الأربعة عشر قرنا‏,‏ وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏,‏ وذلك تحقيقا للوعد الإلهي الذي قطعه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي ذاته العلية فقال‏(‏ عز من قائل‏)‏
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏*‏
‏(‏ الحجر‏:9)‏

فالحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي هدي خير الأنام‏,‏ سيد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين الذي بعثه الله‏(‏ تعالي‏)‏ رحمة للعالمين‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه‏,‏ وعلي آله وصحبه‏,‏ ومن تبع هداه‏,‏ ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏