96)‏ فلينظر الإنسان إلي طعامه
(عبس‏:24)‏
بقلم : د. زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في أوائل النصف الثاني من سورة عبس‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏(42)‏ بعد البسملة‏,‏ ويدور محورها الرئيسي حول قيمة إسلامية كبري مؤداها ان التفاضل بين الناس لايكون إلا علي أساس من تقواهم لله‏,‏ بغض النظر عن أنسابهم‏,‏ وإمكاناتهم المادية‏,‏ ومستوياتهم الاجتماعية‏,‏ وجاههم‏,‏ وسلطانهم‏,‏ وأعمارهم‏,‏ وألوانهم‏,‏ وأجناسهم‏,‏ وهي قيمة أراد الله‏(‏ تعالي‏)‏ غرسها في قلوب وعقول المسلمين‏,‏ ووضحها بواقعة حدثت مع رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في مكة المكرمة حين انشغل بدعوة نفر من زعماء قريش إلي دين الله الخاتم‏,‏ وأعرض عن صحابي كفيف‏,‏ من أوائل المسلمين‏,‏ جاء يسأله في أمر من أمور الدين‏,‏ فأنزل الله‏(‏ تعالي‏)‏ في مطلع هذه السورة المباركة عتابا لرسوله ونبيه الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ حتي يؤكد الحقيقة التي أنزلها في مقام آخر من محكم كتابه بقوله‏(‏ عز من قائل‏):..‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم
‏(‏الحجرات‏:13)‏
ومن أجل إقرار هذه القيمة الإسلامية التي لايمكن للمجتمعات الإنسانية ان تنصلح بغيرها‏,‏ أنزل الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ من فوق سبع سماوات هذا العتاب الشديد لأحب الخلق إليه‏,‏ وأقربهم إلي رضوانه‏,‏ لتبقي هذه القيمة العليا حاكمة للمجتمعات الإنسانية إذا أرادت أن تعيش حسب منهج الله‏,‏ وان تحقق رسالتها في هذه الحياة‏.‏ ولذلك حفظ هذا العتاب في كتابه الكريم الذي سيظل يتلي إلي يوم الدين‏.‏ تذكرة للناس بهذه القيمة الإنسانية التي يجب أن يلتزم بها المسلمون بصفة عامة في مجتمعاتهم‏,‏ وبصفه أخص في طريق الدعوة إلي الله‏.‏

وتلمس السورة الكريمة جحود الإنسان لخالقه‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وتذكره بأصله ونشأته‏,‏ وتهيئة الله‏(‏ تعالي‏)‏ له‏,‏ وتيسير السبل أمامه‏,‏ كما تذكره بنهاية حياته الدنيوية بالموت والقبر‏,‏ ثم إعادة بعثه ونشره ليلقي حسابه وجزاءه في الآخرة‏,‏ وعلي الرغم من ذلك فإنه لايتقيد بأوامر الله ولايقوم بتنفيذها‏.‏
وترد الآيات علي هذا الجحود الإنساني باستعراض عدد من دلائل القدرة الإلهية المبدعة في خلق الإنسان‏,‏ وإعداد طعامه وطعام أنعامه‏,‏ وتذكره بالآخرة وأهوالها وشدائدها باستعراض عدد من مشاهدها‏,‏ وتصوير انعكاس ذلك علي الخلائق فيها الذين سوف يتمايزون إلي مؤمن مستبشر سعيد‏,‏ وكافر شقي تعيس‏.‏

وتبدأ السورة الكريمة بالإشارة إلي واقعة الصحابي الجليل عبدالله عمرو بن قيس المعروف باسم ابن أم مكتوم في مكة المكرمة قبل الهجرة‏,‏ وكان الرجل مكفوف البصر‏,‏ ولكنه كان مفتح البصيرة فبادر بقبول الإسلام دينا‏,‏ وجاء في يوم من الأيام إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يسأله في أمر من أمور الدين‏,‏ والرسول منشغل في مناقشة عدد من زعماء قريش ودعوتهم إلي دين الله الخاتم‏,‏ لعل الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن ينصر بهم هذا الدين الذي كانوا يقفون منه موقف المعاداة والصد‏,‏ وفي هذه المعمعة كان ابن أم مكتوم يلح في توجيه أسئلته‏,‏ والرسول‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يتمني لو انتظر قليلا حتي يتمكن من الوصول إلي قناعة مع هؤلاء النفر من رؤوس قريش‏,‏ ولكن ابن أم مكتوم استمر في إلحاحه بالسؤال‏,‏ فعبس وجه رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وتولي عنه فأنزل ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ وحيه بهذه السورة المباركة يعاتب فيها سيد المرسلين عتابا شديدا بخطاب الغائب أولا‏,‏ ثم بتوجيه الخطاب إليه مباشرة والذي يقول فيه‏(‏ عز من قائل‏):‏
عبس وتولي‏*‏ أن جاءه الأعمي‏*‏ وما يدريك لعله يزكي‏*‏ أو يذكر فتنفعه الذكري‏*‏ أما من استغني‏*‏ فأنت له تصدي‏*‏ وما عليك ألا يزكي‏*‏ وأما من جاءك يسعي‏*‏ وهو يخشي‏*‏ فأنت عنه تلهي‏*‏ كلا إنها تذكرة‏*‏ فمن شاء ذكره‏*‏ في صحف مكرمة‏*‏ مرفوعة مطهرة‏*‏ بأيدي سفرة‏*‏ كرام بررة‏*(‏ عبس‏:1‏ ـ‏16)‏

وبعد نزول هذه الآيات كان رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يكرم ابن أم مكتوم كلما رآه ومن ذلك الإكرام كان استخلافه علي المدينة المنورة مرتين‏,‏ وقد كان من المهاجرين الأوائل إليها‏,‏ واستشهد بالقادسية‏(‏ رضي الله تبارك وتعالي عنه وأرضاه‏).‏
كذلك يروي عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أنه ماعبس في وجه فقير قط بعد هذه الواقعة‏,‏ ولا تصدي لغني قط‏,‏ ويروي لنا سفيان الثوري‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ أن الفقراء كانوا أمراء في مجلسه‏(‏ عليه الصلاة والسلام‏).‏

ومن الدروس المستفادة من هذه الواقعة ألا يخص بالدعوة إلي دين الله أحد دون أحد‏,‏ فالله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده هو الذي يعلم أين يكمن الخير‏,‏ والدعوة إلي دين الله الخاتم يجب أن تكون للناس كافة بغض النظر عن أعراقهم‏,‏ وأنسابهم‏,‏ وأجناسهم‏,‏ وأعمارهم‏,‏ وإمكاناتهم العلمية والتقنية والمادية‏,‏ ومستوياتهم الاجتماعية‏,‏ وغير ذلك من الفوارق الطبقية التي لايقرها الإسلام ولايرضاها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ أساسا للتفضيل بين خلقه‏.‏
ولقد كان في إعلان رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لهذا العتاب الإلهي الشديد لشخصه الكريم أبلغ الشهادات علي صدق نبوته‏,‏ ونبل رسالته‏,‏ وكمال عبوديته لله الخالق‏,‏ فلا يقوي علي إبراز مثل هذا العتاب إلا نبي كريم‏,‏ يعرف حقوق ربه عليه‏,‏ وقدسية الوحي الذي يتنزل إليه بكلمات الله التامات المنزهة عن الحذف أو الإضافة أو غير ذلك من المداخلات البشرية‏.‏

كذلك كان في إعلان هذا القرار الإلهي في وجه زعامات قريش‏,‏ والمسلمون في مكة المكرمة قلة مستضعفة في وسط بيئة جاهلية‏,‏ تقتلها العصبيات العرقية العمياء‏,‏ وتحكمها الأعراف الظالمة الجائرة‏,‏ كان في ذلك أعظم الشهادات علي أن هذا النبي والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ كان موصولا بالوحي‏.‏ ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض‏,‏ ومؤيدا بتأييده الذي لايضام‏..!!‏
وتستمر الآيات في تأكيد هذا القرار الإلهي تذكرة‏(‏ من الله تعالي‏)‏ لمن شاء أن يتذكر‏,‏ خاصة أن التذكرة مدونة في صحائف القرآن الكريم‏,‏ وهي صحف مكرمة عند رب العالمين‏,‏ مرفوعة مطهرة بتكريم الله‏(‏ تعالي‏)‏ لها‏,‏ وحفظه إياها‏,‏ وأشارت الآيات إلي أن هذه الصحائف مطهرة من أية مداخلات وضعية‏,‏ أو تحريفات بشرية‏,‏ أو محاولات للتزييف‏,‏ بأيدي سفرة‏*‏ كرام بررة‏*‏ وهم الملائكة المكرمون الذين حملوا القرآن العظيم إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

وإذا ما عاشت المجتمعات الإسلامية بهذه المعايير الربانية التي ترجح أهل الصلاح والتقوي والورع علي أهل الفساد‏,‏ والاحتيال‏,‏ والشراهة والطمع‏,‏ والخبث‏,‏ والإقبال علي الدنيا‏,‏ ونسيان الآخرة‏,‏ والتسلق من أجل الوصول إلي مقامات السلطة‏,‏ وابتزاز العباد‏,‏ ونهب المجتمعات‏,‏ وإذلال الناس‏,‏ والتجبر علي الخلق‏...‏ وإذا ما سادت معايير السماء علي معايير الأرض سعدت المجتمعات الإنسانية وأسعدت‏,‏ ولطالما انعكست الأوضاع‏,‏ وانقلبت الموازين‏,‏ وسادت معايير الأرض علي معايير السماء‏..‏ اضطربت القيم‏,‏ واختلت المفاهيم‏,‏ وساد الرعاع‏,‏ وتكلم في الناس الرويبضة وصدق الكاذب‏,‏ وكذب الصدوق‏..‏ وائتمن الخائن‏..‏ وخون الأمين‏...‏ فشقيت المجتمعات الإنسانية وأشقت‏...!!‏

وتتتابع الآيات بعد ذلك في تعجب ساخر من موقف الإنسان الذي يكفر بالله‏,‏ ويتجاهل ضرورة الإيمان به‏,‏ ويعرض عن هدايته‏,‏ ويستعلي علي رسالته وعلي الخضوع لجلاله بالطاعة والعبادة‏,‏ فتذكره الآيات بأصله ومنشئه‏,‏ وضعفه في بدايات وجوده‏,‏ وحاجته إلي رعاية ربه في مختلف مراحل نموه‏,‏ وفي جميع لحظات وجوده‏;‏ وقد أعطاه الله‏(‏ تعالي‏)‏ العديد من المواهب والقدرات‏,‏ ويسر له سبل الحياة‏,‏ وطرق الهداية‏,‏ والإنسان غافل عن ذلك كل الغفلة‏,‏ فلا يؤدي ما عليه لله‏(‏ تعالي‏)‏ من حقوق‏,‏ ولايقوم بدوره علي الأرض كما رسمه له خالقه‏,‏ فما أكفره بنعم الله‏,‏ وما أجحده بأفضال خالقه عليه‏...!!‏

وتعبيرا عن هذا الموقف الجاحد من الإنسان الكافر بنعم الله والمتنكر لأفضاله قال‏(‏ تعالي‏):‏ قتل الإنسان ما أكفره‏*‏
‏(‏عبس‏:17)‏

ولفظ قتل هنا دعاء علي الكافر‏,‏ ولعن له‏,‏ وهو من الله‏(‏ تعالي‏)‏ غضب عليه في الدنيا‏,‏ وعذاب ومهانة واقعان به لا محالة في الآخرة‏,‏ فمهما يطل عمره في الدنيا فآخرته الموت والقبر تحت الأرض‏,‏ والقبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران‏.‏
وأمره في بدء خلقه كأمره في يوم بعثه الذي يصفه المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقوله الشريف‏:‏ ما بين النفختين أربعون‏...‏ ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل‏,‏ وليس من الإنسان شئ إلا ويبلي‏,‏ إلا عظما واحدا‏,‏ وهو عجب الذنب‏,‏ ومنه يركب الخلق يوم القيامة‏.‏

وعلي ذلك فإن مصير الإنسان مرهون بيد خالقه من لحظة النطفة المتناهية الضآلة في الحجم إلي خروجه من بطن أمه طفلا‏,‏ ثم مروره بمختلف مراحل الحياة حتي الوفاة‏,‏ فالله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي خلقه في صلب أبيه حين شاء‏,‏ وأخرجه إلي مسرح الحياة حين شاء‏,‏ وحيث أراد‏,‏ وهو‏(‏ سبحانه‏)‏ الذي أنهي حياته حين شاء‏,‏ وحيث أراد‏,‏ وأبقاه في قبره إلي أن يشاء‏,‏ فإذا جاءت الآخرة بعثه ربه من بين التراب كيف يشاء‏,‏ وأنشره ليوم الحساب والجزاء‏,‏ حيث فريق في الجنة‏,‏ وفريق في السعير‏,‏ وإنها لجنة أبدا‏,‏ أو نار أبدا كما أخبر الصادق المصدوق‏(‏ عليه من الله أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏).‏
وانطلاقا من ذلك فعلي كل إنسان عاقل أن يستعد ليوم الحساب‏,‏ وأن يجد من أجل النجاة من أهواله‏,‏ فالحياة ليست للهو والعبث‏,‏ ولايمكن أن تقضي سدي‏,‏ فللإنسان فيها رسالة ذات وجهين‏:‏ عبادة الله‏(‏ تعالي‏)‏ بما أمر‏,‏ وحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها‏,‏ وإقامة عدل الله فيها‏.‏

والناس في غالبيتهم الساحقة تغيب عنهم هذه الحقيقة‏,‏ فيهدرون أعمارهم وهم عن الحق لاهون حتي ينتهي بهم الأجل‏,‏ فيفاجأون بلحظة الحساب‏,‏ وما أشقها من لحظة‏..!!‏

لذلك قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
قتل الإنسان ما أكفره‏*(‏ عبس‏:17)‏
والله‏(‏ تعالي‏)‏ صاغ هذه الآية الكريمة بصيغة الاستفهام الاستنكاري التوبيخي‏,‏ التقريعي للإنسان الكافر‏,‏ بمعني ما الذي حمله علي الكفر بالله؟‏,‏ أو ما أشد كفره بالله مع كثرة إحسان الله‏(‏ تعالي‏)‏ إليه‏,‏ والصيغة في الحالين فيها التعجب من شدة كفره‏,‏ وتأكيد استحقاقه العقاب بأشد ألوان العذاب‏...!!‏

ولذلك أتبعت هذه الآيات بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
كلا لما يقض ما أمره‏*(‏ عبس‏:23)‏
ولفظة‏(‏ كلا‏)‏ هنا بمعني‏(‏ حقا‏)‏ إنه لم يفعل ما أمره به الله‏(‏ تعالي‏)‏ فاستحق العذاب الذي حذره‏(‏ سبحانه‏)‏ منه عن طريق الأنبياء والمرسلين‏.‏
وبعد ذلك ينتقل السياق إلي استعراض واحدة من آيات الله الكبري في الخلق‏,‏ ألا وهي إعداد الطعام المناسب‏,‏ والكافي‏,‏ واللازم لكل حي علي الأرض‏,‏ ومن ذلك الإنسان وأنعامه‏,‏ ولذلك تلفت الآيات نظر الإنسان الجاحد إلي هذه الحقيقة وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

فلينظر الإنسان إلي طعامه‏*‏ أنا صببنا الماء صبا‏*‏ ثم شققنا الأرض شقا‏*‏ فأنبتنا فيها حبا‏*‏ وعنبا وقضبا‏*‏ وزيتونا ونخلا‏*‏ وحدائق غلبا‏*‏ وفاكهة وأبا‏*‏ متاعا لكم ولأنعامكم‏*‏
‏(‏عبس‏:24‏ ـ‏32).‏

والأمر بالنظر هنا ليس المقصود به مجرد النظر للإبصار‏,‏ ولكنه النظر للاعتبار‏,‏ وذلك لأن الطعام ضرورة من ضرورات الحياة‏,‏ ولازمة من لوازمها‏,‏ ولايملك إنسان الادعاء بأن له يدا في دورة الماء حول الأرض‏,‏ والتي لا ينشئها‏,‏ ولا يحركها إلا الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعلمه وحكمته وقدرته‏,‏ وفي ذلك يقول المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في الحديث القدسي الذي يرويه عن رب العزة والجلال‏:...‏ أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر‏,‏ فأما من قال‏:‏ مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي‏,‏ كافر بالكوكب‏,‏ وأما من قال‏:‏ مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي‏,‏ مؤمن بالكوكب‏(‏ البخاري‏)‏ وقال‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):...‏ ولا يعلم متي يأتي المطر أحد إلا الله‏...(‏ البخاري‏)‏
ولايملك إنسان عاقل أن يدعي أن له يدا في عملية إنبات البذور‏,‏ ولا في شق الأرض لإخراج البادرات النباتية من داخلها‏..!!‏

ولايستطيع عاقل كذلك الادعاء بأن له يدا في إخراج نوع واحد من أنواع نبات الأرض والذي تقدر أنواعه المعروفة لنا بأكثر من ثلاثمائة ألف نوع‏.‏ ويمثل كل نوع من هذه الأنواع ببلايين الأفراد‏,‏ وكل نوع من هذه الأنواع‏,‏ بل كل فرد من الأفراد له من صفاته الشكلية الخارجية‏,‏ والداخلية التشريحية والوظائفية ما يميزه عن غيره‏.‏
وقد ضرب الله‏(‏ تعالي‏)‏ لنا في سورة عبس من نماذج النباتات ما شمل الحبوب‏,‏ والأعناب‏,‏ والعلف الرطب للبهائم‏,‏ والتبن الجاف‏,‏ والزيتون‏,‏ والنخل‏,‏ والحدائق الملتفة الأشجار العظام الغليظة‏,‏ وأشجار الفاكهة‏,‏ والكلأ‏,‏ والمرعي‏,‏ وهذه النماذج المختارة في سورة عبس تكاد تغطي كل ما يحتاجه الانسان وأنعامه ودوابه من المجموعات الرئيسية للمملكة النباتية‏.‏

وخاتمة عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا‏,‏ وخاتمة تمتعه بمباهجها وزخرفها هي الموت‏,‏ والقبر‏,‏ ثم البعث‏,‏ والعرض الأكبر أمام الله‏(‏ تعالي‏)‏ للحساب‏,‏ ثم الخلود في الحياة القادمة إما في الجنة أبدا وإما في النار أبدا‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات في ختام سورة عبس ما يلي‏:‏
فإذا جاءت الصاخة‏*‏ يوم يفر المرء من أخيه‏*‏ وأمه وأبيه‏*‏ وصاحبته وبنيه‏*‏ لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه‏*‏ وجوه يومئذ مسفرة‏*‏ ضاحكة مستبشرة‏*‏ ووجوه يومئذ عليها غبرة‏*‏ ترهقها قترة‏*‏ أولئك هم الكفرة الفجرة‏*‏
‏(‏عبس‏:33‏ ـ‏42).‏

والصاخة هي النفخة الثانية في الصور‏,‏ وسميت بذلك لأنها تصخ الآذان من شدتها وقد استخدمت اللفظة كاسم من أسماء القيامة‏,‏ التي من تعاظم اهوالها تجعل الإنسان يفر من أقرب الناس إليه‏,‏ وألصقهم به‏..!!‏
وبعد الحساب ينقسم الناس إلي أصحاب الوجوه المؤمنة وهي مسفرة‏,‏ مشرقة‏,‏ مضيئة‏,‏ مستبشرة بتكريم الله‏(‏ تعالي‏)‏ لها في الجنة‏,‏ وقد بشرت بها‏,‏ ووجوه أخري للكفرة الفجرة‏,‏ الذين كفروا بالله وبرسالته الخاتمة‏,‏ وخرجوا علي حدوده‏,‏ وانتهكوا حرماته‏,‏ وقد علاها الندم والحزن‏,‏ وارتسمت علي قسماتها بوادر الحسرة واليأس‏,‏ وغشيتها ملامح الذل والعار‏,‏ وقد علمت أن مصيرها إلي النار‏...!!‏

وعلي هذه الوجوه المؤمنة‏,‏ وتلك الوجوه الكافرة ترتسم مصائر العباد في الآخرة‏,‏ وبذلك وضع الله‏(‏ تعالي‏)‏ لنا في مطلع سورة عبس معيارا من معايير الحق‏,‏ من التزم به فاز في الدنيا والآخرة‏,‏ ومن ضيعه شقي في الدنيا والآخرة‏,‏ ووضع لنا في خاتمة هذه السورة المباركة صورة من صور الثواب والعقاب في الآخرة‏,‏ فالتقي أول السورة بخاتمتها في تزاوج عجيب يشهد لله‏(‏ تعالي‏)‏ بطلاقة القدرة الإلهية التي ابدعت كتابه الخالد الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده‏(‏ الذي قطعه علي ذاته العلية‏)‏ في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ منذ أكثر من أربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة عبس
‏(1)‏ الإشارة إلي خلق الإنسان من نطفة تحمل كل صفاته‏,‏ وجميع المقدر له‏.‏
‏(2)‏ لفت أنظار الناس إلي جوانب الإعجاز العلمي في توفير كل الأسباب اللازمة لخلق طعام الإنسان‏,‏ وطعام أنعامه‏,‏ وطعام كل كائن حي علي وجه الأرض‏.‏

‏(3)‏ الإشارة إلي دورة الماء حول الأرض بإنزاله من السماء‏.‏
‏(4)‏ الإشارة إلي شق الأرض بواسطة إنزال الماء عليها أو ريها من أجل إعدادها للإنبات‏,‏ أو شقها بواسطة البادرات النباتية الخارجة منها وكلاهما صحيح‏.‏

‏(5)‏ خلق مختلف أنواع النباتات‏,‏ وإعطاء النماذج الأساسية لها التي يمكن أن تكون تمثيلا كاملا لمجموعات النباتات الراقية المزهرة‏,‏ التي تشكل الغذاء الرئيسي لكل من الإنسان وأنعامه‏(‏ من مثل الحبوب‏,‏ والأعناب‏,‏ والقضب‏,‏ والزيتون‏,‏ والنخل‏,‏ والحدائق الغلب‏,‏ والفاكهة والأب‏).‏
‏(6)‏ الاستدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة‏,‏ علي إحياء الأجسام بعد تحللها إلي تراب‏.‏

‏(7)‏ الإشارة إلي حقيقة الحياة والموت‏,‏ ثم من بعد ذلك البعث والحساب‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر الحديث هنا علي النقطة الثانية فقط من القائمة السابقة‏,‏ والتي عرضتها السورة الكريمة في آياتها المرقمة من‏24‏ إلي‏32‏ ولكن قبل ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآيات الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
فلينظر الإنسان إلي طعامه‏*‏ أنا صببنا الماء صبا‏*‏ ثم شققنا الأرض شقا‏*‏ فأنبتنا فيها حبا‏*‏ وعنبا وقضبا‏*‏ وزيتونا ونخلا‏*‏ وحدائق غلبا‏*‏ وفاكهة وأبا‏*‏ متاعا لكم ولأنعامكم‏*(‏ عبس‏:24‏ ـ‏32)‏

‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:‏ فلينظر الإنسان إلي طعامه‏)‏ فيه امتنان‏,‏ وفيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة‏,‏ علي إحياء الأجسام بعدما كانت عظاما بالية وترابا متمزقا‏,(‏ أنا صببنا الماء صبا‏)‏ أي أنزلناه من السماء علي الأرض‏,(‏ ثم شققنا الأرض شقا‏)‏ أي أمسكناه فيها فيدخل في تخومها‏,‏ فنبت الزرع وارتفع وظهر علي وجه الأرض‏,(‏ فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا‏),‏ فالحب كل ما يذكر من الحبوب‏,‏ والعنب معروف‏,‏ والقضب هو الفصفصة‏(‏ العلف‏)‏ التي تأكلها الدواب رطبة‏,‏ ويقال لها القت أيضا‏,(‏ وزيتونا‏)‏ وهو معروف‏,‏ وهو أدم وعصيره أدم‏,‏ ويستصبح به ويدهن به‏(‏ ونخلا‏)‏ يؤكل بلحا وبسرا‏,‏ ورطبا وتمرا‏,‏ ونيئا ومطبوخا‏,‏ ويعتصر منه رب وخل‏(‏ وحدائق غلبا‏)‏ أي بساتين‏...‏ وغلبا نخل غلاظ كرام‏,...‏ أو كل ما التف واجتمع‏...‏ أو الشجر الذي يستظل به‏...‏ أو غلاظ الأوساط‏,‏ وقوله تعالي‏:(‏ وفاكهة وأبا‏)‏ أما الفاكهة فكل ما يتفكه به من الثمار‏..‏ أو كل ما أكل رطبا‏,‏ والأب ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس‏(‏ الكلأ والمرعي من مثل الحشيش‏)....,‏ وقوله تعالي‏(‏ متاعا لكم ولأنعامكم‏)‏ أي عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار‏,‏ إلي يوم القيامة‏.‏

وقال بقية المفسرين كلاما مشابها لا أري حاجة لتكراره هنا علي الرغم من فضل كل واحد منهم‏.‏

من الدلالات العلمية للآيات الكريمات
‏*‏ أولا‏:‏ فلينظر الإنسان إلي طعامه‏*‏
‏(‏عبس‏:24)‏
اعتمد الإنسان في طعامه أساسا علي النبات ولذلك تحدثت الآيات التالية عن صب الماء من السماء صبا‏,‏ ثم عن شق الأرض شقا‏,‏ ثم عن عدد من النباتات وثمارها تغطي كل مايحتاجه الإنسان وأنعامه من الطعام النباتي‏,‏ والطعام النباتي يحمل في طياته الإشارة إلي الطعام الحيواني‏.‏ وذلك لأن الحيوانات التي يأكلها الإنسان تعتمد في غذائها علي النبات وثماره‏.‏ والطعام هو مصدر الطاقة اللازمة لمختلف الأنشطة في جسم الإنسان‏,‏ وللمحافظة علي درجة حرارته‏,‏ ولبناء الخلايا والأنسجة اللازمة في مختلف مراحل نموه ولتعويض الفاقد منها باستمرار‏.‏
وجسد الإنسان يحتاج لوجوده حيا إلي الهواء‏,‏ والماء‏,‏ والطعام‏,‏ فلو انقطع عنه الهواء لدقائق معدودة هلك بالاختناق‏,‏ وإذا انقطع عنه الماء فإنه يمكنه تحمل ذلك لعدة أيام‏,‏ وإذا انقطع عنه الطعام يمكنه البقاء حيا لعدة أسابيع‏,‏ مع نقص حاد في الوزن‏,‏ وتدهور في حالته الصحية إن لم يتدارك ذلك بتعويض سريع‏.‏
ويحتاج الإنسان في طعامه إلي المواد الأساسية التالية‏:‏

‏(1)‏ الكربوهيدرات‏:‏ وهي مركبات عضوية مهمة تتكون جزيئاتها باتحاد ذرات الكربون مع كل من ذرتي الإيدروجين والأكسجين بنسبة وجودهما في الماء‏;‏ ووجود الكربوهيدرات في كل من النبات والحيوان في هيئات متعددة أبسطها السكريات الأحادية مثل سكر العنب‏(‏ الجلوكوز‏),‏ وسكر الفاكهة‏(‏ الفركتوز‏),‏ ويمكن للسكريات الأحادية أن تتحد مع بعضها البعض بواسطة روابط خاصة لتكون سكريات ثنائية مثل سكر القصب والبنجر‏(‏ السكروز‏),‏ وسكر الشعير‏(‏ المالتوز‏),‏ وسكر الحليب‏(‏ اللاكتوز‏),‏ أو سكريات ثلاثية مثل سكر الرافينوز‏,‏ أو سكريات عديدة مثل النشا‏,‏ والسيليولوز‏.‏ والنشا يوجد في كثير من النباتات مختزنا في بذورها أو في درناتها وفي العديد من ثمارها‏,‏ بينما تتكون جدران الخلايا النباتية أساسا من السيليولوز وهو يوجد في القش‏,‏ والخشب‏,‏ والجوت‏,‏ وفي ثمار القطن‏,‏ وفي المجموعات الخضرية للنباتات‏.‏

‏(2)‏ البروتينات‏:‏ وهي مركبات عضوية تتكون جزيئاتها العملاقة باتحاد ذرات الكربون مع كل من ذرات الإيدروجين والأكسجين والنيتروجين‏,‏ وقد تحتوي بعض جزيئاتها علي ذرات من الكبريت أو الفوسفور‏.‏ وتوجد هذه العناصر في سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية‏,‏ ويبلغ عدد الأحماض الأمينية التي تشترك في بناء البروتينات عشرين حمضا‏,‏ وترتبط مع بعضها البعض برابطة خاصة تعرف باسم رابطة البيبتيد‏(PeptideBond),‏ ويلتف الجزئ البروتيني علي ذاته في هيئة لولبية أو حلزونية‏.‏ وتوجد البروتينات في أنواع بسيطة تتكون من الأحماض الأمينية فقط‏,‏ وأنواع معقدة‏(‏ مقترنة‏)‏ يدخل في بنائها مجموعات من مركبات كيميائية أخري‏,‏ وتوجد البروتينات في أنسجة الكائنات الحية وفي جبلتها‏(‏ البروتو بلازم‏)‏ وتلعب أدوارا مهمة في العديد من أنشطتها الحيوية مثل الدعم والحركة في العظام والعضلات‏,‏ والنقل والاتصالات في الدم وفي الأعصاب‏,‏ وفي كتابة الشفرة الوراثية‏,‏ وفي تحفيز مختلف التفاعلات مثل إفراز الإنزيمات وبعض الهرمونات‏.‏

‏(3)‏ الزيوت والدهون‏:‏ وتتكون أساسا من إتحاد ذرات الكربون مع ذرات كل من الإيدروجين والأكسجين بنسب أعلي من نسب وجودهما في كل من الماء والكربوهيدرات‏,‏ وبعض الدهون يحتوي بالاضافة إلي ذلك علي عنصري الفوسفور والنيتروجين‏.‏ والزيوت والدهون لهما تركيب كيميائي متشابه‏,‏ فإذا بقي هذا التركيب سائلا عند درجة عشرين مئوية سمي زيتا‏,‏ وإذا بقي جامدا سمي دهنا والدهون تعرف باسم الجليسريدات لتكونها من اتحاد بعض الأحماض الدهنية مع الجليسرين‏.‏ وتضم الشموع إلي مجموعة الزيوت والدهون تحت مسمي اللبيدات‏(Lipids).‏ وبعض الثمار النباتية مثل الزيتون‏,‏ والسمسم‏,‏ والفول السوداني‏,‏ وفول الصويا‏,‏ والخروع‏,‏ وبذور الكتان‏,‏ وبذور القطن‏,‏ وبذور دوار الشمس‏,‏ وثمار كل من نخيل الزيت‏,‏ وجوز الهند‏;‏ وبعض أجنة الحبوب مثل القمح‏,‏ والذرة‏,‏ والأرز تعتبر من أهم مصادر الزيوت النباتية‏.‏
وهذه المركبات التي تدخل في طعام الإنسان من الكربوهيدرات إلي البروتينات إلي الدهون علي قدر هائل من الانتظام والدقة والتعقيد في بنائها‏,‏ مما يقطع بأنها لايمكن ان تكون قد أوجدت نفسها بنفسها‏,‏ أو وجدت بمحض المصادفة‏,‏ ولذلك تشهد لخالقها العظيم بطلاقة القدرة‏,‏ وابداع الصنعة‏,‏ وإحكام الخلق‏,‏ ودقة التقدير‏,‏ ومن هنا كان لفت نظر الإنسان إلي طعامه‏....!!‏

‏*‏ ثانيا‏:‏ أنا صببنا الماء صبا‏:‏ وصب الماء إراقته من أعلي‏,‏ أي إنزاله من السماء بغزارة كالغيث‏,‏ والصبيب هو المصبوب من ماء المطر‏,‏ ولولا دورة الماء حول الأرض لفسد كل مائها الذي هو شريان الحياة‏,‏ والذي يحيا ويموت فيه بلايين الأفراد من الكائنات الحية في كل لحظة‏.‏ ويقدر الغطاء المائي للأرض حاليا بنحو‏1,4‏ بليون كيلو متر مكعب من الماء‏,‏ يتبخر منه سنويا‏380,000‏ كيلو متر مكعب‏,‏ تعود كلها إلي الأرض ولكن بتوزيع ينشره الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعلمه‏,‏ وحكمته‏,‏ وقدرته‏.‏ ولايستطيع التحكم في دورة الماء حول الأرض إلا الله‏(‏ تعالي‏),‏ ولايستطيع أحد من الخلق أن ينزل قطرة من ماء السماء حيث أو متي يشاء‏,‏ ومن هنا كانت الإشارة إلي إنزال ماء السماء علي أنها من أوضح دلالات القدرة الإلهية‏.‏

‏*‏ ثالثا‏:‏ ثم شققنا الأرض شقا‏:‏ والشق هو واحد الشقوق‏,‏ وهي الفتحات الطولية الواقعة في الشئ‏,‏ والمقصود بالفعل‏(‏ شققنا‏)‏ هنا النحر الرأسي لماء المطر حينما يصب علي الأرض صبا‏,‏ وقد ثبت أن ماء المطر الساقط علي الأرض يستطيع إحداث شقوق فيها تتراوح أعماقها بين أمتار قليلة والمائتي متر‏,‏ مما يعين علي تخلل الماءللصخور المنفذة ليكون المخزون المائي تحت سطحها‏,‏ ويجدد عذوبته ومحتواه من غاز الأكسجين‏.‏
وكلما اتصلت هذه الشقوق الناتجة عن الحفر الرأسي لماء المطر النازل من السماء كالغيث‏,‏ مع أشباهها من فواصل الصخور وتشققاتها‏,‏ ومستويات التطبق في الصخور الرسوبية‏,‏ وكهوف الإذابة في كل من الصخور الكلسية والملحية وما يرتبط بها من حفر‏,‏ وممرات‏,‏ ودهاليز‏,‏ وأغوار‏,‏ قد يصل طولها إلي عشرات الكيلو مترات‏,‏ يفسح مجالا رحبا لتجوية الصخور ولخزن الماء تحت سطح الأرض‏,‏ وتعظيم دوره في توسيع تلك الشقوق والحفر‏,‏ بمختلف صور التجوية الميكانيكية‏(‏ من مثل فعل الصقيع‏)‏ والتجوية بفعل الكائنات الحية‏,‏ والتجوية الكيميائية‏(‏ عن طريق الإذابة‏,‏ والكربنة‏,‏ ولإحلال‏,‏ والتميؤ‏,‏ والأكسدة‏)‏ التي تضعف من تماسك الصخر‏,‏ وتعين علي تشققه وتفتته وتكون التربة من هذا الفتات‏,‏ كما تعظم من دور الماء تحت سطح الأرض‏,‏ في المساعدة علي إمداد نباتات الأرض بما تحتاجه من ماء وعناصر غذائية‏,‏ وهذا المعني يبدو لي أنه الأقرب ـ والله تعالي أعلي وأعلم ـ وذلك لوروده بعد الإشارة إلي صب الماء من السماء صبا‏.‏ ولكن لا يستبعد أيضا أن يكون المقصود بشق الأرض بعد صب ماء المطر عليها‏,‏ هو تشقق التربة نتيجة لاختلاطها بماء السماء‏,‏ والتربة الزراعية يغلب علي تركيبها المعادن الصلصالية التي تتكون أساسا من سليكات الألومنيوم المميأة‏,‏ والمتراصة فوق بعضها البعض في رقائق دقيقة‏,‏ وهذا المركب الكيميائي له شراهة شديدة للماء‏,‏ فإذا وصله البلل انتفش وانتفخ‏,‏ وارتفع إلي أعلي حتي ترق التربة رقة شديدة ثم تنشق لتفسح طريقا سهلا للسويقة المنبثقة من داخل البذرة النابتة المدفونة في التربة لتصل السويقة إلي ما فوق سطح الأرض‏.‏ ويعين علي ذلك إزاحة الماء لقدر من الهواء الموجود بين رقائق الصلصال‏,‏ والحركة البراونية للمادة الغروية في دقائق التربة من المعادن الصلصالية‏,‏ وتنافر الشحنات الكهربية المتشابهة علي أسطح تلك الرقائق مع بعضها البعض‏,‏ ومع قطبي جزئ الماء المزدوج القطبية‏,‏ ونشاط كل صور الحياة الكامنة في قطاع التربة وفيها البلايين من الكائنات الحية الساكنة‏,‏ فإذا وصلها الماء استيقظت ونشطت ومن ذلك بذور النباتات‏,‏ وبيض بعض الحيوانات ويرقاتها‏,‏ وبعض البكتيريا والفطريات وغيرها‏,‏ ومخزون التربة من هذه الكائنات يتراوح مابين الميكروسكوبية منها والفقارية‏,‏ وقوة إنبات البذور من القوي التي لايمكن الاستهانة بها‏.‏

‏*‏ رابعا‏:‏ فأنبتنا فيها حبا‏*‏وعنبا وقضبا‏*‏ وزيتونا ونخلا‏,‏ وحدائق غلبا‏,‏ وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم‏*‏
‏(‏ عبس‏:27‏ ـ‏32)‏
وهذه الآيات احتوت كل صنوف النبات التي يحتاجها الإنسان وأنعامه في طعامهم‏.‏

فلفظة‏(‏ الحب‏)‏ تشمل جميع أنواع الحبوب من مثل القمح والشعير‏,‏ والذرة‏,‏ والأرز‏,‏ وهي من النباتات الزهرية ذات الفلقة الواحدة‏,‏ والتي تجمع في العائلة النجيلية‏,‏ وهي أهم عائلات النبات من الناحية الاقتصادية‏,‏ للإنسان ولأنعامه لأنها تضم كذلك كثيرا من حشائش المراعي‏,‏ وتغطي نباتاتها أكثر المساحات المزروعة علي سطح الأرض‏.‏ والعنب يمثل العائلة العنبية التي تضم‏11‏ جنسا‏,‏ وأكثر من ستمائة نوع من أنواع النبات‏.‏
والقضب هو العلف الرطب للأنعام والدواب كالكلأ والبرسيم‏.‏ وسمي قضبا لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد أخري‏.‏ والزيتون ذلك الثمر المبارك من الشجرة المباركة يمثل العائلة الزيتونية والتي تشمل‏22‏ جنسا‏,‏ وأكثر من خمسمائة نوع من أنواع النبات‏.‏ والنخل يمثل العائلة النخيلية وتشمل نحو مائتي جنس‏,‏ واكثر من أربعةآلاف نوع من الأشجار والشجيرات والمتسلقات المنتشرة في المناطق الاستوائية والمعتدلة‏.‏

و‏(‏حدائق غلبا‏)‏ أي بساتين محوطة‏,‏ و‏(‏غلبا‏)‏ صفة لتعاظم أشجارها والتفافها‏.‏
و‏(‏فاكهة‏):‏ كل ما يتفكه به الإنسان من الثمار ويتمتع به من طعام رطب لذيذ الطعم خاصة الثمار الحلوة المذاق‏,‏ لأنه يقال في العربية تفكه بالشئ أي تمتع به‏,‏ وقيل في الفاكهة أنها الثمار كلها ما عدا العنب والرمان‏.‏ و‏(‏أبا‏)‏ وهو الكلأ والمرعي‏,‏ وما تأكله الأنعام والدواب من غير ذلك من العشب ومختلف أجزاء النبات‏,‏ رطبا كان أم يابسا‏(‏ كالتبن والدريس‏),‏ وهو في ذلك أعم من القضب ولذلك ختمت هذه المجموعة من الآيات بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
متاعا لكم ولأنعامكم‏*‏
‏(‏ عبس‏:32).‏

وهذه الحقائق العلمية لم تعرف إلا في القرن العشرين‏,‏ وورودها في كتاب الله الذي أنزل من قبل أربعة عشر قرنا يثبت لكل ذي بصيرة ان القرآن الكريم هو كلام الله الخالق‏,‏ ويشهد بالنبوة والرسالة للنبي الخاتم الذي تلقاه فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏