(95)‏ فنبذناه بالعراء وهو سقيم‏*‏ وأنبتنا عليه شجرة من يقطيـن‏*‏
‏*‏ الصافات‏:145‏ ـ‏146*‏
بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هاتان الآيتان الكريمتان جاءتا في الخمس الأخير من سورة الصافات‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها‏182‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بقسم بالملائكة الأطهار الذين لاينفكون عن عبادة الله‏(‏ تعالي‏),‏ ويصطفون في طاعته بأفضل مما يصطف كثير من عباد الله المكلفين من الإنس والجن في الصلاة‏.‏
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من القواعد الرئيسية للعقيدة الإسلامية‏,‏ وفي مقدمتها الإيمان بالله‏,‏ وتوحيده التوحيد الخالص‏,‏ وتنزيهه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن كل وصف لايليق بجلاله‏[‏ من قبيل نسبة الشريك‏,‏ أو الشبيه‏,‏ أو المنازع‏,‏ أو الصاحبة‏,‏ أو الولد إلي الله‏(‏ تعالي‏),‏ وغير ذلك من صفات المخلوقين والله‏(‏ تعالي‏)‏ منزه عن صفات خلقه‏],‏ والإيمان بملائكة الله‏,‏ وبكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ وباليوم الآخر‏,‏ وبالقدر خيره وشره‏;‏ والإيمان بالوحي وحقيقته‏,‏ وبالبعث بعد الموت وبحتميته وضرورته‏,‏ وبالخلود في الآخرة إما في الجنة أو في النار‏,‏ وإنها لجنة أبدا‏,‏ أو نار أبدا كما أخبر بذلك خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏).‏

وفي سبيل الدعوة إلي الإيمان بهذه الركائز الإسلامية‏,‏ والعمل علي ترسيخها في العقول والقلوب أشارت سورة الصافات إلي العديد من أشياء الكون وظواهره‏,‏ ووظفتها في الاستدلال علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق‏,‏ والشاهدة للخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالألوهية‏,‏ والربوبية‏,‏ والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ وبالقدرة علي البعث‏,‏ وتقيم الحجة علي أهل العلم في زمن تفجر المعارف العلمية الذي نعيشه بأن القرآن الكريم لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق‏,‏ وبأن الرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي‏,‏ ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض‏.‏
وفي نفس الوقت‏,‏ وظفت سورة الصافات هذه الإشارات الكونية في تفنيد دعاوي المبطلين من أهل الكفر والشرك والضلال‏,‏ وفي تطهير العقول والنفوس من هذا الكم الهائل من الخرافات والأساطير التي نسجتها أنماط عديدة من العقول المريضة عبر التاريخ‏,‏ انطلاقا من همزات شياطين الإنس والجن‏,‏ وتخرصات المبطلين‏,‏ وشهوات الطامعين في شئ من حطام هذه الدنيا الفانية‏..!!‏
وقد استهلت سورة الصافات بقسم من الله‏(‏ تعالي‏)‏ بملائكته الكرام‏,‏ وبعدد من الوظائف التي أمروا بها ـ والله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ غني عن القسم ـ ثم يأتي جواب القسم بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
إن إلهكم لواحد‏*(‏ الصافات‏:4).‏

وهو قرار إلهي يقتلع كل جذور الكفر والشرك والضلال من العقول والقلوب التي عششت فيها تلك الانحرافات الفكرية‏,‏ وما أكثرها في تاريخ البشرية الطويل‏,‏ خاصة في زمن الفتن التي تظلل أغلب أهل الأرض في هذه الأيام‏..!!‏
وتشير السورة الكريمة إلي محاولات مردة الجن وشياطينهم من أجل استراق السمع علي أهل السماء‏,‏ وأكدت أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد سخر الشهب الثاقبة لتتبعهم ودحرهم‏,‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ قد توعدهم بعذاب شديد‏.‏

ثم يتوجه الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ بالأمر الإلهي أن يسأل منكري البعث‏,‏ المستبعدين لإمكانية وقوعه أن ينظروا في خلقهم من طين لازب‏,‏ ومحدودية كل فرد منهم بحدود مكانه في بقعة محددة من الأرض‏,‏ وبحدود زمانه‏(‏ أي أجله‏),‏ ومقارنة ذلك بخلق السماوات والأرض بأبعادهما المذهلة‏,‏ وأعمارهما المتطاولة‏,‏ فيدركوا أن الذي خلقهم من هذا الطين اللازب‏,‏ وحددهم بحدود المكان والزمان‏,‏ وخلق الكون بهذا الاتساع‏,‏ والضخامة في الأبعاد‏,‏ وتعدد الأجرام‏,‏ وتنوع صفاتها قادر علي بعثهم‏,‏ وبعث آبائهم الأولين وهم أذلاء صاغرون‏.‏
ثم تعرض سورة الصافات لموقف من مواقف الآخرة‏,‏ وقد أطلقت صيحة البعث وجميع الذين كانوا ينكرونه في الدنيا‏,‏ ويسخرون من إمكانية وقوعه‏,‏ يخرجون من قبورهم مشدوهين‏,‏ فزعين‏,‏ مذعورين‏,‏ وهم يقولون‏:‏
‏...‏ ياويلنا هذا يوم الدين‏*‏
‏(‏ الصافات‏:20).‏

فيسمعون الرد عليهم في قول الله‏(‏ تعالي‏):‏
هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون‏*‏ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون‏*‏ من دون الله فاهدوهم إلي صراط الجحيم‏*‏ وقفوهم إنهم مسئولون‏*‏
‏(‏الصافات‏:21‏ ـ‏24).‏

وتستطرد الآيات في استكمال عرض هذا المشهد‏,‏ والكفار والمشركون‏,‏ والعصاة والظالمون عاجزون عن مناصرة بعضهم بعضا‏,‏ والذين اتبعوا والذين اتبعوا من المشركين وشركائهم يتلاومون‏,‏ ويتبادلون تهم الضلال والغواية‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون‏*‏ إنا كذلك نفعل بالمجرمين‏*‏ إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون‏*‏ ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون‏*‏ بل جاء بالحق وصدق المرسلين‏*‏ إنكم لذائقو العذاب الأليم‏*‏ وما تجزون إلا ماكنتم تعملون‏*‏
‏(‏الصافات‏:33‏ ـ‏39)‏

وفي قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
بل جاء بالحق وصدق المرسلين‏*‏
‏(‏الصافات‏:37).‏

تأكيد لنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وشهادة من الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي صدق رسالته‏,‏ وبرهان علي وحدة رسالة السماء‏,‏ وعلي أخوة الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليهم أجمعين‏),‏ وهو في الوقت نفسه رد إلهي جازم علي الذين كذبوا ببعثته الشريفة‏,‏ وتطاولوا علي شخصه الكريم بأقلامهم الرخيصة‏,‏ أو بألسنتهم البذيئة‏,‏ أو تستروا وراء شاشات الشبكة العنكبوتية كخفافيش الظلام ينفثون فيها جهلهم الفاضح‏,‏ وأحكامهم الجائرة‏,‏ وأحقادهم المريضة‏,‏ وسمومهم البغيضة ضد الإسلام‏,‏ وضد نبيه الكريم‏,‏ وضد جميع المسلمين بما لايستطيعون أن يقولوه مواجهة لجبنهم وعجزهم‏,‏ وضعف حجتهم‏,‏ وسقوط كل دعاواهم الباطلة‏.‏
وهم يفعلون ذلك طمعا في الصد عن دين الله الخاتم الذي لايرتضي ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ من عباده دينا سواه‏,‏
‏...‏ والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون‏*(‏ يوسف‏:21)‏

وقد حذرهم الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ من خطر ذلك في الآيات السابقة من سورة الصافات وبقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلي جهنم يحشرون‏*‏
‏(‏ الأنفال‏:36).‏

ثم تقارن الآيات في سورة الصافات بين إكرام الله‏(‏ تعالي‏)‏ لعباده المؤمنين بتنعيمهم في جنات الخلد‏,‏ وبالفوز العظيم برضاه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وبين ما يلقاه كل من الكفار والمشركين المكذبين ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ من عذاب في الدنيا‏,‏ ونار جهنم في الآخرة‏,‏ وهم يصطلون بجحيمها‏,‏ ويأكلون من زقومها‏,‏ وعليه شوب من حميم‏.‏
وتستمر الآيات في تأكيد أن أكثر الأمم السابقة علي بعثة الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ كانوا قد ضلوا ضلالا بعيدا علي الرغم من إرسال عدد من الأنبياء والمرسلين إليهم‏,‏ منذرين من مغبة الكفر بالله‏(‏ تعالي‏)‏ أو الشرك به‏(‏ سبحانه‏),‏ أو معصيته والانحراف عن المنهج الذي وضعه لاستقامة الحياة علي الأرض‏,‏ ولإثبات ذلك استعرضت السورة المباركة سير عدد من أنبياء الله ورسله منهم نوح‏,‏ إبراهيم وولداه‏,‏ موسي وهارون‏,‏ إلياس‏,‏ لوط‏,‏ ويونس‏(‏ علي نبينا وعليهم جميعا من الله السلام‏).‏ وفي قصص هؤلاء الأنبياء والمرسلين تجلت معية الله‏(‏ تعالي‏)‏ لهم ولعباده المؤمنين‏,‏ ورحمته بهم‏,‏ وتعهده بنصرهم وبدحر أعدائهم من الكفار والمشركين والظالمين‏,‏ والتنكيل بهم في الدنيا قبل الآخرة‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين‏*‏ ولقد أرسلنا فيهم منذرين‏*‏ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين‏*‏ إلا عباد الله المخلصين
‏(‏الصافات‏:71‏ ـ‏74).‏

وتعاود الآيات توجيه الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ليقوم بالرد علي عدد من الخرافات والأساطير التي ابتدعها أهل الزيغ والضلال من الكفار والمشركين‏,‏ والتي منها الادعاء الباطل بوجود نسب بين الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وبين الجن‏,‏ وأنه بناء علي تصديقهم هذه الفرية بالعلاقة المختلقة كانت الملائكة الذين ادعي المبطلون عليهم بأنهم إناث‏...!!‏
وكذلك الادعاء الباطل علي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بنسبة الصاحبة والولد إليه وهما من صفات المخلوقين‏,‏ والله تعالي منزه تنزيها كاملا عن صفات خلقه‏,‏ ولذلك قال‏(‏ عز من قائل‏):‏
فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون‏*‏ أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون‏*‏ ولد الله وإنهم لكاذبون‏*‏ أصطفي البنات علي البنين‏*‏ مالكم كيف تحكمون‏*‏ أفلا تذكرون‏*‏ أم لكم سلطان مبين‏*‏ فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين‏*‏ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون‏*‏ سبحان الله عما يصفون‏*‏
‏(‏الصافات‏:149‏ ـ‏159).‏

وتكرر الآيات في خواتيم سورة الصافات وعد الله لأنبيائه ورسله‏,‏ ولجنده المؤمنين بالنصر والتمكين‏,‏ وهو وعد حق‏,‏ تعهد‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ به‏,‏ والله لايخلف الوعد ولا الميعاد‏.‏ وتطالب الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ باعتزال الكفار والمشركين لأنهم يستعجلون نزول عذاب الله‏,‏ وهو واقع بهم لا محالة‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين‏*‏ إنهم لهم المنصورون‏*‏ وإن جندنا لهم الغالبون‏*‏ فتول عنهم حتي حين‏*‏ وأبصرهم فسوف يبصرون‏*‏ أفبعذابنا يستعجلون‏*‏ فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين‏*‏ وتول عنهم حتي حين‏*‏ وأبصر فسوف يبصرون‏*‏
‏(‏الصافات‏:171‏ ـ‏179).‏

وتختتم سورة الصافات بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
سبحان ربك رب العزة عما يصفون‏*‏ وسلام علي المرسلين‏*‏ والحمدلله رب العالمين‏*‏
‏(‏الصافات‏:180‏ ـ‏182).‏

وفي ذلك تأكيد علي ربوبية الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وتنزيه له‏(‏ جل شأنه‏)‏ عن كل وصف لا يليق بجلاله مما ادعي به كثير من المشركين‏,‏ وتوقير لجميع رسل الله‏,‏ وذكرهم بالسلام عليهم‏,‏ وحمد الله علي فيض نعمه في كل وقت وفي كل حين‏.‏

نبي الله يونس في القرآن الكريم‏:‏
جاء ذكر نبي الله يونس‏(‏ عليه السلام‏)‏ في القرآن الكريم ست مرات‏,‏ أربع منها باسمه الصريح‏(‏ النساء‏:163;‏ الأنعام‏:86;‏ يونس‏:98;‏ والصافات‏:139),‏ والخامسة جاءت بكنيته‏:‏
ذا النون‏(‏ الأنبياء‏:87),‏ والسادسة جاءت بصفته‏:‏ صاحب الحوت‏(‏ القلم‏:48),‏ وتكريما له‏(‏ عليه السلام‏)‏ سمي ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ إحدي سور القرآن الكريم باسمه وهي سورة يونس‏.‏

وهذا النبي الصالح عرفه لنا المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ باسم يونس بن متي‏,‏ وذلك بقوله الشريف‏:‏
لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متي‏(‏ البخاري ومسلم‏).‏

ونبي الله يونس بن متي بعث إلي أهل نينوي‏,‏ وهي محافظة في أقصي الشمال الغربي من الجمهورية العراقية‏(‏ التي ندعو الله تعالي أن يعجل بتحريرها من دنس الاحتلال الأنجلو أمريكي‏/‏ الصهيوني‏/‏ الصليبي الغاشم والبغيض في أقرب وقت ممكن إن شاء الله تعالي‏),‏ وتعرف محافظة نينوي اليوم باسم محافظة الموصل‏,‏ ومدينة نينوي كانت عاصمة الامبراطورية الآشورية بعد مدينة آشور‏,‏ ويرجع تاريخها إلي الألف السادسة قبل الميلاد‏,‏ وقد وصلت أوج ازدهارها في النصف الأول من الألف الأخيرة قبل الميلاد‏(‏ خاصة في الفترة من‏704‏ ق‏.‏ م إلي‏681‏ ق‏.‏ م‏)‏ ولكنها دمرت سنة‏612‏ ق‏.‏م‏.‏ وبقيت أطلالها علي الضفة الشرقية من نهر دجلة في مقابلة مدينة الموصل تقريبا‏,‏ ولا يفصلهما إلا النهر‏,‏ وإن سكنتها بعض القبائل حتي العصور الوسطي‏.‏ وكان أهل نينوي قد انتكسوا إلي عدد من الوثنيات القديمة وعبدوا الاصنام بعد ان عاشوا فترة علي التوحيد الخالص لله‏,‏ فبعث الله‏(‏ تعالي‏)‏ إليهم نبيه يونس‏(‏ عليه السلام‏)‏ يدعوهم إلي الإسلام القائم علي التوحيد الخالص لله‏(‏ بغير شريك‏,‏ ولاشبيه‏,‏ ولامنازع‏,‏ ولاصاحبة‏,‏ ولا ولد‏).‏
وأقام فيهم نبي الله يونس‏(‏ عليه السلام‏)‏ ردحا من الزمن يدعوهم إلي دين الله‏,‏ ويقدم لهم الدليل تلو الدليل‏,‏ ويقيم الحجة عليهم فلم يطيعوه‏...,‏ بل عصوه‏,‏ وكذبوا دعوته‏,‏ فهددهم بعذاب الله‏,‏ وتوعدهم به‏,‏ ثم خرج غاضبا من بين ظهرانيهم قبل أن يأذن الله‏(‏ تعالي‏)‏ له بالخروج فلامه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ علي ذلك‏,‏ حيث يقول وقوله الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وإن يونس لمن المرسلين‏*‏ إذ أبق إلي الفلك المشحون‏*‏ فساهم فكان من المدحضين‏*‏ فالتقمه الحوت وهو مليم‏*‏ فلولا أنه كان من المسبحين‏*‏ للبث في بطنه إلي يوم يبعثون‏*‏ فنبذناه بالعراء وهو سقيم‏*‏ وأنبتنا عليه شجرة من يقطين‏*‏ وأرسلناه إلي مائة ألف أو يزيدون‏*‏ فآمنوا فمتعناهم إلي حين‏*‏
‏(‏الصافات‏:139‏ ـ‏148)‏

وقال‏(‏ عز من قائل‏):‏
وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادي في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏*‏ فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين‏*‏
‏(‏ الأنبياء‏:87‏ ـ‏88)‏

ومعني هذه الآيات المباركات أن يونس‏(‏ عليه السلام‏)‏ حين خرج من نينوي مغاضبا لقومه ركب البحر في محاولة للابتعاد عنهم‏,‏ ولكن القرآن الكريم لم يحدد لنا اسم البحر‏,‏ ولذك تساءل المفسرون‏:‏ هل من الممكن ان يكون هو نهر دجلة؟‏,‏ أو إحدي البحيرات القريبة من نينوي مثل بحيرة أرميا في أقصي الشمال الغربي من إيران؟ أو البحر الأبيض المتوسط؟ والله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو وحده الذي يعلم حقيقة هذا الوسط المائي الذي التقم احد حيتانه العملاقة نبي الله يونس‏(‏ عليه السلام‏)‏ الذي مع هول المفاجأة ظل يردد لا إله إلا انت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجاب الله لاستغاثاته‏,‏ وامر‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ذلك الحوت ألا يهضم لعبده ونبيه يونس‏(‏ عليه السلام‏)‏ لحما‏,‏ وألا يهشم له عظما‏,‏ حتي يخرجه الله من الابتلاء الذي عرضه له سليما‏,‏ معافي‏,‏ فاهما لحقيقة الدرس الذي كان من أهدافه ألا يتصرف في شأن من شئون الدعوة بغير امر من الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏
وتروي لنا الآيات بعد ذلك أن الحوت لفظ عبد الله ونبيه يونس بن متي ملقيا به علي الساحل‏,‏ وهو في حالة من الإعياء والذهول والهزال الشديد‏,‏ لا يقوي القلم علي وصفها‏.‏ فأنبت الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عليه شجرة من يقطين‏,‏ أظلته‏,‏ وسترته‏,‏ وربما تناول شيئا من ثمارها فعافاه الله‏(‏ تعالي‏)‏ من سقمه‏,‏ وغفر له ماتقدم من ذنبه‏,‏ وهو‏(‏ سبحانه‏)‏ غفار الذنوب‏.‏

وهذه المعجزة التي احدثها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ لنبيه يونس‏(‏ عليه السلام‏)‏ معجزة إلهية حقيقية‏,‏ والمعجزات لا تعلل‏,‏ ولاتفسر‏,‏ لأنها خارقة لقوانين الدنيا‏,‏ وإن كان العلم يؤكد إمكانية ابتلاع احد حيتان البحر العملاقة لرجل‏,‏ وبقاء هذا الرجل حيا في فمه لبعض الوقت دون ان يصيبه أذي كبير‏,‏ ثم يلفظه الحوت‏,‏ خاصة إذا كان من نوع الهركول العملاق‏,‏ الذي يبلغ طوله نحوا من عشرين مترا‏,‏ ويتميز بأنه لا أسنان له‏,‏ وحلقه أضيق من إمكانية ابتلاع جسد الرجل‏.‏
ثم رأي قوم يونس‏,‏ بعد مغادرة نبيهم لأرضهم وهو مغاضب لهم أن إرهاصات العذاب الذي توعدهم به بدأت في الظهور‏,‏ فسارعوا بالتوبة إلي الله وبالإنابة إليه حتي كشف عنهم العذاب وعادوا مسلمين لله‏,‏ موحدين لجلاله‏,‏ مقيمين لشعائره‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلي حين‏*‏
‏(‏يونس‏:98).‏

وبعد خروجه من ابتلاءاته عاد يونس‏(‏ عليه السلام‏)‏ إلي قومه وقد شفاه الله وعافاه‏,‏ فوجدهم قد نبذوا الأصنام والأوثان‏.‏ وعادوا إلي توحيد الله‏(‏ تعالي‏)‏ وإلي عبادته وحده بما أمر‏,‏ فسعد بهم وسعدوا به‏,‏ وعاش بينهم داعيا إلي الله علي بصيرة حتي لقي ربه راضيا مرضيا‏.‏
وعاش أهل نينوي علي التوحيد الخالص لله حتي بعد وفاة نبيهم يونس‏(‏ عليه السلام‏),‏ ثم عاود الشيطان الوسوسة إليهم حتي اجتالهم‏,‏ وحرفهم عن دين الله‏,‏ وأعادهم بالتدريج إلي وثنيتهم الأولي فضلوا ضلالا بعيدا‏,‏ وإن بقي فيهم بعض الأحناف الذين احتفظوا ببقايا الحق القديم وكان منهم عداس الذي لقي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في طريق عودته من الطائف إلي مكة المكرمة وشهد لنبينا‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالنبوة‏.‏
ومع تفشي الشرك بالله‏,‏ والعودة إلي عبادة الأصنام والأوثان غضب الله علي أهل نينوي فسلط عليهم من دمر امبراطوريتهم في حدود سنة‏612‏ ق‏.‏ م‏.‏ فأصبحت أثرا بعد عين‏,‏ وأحاديث يرويها المؤرخون‏,‏ ودروسا يعتبر بها أصحاب البصائر والعقول إلي يومنا الراهن‏,‏ وإلي أن يشاء الله‏.‏

من الإشارات العلمية في سورة الصافات
جاء في سورة الصافات عدد من الإشارات العلمية التي يمكن إيجازها في النقاط التالية‏:‏
‏(1)‏ الإشارة إلي مابين السماوات والأرض‏,‏ علي ضخامة أبعاد السماوات‏,‏ وضآلة أبعاد الأرض‏,‏ مما يشير إلي مركزية الأرض بالنسبة إلي الكون‏,‏ وقد أشار إليها المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في أكثر من حديث‏,‏ ويعجز العلم الكسبي عن تحقيقها‏,‏ ووجود إشارات في التراث القديم لتلك الحقيقة قد يكون من بقايا الوحي السماوي الذي أنزله ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ قبل بعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏).‏
‏(2)‏ وصف الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لذاته العلية بأنه رب المشارق‏,‏ وفيه من الإشارات العلمية مايشمل كلا من كروية الأرض‏,‏ ودورانها حول محورها أمام الشمس‏,‏ وميل هذا المحور علي مستوي الدوران‏,‏ وجري الأرض في مدار محدد لها حول الشمس‏.‏

‏(3)‏ الإشارة إلي أن زينة السماء الدنيا هي الكواكب‏,‏ وفي مقام آخر يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين‏..*(‏ الملك‏:5)‏
وإجماع المفسرين وأهل العلم علي أن المقصود بالتعبير القرآني مصابيح هو النجوم‏,‏ والجمع بين النجوم‏,‏ والكواكب‏,‏ ورجوم الشياطين‏(‏ الشهب والنيازك‏)‏ فيه إشارة إلي وحدة البناء في الكون‏,‏ مما يشهد لله الخالق بالوحدانية فوق جميع خلقه‏,‏ وذلك لأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يخلق النجوم أمام أنظار الراصدين من دخان السماء بعلمه‏,‏ وحكمته‏,‏ وطلاقة قدرته‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ يعيد النجوم بانفجاراتها إلي دخان السماء‏,‏ والكواكب مفصولة أصلا عن النجوم‏,‏ والشهب والنيازك من نواتج انفجار الكواكب‏,‏ وهكذا‏.‏

‏(4)‏ الوصف القرآني للشهاب بأنه شهاب ثاقب بمعني ثقبه للغلاف الغازي للأرض بتحركه فيه بسرعات كونية هائلة قبل احتراقه بالكامل فيه إشارة إلي تلك السرعات الفائقة التي تتحرك بها النيازك والشهب‏.‏
‏(5)‏ الإشارة القرآنية إلي خلق الإنسان من طين لازب تؤكدها كل الدراسات العلمية المتقدمة‏.‏

‏(6)‏ ذكر عدد كبير من الأنبياء والمرسلين السابقين علي بعثة الرسول الخاتم‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏),‏ وسرد جوانب من قصصهم وأحوال أممهم بهذه الدقة التاريخية المذهلة‏,‏ ودون أدني خطأ‏,‏ وذلك من قبل أكثر من ألف وأربعمائة من السنين‏,‏ وفي أمة لم تكن أمة تدوين‏,‏ وبدقة تفتقر إليها مابقي بين أيدي الناس اليوم من صحائف أهل الكتاب‏.‏
‏(7)‏ اختيار شجرة من يقطين ـ دون غيرها من أنواع النباتات ـ وجعلها سترا وظلالة لنبي الله يونس‏(‏ عليه السلام‏)‏ بعد ان انقذه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ من فم الحوت فنبذناه بالعراء وهو سقيم‏*(‏ الصافات‏:145)‏

بعد أن كان قد التقمه‏,‏ مما يشير إلي ما في اليقطينيات من فوائد علاجية وغذائية لمن كان في مثل ظروف نبي الله يونس في أثناء ابتلائه بالحوت‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الأخيرة في القائمة السابقة‏,‏ وقبل الوصول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هاتين الآيتين الكريمتين اللتين اتخذتا عنوانا لهذا المقال‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
فنبذناه بالعراء وهو سقيم‏*‏ وأنبتنا عليه شجرة من يقطين‏*‏
‏(‏الصافات‏:146,145).‏

‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:(‏ فنبذناه‏)‏ أي ألقيناه‏(‏ بالعراء‏)‏ قال ابن عباس‏:‏ هي الأرض التي ليس بها نبت ولا بناء‏,‏ قيل علي جانب دجلة‏,‏ وقيل بأرض اليمن‏,‏ والله أعلم‏,(‏ وهو سقيم‏)‏ أي ضعيف البدن‏...(‏ وأنبتنا عليه شجرة من يقطين‏)‏ قال ابن مسعود وابن عباس‏:(‏ اليقطين‏)‏ هو القرع‏,‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين‏,‏ وفي رواية عنه‏:‏ كل شجرة تهلك من عامها فهي من اليقطين‏,‏ وذكر بعضهم في القرع فوائد‏:‏ منها سرعة إنباته‏,‏ وتظليل ورقه لكبره ونعومته‏,‏ وأنه لايقربه الذباب‏,‏ وجودة تغذية ثمره‏,‏ وأنه يؤكل نيئا ومطبوخا بلبه وقشره أيضا‏,‏ وقد ثبت ان رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ كان يحب الدباء‏,‏ ويتبعه من حواشي الصفحة‏....‏
‏*‏ وجاء في كل من تفسير الجلالين‏,‏ والظلال‏,‏ وصفوة البيان لمعاني القرآن‏,‏ والمنتخب في تفسير القرآن الكريم وصفوة التفاسير كلام مشابه لكلام ابن كثير‏,‏ ولا أري حاجة إلي تكراره هنا‏.‏

من الدلالات العلمية للآيتين الكريمتين
بتأمل هاتين الآيتين الكريمتين اللتين اتخذناهما عنوانا لهذا المقال يتبادر إلي الذهن اختيار الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ للتعبير القرآني شجرة من يقطين لحماية عبده ونبيه يونس بن متي‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ بعد أن نبذه الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالعراء وهو سقيم‏,‏ أي‏:‏ وهو منهك القوي من شدة المرض‏,‏ وهذا التنكير في الاشارة إلي شجرة اليقطين يفيد بأن الشجرة من جنس اليقطين الذي عرفه العرب ومنه كل من قرع الكوسة‏,‏ والحنظل‏,‏ وليست نوعا محددا بذاته‏.‏
واليقطين ينتمي إلي مجموعة من النباتات العشبية‏,‏ الزاحفة‏,‏ التي تفترش الأرض‏,‏ ومنها ماله قدرة علي التسلق بواسطة عدد من المحاليق الملتوية‏,‏ التي تخرج من جوانب الساق بالقرب من أعناق الأوراق‏,‏ ومنها الحولي‏,‏ ومنها المعمر‏,‏ وتمتاز كلها بالسيقان العشبية الخماسية الأضلاع‏,‏ وبالأوراق الكبيرة‏,‏ الشبيهة براحة الكف‏(‏ الراحية‏),‏ وهي مفصصة‏,‏ ومتبادلة‏,‏ ولها أعناق طويلة‏,‏ بغير أذينات‏;‏ وتمتاز بالوبر الكثيف الذي يغطي كلا من السيقان والأوراق‏,‏ والزهور الأحادية الجنس‏(‏ أي المؤنثة أو المذكرة‏)‏ التي تخرج من آباط الأوراق‏,‏ وبالثمار اللبية‏/‏ الشحمية‏,‏ المتباينة الأشكال‏,‏ والأحجام‏,‏ والألوان‏,‏ والطعوم والروائح‏,‏ والحاوية لأعداد من البذور‏.‏

وهذه النباتات تنطوي كلها في عائلة واحدة تعرف باسم العائلة اليقطينية أو القرعية‏,‏ وفي رتبة واحدة تعرف باسم رتبة اليقطينيات‏.‏ أو القرعيات‏,‏ وتضم حوالي المائة جنس يمثل كل منها بعشرة أنواع علي الاقل‏,‏ أي تحتوي علي حوالي الألف نوع‏,‏ تنتشر في المناطق المدارية‏,‏ وشبه المدارية من الكرة الأرضية‏,‏ ومن أمثلتها‏:‏
قرع الكوسة‏(‏ أو الدباء‏),‏ القرع العسلي‏,‏ العجور‏,‏ الخيار‏,‏ الشمام‏,‏ البطيخ‏,‏ القاوون‏,‏ قرع الأواني‏(‏ أو قرع الزجاجة‏),‏ الليف‏,‏ والحنظل‏.‏
ولما كانت هذه النباتات كلها من النباتات العشبية‏,‏ ومن ثم يصعب وصفها بالأشجار‏,‏ لأنه من المتعارف عليه أن الأشجار لها سيقان خشبية قوية‏,‏ قائمة بذاتها‏,‏ واليقطينيات سيقانها طرية‏,‏ وغير قائمة بذاتها‏,‏ يمكن افتراض ان الشجرة التي أنبتها الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ علي عبده ونبيه يونس بن متي كانت شجرة خاصة تجمع بين صفات اليقطينيات وصفات الشجر‏,‏ ولكن لما كان القرآن الكريم قد عبر بالتعبيرين شجرة وأشجار عن النبات عموما‏,‏ كما عبر بالتعبيرين دابة ودواب عن عالم الحيوان بأكمله‏,‏ لانري حاجة لهذا الافتراض‏.‏ وإن كان في المنظور العلمي لا يوجد مايمنع اليقطينيات من إمكانية التواجد علي هيئة شجرية‏,‏ علي الرغم من ضخامة ثمارها التي قد يصل وزن الواحدة منها إلي أكثر من عشرة كيلو جرامات‏,‏ وقد أفلحت التجارب الزراعية بالفعل في تحقيق نمو بعض النباتات العشبية في هيئة قائمة إما بمساعدة الأسلاك بداخل الصوب النباتية‏,‏ أو بالمعالجة ببعض الهرمونات‏,‏ أو باستخدام بعض وسائط الهندسة الوراثية‏.‏

وأنبتنا عليه شجرة من يقطين‏*‏
من المقطوع به أن الشجرة التي أنبتها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ ليظلل بها علي عبده ونبيه يونس بن متي‏,‏ ويستره بأوراقها الكبيرة‏,‏ ويداويه من سقمه بما في أوراقها‏,‏ وزهورها‏,‏ وثمارها‏,‏ وأغصانها‏,‏ وسيقانها‏,‏ وعصائرها من مركبات هي شجرة خاصة معجزة‏,‏ أنبتها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بأمره الذي لايرد‏,‏ إلا أن الصياغة القرآنية‏:‏ شجرة من يقطين توحي بأن المقصود هو عموم اليقطين الذي نعرفه‏.‏ وهنا يظهر التساؤل المنطقي‏:‏ وماذا في اليقطينيات من علاج للحالات المماثلة للحالة التي مر بها نبي الله يونس‏(‏ عليه السلام‏)‏ بعد أن التقمه الحوت ولفظه بالعراء وهو سقيم‏,‏ أي مريض منهك القوي؟
وقد حاول الأخ الكريم الدكتور كمال فضل الخليفة‏(‏ الأستاذ المشارك لعلم النبات بجامعة الخرطوم‏)‏ الإجابة عن هذا السؤال في رسالتين جامعيتين تمتا تحت إشرافه للحصول علي درجة الماجستير في العلوم‏,‏ وأعد موجزا عن نتائجهما في مقال بعنوان اليقطينيات وقاية وعلاج وغذاء نشره في العدد الرابع عشر من مجلة الإعجاز العلمي الصادر بتاريخ الأول من ذي القعدة سنة‏1423‏ هـ‏.‏

وفي هذا المقال ذكر الباحث أنه اختار أربعا من اليقطينيات المشهورة في البلاد العربية وهي‏:‏ قرع الأواني‏,‏ والقرع العسلي‏,‏ والعجور‏,‏ والحنظل‏,‏ وقام بزراعتها وتعهدها حتي أثمرت‏,‏ وجني ثمارها‏,‏ وفي هذه المراحل المختلفة قام بتحضير مستخلصات من مختلف أجزاء هذه النباتات الأربع مستخدما كلا من الماء‏,‏ والكحول الميثانولي‏,‏ والكلوروفورم في كل حالة‏,‏ وتم له اختبار تلك المستخلصات ضد أربعة أنواع مختلفة من البكتيريا فأظهرت جميعها فعالية واضحة في مقاومتها مع اختلاف درجة تلك المقاومة باختلاف نوع النبات‏,‏ واختلاف الأجزاء المختارة منه‏,‏ والسائل المستخدم في عملية تجهيز المستخلصات‏,‏ ونوع البكتريا‏.‏
وكانت أعلي درجات المقاومة من المستخلصات المستمدة من الزهور بصفة عامة‏,‏ ومن زهور وثمار الحنظل بصفة خاصة‏,‏ ثم من أوراق القرع العسلي‏,‏ وكان الكحول الميثانولي أفضل سوائل الاستخلاص‏.‏

كذلك أثبت الباحث الأثر الواضح لليقطينيات الأربع المدروسة في مقاومة وطرد بعض الحشرات من مثل الذبابة المنزلية‏,‏ وآفات المخازن‏,‏ وفي الوقاية من الأمراض التي يمكن لهذه الحشرات ان تنقلها‏.‏
وقد ثبت ان هذه المقدرة علي مقاومة الحشرات مردها إلي وجود العديد من المركبات الكيميائية المهمة التي لها تأثير وقائي وطبي واضح في مقاومة وعلاج العديد من الالتهابات الجلدية وتقرحاتها والامراض التي يمكن ان تنتج عن ذلك وقد ثبت بالفعل أن هذه المركبات الكيميائية لها تأثيراتها الفاعلة في علاج عدد من أمراض الجهازين الهضمي والبولي‏,‏ وفي مقاومة بعض الأمراض السرطانية‏(‏ عافانا الله جميعا منها‏).‏ هذا بالاضافة إلي القيمة الغذائية العالية لثمار اليقطينيات المأكولة والقيمة الطبية للثمار التي لا تؤكل مثل ثمار الحنظل‏.‏
وهنا تتضح روعة الإشارة القرآنية المبهرة في قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
وأنبتنا عليه شجرة من يقطين‏*‏
‏(‏الصافات‏:146)‏

خاصة إذا أدركنا أن القرآن الكريم قد أنزل منذ أكثر من ألف وأربعمائة من السنين علي نبي أمي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين‏.,‏ فمثل هذه الومضات النورانية في كتاب الله انزلها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ شاهدة له‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بطلاقة القدرة علي الخلق‏,‏ وعلي البعث‏,‏ ومؤكدة ألوهيته‏,‏ وربوبيته‏,‏ ووحدانيته‏,‏ وشاهدة للقرآن الكريم بأنه لايمكن ان يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وتعهد بحفظه بنفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏),‏ فبقي محفوظا بحفظ الله كلمة كلمة‏,‏ وحرفا حرفا علي مدي يزيد علي أربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏,‏ وتبقي هذه الإشارات العلمية في كتاب الله حجة علي أهل عصرنا وشاهدة لسيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالنبوة وبالرسالة‏,‏ وبأنه‏(‏ صلوات الله وسلامه عليه‏)‏ كان موصولا بالوحي‏,‏ ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض‏.‏
فالحمدلله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمدلله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمدلله علي بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين الذي أرسله الله رحمة للعالمين‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه‏,‏ وعلي آله وصحبه‏,‏ ومن تبع هداه‏,‏ ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين‏.‏