93)‏ والتين والزيتون‏.‏ وطور سينين‏.‏ وهذا البلد الأمين
بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هــذه الايات المباركات جاءت في مطلع سورة التين‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ ومن قصار السور في القرآن الكريم إذ يبلغ عدد اياتها ثماني آيات فقط بعد البسملة‏.‏
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضيتين رئيسيتين‏:‏ أولاهما هي قضية تكريم الله للإنسان بخلقه في أحسن تقويم‏,‏ وعلي فطرة مستقيمة مع حقيقة الأخوة الإنسانية التي تنتهي كلها إلي آدم‏(‏ عليه السلام‏),‏ وآدم من تراب كما أخبرنا المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ ومستقيمة أيضا مع حقيقة الإيمان بالله ربا‏,‏ وبالإسلام دينا‏,‏ وبالنبوة والرسالة السماوية منهجا في التبليغ عن الله الخالق الباريء المصور‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ومن ثم الإيمان بأنبياء الله ورسله أجمعين وبما أرسلوا به من دين يحوي الإجابات الشافية عن التساؤلات الكلية التي تشغل بال الإنسان طيلة حياته ـ قلت ثقافته أو زادت‏,‏ وعلا قدره في المجتمع أو انحط ـ من مثل قضايا العقيدة‏,‏ والعبادة‏,‏ والأخلاق‏,‏ والمعاملات التي تشكل صلب الدين‏,‏ والتي لا يقوي الإنسان علي وضع أية ضوابط صحيحة لنفسه فيها‏,‏ إما لكونها من صميم الغيب المطلق كقضايا العقيدة‏,‏ أو الأوامر الإلهية المطلقة كقضايا العبادة‏,‏ أو لكونها ضوابط للسلوك كقضايا الأخلاق والمعاملات‏,‏ والإنسان كان دوما عاجزا عن وضع ضوابط لسلوكه من تصوراته وتقديراته الشخصية‏,‏ ومن هنا كانت ضرورة الدين لاستقامة حياة الإنسان علي الأرض
‏,‏ ومن هنا أيضا كان لازما للدين كي يكون دينا صحيحا قادرا علي تربية الإنسان تربية صالحة‏,‏ وعلي ضبط حركة الحياة ضبطا عادلا أن يكون بيانا ربانيا خالصا لا يداخله أدني قدر من التصورات البشرية‏,‏ وبذلك يتضح الفرق بين دين صحيح ودين غير صحيح‏...!!‏ وتتجلي قيمة الإيمان الكامل في حياة الإنسان‏,‏ ذلك المخلوق المكرم الذي قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في حقه‏:‏
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا‏*.‏
‏(‏ الإسراء‏:70)‏

وهذا الإنسان المكرم جعله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ مخلوقا ذا إرادة حرة‏,‏ حتي يؤجر علي كل خير يفعله‏,‏ ويجازي علي كل خطأ يقترفه‏,‏ وهيأه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لذلك تهيئة كاملة بالروح والنفس‏,‏ والعاطفة والعقل‏,‏ وبمختلف الحواس‏,‏ وجعل حرية الاختيار عنده من مناطات التكريم ووسائل التقييم لعمله‏,‏ فكلما التزم الإنسان بالمنهج الذي وضعه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ له‏,‏ واستقام عليه وصل إلي درجات من الكمال الإنساني الذي لا يقوي كثير من الخلق علي الوصول إليه‏.‏ وليس أدل علي ذلك من قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في الحديث القدسي‏:‏
ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتي أحبه فأكون سمعه الذي يسمع به‏,‏ وبصره الذي يبصر به‏,‏ ولسانه الذي ينطق به‏,‏ وقلبه الذي يعقل به‏,‏ فإذا دعاني أجبته‏,‏ وإذا سألني أعطيته‏,‏ وإذا استنصرني نصرته‏,‏ وأحب ما تعبدني عبدي به النصح لي‏.(‏ رواه الطبراني في الكبير عند أبي أمامة‏)‏

ويدل علي ذلك أيضا وقوف جبريل‏(‏ عليه السلام‏)‏ عند مقام لم يتجاوزه في رحلة المعراج‏,‏ وتجاوزه المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ لقول جبريل له‏:‏ تقدم أنت فإني لو تقدمت لاحترقت‏,‏ ولو تقدمت أنت لاخترقت وهو مقام لم ينله أحد من الخلق من قبل ولا من بعد‏.‏
وهذا التكريم الذي أعطاه الله‏(‏ تعالي‏)‏ للإنسان كلما ارتقي بملكاته البشرية في معراج الله‏,‏ يمكن أن ينقلب إلي ضده تماما إذا انتكس الإنسان بفطرته‏,‏ وانحط باختياره وإرادته عن مقامات ذلك التكريم فهوي بنفسه إلي أسفل سافلين‏,‏ في الدنيا بشقائه فيها‏,‏ وفي الآخرة بإلقائه إلي الدرك الأسفل من النار‏,‏ ولذلك قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم‏*‏ ثم رددناه أسفل سافلين‏*‏ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون‏*.‏
‏(‏ التين‏:4‏ ـ‏6)‏

ومن الدلالات المستوحاة من هذه الآيات الكريمة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد خلق الإنسان في أحسن هيئة‏,‏ وأنسب قامة‏,‏ وأعدل صورة‏,‏ وزوده بالعقل والجوارح‏,‏ والأحاسيس‏,‏ والمشاعر‏,‏ وبالقدرة علي اكتساب المعارف والمهارات‏,‏ كما زوده بالإرادة الحرة‏,‏ وبغير ذلك من الصفات والمواهب والقدرات التي تعينه علي القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض‏,‏ وتنمو معه حتي تصل إلي أوجها في مرحلة الشباب‏,‏ ثم تبدأ في التناقص التدريجي والذبول مع الكبر في السن حتي إذا وصل الإنسان إلي أرذل العمر أدركه الضعف بعد القوة‏,‏ والعجز بعد القدرة‏,‏ فإذا كان من الكفار أو المشركين أو العصاة الضالين أوكله الله‏(‏ تعالي‏)‏ إلي ضعفه وعجزه البشريين‏,‏ وإذا كان من المؤمنين الصالحين فإن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ يكرم شيبته‏,‏ ويجبر تقصيره‏,‏ ويوفيه حقه كاملا غير منقوص حتي لو لم تمكنه قدراته من أداء عباداته علي الوجه الأمثل‏,‏ وفي ذلك يروي عن ابن عباس‏(‏ رضي الله عنهما‏)‏ قوله أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏ إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجزه عن العمل كتب له ما كان يعمل‏.‏ كذلك روي البخاري عن أبي موسي الأشعري‏(‏ رضي الله تعالي عنه‏)‏ قوله‏:‏ أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏ إذا مرض العبد أو سافر كتب له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما‏.‏

فسواء كان المقصود بالارتداد إلي أسفل السافلين في الآية الكريمة هو الارتداد في الدنيا إلي أرذل العمر وما فيه من ضعف وعجز بعد قوة وقدرة‏,‏ يتدارك فيه الله‏(‏ تعالي‏)‏ برحمته كل مؤمن صالح ويدع كل كافر ومشرك لقدره‏,‏ أو كان المقصود الارتداد إلي الآخرة وأهوالها وعذابها حيث ينجي الله برحمته المؤمنين الصالحين ويوفيهم أجورهم بغير نقص ولا منة‏,‏ ويلقي بالكافرين والمشركين والمنافقين الضالين وعتاة المجرمين إلي أسفل دركات النار‏,‏ فالآيات الكريمة تتسع للمعنيين معا ولما هو فوقهما من معان في نفس السياق‏,‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ أعلي وأعلم‏.‏
والقضية الثانية التي يدور حولها محور سورة التين هي قضية الدين الذي أنزله ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي فترة من الرسل تجاوز عددهم الثلاثمائة وخمسة عشر رسولا‏,‏ اختارهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ من بين مائة وعشرين ألف نبي‏,‏ بعثوا كلهم بالإسلام‏,‏ ودعوا إلي توحيد الله الخالق بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة ولا ولد‏,‏ وإن اختلفت تفاصيل التشريعات من عصر إلي آخر‏,‏ إلا أن دعوتهم جميعا لأممهم كانت بلا أدني خلاف هي‏:‏

‏..‏ ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره‏..‏
‏(‏الأعراف‏:85,73,65,59,‏ هود‏:84,61,50)‏
وقد أكمل ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ رسالته إلي خلقه وأتمها وختمها ببعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم‏,‏ سيد الأولين والآخرين‏,‏ سيدنا محمد بن عبدالله‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏).‏ ولكونها الرسالة الخاتمة فقد أنزل ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ البشري بها في الرسالات السابقة علي نزولها‏,‏ وتعهد‏(‏ جلت قدرته‏)‏ بحفظها بنفس لغة وحيها‏(‏ اللغة العربية‏),‏ فحفظت حرفا حرفا‏,‏ وكلمة كلمة‏,‏ علي مدي يزيد علي الأربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏.‏

وهذا الحفظ بذاته هو ضرب من الاعجاز الذي لم تتمتع به الكتب السماوية الأخري‏,‏ وقد ترك حفظها لأقوامها فضيعوها بالكامل‏,‏ أو عرضوها لقدر من التحريف الذي أخرجها عن إطارها الرباني وجعلها عاجزة عن هداية البشرية‏,‏ وليس أدل علي ذلك من بحار الدم والخراب والدمار الذي تغرق فيه أرض فلسطين اليوم باسم موسي ويعقوب واسحاق وابراهيم‏(‏ عليهم من الله السلام‏)‏ وهم من ذلك براء‏,‏ والذي يغرق أرض كل من العراق وأفغانستان باسم عيسي بن مريم‏(‏ عليه السلام‏),‏ وهو برئ مما يرتكبون من جرائم وآثام وتعديات علي أبسط حقوق الانسان‏...,‏ والذي يغرق كثيرا من أهل الأرض المستضعفين باسم الدين‏,‏ والدين من هؤلاء المعتدين براء‏...!!‏
ولذلك جاء الخطاب في ختام سورة التين موجها إلي كل كافر ومشرك بصيغة من صيغ الاستفهام الاستنكاري التوبيخي التقريعي يقول فيها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

فما يكذبك بعد بالدين‏*‏ أليس الله بأحكم الحاكمين‏*‏
‏(‏ التين‏:8,7)‏
أي‏:‏ فأي شئ يضطرك أيها الكافر أو المشرك إلي الكفر بالله‏(‏ تعالي‏)‏ أو الشرك به‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بعد ما تبينت لك شواهد قدرته المبدعة في الخلق‏,‏ والدالة دلالة قاطعة علي قدرته‏(‏ تعالي‏)‏ علي البعث بعد الموت‏,‏ وعلي الحساب والجزاء في الآخرة‏,‏ وهي من الحقائق التي نزلت بها كل رسالات السماء‏,‏ وأكدتها الرسالة الخاتمة المحفوظة بحفظ الله‏,‏ مما يضع كل كافر ومشرك وظالم في هذه الحياة في مصاف المكذبين بالدين‏,‏ المنكرين لحقيقة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو أحكم الحاكمين‏,‏ الذي أتقن كل شئ خلقه‏,‏ وأحكم قضاء كل أمر بالحق‏,‏ وبالعدل بين الخلق‏,‏ والاستفهام في ختام هذه السورة المباركة هو من نوع الاستفهام التقريري لما جاء بعد النفي‏,‏ ولذلك يروي عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قوله الشريف‏:..‏ فإذا قرأ أحدكم‏(‏ والتين والزيتون‏)‏ فأتي آخرها‏:(‏ أليس الله بأحكم الحاكمين‏)‏ فليقل‏:‏ بلي وأنا علي ذلك من الشاهدين‏.‏

وروي مالك عن البراء بن عازب قال‏:‏ كان النبي صلي الله عليه وسلم يقرأ في سفره في إحدي الركعتين بالتين والزيتون‏,‏ فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه‏.‏
وسورة التين هي السورة القرآنية الوحيدة التي سميت باسم ثمرة من ثمار الفاكهة‏,‏ ومن الثمار النباتية علي الإطلاق‏,‏ وقد ذكر فيها التين مرة واحدة‏,‏ وهي المرة الوحيدة التي ذكر فيها التين في القرآن الكريم‏,‏ بينما جاء ذكر كل من الزيتون وزيته في ست آيات قرآنية أخري‏,‏ وبذلك يكون التين قد ذكر في القرآن الكريم مرة واحدة‏,‏ بينما ذكر الزيتون وزيته سبع مرات‏.‏

وتبدأ السورة بقسم من الله‏(‏ تعالي‏)‏ بكل من التين والزيتون‏,‏ وربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ غني عن القسم لعباده‏,‏ ولكن المقصود من القسم هو التنبيه إلي الأهمية الغذائية الكبري لهاتين الثمرتين المباركتين وإلي بركة منابتهما الأصلية‏.‏
فقد روي عن ابن عباس‏(‏ رضي الله عنهما‏)‏ قوله‏:‏ هو تينكم الذي تأكلون‏,‏ وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت ولكن نظرا للعطف علي هذا القسم بقسم آخر‏,‏ بمكانين مباركين هما طور سينين‏,‏ والبلد الأمين في قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
والتين والزيتون‏*‏ وطور سينين‏*‏ وهذا البلد الأمين‏*.(‏ التين‏:1‏ ــ‏3)‏

لجأ بعض المفسرين إلي استنتاج الدلالة بالتين والزيتون علي منابتهما الأصلية من الأرض‏.‏ فطور سينين هو الجبل الذي نودي موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ من جانبه في شبه جزيرة سيناء‏(‏ أو سينا‏)‏ ومعناها في اللغة المباركة الحسنة‏,‏ والجبل معروف اليوم باسم جبل موسي‏(‏ أو جبل المناجاة‏),‏ والبلد الأمين هو مكة المكرمة‏,‏ وحرمها الآمن‏,‏ وبها الكعبة المشرفة‏,‏ أول بيت وضع للناس‏,‏ وعلاقة هذين المكانين المباركين بوحي السماء لاينكرها إلا جاحد للحق‏.‏
وعطف القسم بهذين المكانين المباركين علي القسم بكل من التين والزيتون أوحي إلي عدد من المفسرين إلي الاستنتاج بأن القسم بهاتين الثمرتين قد يتضمن من أحد جوانبه الإشارة إلي كرامة منابتهما الأصلية من الأرض‏,‏ وذلك من مثل كل من بيت المقدس وبجواره طور زيتا‏,‏ وبه المسجد الأقصي المبارك الذي ندعو الله‏(‏ تعالي‏)‏ أن يطهره من دنس اليهود‏,‏ وأن يحرره ويحرر أرض فلسطين كلها من احتلالهم الجائر البغيض‏,‏ ويحرر جميع أراضي المسلمين المحتلة والمغصوبة من ربقة المحتلين والغاصبين من الكفار والمشركين‏,‏ أعداء الله وأعداء الدين‏(‏ اللهم آمين آمين آمين يارب العالمين‏).‏

ومن أشهر منابت كل من التين والزيتون‏(‏ بأنواعهما المتميزة‏)‏ بلاد الشام وجنوب شرقي تركيا‏,‏ والأولي بها طور تينا بجوار دمشق‏,‏ وهي أرض المحشر‏,‏ والثانية بها مرسي سفينة نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ وبقايا مسجده علي جبل الجودي‏.‏
وعلي الجانب الآخر فإن كلا من طور سيناء‏,‏ وبيت المقدس‏,‏ ومكة المكرمة قد بعث الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ فيه نبيا من أنبيائه ورسولا من أولي العزم من رسله‏,‏ فبيت المقدس بعث الله‏(‏ سبحانه و تعالي‏)‏ فيه عبده ونبيه ورسوله عيسي بن مريم‏(‏ عليهما السلام‏),‏ وطور سينين كلم الله‏(‏ جلت قدرته‏)‏ عنده عبده ونبيه ورسوله موسي بن عمران‏(‏ عليه السلام‏),‏ ومكة المكرمة زارها معظم أنبياء الله ورسله‏,‏ ومدفون بها عدد كبير منهم‏,‏ ثم بعث الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيها خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

وإن كانت الصياغة القرآنية في مطلع سورة التين واضحة الدلالة علي الثمرتين اللتين تؤكلان باسم التين والزيتون‏,‏ إلا أن ذلك لاينفي الإشارة إلي منابتهما من الأرض حتي يرتبط السياق بالقسم التالي بمكانين من أشرف أماكن الأرض‏,‏ وفيها مكة المكرمة أشرفها علي الإطلاق‏.‏
وبعد القسم بكل من التين‏,‏ والزيتون‏,‏ وطور سينين‏,‏ والبلد الأمين يأتي جواب القسم بالأمر المقسم عليه وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم‏*‏ ثم رددناه أسفل سافلين‏*‏ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون‏*‏
‏(‏التين‏:4‏ ــ‏6)‏

ثم ختمت السورة الكريمة باستفهام استنكاري‏,‏ توبيخي‏,‏ تقريعي لكل كافر ومشرك وظالم وضال عن الحق يقول فيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
فما يكذبك بعد بالدين‏*‏ أليس الله بأحكم الحاكمين‏*(‏ التين‏:8,7)‏

ولا نملك هنا إلا أن نقول‏:‏ بلي‏,‏ وأنا علي ذلك من الشاهدين كما علمنا خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

من أسس العقيدة في سورة التين
‏(1)‏ أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ خلق الإنسان في أحسن تقويم‏,‏ ثم يرد الكفار والمشركين والظلمة الطاغين المتجبرين علي الخلق‏,‏ والعصاة الضالين المضلين المفسدين في الأرض إلي أسفل سافلين في الدنيا بضعفهم وهزالهم وأمراضهم عند الكبر خاصة عندما يردون إلي أرذل العمر‏,‏ وفي الآخرة عندما يدعون إلي الدرك الأسفل من النار دعا‏,‏ أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيكرمهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ في الدنيا برعايته وعنايته وفضله وكرمه وجوده ومنه وعطائه وإحسانه‏,‏ ورحمته‏,‏ وفي الآخرة بإدخالهم في نعيم جناته ورضوانه‏,‏ وبإعطائهم أجورهم كاملة غير منقوصة‏,‏ ولا ممنونة‏.‏
‏(2)‏ أن الدين الوحيد الذي يرتضيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ من عباده هو الاسلام الذي أنزله ربنا‏(‏ تقدست أسماؤه‏)‏ علي فترة من الرسل‏,‏ ثم أكمله وأتمه وحفظه بنفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ في رسالته الخاتمة التي بعث بها النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏).‏

‏(3)‏ أن الإيمان الصادق يستتبع العمل الصالح‏.‏
‏(4)‏ أن الذي يكذب بالدين الخاتم مطرود من رحمة رب العالمين‏,‏ محكوم عليه بالشقاء في الدنيا والآخرة‏,‏ وإن كثر ماله وجاهه وسلطانه‏.‏
‏(5)‏ أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو أحكم الحاكمين‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة التين
‏(1)‏ القسم بكل من التين والزيتون إشارة إلي ما فيهما من قيمة غذائية كبيرة وتكامل في المحتوي كغذاء للإنسان‏.‏ وإشارة كذلك إلي بركة منابتهما الأصلية وهي من الأماكن المقدسة في الإسلام‏,‏ منذ خلق الله السموات والأرض‏.‏
‏(2)‏ القسم بطور سينين وهو الجبل المكسو بالخضرة الذي كلم الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عبده ونبيه ورسوله موسي بن عمران من جانبه‏,‏وهو بالقطع مكان مبارك‏.‏

‏(3)‏ القسم بالبلد الأمين وهو مكة المكرمة‏,‏ وحرمها الآمن‏,‏ وبها الكعبة المشرفة‏,‏ أول بيت وضع للناس والعلوم المكتسبة تثبت شرف المكان وتميزه علي جميع بقاع الأرض‏.‏
‏(4)‏ الإشارة إلي خلق الإنسان في أحسن تقويم‏.‏

‏(5)‏ الإشارة إلي إمكانية ارتداد الإنسان إلي أسفل سافلين في الدنيا والآخرة‏,‏ وهو أشرف مخلوقات الله إذا كان مؤمنا صالحا‏,‏وأحقر هذه المخلوقات وأبغضها إلي الله إذا كان كافرا أو مشركا أو ظالما متجبرا‏,‏ أوفاسقا فاجرا‏,‏ والعلوم السلوكية تثبت هذا الارتداد الدنيوي إلي أسفل سافلين عند كثير من البشر في أيامنا هذه‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي القسم الذي جاء بالآيات الثلاث الأولي من هذه السورة المباركة‏,‏ ولكن قبل البدء في ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآيات الثلاث‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏)‏
والتين والزيتون‏*‏ وطور سينين‏*‏ وهذا البلد الأمين‏*‏
‏(‏التين‏:1‏ ــ‏3)‏
‏*‏ ذكر الطبري‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:(‏ والتين والزيتون‏)‏ قيل هو التين الذي يؤكل‏,‏ والزيتون الذي يعصر‏,‏ أقسم الله بهما‏,‏ وجاء فيه اختلاف‏(‏ وطور سينين‏)‏ جبل معروف‏,‏ قيل هو جبل موسي عليه السلام ومسجده‏(‏ وهذا البلد الأمين‏)‏ الآمن من أعدائه أن يحاربوا أهله أو يغزوهم‏,‏ عني به مكة المكرمة‏....‏

‏*‏ وجاء في مختصر تفسير ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما نصه‏:‏ اختلف المفسرون ههنا علي أقوال كثيرة فقيل‏:‏ المراد بالتين دمشق‏,‏ وقيل‏:‏ الجبل الذي عندها‏,‏ وقال القرطبي‏:‏ هو مسجد أصحاب الكهف‏,‏ وروي عن ابن عباس‏:‏ أنه مسجد نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ الذي علي الجودي‏,‏ وقال مجاهد‏:‏ هو تينكم هذا‏,(‏ والزيتون‏)‏ قال قتادة‏:‏ هو مسجد بيت المقدس‏,‏ وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ هو هذا الزيتون الذي تعصرون‏,(‏ وطور سينين‏)‏ هو الجبل الذي كلم الله عليه موسي عليه السلام‏,(‏ وهذا البلد الأمين‏)‏ يعني مكة‏,‏ قال ابن عباس ومجاهد‏,‏ وقال بعض الأئمة‏:‏ هذه محال ثلاثة‏,‏ بعث الله في كل واحد منها نبيا مرسلا من أولي العزم‏,‏ أصحاب الشرائع الكبار‏.(‏ فالأول‏)‏ محلة التين والزيتون وهي‏(‏ بيت المقدس‏)‏ التي بعث الله فيها عيسي بن مريم ـ عليه السلام ـ و‏(‏الثاني‏)‏ طور سينين وهو‏(‏ طور سيناء‏)‏ الذي كلم الله عليه موسي بن عمران‏,(‏ والثالث‏)‏ مكة المكرمة وهي‏(‏ البلد الأمين‏)‏ الذي من دخلة كان آمنا‏,‏ وهو الذي أرسل فيه محمدا‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)..‏
‏*‏ وجاء في كل من تفسير الجلالين‏,‏ والظلال‏,‏ وصفوة البيان‏,‏ والمنتخب‏,‏ وصفوة التفاسير كلام مشابه مع التركيز علي رأي دون الآخر ولا أري حاجة إلي تكرار ذلك هنا‏.‏

من الدلالات العلمية للآيات القرآنية الكريمة في مطلع سورة التين
أولا‏:‏ في القسم بالتين‏:‏
يبدو ــ والله‏(‏ تعالي‏)‏ أعلم ــ أن القسم بالتين جاء لتنبيهنا إلي ما في هذه الثمرة المباركة من إعجاز في خلقها‏,‏ ومن منافع جمة في تناولها كغذاء‏.‏

من إعجاز الخلق في ثمرة التين‏:‏
ثمرة التين هي ثمرة غير حقيقية مركبة‏,‏ تتكون نتيجة لنمو نورة مخروطية الشكل تحوي بداخلها الأزهار المؤنثة التي تبطن جدار النورة من الداخل‏,‏ والأزهار المذكرة التي تنتشر حول الفتحة الخارجية للنورة‏,‏ وهي فتحة ضيقة في أعلي النورة‏,‏ وتنضج الأزهار المؤنثة عادة قبل نضج الأزهار المذكرة‏,‏ ولذلك يسخر الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ حشرة خاصة تعرف باسم ذات البلعوم المتفجر‏(Blastophaga)‏ تقوم بتلقيح نورات التين من خلال منفعة متبادلة بينهما‏,‏ تقوم فيها نورات شجرة التين بتهيئة المكان الدافيء الأمين للحشرة تضع فيه بيضها حتي يفقس‏,‏ ثم تغذي صغارها حتي يكتمل نموها‏,‏ وعند خروجها من النورة يحتك جسمها بالأزهار المذكرة فيتعفر بحبوب اللقاح التي تحملها إلي الأزهار المؤنثة‏,‏ فتتم بذلك عملية الإخصاب اللازمة لإثمار شجرة التين‏.‏
ويتكون علي شجرة التين سنويا ثلاثة أجيال من النورات‏,‏ الجيل الأول منها يحمل أزهارا مذكرة وأخري حاضنة للحشرات‏,‏ وتحمل نورات الجيل الثاني أزهارا مؤنثة فقط تلقحها الحشرات الخارجة من نورات الجيل الأول فتخصبها وبذلك تمثل المحصول الرئيسي لشجرة التين‏,‏ أما نورات الجيل الثالث فتحوي أزهارا حاضنة للحشرة المتعايشة معها فقط‏,‏ وفيها تقضي الحشرة فصل الشتاء‏.‏

فمن الذي وضع هذا النظام الرتيب لإثمار شجرة التين غير الله الخالق؟ ومن الذي دل تلك الحشرة علي مسكنها في نورة شجرة التين كي تخصبها بحركتها من نورة إلي أخري غير الله الخالق؟ والعلاقة بين نورة التين وهذه الحشرة تعتبر من أعجب العلاقات المعروفة لنا بين النبات والحيوان‏.‏

من منافع ثمرة التين‏:‏
تحتوي ثمرة التين علي نسبة عالية من الكربوهيدرات تصل الي‏53%‏ من وزنها‏,‏ أغلبها من السكريات الأحادية والمركبات النشوية‏,‏ بالإضافة إلي نسبة صغيرة من البروتينات في حدود‏3.6%,‏ ونسب أقل من أملاح كل من البوتاسيوم‏,‏ الكالسيوم‏,‏ المغنيسيوم‏,‏ الفوسفور‏,‏ الحديد‏,‏ النحاس‏,‏ الزنك‏,‏ الكبريت‏,‏ الصوديوم والكلور‏,‏ كما تحتوي ثمرة التين علي العديد من الفيتامينات‏,‏ والإنزيمات‏,‏ والأحماض‏,‏ والمواد المطهرة‏,‏ بالإضافة إلي نسبة كبيرة من الألياف‏(‏ تصل إلي‏18.5%)‏ ونسبة أكبر من الماء‏.‏ وعلي ذلك فهي ثمرة غنية بمواد عديدة وبنسب منضبطة يحتاجها الإنسان في غذائه‏.‏
ومن الانزيمات الخاصة بالتين ما يعرف باسم إنزيم التين أو إنزيم فيسين‏(Ficin)‏ ثبت أن له دورا مهما في عملية هضم الطعام‏.‏

وقد تمكن اليابانيون من إثبات وجود مركب كيميائي من نوع الألدهيدات الأروماتية في ثمرة التين يعرف باسم البنزالدهايد‏(Benzaldehyde)‏ وتركيبه الكيميائي‏(C6H5CHO),‏ وقد تم عزله من ثمار التين‏,‏ وثبت أن له قدرة علي مقاومة مسببات الأمراض السرطانية‏.‏
كذلك اكتشفت في ثمرة التين مجموعة من المركبات النشوية التي تعرف باسم مجموعة السورالينز ثبت أنها تلعب دورا فعالا في حماية الدم من أعداد من الفيروسات والبكتيريا‏,‏ والطفيليات التي تتسبب في كثير من الأمراض من مثل فيروس الالتهاب الكبدي‏.‏

وتوجد هذه المجموعة بوفرة في ثمار التين‏,‏ وفي الدبس الناتج عنه‏,‏ وفي كل من عصائره‏,‏ وأنواع المربات المصنوعة منه‏.‏
كذلك ثبت أن للتين فوائد عديدة في إدرار اللبن وفي علاج حالات البواسير‏,‏ والإمساك المزمن‏,‏ والنقرس‏,‏ وأمراض الصدر‏,‏ واضطراب الحيض‏,‏ وحالات الصرع‏,‏ وتقرحات الفم‏,‏ والتهابات كل من اللثة واللوزتين والحلق‏,‏ وفي علاج مرض البهاق‏,‏ وفي إزالة الثآليل‏,‏ وفي اندمال الجروح والتقرحات المختلفة‏,‏ ولذلك روي أبو الدرداء‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏

لو قلت‏:‏ إن فاكهة نزلت من الجنة قلت التين‏,‏ لأن فاكهة الجنة بلا عجم‏,‏ كلوا منه فإنه يقطع البواسير وينفع النقرس‏.‏
من هنا كان القسم بالتين في القرآن الكريم وتسمية سورة من سوره باسم سورة التين‏.‏

ثانيا‏:‏ في القسم بالزيتون‏:‏
جاء ذكر الزيتون وزيته في سبعة مواضع مختلفة من كتاب الله‏,‏ منها القسم به مع التين في مطلع سورة التين‏,‏ وشجرة الزيتون شجرة مباركة وكذلك ثمرتها‏,‏ فهي شجرة معمرة قد تعيش لأكثر من ألف سنة‏,‏ وتعتبر من أهم نباتات الزيوت‏,‏ ويعتبر زيتها من أصح الزيوت لاحتوائه علي نسبة ضئيلة من الأحماض الدهنية‏,‏ وأن ما به من دهون هي دهون غير مشبعة ولذلك لا تتسبب فيما تتسبب فيه بقية الزيوت من ارتفاع نسبة الدهون الضارة بالدم مما يؤدي إلي تصلب الشرايين وضيقها وانسدادها‏,‏ وارتفاع ضغط الدم‏,‏ وغيرها من الأمراض‏.‏
وزيت الزيتون سائل أصفر اللون شفاف‏,‏ غني بالأحماض الزيتية‏(Oleicacids)‏ يستخدم في الطبخ وفي الإضافة إلي السلطات ويلعب دورا مهما في منع أكسدة الكوليسترول الذي يفرزه جسم الإنسان وذلك لاحتوائه علي فيتامين هـ‏,‏ وعلي قدر من المركبات الكيميائية الأخري تعرف باسم مركبات الفينولات العديدة‏(PolyphenolicCompounds)‏ التي تمنع التأكسد الذاتي للزيت وتحافظ علي ثباته‏,‏ وبذلك يقي الجسم من أخطار فوق أكاسيد الشحوم‏(LipidPeroxides)‏ وهي من المواد الضارة بجسم الإنسان‏.‏

وعلي ذلك فإن تناول زيت الزيتون بانتظام يؤدي إلي خفض المستوي الكلي للكوليسترول في الدم بصفة عامة‏,‏ وإلي خفض الأنواع الضارة منه بصفة خاصة‏,‏ وإلي خفض معدل الإصابة بأمراض القلب والسرطان بصفة أخص‏.‏
وبالإضافة إلي استخداماته العديدة في الطعام فإن زيت الزيتون يستخدم في إنتاج العديد من الأدوية والدهانات الطبية‏,‏ وزيوت الشعر‏,‏ والصابون‏,‏ وبه كانت توقد المصابيح لصفاء اللهب الناتج عن اشتعاله‏.‏

وتثمرة الزيتون القابلة للتخزين بالتمليح تعتبر إداما للطاعمين‏,‏ وصبغا للآكلين‏,‏ بالإضافة إلي كونها فاتحة للشهية‏.‏ وثمرة الزيتون تحوي بين‏67%,84%‏ من وزنها زيتا‏,‏ ويتكون زيت الزيتون من عدد من المركبات الكيميائية الهامة منها مركبات الجلسرين والأحماض الدهنية والتي تعرف باسم الجليسريدات‏(Glycerides),‏ ويكون الحمض الدهني نسبة كبيرة من وزن الزيت‏,‏ ومن أوفر الأحماض الدهنية في الزيتون وزيته ما يعرف باسم حمض زيت الزيتون‏(OleicAcid)‏ بالإضافة إلي كميات قليلة من حمض زيت النخيل‏(PalmaticAcid),‏ وحمـض زيت الكتان‏LinolicAcid)),‏ وحمض الشمع‏(StearicAcid)‏ والحمض الغامض‏(MystricAcid).‏
وبالإضافة إلي ذلك يحتوي الزيتون وزيته علي نسبة متوسطة من البروتينات‏,‏ ونسب أقل من عناصر البوتاسيوم‏,‏ والكالسيوم‏,‏ والمغنيسيوم‏,‏ والفوسفور‏,‏ والحديد‏,‏ والنحاس والكبريت وغيرها مع نسبة من الألياف‏,‏ وتدخل هذه المكونات في بناء حوالي الألف من المركبات الكيميائية النافعة لجسم الإنسان والضرورية لسلامته‏.‏

لذلك كله‏,‏ ولغيره الكثير مما لا نعلم من أسرار الزيتون يروي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أنه قال‏:‏
كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة‏.‏

وكذلك يروي عن معاذ بن جبل‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ أنه قال‏:‏ سمعت النبي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يقول‏:‏ نعم السواك الزيتون‏,‏ من الشجرة المباركة‏,‏ وهي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي‏.‏
ومن هنا كان القسم القرآني بالزيتون‏,‏ وكان ذكره وذكر زيته في سبع مواضع مختلفة من كتاب الله‏,‏ والزيتون وزينة غنيان بالدهون والبروتينات فقيران في الكربوهيدرات‏(‏ السكريات والنشويات‏),‏ بينما التين غني بالسكريات والمركبات النشوية وفقير في المواد الدهنية والبروتينية ومن هنا كان التين والزيتون معا يكملان حاجة الإنسان من المواد الغذائية‏,‏ ومن هنا أيضا كان القسم بهما معا في مطلع سورة التين‏,‏ وهي لفتة علمية معجزة في كتاب أنزل من قبل ألف وأربعمائة من السنين‏.‏

ثالثا‏:‏ القسم بطور سينين‏:‏
وهو طور سيناء أو جبل موسي أو جبل المناجاة الذي أنزلت فيه التوراة علي موسي‏(‏ عليه السلام‏),‏ وقد ذكره ربنا تبارك وتعالي في اثنتي عشرة آية من آيات القرآن الكريم‏(‏ البقرة‏:93,63,‏ النساء‏:154,‏ الأعراف‏:171,143,‏ مريم‏:52,‏ طه‏:80,‏ المؤمنون‏:20,‏ القصص‏:46,29,‏ الطور‏:1,‏ التين‏:2),‏ وسميت باسمه إحدي سوره‏(‏ سورة الطور‏),‏ وهو بالقطع وسكان مبارك‏,‏ جدير بالقسم به‏,‏ ويبقي لعلماء الأرض دراسته لإثبات ما به من معجزات حسية باقية عن عملية دكه‏,‏ ورفعه ونتقه فوق الحثالات العاصية من بني إسرائيل كما جاء في أكثر من آية من آيات القرآن الحكيم‏.‏

رابعا‏:‏ القسم بالبلد الأمين‏:‏
وهو مكة المكرمة‏,‏ وبها الكعبة المشرفة‏,‏ أول بيت وضع للناس‏,‏ وقد روي عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قوله الشريف‏:‏ كانت الكعبة خشعة علي الماء‏,‏ فدحيت منها الأرض مما يفيد بأن الأرض تحت الكعبة المشرفة هي أول يابسة ظهرت علي وجه ماء المحيط الغامر الذي بدأت به الأرض‏,‏ ثم نمت اليابسة من حول هذه البقعة المباركة لتكون قارة واحدة هي القارة الأم المعروفة باسم بانجيا‏(Pangaea),‏ والتي تفتتت إلي القارات السبع الحالية‏.‏ وكانت تلك القارات السبع أقرب إلي بعضها البعض ثم أخذت في الانزياح متباعدة عن بعضها البعض أو التصادم مع بعضها البعض حتي وصلت إلي أوضاعها الحالية‏,‏ وقد ثبت علميا توسط مكة لليابسة في كل مراحل نمو تلك اليابسة بمعني أننا إذا رسمنا دائرة مركزها مكة المكرمة فإنها تحيط باليابسة تماما‏,‏ ولذلك قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين‏.(‏ آل عمران‏:96)‏

والآيات القرآنية الكريمة التي تقابل الأرض‏(‏ علي ضآلة حجمها‏)‏ بالسماء‏(‏ علي ضخامة أبعادها‏)‏ تشير إلي مركزية الأرض من الكون‏,‏ وكذلك الآيات التي تتحدث عن البينية الفاصلة للسماوات عن الأرض‏,‏ وتلك التي توحد أقطار السماوات والأرض‏.‏
وإذا كانت الأرض في مركز الكون‏,‏ والكعبة المشرفة في مركز الأرض الأولي‏(‏ اليابسة‏),‏ ومن دونها ست أرضين‏,‏ ومن حولها سبع سماوات فإن الكعبة المشرفة تصبح في مركز‏/‏ مركز الكون‏,‏ ولذلك قال المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ إن الحرم حرم مناء بين السماوات السبع والأرضين السبع‏).‏

وأكد ذلك بقوله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ يا معشر قريش‏,‏ يا أهل مكة إنكم بحذاء وسط السماء وبسؤاله الشريف لصحابته الكرام‏:‏ أتدرون ما البيت المعمور ؟ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏,‏ فقال‏(‏ عليه الصلاة والسلام‏):‏ هو بيت في السماء السابعة بحيال الكعبة تماما حتي لو خر لخر فوقها‏,‏ يدخله كل يوم سبعون ألف ملك فإذا خرج آخرهم لا يعودون‏.‏
هذه الكرامات كلها جعلت من مكة المكرمة قبلة للمسلمين‏,‏ ومحجا ومعتمرا لهم‏,‏ وجعلت الصلاة فيها بمائة ألف صلاة‏,‏ وجعلتها مهوي للأنبياء والمرسلين كما ذكر المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ فقال‏:‏ كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق بمكة فتعبد فيها النبي ومن معه حتي يموت‏,‏ فمات بها نوح‏,‏ وهود‏,‏ وصالح‏,‏ وشعيب وقبورهم بين زمزم والحجر‏(‏ الأزرقي ـ أخبار مكة‏).‏

ودفن بها كل من إسماعيل‏(‏ عليه السلام‏)‏ وأمه السيدة هاجر‏(‏ رضي الله عنها‏)‏ وهما مدفونان في حجر إسماعيل‏.‏
واختار الله‏(‏ تعالي‏)‏ مكة المكرمة مولدا ومبعثا لخاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وأقسم بها في كل من سورة التين‏,‏ وسورة البلد التي سماها باسمها‏,‏ وأطلق عليها وصف أم القري أي أصل اليابسة‏,‏ وأم الأرض كلها‏,‏ ومن هنا كانت جدارتها للقسم بها وبوصف البلد الأمين في سورة التين‏.‏ وبالإسم المطلق البلد في سورة البلد‏.‏

هذه الحقائق العلمية عن كل من التين والزيتون‏,‏ وعن مكة المكرمة‏,‏ البلد الأمين‏,‏ والحقائق التاريخية والدينية عن نداء الله‏(‏ تعالي‏)‏ لعبده ونبيه موسي بن عمران‏(‏ عليه السلام‏)‏ من جانب الطور الأيمن لم تكن معروفة لأهل الجزيرة العربية‏,‏ ولا لأحد من الخلق في زمن الوحي من قبل ألف وأربعمائة من السنين‏,‏ ولا لقرون متطاولة من بعده‏,‏ والقسم بها في سورة التين مما يقطع بأن القرآن الكريم لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ ويجزم بنبوة النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وبأنه كان حتما موصولا بالوحي‏,‏ ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ فالحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي الدوام إلي أن نلقاه وهو راض عنا إن شاء بفضله‏,‏ وجوده‏,‏ ومنه‏,‏ وعطائه‏,‏ ورحمته‏,‏ وهو‏(‏ سبحانه‏)‏ أرحم الراحمين‏,‏ وأكرم الأكرمين‏,‏ وهو‏(‏ تعالي‏)‏ يقول الحق ويهدي إلي سواء السبيل‏.‏