حدوتة الأنبا جُرْجِى: هكذا يحارب المدلِّسون الإسلام!

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

    

 

 

    

 

حدوتة الأنبا جُرْجِى: هكذا يحارب المدلِّسون الإسلام!

النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: حدوتة الأنبا جُرْجِى: هكذا يحارب المدلِّسون الإسلام!

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي حدوتة الأنبا جُرْجِى: هكذا يحارب المدلِّسون الإسلام!

    خطابٌ مفتوح، إلى القمّص المنكوح!
    بقلم: إبراهيم عوض
    الكل يتبرأ من القمص المنكوح ويقول إنه لا يوافق على شتمه للمسلمين ونبيهم ودينهم، يستوى فى ذلك المهذبون، والسفلة الذين لا يقلون عنه بذاءة وتطاولا. والغاية من ذلك واضحة: أن نسكت فلا ندافع عن ديننا وقرآننا ورسولنا وأمتنا، تحت ذريعة أن من غير اللائق مجاراته فى أسلوبه. وهذا كلام حق يراد به باطل، وبخاصة أننا لا نجاريه فى أسلوبه، رغم أننا لو فعلنا ذلك فلا ملام علينا، لأن جميع القوانين والأعراف تعطى كل إنسان الحق فى الدفاع عن نفسه، وبذات الطريقة، بل كل ما نفعله هو الرد المنطقى الباتر الذى يترك الخصم واقفا مبلولا لا يحير جوابا لا من فوق ولا من تحت، اللهم إلا الشتائم العاجزة التى لا يأبه بها إلا أصحابها ومن على شاكلتهم، وإن كنا لا ننكر أن ما نكتبه لا يخلو من شىء من التهكم يكشف خزى الطرف المعتدى السافل وهشاشته، غير متطرقين إلى المساس بسيدنا عيسى ولا بأمه وحوارييه ولا بالمؤمنين به عليه السلام سواء فى ذلك من يراه نبيا رسولا أو من يؤلهه فيقول إنه ابن الله أو الله ذاته. فكل إنسان حر تمام الحرية فيما يعتقد، والآخرون الذين لا يعتدون علينا ولا على إلهنا وديننا وقرآننا ونبينا هم منا على العين وعلى الرأس. نقول هذا دون مجاملات كاذبة، ذلك أنهم بشر مثلنا، ويحبون دينهم كما نحب نحن ديننا ونغار عليه ونفديه بالغالى والرخيص. ونحن على إدراك وفهم تام للقانون الكونى الذى على أساسه خلق الله البشر مختلفين فى أشياء كثيرة منها الدين، مثلما هم متفقون فى أشياء أخرى كثيرة أيضا. لكن لا يمكن أن يحظى المتطاولون المتباذئون مشعلو الحرائق بمثل هذه المعاملة الطيبة. ولو كان الحق هو مقصد هؤلاء المتبرئين من القمص المنكوح لكان الأولى بهم أن يحوّلوا رسائلهم إليه بدلا من توجيهها إلينا. ولَكَمْ يكون الأمر مضحكا لو أننا تركنا القمص المنكوح دون أن نُرِيَه مركزه، فمضى بغير حياء يشتم ويتطاول ويتحدى ونحن واضعون أيدينا على خدودنا كالولايا، فإذا ما طلبنا منهم إسكاته ردوا فى شماتة وهم يضحكون فى أكمامهم من سذاجتنا: "إنه خارج علينا، ولا نملك من أمره شيئا"! عظيم، فلماذا تغضبون لما نقول فى حقه إذن؟ دَعُونا له ودَعُوه لنا، وكونوا على الحياد، فلا تعاونونا عليه ولا تعاونوه علينا. أما إذا لم يعجبكم هذا الحل فلا أدرى ماذا أفعل، لأنه ليس لدىّ للأسف حلٌّ سواه. ترى هل هذا الكلام يصعب فهمه؟ ثم إننا لا نحرّض ولا نهيّج، بل ولا نتعصب تعصب الذى لا يرى فى نفسه وفى أمته إلا كل جميل، والدليل على ذلك أننا نُسْمِع أمتنا من قارص القول ما نرى أنها تستأهله، ودائما ما نقول إنها تستحق ما يحدث لها بل ما هو أفظع منه لأنها رضيت بالهوان فأهانها الله: أهانها على أيدى حكامها، وعلى أيدى أعدائها، وعلى أيدى كل ذليل وغد يطمئن إلى حسن عاقبة التطاول عليها وعلى دينها ونبيها وكتابها. نعم لقد أذلت نفسها بركونها إلى الجهل وانتهاجها ثقافة البكش والبلادة والجعجعة بلا طِحْن ونفاد الصبر وكراهية العمل والإتقان واللامبالاة بقِيَم الجمال والنظام والذوق والنفور من ضريبة المجد والسيادة. وكل ما نفعله هنا هو أننا نرد على الشبهات الطفولية المتخلفة عقليا بالحجة المفحمة المخرسة، ولا نسكت على ما يوجهه الأوغاد اللئام لنا ولديننا ولرسولنا وصحابته والكتاب الذى أنزله الله عليه من إهانات، وهذا كل ما هنالك.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    صحيح أن الإسلام بوجه عام يؤثر العفو والتغاضى، لكن ليس فى مثل تلك الظروف ولا فى تلك القضايا، ولا فى أيامنا هذه التى يظن كثير من أعداء ديننا العظيم أن ساعة وفاته قد دَنَتْ بل قد دَقَّتْ. إننا هنا إنما نتأسى بقوله تعالى: "لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)" (سورة "النساء")، وبقوله تعالى: "وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)" (سورة "الشورى"). ولا بأس أن أكرر مرة أخرى ما أقوله دائما من أن كل إنسان يرى نفسه على الحق، وهذا من حقه تماما. بل إننى لأعتقد أن الله سبحانه وتعالى لن يعامل الكافرين جميعهم نفس المعاملة بحيث يتساوى رأس المجرم المكابر منهم برأس الذى يبحث عن الحق جهد استطاعته فلم يهتد إليه سبيلا. والآن نبدأ الكلام، وهو للصنف المكابر المجرم الذى فهم وعرف، لكنه يكتم الحق ويذهب فيصيح متباذئا علينا وعلى ديننا ورسولنا فى الفضائيات التى تخاطب الملايين، على حين تضيق صدور فريق من الناس بردّنا عليه وفضحنا لسوآته الفكرية والنفسية رغم أننا ليس عندنا فضائيات ولا مؤسسات تقف وراءنا ولا حتى حزب أو جماعة سياسية أو دينية، بل مجرد جريدة ضوئية محدودة الانتشار. فأبو جمل إذن يحسد أبا معزة على طريقة "إن هذا أخى له تسعٌ وتسعون نعجةً، ولى نعجةٌ واحدة، فقال: أَكْفِلْنيها، وعَزَّنى فى الخِطَاب"! والسبب معروف، وهو أن صاحب الجمل، رغم كل هذا الهيل والهيلمان، يشعر أنه عاجز أمام سطوة الحق الذى فى يد صاحب المعزة وبطش منطقه. أى أن المسألة ليست جملا فى مواجهة معزة، بل حقا يمسك بالباطل من زمارة رقبته ويجعل منه مسخة، ومن لا يشترى يتفرج، وهذا هو السبب فى كثرة رسائل السباب التى تبرهن بأجلى بيان على التهاوى وفقدان الأعصاب والرعب من سطوة الحقيقة. وإذن فعلى الله نتوكل، وباسمه سبحانه نُسَمِّى، وإياه نستعين فنقول:
    منذ نحو عشرة أيام وصلتنى من القمص المنكوح رسالة تتضمن حدوتة تبشيرية مضحكة لا يصدقها إلا أبله مثله، تدور حول ما يزعم كاتبها أنه مجادلة قامت بين راهب نصرانى وثلاثة شيوخ من أئمة المسلمين فى العصر الأيوبى، وتحدانى أن أرد عليها. وكالعادة أهملتها، وإن اتخذتها مع ذلك فرصة للسياحة فى كتب التاريخ لعلى أصل إلى أية معلومات تتعلق بطَرَفَىِ المجادلة المزعومة، فلم أصل إلى شىء. إلا أن العزم صح منى فجأة منذ أربعة أيام على التعليق على هذا السخف المتخلف الذى يحسب المنكوح أنه يشكل تحديا مستحيلا سنقف أمامه حيارى لا نحير جوابا، وهو ما يدل على أن مستواه الفكرى والعقلى على درجة كبيرة من الضحولة والانحطاط، وأنه فعلا كما قيل ليس أكثر من آلة دعائية يبرمجونها ويطلقونها على المسلمين على أمل أن ينشر بينهم الشك فى دينهم وحضارتهم وتاريخهم ورموزهم. وكانت نتيجة ذلك العزم هى المقالة التالية التى أنهيتها البارحة قبل مباراة الأهلى والزمالك فى نهائى الكأس بنحو ربع ساعة قبل أن أعود اليوم (السبت 17 يونيه 2006م) فأضيف هذه المقدمة، على عادتى من تأجيل مقدمات كتبى ودراساتى إلى ما بعد الانتهاء تماما من البحث، على أن أقوم لاحقا بما يلزم من المراجعة والتنقيح والحذف والإضافة.
    هذا، ولم أفعل، فى الرد على تلك الحدوتة المتخلفة مثله هو وأشباهه من المناكيح المتنطعين، إلا المضىّ فى قراءتها فقرة فقرة والرد مباشرة على ما جاء فى تلك الفقرات أولا بأول، اللهم إلا إذا احتاج الأمر التثبت من شىء، فعندئذ كنت أرجع إلى هذا الكتاب أو ذاك. وتتلخص تلك الحدوتة المتخلفة تخلف عقل منكوحنا أبى الزيك، ذى الجلد السميك، فى أن جماعة من الرهبان الحلبيين ذهبوا لمقابلة الملك الظاهر بن صلاح الدين الأيوبى صاحب حلب فى شأن من شؤون الدير الذى يسكنونه، فتصادف مجىء ثلاثة من أئمة المسلمين وهم فى حضرة أخيه الأمير المشمّر، وجرت بينهم وبين أحد أولئك الرهبان، واسمه الأنبا جرجى، مناظرة بين الإسلام والنصرانية خرج منها دين التثليث منتصرا بالضربة القاضية على دين التوحيد. وقد أظهرت الحدوتة المضحكة الأمير الأيوبى منحازا طول الوقت إلى الجانب التثليثى شامتا بالمشايخ "المساكين المحتاسين" العاجزين عن الرد والفهم. بل زاد على ذلك فأسرّ إلى الراهب المذكور، على مرأًى من الحاضرين، أن أمه نصرانية رومية، وأنه ينبغى أن يأخذ راحته فى مسح أولئك المشايخ البُلْه بالأرض دون خوف من أى اعتبار. والحدوتة تصرخ بأعلى حِسّها أنها مصنوعة صنعا كما سنبين بالدليل القاطع الذى لا يمكن نقضه بأى حال، وأن شيئا مما ورد فيها لم يقع، وأن المقصود منها هو مكايدة المسلمين ورفع الروح المعنوية لجماهير المثلثين عن طريق إيهامهم أن أئمة المسلمين أنفسهم لا يستطيعون الوقوف أمام ضياء التثليث الباهر الذى يُعْشِى العيون!
    والآن إلى مناقشة الحدوتة التى أعتذر للقراء مقدما عن نزولى إلى مستواها، إذ لا يليق فى الواقع أن آخذ مثل تلك التحديات الطفولية مأخذ الاهتمام، إلا أننى قد لاحظت أثناء السياحة التاريخية التى قمت بها فى البداية أنها منشورة فى مواقع تبشيرية كثيرة، ومعنى هذا أن مِن القراء الخالى البال مَنْ قد يظن أنها قصة حقيقية، فقلت: إنها فرصة لفضح أساليب الكيد الرخيص الذى يلجأ إليه القمّص المنكوح ذو الدبر المقروح وأمثاله فى محاربة الإسلام حتى يعرف القاصى والدانى أن القوم مفلسون تمام الإفلاس وأنهم إنما ينتهزون سانحة ضعف المسلمين فى العصر الحالى وهجوم الثور الأمريكى الأحمق على المنطقة، للتنفيس عن أحقادهم والجرى فى بيداء الأوهام التى تصور لهم، كما يصرح المنكوح منتشيا وشامتا، أن ساعة الإسلام الأخيرة قد دنت، وأن المسألة مسألة وقت. أما نحن فواثقون بعون الله، رغم الفروق الهائلة بيننا وبين الأمريكان فى العتاد والسلاح والتقدم العلمى والتقنى، أن الثور الأمريكى الأحمق سوف تكون نهايته بمشيئته سبحانه على يد أبطال المقاومة العربية والإسلامية، وإن كان هذا لا يعنى أننا بعدها سنكون عال العال، إذ لا بد من النهوض مما نحن فيه من بلادة حضارية، وكراهية للعلم والعالمين والعمل والعاملين، ونفور من النظافة والجمال، وعداوة للنظام والتخطيط والطموح، وعجز عن الابتكار وجبن أمام المجهول، وقِصَر نَفَسٍ وباعٍ فى ميادين الصبر على مشقات العمل والإتقان والتجديد والتحسين، لا الصبر على الهوان والمذلة والظلم والرضا به والاستزادة منه والركوع أمام الظالم، وبخاصة إذا كان هذا الظالم حاكما من الحكام. وقادة العرب والمسلمين بوجه عام هم، بحمد لله الذى لا يُحْمَد على مكروه سواه، من أسوإ حكام الأرض وأخشاهم لأعداء أوطانهم ودينهم وأمتهم وأطوعهم لأولئك الأعداء وأعملهم لمصلحتهم، وهو أمر طبيعى، إذ "كما تكونوا يُوَلَّ عليكم"، ونحن سيئون مثل حكامنا بل أسوأ، فنحن وهم "ذرية بعضها من بعض"، ذرية غير طيبة، وإلا لكنا قد متنا منذ وقت طويل من الغم والقهر بسبب ما نحن فيه، أو على الأقل: توارينا خجلا! أما النصر الذى سيبوء به المسلمون بمشيئة الله فهو بفضل أبطال فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من المجاهدين الذين لم يفتّ فى عضدهم شىء من عوامل الإحباط ولا يهابون أمريكا ولا أذيالها من أمتهم، لعنة الله على كل ذليل تعيس!
    إذن فالمنكوح يتحدى المسلمين بهذه القصة وقد بلغ دبره غاية الانتشاء والنعنشة! ماشٍ يا منكوح! والآن تَعَالَوْا، أيها القراء الأعزاء، لنرى ما فى جعبة الحاوى المثلِّث من كتاكيت يخرجها من كُمّه يحاول إيهامنا أنه يأتى بها من الهواء! أين المرحومة زينات صدقى لتقول له: "كتاكيته بُنّىّ"؟ والقصة، بالمناسبة، قد تبناها ونشرها راهب يقول إنه من المرسلين الكاثوليكيين العاملين فى إفريقيا، وإنه اعتمد فى نشره لها على عدة مخطوطات يرجع أقدمها إلى ما بعد تاريخ وقوع المجادلة المزيفة بثلاثة قرون وربع القرن، وإنه ليس هناك أية معلومات تاريخية، لا فى كتب المسلمين ولا فى كتب النصارى، عن الأنبا جرجى أو المشايخ الثلاثة الذين جادلوه. وعنوان الحدوتة هو "مجادلة الأنبا جرجي الراهب السمعاني مع ثلاثة شيوخ من فقهاء المسلمين بحضرة الأمير مشمر الأيوبي". فعلى بركة الله إذن، وسوف يتبين بما لا مجال معه للشك أن الحكاية ليست أكثر من حدوتة لم يحسن ملفقها تزييفها فجاءت وبالا على كل من اشترك فى كتابتها وتحريرها ونشرها والتحدى بها، ومثلت فضيحة مدوية للجميع كما سيتضح حالا.
    وأول داهية من الدواهى الثقيلة التى أوقع نفسه فيها محقق القصة الكذاب مثل كاتبها الكذاب هى أول جملة فى التقديم، وها هى ذى: "من سمات كنيسة المسيح الظاهرة أن تدعو جميع الناس في كل عصر ومصر إلى دين الله بحسب البيان وجميل الإحسان عملا بأمره، له المجد: بشّروا بالإنجيل في الخليقة كلها". ووجه الكذب والتدليس فى هذا الكلام أنه لم يكن هناك، فى اعتقاد النصارى، وجود للإنجيل قبل ترك السيد المسيح للدنيا، إذ الأناجيل (حسب كلام النصارى. ولاحظ: "الأناجيل" لا الإنجيل) إنما كُتبت بإلهام من الروح القدس بعد ذلك، أما فى حياة عيسى بن مريم على الأرض فلم يكن ثمة أناجيل ولا يحزنون. فأى إنجيل كان هناك إذن (حسب كلام المحقق الكذاب الذى لا يعرف كيف يدارى كذبه وتدليسه، إذ من نعم الله على العباد أن الجريمة الكاملة لا وجود لها فى الحياة) حتى يكلف المسيح تلاميذه بالدعوة إلى دين الله من خلال التبشير به؟ أما إذا قالوا إنه كان فى حياته صلى الله عليه وسلم إنجيل أو أناجيل، فالسؤال الذى ينبثق فى الذهن على الفور: وأين ذلك الإنجيل، أو تلك الأناجيل؟ من ثَمّ كان على محقق الكتاب المزيَّف المملوء بالترهات والأباطيل والتناقضات والأكاذيب أن يجيب على هذا السؤال بدلا من خَوْتَة الدماغ التى لا يَنُون عن إزعاجنا بها كلما حاولوا أن يردوا على اتهامنا لهم بالتلاعب فى الإنجيل والعبث به، إذ يتساءلون وبراءة الأطفال فى عينيهم: إذا كان هناك إنجيل صحيح تم العبث به، فأين ذلك الإنجيل؟ ولماذا لم يعثر أحد ولو على نسخة واحدة منه يتضح منها الاختلافات التى يتحدث عنها المسلمون؟ وسوف نرد على هذه النقطة فيما بعد، أما الآن فتعليقنا هو: إذا كان هناك إنجيل فى حياة السيد المسيح كما تقول العبارة المنسوبة له عليه السلام، فعليكم أنتم أن تخبرونا بموضعه وتحضروه لنا حتى نقارن بينه وبين الأناجيل التى بين أيديكم والتى إنما أُنجِزَت بعد انتقال عيسى بن مريم عن الدنيا وتحيط بها الشكوك والشبهات من كل جانب، سواء فيما يتعلق بمؤلفيها أو بتواريخ كتابتها أو الظروف التى كُتِبَتْ فيها. أما إذا قلتم إنه لم يكن هناك أناجيل فى حياته، فعليكم فى هذه الحالة أن تقروا بأن هذا الكلام المنسوب للسيد المسيح عليه السلام فى الأناجيل الحالية عن وجوب التبشير بالإنجيل فى كل الأمم هو كلام كاذب لم يقله المسيح لأن الإنجيل لم يكن قد وُجِد بعد. هكذا بصريح العبارة دون لف أو دوران!
    ثم داهية ثقيلة أخرى هى الفقرة الثانية من التقديم الذى قدم به لها محررها، إذ يقول ما نصه: "إن دين المسيح لم يستطع أن يحجبه الإسلام بحجته الكبرى التي هي الجهاد وقتال من لا يدين به. ولم يقطع سيفُه كلَّ لسان ولم يكسر أقلام ضعاف الرهبان الذين هم أخص دعاة النصرانية الموصوفون بــ"جند الكنيسة". ومن هؤلاء الشجعان الذين أرهفوا القلم وأحسنوا البيان الأنبا أو الأب جرجي أحد رهبان دير القديس سمعان الذي موقعه في جبل سمعان في ولاية حلب الذي كان من أعظم وأشهر ديارات البطركية الأنطاكية"، ففى هذه الفقرة نقرأ أن الإسلام لم يمنع واحدا كالأنبا جرجى أو غيره من التبشير بالإنجيل بين المسلمين، حتى فى حضور أمرائهم ومواجهة شيوخهم. فما معنى ذلك؟ معناه ببساطة ووضوح أن كل ما يزيفه المزيفون ويدلس به المدلسون الأفاكون المشّاؤون بالنميم بين الأمم والطوائف المثيرون للفتن عن الضغوط التى تعرَّض ويتعرّض لها النصارى فى بلاد المسلمين هو كلام لا أساس له من الصواب، وإلا أفلو كان الإسلام يضطهد الأديان الأخرى أكان أتباعها يستطيعون أن يفتحوا أفواههم مجرد فتح، فضلا عن أن يدخلوا مع أئمة الإسلام فى جدال من أجل نشر دينهم وتخطئة دين المسلمين؟
    إذن فالإسلام لم يضطهد الأديان الأخرى، بل أفسح لها صدره وحمى أهلها وأسبغ عليهم كرمه وعطفه، ولم يفكر مجرد تفكير فى استئصالهم مثلما استأصل النصارى كل من يخالفهم فى الدين فلم يسمحوا له أن يعايشهم فى وطن واحد، كما هو الحال فى الأندلس مثلا حين أجبر فرناندو وإيزابلا ومن جاء بعدهما عشرات الملايين من المسلمين الأسبان أهل البلاد على التنصر، وإلا فالحرق أو الإغراق أو الحشر فى نعوش مبطنة بالمسامير الضخام تُغْلَق على من بداخلها فتخترق المسامير بطنه وظهره وصدره وعينيه ورأسه وقفاه وفخذيه وساقيه وقدميه ويديه فى الحال وتهرسه هرسا وتحوله إلى مصفاة من اللحم والعظام (اللهم لطفا!)، وهو ما يمثل أسلوبا واحدا من أساليب محاكم التفتيش التى أقيمت لإرضاء الرب ونشر دينه، دين الرحمة والتواضع والسلام، وكما هو الحال أيضا فى الأمريكتين حيث تم القضاء على دين أهل البلاد تماما فلم يعد له من أثر، بل حيث تم القضاء أيضا على أهل البلاد أنفسهم فى أمريكا الشمالية‍‍، وعلى عشرات الملايين منهم فى أمريكا الجنوبية! و"إن كنت ناسيا (كما تقول الأغنية) أفكرك" بكتاب المطران برتولومى دى لاس كازاس: "المسيحية والسيف"، الذى ترجمته سميرة عزمى الزين، وبمقال فنسينزو أوليفيتى الذى ترجمه العبد لله ونشره على المشباك بعنوان "العنف النصرانى للتاريخ"، ولا داعى لذكر غيرهما، ففيهما الكفاية بمشيئة الواحد الأحد الفرد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ومِثْلَ ذلك قُلْ عن الأستراليين الأصليين الذين لم يعد لهم وجود فى بلادهم بعد أن دنستها أقدام نصارى أوربا ودمرت كل شىء يخصهم من حضارة وثقافة ودين، ثم دمرتهم هم أيضا فلم تكد تبقى منهم باقية على ظهر البسيطة! أما تشريع القتال فهو فعلا موجود فى الإسلام، ذلك الدين العظيم الذى لم يبرع أصحابه فى تسويقه بالحق براعة النصارى فى تسويق دينهم بالباطل حين ادَّعَوْا أن دينهم هو دين الرحمة والسلام، على حين أنهم فى احتلالهم للبلاد الأخرى لا يعرفون رحمة ولا سلاما، على عكس الإسلام، الذى ينص فعلا على قتال المعتدين حين لا يكون أمام أهله مناص من القتال وبعد أن يستنفدوا كل سبل السلام والتفاهم مع أعدائه، لكنه رغم كل هذا يحرص على العدل والإنسانية والتسامح ما أمكن مع هؤلاء الأعداء، فإذا بأصحاب دين الرحمة والسلام يشنعون عليهم وعلى نبيهم ويتهمونهم بما ليس فيهم ولا فى دينهم اعتمادا على آلة الإعلام الجهنمية التى يمتلكها الأقوياء منهم فى الدول المتقدمة ويستثمرها سائرهم فى كل أرجاء الأرض بالكذب الفاجر المتوحش الذى لا يعرف الحياء!
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    وعلى كل حال ها هو ذا كاتب الحدوتة يعلن كيف عومل الرهبان والقساوسة من قِبَل الأمير الأيوبى المسلم: "اتفق أن رئيس دير القديس ماري سمعان العجائبي البحري حضر بين يدي الأمير والسلطان صاحب مدينة حلب وأعمالها حيث كان ينزل جيشه في الفضا الذي بين عُمّ وحارم. وكان حضور الرئيس لدى الأمير لأجل حوائج عرضت له من حوائج ديره ومصالحه. فلما مثل بين يدي السلطان مع من كان قد صحبه من الرهبان قبلهم أحسن قبول وأمر بقضاء حوائجهم وما التمسوه. ورسم لهم النزول في خيمة أخيه الملك المشمّر... فحين حضر بين يدي الملك المشمّر قبلهم أحسن قبول بغاية الإكرام والإجلال. ولما نظر إلى الشيخ أنبا جرجي استلذّ بالنظر به وأدناه إليه ورسم له الجلوس بقربه. ولما عاد الرئيس من عند السلطان ليكمل حوائجه تمسك الأمير بالشيخ وأخذ يحدّثه ويسأله عن أمور الدين والرهبان وعيشتهم وسيرتهم وتصرفهم"، فضلا عما ذكرته الحدوتة فى نهايتها من إتحاف الأمير للرهبان بوَسْقِ بغلٍ (مثل الأنبا جرجى) سمكا، وبغلةٍ من بغاله الأميرية مُسْرَجة. وواضح أن ما حدث لهم من الإكرام والترحيب لم يكن شيئا استثنائيا، بل كان أمرا معتادا، وإلا لم يفكروا أصلا فى المجىء والمثول بين يَدَىِ الحاكم المسلم. أليس هذا ما يقول به المنطق؟ علاوة على أنه لم تصدر عن الكاتب أية كلمة تدل على أن هذا الاستقبال الذى حَظِىَ به الرهبان والقساوسة كان شيئا غريبا لم يتوقعوه. لكن الخبيث القليل الأدب لا يريد أن يقر بجميل للمسلمين، بل ينزل على حكم طبيعته الثعبانية السامة فيعض اليد الكريمة التى امتدت له بالحسنى! ألا لعنة الله على الحقدة المارقين الذين يعاملهم الإسلام أجمل المعاملات فلا يكون منهم إلا أن ينقلبوا عليه فيتهموه كذبًا وزُورًا بكل نقيصة فيهم، وإن كنا نشك فى الحدوتة كلها، لكننا إنما ندينهم بما تخطه أيديهم النجسة الدنسة! بالسم الهارى، يا بعيد، السمك الذى أطعمكم إياه الأمير رغم أننا لا نصدق حدوتتك، وبخاصة أنك تقول إن الأمير قد أمر حاجبه الموجود عند مَسْمَكته (ولا أدرى ماذا يفعل الحُجّاب عند مصايد السمك!) أن يعطى السمك الرهبان "معافًى مبرّأً من سائر الغرامات والحقوق"، وكأن عطايا الملوك والأمراء فى تلك الأيام كانت تخضع للمحاسبة الضريبية وأمثالها فأراد الأمير أن يستثنى الرهبان المناجيس منها! عال والله! هذا ما كان ينقصنا فى يومنا العجيب! كما تذكر الحدوتة أن اسم الحاجب هو تمام السيارى، وقد حاولت العثور على هذا الاسم فى مواقع المشباك المختلفة، وبالذات فى المواقع التى توجد فيها عادةً كتب ذلك العهد فلم أفلح فى الوصول إلى شىء! وأغلب الظن أنه اسم منتحل كأسماء بيّاعى البطاطة الثلاثة الذين اخترعهم دبر الكاتب السقيم وجعلهم من "أئمة الإسلام"!
    وبالإضافة إلى ذلك نرى الأمير يوقع باسم "المشمر الملكى"، وهذا غريب، فالمعروف أن لقب "المشمر" إنما أطلقه الأمير على نفسه (حسبما كتب بعض المؤرخين) إشارة إلى أن أباه لم يعطه مملكةً كبعض إخوته، فكيف لم يستخدم لنفسه إلا هذا اللقب الذى يرمز إلى الحرمان، مع أن له لقبا آخر فخما ليست له هذه الإيحاءات السلبية، وهو "الظافر"؟ ثم، وهذا مجرد استفسار، هل كان أحد من الأمراء الأيوبيين يصف نفسه بــ"الملكى"؟ ليس ذلك فحسب، إذ يقول الكذاب النجس إن المصيدة كانت عند برزة. أتدرى، أيها القارئ، أين تقع برزة؟ إنها فى غوطة دمشق، ونهرها (الذى سوف يأخذ الراهب المنفوخ ذو الدبر المشروخ السمك منه) هو نهرٌ محلىٌّ صغير ينبع من عينٍ هناك ولا يزيد طوله كثيرا عن عشرة كيلو مترات، والمسافة بين دمشق ومنطقة حلب حيث جرت أحداث الحدوتة وحيث كان دير الرهبان السناكيح المناكيح، الذين يخرج من أدبارهم دائما فحيح، علامة الشوق إلى التشليح والتلقيح، هى فوق الثلاثمائة والخمسين كيلو مترا. أى أن الكذاب يريد أن يفهمنا أنهم قد خرجوا عن مسار عودتهم إلى ديرهم عدة مئات من الكيلومترات كى يحصلوا على وَسْقِ بغلٍ مثلهم سمكا، وأن الأمير لم يجد فى ممتلكاته إلا هذه المصيدة التى يقطّع الوصول إليها الأنفاس كى ينعم على الراهب ببعض ما يصاد منها من سمك! هذا ليس سمكا. هذا سمك، لبن، تمر هندى! ثم بالله كيف يمكن أن يبقى السمك طوال طريق العودة سليما لا ينتن كدبر قمصنا وراهبنا، ومعروفٌ بطء وسائل المواصلات فى ذلك العهد وعدم وجود حافظات للَّحم والسمك وأمثالهما من الأطعمة التى تفسد سريعا؟
    وهذا النهر، كما هو واضح، لا يتبع مملكة حلب، التى كانت تحت إمرة الملك الظاهر، بل يقع فى مملكة دمشق، التى كانت تحت سلطان أخ آخر هو الملك الأفضل، الذى كان يتبعه الأمير المشمر (اسمه الحقيقى "الخضر"، ولقبه الرسمى "الظافر" كما سبق بيانه)، ولعل فى ذلك ما يفسر أن المصيدة التى يملكها الأمير كانت فى دمشق لا فى حلب، وإنْ ظن محقق الحدوتة أنه كان تابعا لأخيه الملك الظاهر صاحب حلب (الذى لم يكن شقيقا له)، على عكس "الأفضل" (الذى كان أخاه لأبيه وأمه معا). وهذه عبارته: "ويظهر أنه كان من أتباع أخيه الملك الظاهر غياث الذين غازي صاحب مدينة حلب أصغر أولاد صلاح الدين. ومن ثم كان الأمير المشمّر أقل شأنا من أخيه الملك الظاهر الذي مات في حلب ودفن في قلعتها سنة 617 للهجرة التي توافق سنة 1216 مسيحية عندما جرت هذه المجادلة، ولعلّه كان تابعا لأخيه المذكور". والصواب ما ذكرناه من أنه كان تابعا للأفضل، أما الذى كان تابعا للظاهر فهو شقيقه الأمير داود، وكانت فى يده قلعة البيرة على الفرات. يقول النويرى فى "نهاية الأَرَب": "استقر ملك دمشق وما معها للملك الأفضل نور الدين أبي الحسن علي، وهو أكبر أولاده وولي عهده، وعنده أخواه شقيقاه الملك الظافر خضر والملك المفضل موسى. واستقر ملك حلب ما يليها للملك الظاهر غياث الدين غازي، وعنده أخوه الملك الزاهر، فجعله من قِبَله على البيرة"، وفى "النجوم الزاهرة" لابن تغرى بردى أن أولاد صلاح الدين "كانوا ستة عشر ذكرًا وابنةٌ واحدةٌ: أكبرهم الأفضل علي، ولد بمصر سنة خمس وستين يوم عيد الفطر. وأخوه لأبيه وأمه الملك الظافر خضر، ولد بمصر سنة ثمان وستين. وأخوهما أيضا لأبيهما وأمهما قطب الدين موسى، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين. فهؤلاء الثلاثة أشقاء. ثم الملك العزيز عثمان الذي ملك مصر بعد أبيه، ولد بها سنة سبع وستين. وأخوه لأبيه وأمه الأعز يعقوب، ولد بمصر سنة اثنتين وسبعين. والملك الظاهر غازي صاحب حلب، ولد بمصر سنة ثمان وستين. وأخوه لأبيه وأمه الملك الزاهر داود، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين. والملك المعز إسحاق، ولد سنة سبعين. والملك المؤيد مسعود، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين. والملك الأشرف محمد، ولد بالشام سنة خمس وسبعين. وأخوه أيضا لأبيه وأمه الملك المحسن أحمد، ولد بمصر سنة سبع وسبعين. وأخوه أيضا لأبيه وأمه الملك الغالب ملكشاه، ولد بالشام سنة ثمان وسبعين. وأخوهم أيضا لأبيهم وأمهم أبو بكر النصر، ولد بحران بعد وفاة أبيه سنة تسع وثمانين. والبنت مؤنسة خاتون تزوجها ابن عمها الملك الكامل... ابن الملك العادل وماتت عنده. وملك بعد السلطان صلاح الدين مصر ابنه الملك العزيز عثمان...، وملك دمشق بعده ابنه الملك الأفضل علي، وملك حلب ابنه الظاهر غازي كما كانوا أيام أبيهم"، وإن كنت لا أحب أن أقف عند هذه النقطة أطول من ذلك رغم إمكان اتخاذها دليلا إضافيا على الاضطراب والتدليس فى تلك الحدوتة، إذ ثم سؤال يفرض نفسه هنا، ألا وهو: ماذا كانت صلاحية الأمير الظافر فى حلب بحيث يقوم بتضييف الرهبان المذكورين، ولم تكن له صفة رسمية فى تلك المملكة؟
    كذلك ففى هذه الفقرة الأخيرة يوقع المحققَ فى المهالك غباؤُه مرة أخرى فيكون فى هذا برهان جديد على أنه لا توجد جريمة كاملة أبدا مهما ظن مرتكبها أنه قد احتاط فيها لكل شىء فسدّ كل الثغرات ولم يترك وراءه قط أى أثر يمكن أن يكشف أمره، إذ قال الكذاب عن الأنبا جرجى المزعوم إنه "من هؤلاء الشجعان الذين أرهفوا القلم وأحسنوا البيان"، مع أن راوى الحدوتة المضحكة قد ذكر أن ما جرى على لسان ذلك الأنبا (الذى ليس له وجود إلا فى العقول المدلسة) لم يكن سوى كلام شفوى لم يُسْتَخْدَم فيه قلم ولا ورق ولم يكن ثمة وقت للتحبير وإظهار البيان، على عكس ما يكذب المحقق المدلس الذى يعرف قبل غيره أن هذه المجادلة لم تقع قط وأنه لم يكن هناك مثل ذلك اللقاء المزعوم بين جرجى ومن سماهم بـ"أئمة المسلمين". كذلك أين كتبه الأخرى التى تظهر براعته البيانية ومواهبه العقلية؟ بل أين أخباره وتاريخ حياته عندهم، وهو الرجل الذى انتصر ذلك الانتصار الباهر على المسلمين وفى حضور أمير من كبار أمرائهم كما يزعمون؟ وبالإضافة إلى هذا فإن فى الحدوتة أخطاء لغوية لا تليق إلا بكذاب غبى مثله. إنهم أهل الإعلام الطنان من قديم الزمان، وصناع النجوم الزائفة بالباطل! ثم لو كان هناك لقاء كهذا، فأين خبره فى كتب المسلمين؟ أمن المعقول أن يقع مثل ذلك اللقاء، وأن يكون وقوعه فى معسكر الأمير الأيوبى ابن صلاح الدين، ثم تسكت عنه كل كتب المسلمين فلا تتعرض له ولو بكلمة؟ لقد ذهبتُ ففتشتُ بطون كتب تلك الفترة فلم أجد لتلك الحدوتة من أثر، بل لم أجد أى أثر لأى واحد من طرفيها: لا الأنبا جرجى ولا الفقهاء الثلاثة الذين تقول الحدوتة إنهم جادلوا هذا الجرجى فجندلهم، وهم أبو سلامة وأبو ظاهر والرشيد بن الهادى. ثم ما هذه النغمة الغريبة، نغمة انتصار النصارى على المسلمين فى الجدال، والمعروف أن علماء المسلمين لم يدخلوا قط مع رهبان النصارى ورجال دينهم فى جدال إلا كان الفلج للمسلمين، وكثيرا ما انتهى الجدال بدخول مجادليهم فى الإسلام. وما خبر المناظرة التى تمت فى السودان بين مجموعة الدكتور محمد جميل غازى وجماعة القساوسة السودانيين فى أواخر القرن الماضى وانتهت بإعلان القساوسة جميعا اعتناق الإسلام على بكرة أبيهم ببعيد! وبإمكان القارئ أن يطالع وقائع تلك المناظرة كاملة فى كتاب "مناظرة بين الإسلام والنصرانية"، ويقع فى طبعته الثانية (الرياض/ 1413هـ- 1992م) فى 500 صفحة، وهو متاح على المشباك لمن يريد تحميله. وبالمناسبة فقد كان بين أعضاء الوفد المسلم الأستاذ إبراهيم خليل أحمد، وهو قس مصرى سابق أسلم وأصبح من أشد المدافعين عن سيد الأنبياء والدين الذى جاء به.
    كذلك أين خبر هذا اللقاء فى كتب النصارى فى ذلك الوقت، بل إلى ما بعد ذلك الوقت بعدد من القرون؟ لقد جرت المجادلة المزيفة عام 1216م تقريبا، إلا أن أقدم مخطوط لهذه الحدوتة يعود إلى عام 1539م، فأين كانت تلك الحدوتة طوال تلك القرون الثلاثة والعقدين والنصف؟ يقول المحقق الكذاب ككاتبها الكذاب: "لم ننشرها إلا بعد أن قابلناها على عدة نسخ قديمة وجدناها في مكتبة الأمّة في باريس وغيرها من مكاتب الشرق، وهي كثيرة تعدّ بالعشرات، وأقدمها وأصحها كتبت بخط جميل سنة 1539 عن نسخة قديمة لا نعلم تاريخها". إننى فى الواقع لا أطمئن إلى أولئك الناس، فهم متخصصون فى التزييف والعبث حتى بكتبهم المقدسة، وما خبر تحريفهم إنجيلهم بالذى يجهله أحد، ومن هنا فليس لكلام ذلك الكذاب عندى وعند كل عاقل من معنى إلا أنها قد وُضِعَتْ وَضْعًا فى ذلك التاريخ إن صح ما يقول. أى أنها قد اخْتُرِعَتْ من بُنَيّات الخيال والأوهام بعد الوقت الذى قيل إنها وقعت فيه بأكثر من ثلاثة قرون! ترى أين حمرة الخجل عند أولئك الكذابين؟ الواقع أنهم لا يخجلون ولا يستحون، ومن كان هذا شأنهم فإن الله سبحانه لا يكتب لهم التوفيق أبدا، بل يفضحهم ويهتك سترهم كما فضح القمص المنكوح، ذا الدبر المقروح، الذى منه الديدان تلوح، والنتانة تفوح!
    ثم من هم أولئك المشايخ الثلاثة النكرات الذين لا نعرف عنهم شيئا البتة، وكأن الحاشية الأيوبية والبيئة الحلبية قد خلتا من مشاهير المشايخ والعلماء والكتاب ممن كانوا يستطيعون أن ينفضوا هذا الراهب فى الأرض كما أفعل أنا الآن بالقمص المنكوح رغم أنى عبد ضعيف لا أرتقى إلى مستواهم من العلم بهذه الموضوعات؟ ودعنا الآن من أن الأمير المشمر ذاته كان من أهل العلم والحديث وصاحب ثقافة تاريخية واسعة كما سيأتى فيما بعد من هذه الدراسة! أو كأن المسلمين يمكن أن يتجاهلوا مثل أولئك العلماء فلا يكتبوا عنهم أو يترجموا لهم! عال والله عال، لم يبق إلا أبو سلامة وأبو ظاهر والرشيد بن المهدي! لو أن الملفق الكذاب قال إن هؤلاء ثلاثة من العربان مثلا أو من بائعى البطاطا من أمثاله فلربما كان لكلامه بعض القبول، أما أن يكونوا علماء فقهاء فليس لذلك من معنى إلا أن الأبعد كان يفكر بدبره المنتن كفمه ويستملى قلمه من دواته الخلفية السفلية! أيعقل أن يكون هؤلاء من كبار أئمة المسلمين على ما يزعم ملفق الحدوتة ولا يرد لهم ذكر بين علماء حلب ولا غيرها من تلك البلاد؟ لقد وقعت مثلا، وأنا بصدد إعداد هذه الدراسة، على مقال فى العدد 1007 من "جريدة الاسبوع الادبي" (20/ 5/ 2006م) بعنوان "لماذا حلب عاصمة للثقافة الإسلامية؟" ذكر فيه كاتبه د.أحمد فوزي الهيب، ضمن من ذكر من علمائها فى الميادين المختلفة على مر العصور القديمة، مشاهيرهم فى العصر الأيوبى، فكان منهم الأسماء التالية، وليس فيها لا أبو ظاهر ولا أبو باطن ولا دياولو، ببساطة لأنهم ليس لهم وجود إلا فى دبر الراهب المدلس. قال المؤلف: "ومن علماء حلب آنذاك في التفسير والحديث والفقه وعلوم العربية والخط والتاريخ والجغرافية الفلك والرياضيات والطب والفلسفة: القفطي وابن العديم وابن سعيد الأندلسي وابن شداد وابن العجمي وعالي بن إبراهيم الغزنوي وابن الصلاح والكاشغري والكاساني وصقر بن يحيى وعبد الله الجماعيلي والهاشمي عبد المطلب بن عبد الفضل وابن الخباز وشهدة بنت ابن العديم وابن يعيش وابن عمرون وابن مالك والواسطي القاسم بن القاسم والحسين بن هبة الله الموصلي وسعيد بن أبي منصور الحلبي وحمد بن علي المازندراني وابن خروف النحوي وعبد اللطيف البغدادي وعلي بن أبي الفرج البصري والأسعد بن مماتي وابن المولي ويحيى بن محمد وابن أبي طي وياقوت الحموي وحمد بن طلحة والهروي علي بن أبي بكر والسهروردي الفيلسوف المتصوف وأبو الفضل بن يامين الحلبي وأبو الحجاج يوسف الإسرائيلي وغيرهم. ومن أطبائها عبد اللطيف البغدادي وعفيف بن سكرة الحلبي وحسون الرهاوي"ـ وغير هؤلاء كثير.
    على أن هناك شيئا فى زاوية السرد الخاصة بالحدوتة، ألا وهى أن الراوى، رغم ما قيل من أنه كان أحد أعضاء الوفد الذى ذهب للقاء الملك الأيوبى وأنه كان حاضرا المجادلة المزعومة فى حضرة الأمير المشمر كلمة كلمة، لم يَرْوِ الحدوتة بضمير المتكلم، شأن من كان فى مثل موقفه من الحضور والمشاركة، بل حكاها بضمير الغائب، لا على سبيل النحو فقط، بل على سبيل الملاحظة والوجدان أيضا، إذ لم يحدث أنْ فَكَّر فى التعبير عن مشاعره مرة أو التعليق على ما جرى رغم خطورته البالغة ولو بكلمة واحدة، فيقول مثلا: كنت واحدا من وفد الرهبان الذى ذهب للقاء الأمير المشمر فى شأن كذا فقال لنا كذا وقلنا له كيت، وكنت أشعر بالسرور وأنا أرى الأنبا جرجى يفحم المشايخ المسلمين ويحظى بتشجيع الأمير...إلخ. بل إنه حين تكلم عن الراهب الذى تولى المجادلة المزعومة لم تبدر منه لفظة واحدة تنبئ أنه كان يعرفه أو كانت له به علاقة قط! وهذه ثغرة خطيرة فى الحدوتة تدل على أنها مصنوعة صنعا وأن قائلها لا يمكن أن يكون قد حضر شيئا مما يَدَّعِى وقوعه بين الأنبا المذكور والمشايخ الثلاثة.
    ولكى يعرف القارئ ما أريد أن أقوله ويتمثل الأمر التمثل الصحيح أسوق له هذه الأسطر من رواية أم سلمة رضى الله عنها عما وقع للمسلمين فى الحبشة فى عهد النبى حيث كانت معهم هناك: "قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ r قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ: أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى لا نُؤْذَى وَلا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا الأُدْمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إلا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَأَمَرُوهُمَا بِأَمْرِهِمْ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعَا إلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمَا إلَى النَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلاهُ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ إلَيْكُمَا قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ. قَالَتْ: فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، عِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بِطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إلا دَفَعَا إلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، وَقَالا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: إنَّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاءُوا بِدِينِ مُبْتَدَعٍ لا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ لِيَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ. فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَلِّمَهُمْ إلَيْنَا وَلا يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ. ثُمَّ إنَّهُمَا قَدَّمَا هَدَايَاهُمَا إلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ لا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ. وَقَدْ بَعَثَنَا إلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ...". فانظر كيف روت أم سلمة حكايتها بضمير المتكلم فقالت: "نزلنا، جاورنا، أَمِنّا، عَبَدْنا، لا نُؤْذَى، لا نسمع..." رغم أنها لم تكن من الحاضرين مجلس النجاشى، بل كانت فقط واحدة من جماعة المهاجرين المسلمين هناك، فما بالنا بمن كان حاضرا وسمع ورأى كل شىء كراوى هذه الحدوتة؟

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    ويقول الراهب جرجى ردًّا على ما نُسِب إلى الأمير المشمّر من سؤاله إياه عن الحكمة فى تحريمهم اللحم والنساء على أنفسهم (مع تأكدى أن الأمير لم يكن بحاجة لمثل هذا السؤال لمعرفته أنه لا ينفر من النساء إلا كل منكوح ذى دبر مقروح، إذ لم يخلق الله جنسى الذكر والأنثى فى البشر عبثا، بل لينكح الرجال النساء كى تستمر مسيرة الحياة، أما من يعيب النكاحين فهو لا يمكن إلا أن يكون منكوحا يحقد على النساء ويريد أن ينال نصيبه مثلهن مما عند الرجال، غافلا بدبره الغبى مثله أن ذلك شذوذ ولواط قذر كخلقته وطبيعته القذرة لا يرضاه الرجال النكاحون الأسوياء)، المهم أن الراهب يقول فى الرد على سؤال الأمير: "ولا نحن نحرّم الزيجة ولا أكل اللحم. وإنما نقصد بذلك العيشة اللطيفة غير الهيولية لنتقرّب إلى الله الجوهر اللطيف غير الهيولي بتلطيف الجسم". ووجه الشاهد هنا هو وصف الراهب المنكوح لله سبحانه بأنه "جوهر لطيف غير هيولى". الله أكبر! أليس هذا شيئا قريبا مما تعب المسلمون فى قوله للنصارى طوال هاتيك القرون؟ أليس ما يزعمونه من أن الله قد تجسد ونزل إلى الأرض وأكل وشرب وتبول وخرأ وشُتِم وضُرِب وأُهين وطُعِن فى جنبه بالحربة ولُعِن وصاح واستغاث وما من مغيث، كل ذلك فساد فى فساد حسب ما قاله ذلك المنكوح فى "لحظة" تجلٍّ كانت استه فيها (على غير العادة الشهرية، وكذلك اليومية، التى تصيبه فيها دائما) لا تنبض بالألم ولا تعانى من سعار الشهوة فنطق بالحقيقة؟ ومع ذلك فمن قال إننا نتقرب لله بالتنكر لأجسادنا وشهواتها؟ إن هذه الأجساد وتلك الشهوات إنما هى جزء أصيل من كياننا لا تستقيم الحياة بدونه، فكيف يطلب عز وجل منا أن نتنكر لها؟ وما العلاقة بين كون الله غير ذى جسد وبين تنكر البشر لأجسادهم؟ لو قال الراهب الأبله إن الاعتدال مطلوب فى إشباع شهواتنا لقلنا له: نعم ونعام عين! أما تجاهل الجسد ومطالبه فإنه ينتهى بكوارث أخلاقية واجتماعية ليس أقلَّها أن يتحول بعض من يتجاهلون تلك المطالب إلى مناكيح، إذ الطبيعة لا ترحم من يتنكر لقوانينها التى فطرها الله عليها، لا تبديل لخلق الله! وحتى المسيح عليه السلام الذى يقول ذلك الراهب ومن على شاكلته إنه هو الله لم يكن ليستطيع أن يعيش إلا بإشباع فمه وبطنه، ولو استطالت به الحياة فأغلب الظن أنه كان سيتخذ له زوجة، إن لم يكن قد تزوج فعلا كما يقول مؤلف "شفرة دافنشى"، وهو أمر غير مستبعد لأنه مسألة طبيعية تماما، وإن لم يرد ذِكْره فى كتب التاريخ التى بين أيدينا! وبالمناسبة فقانون الاعتدال غير خاص بمطالب الجسد، بل يصدق على مطالب العقل والروح كذلك، فمثلا لو أنفق الإنسان عمره أو معظم عمره فى العبادة دون الالتفات لمصالحه الدنيوية أو واجباته الاجتماعية لكانت عقابيل ذلك سيئة أيضا، وقد تكون كارثية فى بعض الأحيان.
    ويستمر الراهب فى سماديره قائلا إن "السيد المسيح قال لنا: إنكم ما تقدرون أن تنالوا الفرح والسرور في العالم الآتي دون الشقاء والحزن في هذا العالم الفاني". ونحب أن نعرف أين قال عيسى بن مريم ذلك. وإذا كان هذا القول صحيحا أيــًّا من كان قائله فليس له من معنى إلا أن النصارى كلهم، اللهم إلا من يَصْدُق القولَ والعملَ بذلك من الرهبان (وأين هم؟)، سوف يكون مصيرهم أسود من قرن الخروب، إذ هم كلهم يستمتعون بملاذّ الجسد، شأنهم شأن سائر عباد الله! هيه يا كذاب! ماذا تراك قائلا فى هذا؟ لقد كان المسيح يأكل الطعام الطيب مثلما يحب أن يأكله جميع الناس، وكلنا يعرف كيف حنق عليه السلام على التينة بل لعنها لأنها لم يكن فيها تين فى غير إبانه حسبما لفق مؤلفو الأناجيل! ترى لماذا غضب عليه السلام على الشجرة المسكينة حين لم يجد فى أغصانها تينا رغم أنها لم تكن فى موسم الثمر ورغم أنها لا تعقل ولا تملك من أمر نفسها شيئا؟ أليس لأنه يحب التين ويريد أن يأكله، وهو طيّبة من طيبات الدنيا؟ ألم تطلب أمه أن يوفّر الخمر لضيوف أحد الأعراس فاستجاب لها، وكانت هذه أول معجزة قام بها فى حياته؟ وإن كنا لا نصدق أن أمه قد طلبت منه ذلك ولا أنه عصى الله وصنع هذه المعجزة! ألم يقم بمعجزة إطعام الآلاف طبقا لما جاء فى الأناجيل؟ أهناك من ينكر أن الطعام والشراب لذتان من لذائذ الحياة؟ ألم يعمل بكل ما وهبه الله من مقدرة على شفاء العُمْى والبُرْص والبُكْم، وقد كان ينبغى، لو كان ما نسبه له ذلك الراهب صحيحا، ان يُبْقِيَهم فيما هم فيه من هم وشقاء ومعاناة حتى يكون حظهم فى ملكوت السماوات عظيما؟ ألا يرى القارئ أن ما قاله الراهب الكذاب مجرد كلام فى الهواء لا مضمون له ولا مصداقية فيه؟
    كذلك يدل على أن راوى الحدوتة كذاب أيضا فيما قاله عن الجسد وطيبات الحياة أنه يركز، فى مدحه للرهبان، على أشكالهم وملابسهم. ترى لو كان الجسد وما يتعلق به يمثل سوءا ونقمة على صاحبه، فلم اهتم ذلك الكذاب بحلاوة منظر الراهب فوصفه بقلمه مرة، وعلى لسان الشيوخ المسلمين مرة، بطريقة من ينظر إليه على أنه امرأة فاتنة تستهوى ألباب الرجال وعيونهم، فهو يزينها لهم كى ينكحوها؟ إنه يقدمه لنا على النحو التالى: "تَزَيَّنَ بشيبةٍ زاهرةٍ وأخلاقٍ عذبةٍ تتوق الألحاظ إلى معاينته"، كذلك فأبو ظاهر البغدادى يقول عنه: "كل ما عنده حسن وجميل، ووجهه صبيح ومليح". أوهذا كلام من يرى متع الدنيا مناقِضة للعاقبة الحسنى فى دار النعيم؟ جدير بالذكر فى هذا السياق أن نشير إلى ما كان يفعله بعض شياطين المسلمين فى الأزمان القديمة حين كانوا يقصدون الأديرة للفِسْق بالرهبان، وبخاصة الشبان منهم، ثم ينظمون فى هذا شعرا عجيبا حتى تكون الفضيحة بجلاجل. وهذا معروف للجميع، ومن يُرِدْ أن يستزيد من ذلك الموضوع فليقرأ مثلا كتب "الديارات"!
    وبالمثل لا يمكن أن يصدّق إنسان أن الراهب يفقد عقله إلى المدى الذى يقول فيه للشيخ: "إننا عارفون أن الغضب والقتل عندكم سنّة لا تُعاب، وعادة بها تفتخرون، وقد قال بعضهم: دارِهم ما دمتَ في دارهم، وأَرْضِهم ما دمتَ في أرضهم... يا أبا سلامة نحن لا نورد مكان الصدق كذبا، وإنما نخشى أن تتصوّر، لغلظ طباعك، الحق كذبا". إن هذا لهو الجنون بعينه، لأن المسلمين لم يكونوا بالهوان الذى يسوّل لمثل هذا الراهب المنكوح أن يجبههم فى وجههم بتلك الكلمات القاسية المهينة. بل إن أحدا من النصارى الآن فى ظل التجبر الأمريكى الحالى والشماتة التى يبديها بعضهم فى أكمامه بالمسلمين لا يجرؤ أن ينطق بشىء من هذا فى مثل تلك الظروف، فما بالنا بالعصر الذى كان المسلمون يُنْزِلون فيه بالصليبيين الضربات تلو الضربات، وكانت ممالك هؤلاء الخنازير فى الشام وفلسطين تتقلص باستمرار وتنبئ الشواهد بأنهم عما قليل مكسوحون إلى بلادهم النجسة مثلهم؟ ثم ما معنى قوله لهم فى وجههم: "دارِهم ما دمت فى دارهم، وأَرْضِهم ما دمتَ في أرضهم"؟ أليس معناه أنه لا يقدر على مواجهتهم بما يريد أن يقوله؟ فكيف إذن يواجههم بل يجبههم بذلك الكلام القاسى المهين؟ بل كيف يفضح نفسه ويكشف عن خطته فى مداهنتهم واستغفالهم؟ ما رأيك يا أيها القمص المنكوح، يا من ظننت أنك ستفحمنى بإرسال هذه الحدوتة لى فى بريدى المشباكى؟ أجب يا ذا الدبر المقروح! ردّ يا من تتعذب ليلك ونهارك مما تسومك إياه اسْتُك التى تظل تدهنها بالأصفر والأحمر والأخضر تزيينا لها، والتى لا تكف عن التشنّج والتغنّج، والشهيق والنهيق، والزَّفِير والزَّحِير طول اليوم طلبا للسِّفَاد يا أيها الشائب العائب! أجب، لعنة الله عليك وعلى اسْتٍ تجشّمك كل هذا العذاب والهوان! ألا يمكن أن تفيق مما أنت فيه مرة فتعرف أن دبرك لم يعد صالحا للنكاح بعد أن شاخ كما شِخْتَ، وتهدَّل كما تهدل عقلك الزنخ، وفقد مرونته وخاصته المطاطية (elasticity)، وأن كل ما يمكن أن يصلح له الآن هو تحويله إلى مِبْصَقَة للتفّ والنفّ، أو إلى مِبْوَلَة لقضاء الحاجة؟ تصوروا القمص المنكوح وقد كُتِب عليه طول عمره أن ينام منتكس الوجه، وقد شرع دبره فى الهواء يتلقى فيه ما لذ وطاب، من ذلك السخام والهباب، ثم إذا ما امتلأت استُه المنتنة رَكَله المارة بأقدامهم فقَلَبوه على الناحية الأخرى وأخذوا يتفّون وينفّون ويتبولون فى فمه الأكثر نتانة؟
    ومن البلاهة التى لا يحسن النصارى سواها فى الاختراع والتلفيق قول الراوى الأخطل إن الأمير، لما أفحم الأنبا النصرانىُّ الشيخَ المسلم، قد مال عليه وأسرّ له فى أذنه أن أمه نصرانية وأنه معه بعواطفه تماما، ثم لم يكتف بهذا بل خلع خاتمه الثمين وألبسه إياه فى إصبعه! يا سلام! ما كل تلك البراعة؟ ترى إذا كان كلام الأمير صحيحا، أكان رجال الحاشية وغيرهم من الحاضرين يجهلون هذا حتى يسارّ الراهبَ وحده به بما يفيد أن أيا منهم لم يكن يعلم بهذا الأمر؟ هل كان صلاح الدين مثلا قد تزوج بأم الأمير عرفيا وسهّاها وسرق منها الورقة حتى لا تستطيع أن تثبت عليه نفقة أو تحصل منه على إرث أو تنسب ابنه منه إليه كحكاية فلان وفلانة المغثية التى أضحت كاللبانة فى فم كل من هب ودب فى أيامنا هذه؟ ما رأيكم فى هذا أيها القراء؟ بل ما رأيكم فيما فعله الأمير من الميل بجسمه إلى الراهب والإسرار له فى أذنه بذلك السر الخطير دون الخشية من سماع المسلمين الموجودين له، وكأنه طفل من الأطفال قُبِض عليه متلبسا بسرقة لعبة زميله، فتراه يسارع إلى تخبئة يده خلف ظهره على مرأى من الحاضرين ظنا منه أنه بهذا يخفى الشىء المسروق عن العيون؟ أم هل كان المسلمون يغفرون للأمير ما فعله من الانتصار لنصرانى على مسلم؟ أوكانت تمر مثل هذه الواقعة مرور الكرام وكأن شيئا لم يحدث فلا يهيج بسببها العلماء والجمهور ولا يكتب فيها الكاتبون فيُبْدِئون ويُعِيدون؟ ومع ذلك كله فهؤلاء المناكيح يظنون أن بمقدورهم إقناعنا بهذا الهراء! أما واقعة خلع الأمير خاتمه من إصبعه ووضعه فى إصبع الأنبا فلا ريب فى أنها كانت ستكون مقنعة لو أنه، بدلا من إدخال الخاتم فى إصبع الأنبا، قد وضع إصبعه كله بالخاتم فى دبره (ودبر زيكو أيضا فوق البيعة حتى لا يغضب، وكله بثوابه!) فانحشر وبقى على هذا الوضع حتى مات وتخشّب إصبعه بالخاتم بداخل سرمه واستحال إخراجه من مكمنه (هنيئا لك يا أنبا جرجى! مكتوبة لك!)، فاضطروا أن يدفنوهما معا فى قبر واحد رغم اختلاف الدينين نزولا على حكم الضرورة، وإصبع هذا فى دبر ذاك، ولا عزاء لأى منكوحٍ سنكوح!
    ولو سلمنا بما قيل عن تعاطف الأمير مع النصارى بسبب نصرانية أمه المزعومة التى تخلو كتب التاريخ من أى كلام عنها، بل هى من بنيات دبر الكاتب المفضوح، فهل كانت أم أخيه الظاهر ملك البلاد نصرانية أيضا؟ ولنلاحظ أنهما لم يكونا شقيقين كما وضحنا فى موضع سابق من هذه الدراسة، فكيف سكت ذلك الملك عن العَكّ الذى فعله أخوه الأمير والذى كان لا بد أن تكون له عواقب وخيمة على المملكة؟ وذلك بغض النظر عن قوة تشدده فى أمور الدين وعدم تساهله بوجه من الوجوه فى مثل هذه القضية. يقول ابن خلكان فى كتابه: "وفيات الأعيان": "كان ملكا مهيبا حازما متيقظا كثير الاطلاع على أحوال رعيته وأخبار الملوك، عالي الهمة حسن التدبير والسياسة باسط العدل محبا للعلماء مجيزا للشعراء"، وقال ابن العديم فى "زبدة الحلب" عما وقع فى مملكة صلاح الدين بعد وفاته: "واستقر ملك ابنه السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب لحلب، والبيرة، وكفر طاب، وعزاز، وحارم، وشيزر، وبارين، وتل باشر. واستقل بملك حلب، وأنعم على رعيته، واستمال قلوبهم بالإحسان، وعمل بوصية أبيه في الأفعال الحسان. وشارك أهل حلب في سرورهم والحَزَن، وقلد أعناقهم أطواق الأنعام والمنن، وجالس الكبير منهم والصغير، واستمال الجليل والحقير. وكان رحمه الله، مع طلاقة وجهه، من أعظم الملوك هيبة وأشدهم سطوة وأسدهم رأيا وأكثرهم عطاء. وكانت الوفود في كل عام تزدحم ببابه من الشعراء والقراء والفقراء وغيرهم. وكان يوسعهم فضلاً وإنعاما، ويوليهم مبرة وإكراما. ولم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد سيف الدولة بن حمدان ما اجتمع ببابه رحمه الله، وزاد على سيف الدولة في الحباء والفضل والعطاء"، وذكر ابن شداد فى "النوادر السلطانية" أن جماهير المقاتلة فى عكا (على أيام الناصر صلاح الدين، رضوان الله عليه) كانت تعتقد أن الله قد هيأ اندحار العدو ببركة قدوم الملك غازي، كما استبشر والده صلاح الدين به وعلم أن ذلك بصلاح سريرته، إذ وجد النصر مقرونا بقدومه مرّة بعد أخرى، وثانية بعد أولى. ومن المعروف أنه قد حضر مع أبيه معظم وقائعه مع الصليبيين الخنازير. وفى "ترويح القلوب بذكر ملوك بني أيوب" يورد المرتضى الزبيدي ما أثنى به ابن عربى عليه من أنه لم تُرْفَع إليه حاجة من حوائج الناس إلا سارع في قضائها من فوره من غير توقف كانت ما كانت. وكان الملك مريدا لذلك الشيخ وحصل منه على إجازة في العلم توجد مخطوطتها فى مكتبة الأسد الوطنية (مخطوط رقم 6284) حسبما كتب أسعد الخطيب فى مقاله: "الإطار الدّفاعي عِندَ الصُّوفيَّة" بموقع "التصوف الإسلامى". فمثل هذا الملك لم يكن ليسكت على كفر أخيه المزعوم لو كان ما قالته الحدوتة صحيحا، وهو ما لا يمكن أن يكون قد حدث قط، اللهم إلا فى دبر الراهب ودبر كاتب الحدوتة، ذلك أن دبريهما ليس عليهما جُنَاح ولا يتقيدان بقانون!
    ولو افترضنا أن تلك المجادلة وذلك الكتاب الذى ضمّها صحيحان، فكيف نفسر سكوت علماء المسلمين عن كتابة رد على تلك الشبهات التى أوردها الراهب المنكوح؟ لقد كتب مثلا ابن كمونة اليهودى بعد ذلك التاريخ ببضعة عقودٍ قليلةٍ كتابه: "تنقيح الأبحاث للملل الثلاث" الذى تعرّض فيه لليهودية والنصرانية والإسلام وأورد بعض الاعتراضات على دين محمد عليه السلام وعلى نبوته، فهب على الفور خواجة نصير الدين الطوسى وكتب تفنيدا لها بعنوان"الردّ على شبهات ابن كمونة" رغم أن ابن كمونة إنما عبّر عن رأيه كتابةً ولم يقله فى مناظرةٍ عامةٍ انتهت بهزيمةٍ مدويةٍ ومخزيةٍ للجانب المسلم كما يزعم كاتب المجادلة، فضلا عن أن اعتراضاته على الإسلام كانت أهدأ جدا جدا مما قاله الأنبا جرجى فى مجادلته حسبما كتب مدوّنها الموهوم. فإذا أضفنا أن ابن كمونة كان يعيش فى بغداد حيث كانت الخلافة العباسية ضعيفة وحيث كان المسلمون بعيدين عما يجعل وقع كلام ابن كمونة على نفوسهم عنيفا كما هو الحال فى دولة بنى أيوب قائدة الصراع الدامى مع الصليبيين، وأن المسلمين هاجوا وماجوا يريدون البطش باليهودى مما استدعى تدخل كبار رجال الدولة وكبار علمائها بغية محاصرة المسألة التى لم تنته مع ذلك إلا بتهريب ابن كمونة فى صندق مجلَّد إلى الحِلّة، التى مات فيها بعد ذلك بأيام طبقا لما كتبه ابن الفوطى فى كتابه: "الحوادث الجامعة والتجارب النافعة فى المائة السابعة" فى حوادث سنة 683 للهجرة، إذا فعلنا ذلك تبين لنا أن سكوت المسلمين وعلمائهم على هذه المهزلة غير مستطاع التصديق لأنه مما يخالف طبائع الأمور، ودَعْنا من الكذبة البلقاء التى كذبها الكاتب المدلس حين ادعى أن ابن صلاح الدين مالأ النصارى فى تلك الواقعة ضد المسلمين!
    ولم يكن الرد على كتاب ابن كمونة شيئا استثنائيا فى تاريخ الثقافة الإسلامية، بل هو القاعدة، وأستطيع أن أذكر من محفوظى الآن "الرد على النصارى" للجاحظ (الذى أعدت كتابته من جديد كما لو كان الجاحظ يعيش فى عصرنا الآن، بعنوان "مع الجاحظ فى رسالة الرد على النصارى")، و"الرد على ابن النغريلة اليهودى" لابن حزم، وجواب القاضى أبى الوليد الباجى على رسالة راهب فرنسا التى دعا فيها حاكم سرقسطة المسلم إلى النصرانية، وكتاب أبى عبيدة الخزرجى فى الرد على قسيسٍ قُوطِىّ كان يحاول تشكيك المسلمين فى عقيدتهم فألف رسالة بهذا المعنى أَعْطَوْها لأبى عبيدة فكتب يفنّدها تفنيدا صاعقا، ويتهكم بصاحبها ودينه تهكما ماحقا، ويفضح ألاعيب رهبان النصارى ومخاريقهم التى يموهون بها على عامتهم بسبب افتقار عقيدتهم إلى أساس عقلى يسنده، و"إظهار الحق" لرحمة الله الهندى، ورد قاسم أمين على دوق داركور، ورد محمد عبده على هانوتو، وكذلك رده أيضا على فرح أنطون، و"ما يقال عن الإسلام" للعقاد، وما كتبه العبد الضعيف فى "المستشرقون والقرآن" و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" و"عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين" وغيرها... إلخ. فكيف بعد ذلك كله يريدنا القمص المنكوح ذو الدبر المقروح، وكذلك راهبه المنفوخ ذو الدبر المشروخ، لنصدق أن المسلمين يمكن أن يسكتوا على هذا التجاوز الذى فاق كل تصور من بعض نصارى الدولة الأيوبية، وفى حضرة واحد من أكبر أمرائها؟ ولماذا نذهب بعيدا، وبين أيدينا مثال القمص المنكوح نفسه وكيف أن شبان المسلمين قد كتبوا فى الرد عليه رسائل ومقالات تفحمه وتسد فمه ودبره سدا منيعا، بل أنشأوا أيضا مواقع مشباكية تفند كل ما يقول، ومعظمهم غير متخصص فى هذا المجال، بل إن كثيرا منهم لم تكن له قبل هذا اهتمامات خاصة بالدين أو بالدفاع عنه، إلا أن قلة أدبه ونتانة فمه واسْته قد استفزتاهم إلى نصرة دينهم والذب عن كتابهم المجيد ورسولهم الكريم!
    وإلى نقطة أخرى فى هذه الحدوتة المصنوعة التافهة ننتقل لنقرأ الحوار التالى: "قال الراهب: ... قل يا أبا سلامة: ألا تقرّ أن الله خلق الخلائق كلها؟
    قال المسلم: نعم. ما في السموات والأرض خلقه الله تعالى بأمره وكلمته.
    قال الراهب: فهل يوجد عالمٌ خلقه الله، وعالم خلقه إله آخر؟
    قال المسلم: لا. ولكن العالم كلّه خلقه إله واحد، وهو الله الذي نعبده، ولا إله سواه.
    قال الراهب: فهل ترى أن الله يشاء خلاص العالم كلّه أم يؤثر خلاص أمّة واحدة من خلقه وهلاك سواها؟ أو لا تقرّ أنه غني كريم جوّاد؟ فإن قلتَ أنه تعالى لا يؤثر خلاص العالم كله فقد نسبت الباري تعالى عز وجلّ إلى الفقر أو البخل كإنسان أعدّ طعاما لمائة رجل فلما حضره مائة غيرها قال للمائة الأخيرة: انصرفوا عني، فما يوجد عندي لكم طعام. فيدل هذا على فقر ذلك الإنسان أو بخله.
    قال المسلم: إن الله يتعالى عمّا وصفت، وإنّي أقرّ وأعترف إنه غنيّ كريم جوّاد خالق الخلائق بأسرها ومؤثر خلاصها.
    قال الراهب: فإذا كان الله يشاء خلاص العالم كلّه فيجب أن يكون رسوله إلى العالم كلّه لا إلى أمّة واحدة".
    حلوٌ جدا! لقد وقعتم ولم يُسَمِّ أحد عليكم أيها الكذابون: لا باسم الله الرحمن الرحيم ولا باسم الآب والابن والروح القدس، ومن فمكم وكتابكم لا من فمنا ولا من كتابنا ندينكم ونُرِى الناس جميعا أنكم أغبياء لا تفقهون ولا عقل لديكم به تفكرون. ترى أى الرسولين الكريمين هو الذى قال إنه إنما بُعِث لأمته فقط، وأيهما هو الذى قال إنه بُعِث للناس كافة؟ الإجابة التى لا يمكن أن يجادل فيها إنسان، أو حتى حيوان مثلك أيها الكاتب الكذاب، تتلخص فى أن الأول هو عيسى بن مريم، والآخر هو محمد بن عبد الله، عليهما جميعا الصلاة والسلام. وهذه هى الشواهد لمن يريد من الحمقى رغم ذلك أن يجادل: فعلى حين نسمع المسيح يقول بصيغة الحصر والقصر إنه لم يُرْسَل إلا لخراف بنى إسرائيل الضالة، نجد القرآن المجيد منذ العصر المكى يقول عن سيد الأنبياء والمرسلين: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا"... إلخ، كما أشار صلى الله عليه وسلم مرارا إلى طبيعة مهمته وأنها مهمة عالمية وليست خاصة بالعرب وحدهم وأن هذا مما تتميز به رسالته على رسالات الرسل السابقين، على عكس السيد المسيح الذى تحكى لنا الأناجيل نفسها أنه لما طلبت منه المرأة الكنعانية أن يساعدها رفض وأسمعها تلك الكلمة القاسية الفظة المفعمة بالاحتقار والتكبر والتجبر، وهى أن خبز البنين لا يؤخذ فيُطْرَح للكلاب. والبنون هنا هم بنو إسرائيل، أما الكلاب فهم الأمم الأخرى، ومنها تلك المسكينة التى لم تجد بدا من إظهار استعدادها لتجرع كؤوس المهانة والتحقير حتى آخر قطرة، فقالت له إن الكلاب تصيب أيضا من فتات الطعام المتساقط من المائدة على الأرض، فعند ذلك رَضِىَ المسيح بعد أن أعجبه كلامها الذليل، وقَبِلها على سبيل الاستثناء ليس إلا. وقد أكد كلامه مرة أخرى تأكيدا صريحا على سبيل المخالفة: "5هؤُلاَءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً:«إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. 6بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ" (متى 10). ولا يقولن قائل إنه قد غير كلامه فى آخر حياته حين طلب من تلاميذه أن ينطلقوا ليبشروا بالإنجيل بين الأمم، إذ إن هذا لو صدقنا حدوثه لم يكن إلا بعد أن يئس عليه السلام من "البنين" فاضطر إلى اللجوء لـ"الكلاب" على مضض وكراهية وقنوط، بخلاف محمد عليه السلام الذى كان يجمع حوله من البداية الرجال والنساء من غير العرب كما هو معروف مفسحا لهم فى صدره وقلبه وعطفه وكرمه وحنانه ومبادئه دون مَنٍّ عليهم ولا أذى ولا نَبْزٍ لهم بالكلاب أو الخنازير، وكان منهم الحبشى، والرومى، والفارسى: محمد الذى قال إنه لا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى والعمل الصالح، فلا بنين عنده ولا كلاب، بل الكل أبناء الله الرحيم الكريم! محمد الذى جعل من سلمان الفارسى واحدا من أهله: "سلمان منا أهل البيت"! محمد الذى قام عند مرور جنازة يهودى بمجلسه قائلا لمن استغرب ذلك من أصحابه: أليست نفسا؟ ولم يقل: دعوكم منه، فإنه كلب ابن كلب؟...إلخ.
    ثم إنه صلى الله عليه وسلم قد أتبع القول بالعمل فبعث برسائل إلى ملوك الأرض من حوله يدعوهم فيها إلى الإسلام، أما عيسى فلم يخرج عن دائرة بعض المدن الفلسطينية التى كان يتحرك فيما بينها على الأقدام، ولم يحدث قط أن دعا أحدا من غير بنى إسرائيل إلى آخر لحظة فى حياته على الأرض. وهذا إن قبلنا رواية الأناجيل عن تغير اتجاه الريح فى دعوته عليه السلام، وإلا فلنلاحظ أنه، حين نص على أن رسالته مقصورة على البنين ولا نصيب فيها للكلاب أولاد الكلاب، قد قال: لَمْ أُرْسَل إلا إلى خراف بنى إسرائيل الضالة. فهو هنا ينص نصًّا على أن هذه طبيعة مهمته، وأن هذا هو نطاقها لا يمكنها أن تتعداه لأن ذلك هو ما أرسله الله من أجله. فالقرار إذن هو قرار الله، بخلاف أمره هو لتلامذته بالانطلاق إلى الأمم لتبشيرهم بالدعوة الجديدة، الذى لا يعكس إلا قراره هو، وإلا لقال إن الله سبحانه قد غير الأوضاع وأمركم بالخروج من نطاق المحلية إلى نطاق البشرية كلها. ولا أحب أن أتوقف كثيرا عند قوله إنه لم "يُرْسَل" إلا إلى خراف بنى إسرائيل، بما يعنى أن هناك من أرسله، وهو الله. أى أنه ليس أكثر من عبد لله ورسول كريم من رسله لا أنه هو الله نفسه، تعالى الله عن ذلك، وإلا فكيف يرسل نفسه بنفسه؟ ولا أزيد عن هذا هنا لأن السياق ليس سياق المناقشة لألوهيته المدَّعاة عليه الصلاة والسلام.
    ويستمر الأنبا المزعوم فى الكلام قائلا: "وكذلك يجب على كلّ من نادى على نفسه وقال إنه رسول من الله أن يكون معه قوّة مرسِلِه ودليل يشهد له أنه رسول من الله.
    قال المسلم: وما القوّة والدليل؟
    قال الراهب: التي كانت في رسل المسيح.
    قال المسلم: وما هي؟
    قال الراهب: هي ثلاثة خصال: اجتراح المعجزات، والتكلم بسائر اللغات، والمناداة في الدنيا كلها. وأنتم لكم ثلاثة خصال تضاد هذه.
    قال المسلم: وما هي؟
    قال الراهب: التهديد بالسيف، والترخيص، والإقناع السفسطي أو الخيالي. وهذه ثلاثة الخصال وُجِدَت في محمد.
    والتفت الراهب إلى الأمير وقال له: أعزّك الله أيّها الأمير. إن حضر لديك في وقتنا هذا إنسان يقول عن نفسه إنه رسول من الخليفة أرسله إليك في أمر من الأمور ولم يوجد معه كتاب من الخليفة ولا خاتمه ولا علامته ولا ما يدل عليه، فهل كنتَ تصدّقه إنه رسول من الخليفة؟
    قال الأمير: لا. ويؤخذ عندي والله تحت الذنب والعقوبة.
    قال المسلم: وما هو الدليل والبرهان على أن رسل المسيح كان فيهم هذه القوات والخصال من افتعال المعجزات والتكلم بسائر اللغات والمناداة في الدنيا كلّها؟
    قال الراهب: الدليل حاضر بين يديك، والبرهان واضح أمام عينيك. لأنك إن مضيت إلى الشرق، وإن ذهبت إلى أقاصي الغرب، وإلى آخر الجنوب والشمال، فإنك تجد عبادة المسيح في أقاصي الأرض، ولا يوجد إقليم من أقاليم الأرض يخلو من عباد المسيح. وهذا الدليل الواضح على أن رسل المسيح طافوا الأرض جميعها من أقصى الأقطار إلى أقصاها. والدليل على أنهم تكلّموا بسائر اللغات أنك لا تجد أمّة ولا لغة ولا لسانا إلا وقد نودي فيها باسم المسيح وعبدوا فيه المسيح. وداود النبي قد تنبأ قبل رسل المسيح بأجيال كثيرة على تكلّم الرسل بسائر اللغات وقال (مز 18، 5): "في كل الأرض خرج نطقهم، وفي جميع المسكونة انبثّ كلامهم". وهذا دليل واضح على أن الحواريين تكلموا بسائر اللغات. فهل عندك يا أبا سلامة في هذا شكّ؟
    قال المسلم: هذا أمر ظاهر لا شكّ فيه".
    وهذا الرد المنسوب للشيخ المسلم هو كذبٌ فى كذبٍ فى كذبٍ، كذبٌ بالثلث، إذ لا يمكن أن يقول ذلك مسلم أبدا، وإلا فأين الدليل الذى يقيم عليه تصديقه وتسليمه بمثل هذه الدعوى التى لم يتحدث أحد على ظهر الأرض عنها غير أصحابها، فهم إنما يغنّون ويردون على أنفسهم: ترى كيف يمكن أن يجيب المسلم على هذه الدعوى العريضة المستحيلة بأن "هذا أمر ظاهر لا شكّ فيه"؟ كيف بالله يكون ذلك أمرا ظاهرا لا شك فيه؟ أين الدليل؟ لقد مات الرسل المذكورون وشبعوا موتا ولم يرهم الشيخ المسلم وهم يجترحون المعجزات فَشَر الحواة فى السيرك، ويتكلمون باللغات المختلفة ولا مترجمو الأمم المتحدة، فكيف يشهد لهم بذلك ويؤكده وينفى عنه الشك نفيا مطلقا كما فى الكلام المزور على لسانه؟ والله إن هذا لهو البله بعينه من هؤلاء الحمقى الذين يظنون أن المسلمين يجرون على سنتهم فى تصديق مثل تلك الخرافات دون عقل أو دليل، بل رغم كل عقل ودليل! ثم متى كان المسلمون يستخدمون لفظ "قوات" بمعنى "معجزات" كما ورد على لسان الشيخ هنا؟ إنه مصطلح نصرانى لا يعرفه الإسلام، وهذه شواهده من العهد الجديد: "كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك اخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة" (متى/ 7/ 22)، "حينئذ ابتدأ يوبّخ المدن التي صنعت فيها اكثر قواته لانها لم تتب" (متى/ 11/ 20)، "فسمع هيرودس الملك. لان اسمه صار مشهورا. وقال ان يوحنا المعمدان قام من الاموات ولذلك تعمل به القوات" (مرقس/ 6/ 14)، "ويل لك يا كورزين. ويل لك يا بيت صيدا. لانه لو صنعت في صور وصيدا القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديما جالستين في المسوح والرماد" (لوقا/ 19/ 27)، "ايها الرجال الاسرائيليون اسمعوا هذه الاقوال. يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما انتم ايضا تعلمون‎" (أعمال الرسل/ 2/ 22)، "ولآخَر عَمِل قوات. ولآخَر نبوةً. ولآخر تمييزَ الارواح. ولآخر انواعَ ألسنة. ولآخر ترجمة ألسنة" (كورنثوس/ 12/ 10)، "شاهَدا الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة ومواهب الروح القدس حسب ارادته" (عبرانيين/ 2/ 4). أما بالنسبة للتراث الإسلامى فقد بحثت عن هذه الكلمة فى مئات الكتب الموجودة فى مكتبة قرص "الموسوعة الشعرية" فلم أجدها إلا مرة واحدة فى كتاب يرجع إلى القرن الخامس عشر، أو أواخر الرابع عشر على أبعد تقدير، وهو كتاب "العقود اللؤلؤية فى تاريخ الدولة الرسولية" لعلى بن الحسن الخزرجى اليمنى، وفى معنى لا علاقة بــ"المعجزات" على الإطلاق، وهو "الجنود". ومعروف أنها لم تأت فى القرآن ولا فى أحاديث الرسول عليه السلام بأى معنى من المعانى. وعلى هذا فالكلام المنسوب إلى الشيخ ليس له بكل يقين، بل هو كلام مزيف كسائر الحدوتة! أما أن النصرانية قد انتشرت فى البلاد المختلفة فهذا يصدق على الإسلام أيضا، وعلى كثير من الديانات الأخرى كذلك، وإن لم يكن انتشارها بهذه السعة التى نلاحظها فى الإسلام. ولا ننس أن انتشار النصرانية فى ثلاث قارات من قارات العالم إنما تم بالمحق والمحو والاستئصال، وبمساعدة ومباركة القساوسة والأساقفة الذين كانوا يصاحبون القادة الأوربيين فى اجتياحهم المدمر للأمريكتين وأستراليا رافعين الصليب بيد، وممسكين الأناجيل باليد الأخرى، وكل ذلك باسم السيد المسيح كاره الكلاب ومحتقرهم ومذلهم وماسح كرامتهم بالأرض! أم تراه يقول إن رسل المسيح هم الذين نشروا النصرانية فى الأمريكتين وأستراليا والفلبين والروسيا وجنوب أفريقيا بعبقريتهم فى التحدث باللغات المختلفة دون تعلمهم لها من قبل وعَمَلِ القوات العجيبة التى كانوا يشدهون بها العيون؟ إننا بطبيعة الحال لا نصدق شيئا مما يروى عن عيسى بن مريم فى هذا الصدد، لكننا إنما نجادل أصحابنا برواياتهم وأقوالهم هم لا بما عندنا من آيات قرآنية وأحاديث نبوية ترفعه عليه السلام مكانا عاليا بين البشر والنبيين، وإن لم يصل لا هو ولا سواه من المرسلين إلى مقام الزعامة النبوية المحمدية، على الرسل جميعا أفضل الصلوات وأطيب التسليمات. وبالمناسبة فلدينا أكداس وأكداس من روايات المعجزات والكرامات منسوبة إلى الصحابة والتابعين والمتصوفة والزاهدين، ونحن على استعداد أن نعطيك منها بالقُفّة إذا أرت، لكننا نغضى عن هذا كله لأن كل ذلك قد ذهب مع التاريخ ولم يبق إلا ما يخاطب العقل المجرد والقيم التى دعا إليها كل من محمد وعيسى عليهما السلام حسبما وردتنا فى كتاب كل من الديانتين مما يمكن أن نتخذه فيصلا للمفاضلة بينهما

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    بقى أمر فى هذه النقطة، ألا وهو قول الملفق الكذاب عن الحواريين إن داود قد تنبأ بأنهم سوف ينطقون بكل الألسنة، وإن كان قد نسى المغفل أن يوضح لنا هل كانت الشهادة المضروبة المنسوبة لداود مختومة بخاتم النسر الموجود فى الأرشيف فى عهدة الأستاذ عَبْعَاطِى البيروقراطى الذى يفتّح مخه دائما بسيجارة لا راحت ولا جاءت من نوع "الوينجز"، تلك السيجارة التى كان الشبان من قريتى أيام التلمذة يفسرون رَمْزَىْ "ب. و" المكتوبين عليها بأن معناهما: "بيئة واطية"، على اعتبار أن الوينجز هى أردأ أصناف السجائر وأرخصها، ومن ثم لا يعفّرها إلا الآتون من "بيئة واطية" كمؤلف الحدوتة التى بين أيدينا. وهذا نص ما قاله الأنبا المنكوح سَلَف قمّصنا ذى الدبر المقروح، لعن الله السالف والخالف جميعا: "وداود النبي قد تنبأ قبل رسل المسيح بأجيال كثيرة على تكلّم الرسل بسائر اللغات وقال (مز 18، 5): في كل الأرض خرج نطقهم، وفي جميع المسكونة انبثّ كلامهم".
    وتعليقى على ذلك أولا: أن الإحالة فى كلام الراهب المزيف إلى كتابه المقدس خاطئة، فالنص ليس موجودا فى المزمور الثامن عشر بل فى التاسع عشر، كما أن الفقرة المعنيّة ليست هى الخامسة بل الرابعة. وهذه نقطة نظام أحببت أن أشير إليها فى بداية التعليق كى يفهم القاصى والدانى أن ما قاله مؤلف الحدوتة الساذجة عن عِلْم الأنبا جرجى بالقرآن والإسلام هو "أى كلام، يا عبد السلام"، إذ ها هما الاثنين لا يعرفان حتى مواضع النصوص التى يستشهدان بها من كتابهما المقدس، فكيف بحال الراهب مع كتابنا نحن، وهو غير مقدس عنده بحال؟ ثانيا: هذا الكلام (إن صدّقْنا بما يقوله المؤلف الأبله عن النبوءة) لا يعنى أبدا أن الرسل المذكورين كانوا يتكلمون باللغات المختلفة، بل كل ما هنالك أن كلامهم قد انتشر فى كل الأرض، أما بــ"كَمْ لغة" فلا ذكر لشىء من هذا على الإطلاق. والذى يتبادر إلى الذهن هنا وفى كل النصوص المشابهة هو أن كلامهم قد تُرْجِم لمن لا يعرفه. ثالثا، وهى القاصمة: أن كلام داود لا صلة له بتاتا برسل المسيح ولا بأى رسل من أية ملة أو دين، بل هو كلام عن السماوات والأفلاك التى تتحدث دون كلام عن صانعها سبحانه وتعالى وعظمته، فهى تتكلم ولا تتكلم، تتكلم بلسان الحال، وإن لم تتكلم بلسان المقال، وهو ما يشبه قوله تعالى فى الآية الرابعة والأربعين من سورة "الإسراء": "وإِنْ مِنْ شىءٍ إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم". وهذا هو النص فى سياقه كيلا يفتح فمه أى عيّار بعد ذلك: "1اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. 2يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَمًا، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْل يُبْدِي عِلْمًا. 3لاَ قَوْلَ وَلاَ كَلاَمَ. لاَ يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ. 4فِي كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى الْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ. جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَنًا فِيهَا، 5وَهِيَ مِثْلُ الْعَرُوسِ الْخَارِجِ مِنْ حَجَلَتِهِ. يَبْتَهِجُ مِثْلَ الْجَبَّارِ لِلسِّبَاقِ فِي الطَّرِيقِ. 6مِنْ أَقْصَى السَّمَاوَاتِ خُرُوجُهَا، وَمَدَارُهَا إِلَى أَقَاصِيهَا، وَلاَ شَيْءَ يَخْتَفِي مِنْ حَرِّهَا". وهذه هى طريقة القوم فى المجادلة عن دينهم: سذاجة ما بعدها سذاجة، ثم يريدون من الآخرين أن يخرّوا على ما يقولونه لهم عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا، فلا تفكير ولا استعمال للعقل، بل إيمان أعمى متعصب يقوم على ترديد المحفوظات والعبارات الإنشائية التى لا معنى لها. وقد كتبتُ ما كتبتُ بناء على قراءتى الهادئة الواعية للنص الكتابى، ثم لم أكتف بهذا بل رجعت إلى بعض التفاسير المشهورة للكتاب المقدس، فكانت هذه النقول التالية التى تبين بأجلى بيان أن ذلك هو المعنى المنطقى للكلام المنسوب لداود عليه السلام:
    1- Commentary Critical and Explanatory on the Whole Bible:
    Psalms 19:1-14. After exhibiting the harmonious revelation of God's perfections made by His works and His word, the Psalmist prays for conformity to "the glory of God."
    1. the glory of God--is the sum of His perfections (Psalms 24:7-10, Romans 1:20).
    firmament--another word for "heavens" (Genesis 1:8).
    handywork--old English for "work of His hands."
    2. uttereth--pours forth as a stream; a perpetual testimony.
    3. Though there is no articulate speech or words, yet without these their voice is heard.
    4. Their line--or, "instruction"--the influence exerted by their tacit display of God's perfections.
    2- The 1599 Geneva Study Bible:
    19:4 Their d line is gone out through all the earth, and their words to the end of the world. In them hath he set a tabernacle for the sun,
    (d) The heavens are as a line of great capital letters to show God’s glory to us.

    3- Matthew Henry Concise Commentary on the Whole Bible:
    Verses 1-6 The heavens so declare the glory of God, and proclaim his wisdom, power, and goodness, that all ungodly men are left without excuse. They speak themselves to be works of God's hands; for they must have a Creator who is eternal, infinitely wise, powerful, and good. The counter-changing of day and night is a great proof of the power of God, and calls us to observe, that, as in the kingdom of nature, so in that of providence, he forms the light, and creates the darkness, ( Isaiah 45:7 ) , and sets the one against the other. The sun in the firmament is an emblem of the Sun of righteousness, the Bridegroom of the church, and the Light of the world, diffusing Divine light and salvation by his gospel to the nations of the earth. He delights to bless his church, which he has espoused to himself; and his course will be unwearied as that of the sun, till the whole earth is filled with his light and salvation. Let us pray for the time when he shall enlighten, cheer, and make fruitful every nation on earth, with the blessed salvation. They have no speech or language, so some read it, and yet their voice is heard. All people may hear these preachers speak in their own tongue the wonderful works of God. Let us give God the glory of all the comfort and benefit we have by the lights of heaven, still looking above and beyond them to the Sun of righteousness.
    وعجيب، بعد ذلك كله، أن يستشهد الأنبا المزعوم هنا بداود، داود الذى يصوّره العهد القديم (أستغفر الله) بصورة المجرم القرارى الزانى الفاجر قتّال القَتَلة. أفلم يجد إلا هذا كى يستعين به فى التدليل على أن ما يقوله هو عن رسلهم صحيح؟ المتعارف عليه أن الإنسان، إذا ما كان عليه أن يحضر شهودا لنصرة قضية له، فلا بد أن يختارهم ممن يوثق بكلامهم لما اشتهروا به من صدق واستقامة وعفة ونزاهة وخلق طيب كريم لا ترتقى إليه الشبهات. وأين داود من هذا؟ داود الذى ورد ذكره فى العهد القديم لا داود الذى يثنى عليه القرآن المجيد ويبرئه من أى دنس أو إجرام! وعجيب أيضا أن يرسم ملفق الحدوتة للمشايخ الثلاثة صورة مضحكة تدل على جهلهم وسذاجتهم، منتهزا فرصة أنهم نكرات لم يسمع بهم أحد، إذ لا وجود لهم فى كتب التاريخ والتراجم. بيد أن هذه الصورة التى رسمها لهم تتناقض، رغم ذلك، مع ما تركه المفكرون المسلمون السابقون على العصر الأيوبى من مؤلفات غزيرة وعظيمة فى مقارنة الأديان والرد على النصارى لم تغادر شاردةً ولا واردةً مما عند القوم إلا وبينت عُوَارها وتهافتها وساقت الحجج المفحمة التى تكسحها كسحا. إن لدينا، والحمد لله، قائمة طويلة من المؤلفات فى هذا الميدان ثرية غاية الثراء تركها علماؤنا العباقرة الأفاضل، فكيف يتصور مؤلفُ تلك الحكايةِ الساذجةِ أن بمستطاعه إيهامنا بجهل أولئك المشايخ (الذين يسميهم: "أئمة المسلمين") بذلك التراث الجدالى العظيم، وسطحية تفكيرهم إلى هذا الحد الهزلى؟ وهذه قائمة بأهم الكتب السابقة على تاريخ المجادلة المزعومة، ولا أقول شيئا عما أُلِّف بعدها من كتب فى ذات الموضوع، وهى منقولة عن موقع "ملتقى أهل التفسير":
    * كتاب على عمار البصري النصراني لأبي الهذيل العلاف المعتزلي. مفقود.
    * كتاب جواب قسطنطين عن الرشيد, لمحمد بن الليث الخطيب. منشور.
    * رد على النصارى لضرار بن عمرو المعتزلي. مفقود.
    * رد على النصارى لعيسى بن صبيح المردار. مفقود.
    * كتاب على أبي قرة النصراني لعيسى بن صبيح المردار.
    * رد على النصارى لحفص الفرد. مفقود.
    * رد على النصارى لأبي عيسى محمد بن هارون بن محمد الوراق: أكبر وأوسط و أصغر.
    نشر منه جزآن في بريطانيا بجامعة برمينجهام على يد دافيد توماس.
    * كتاب على النصارى لأبي جعفر الإسكافي. مفقود.
    * كلام على النصارى للنظّام المعتزلي. مفقود.
    * كلام على في كتاب المعونة لأبي بكر أحمد بن علي بن الأخشاد المعتزلي. مفقود
    * الرد على النصارى ليعقوب بن إسحاق الكندى. محفوظ في رد يحي بن عدي النصراني عليه.
    * رد على النصارى لعمرو بن بحر الجاحظ. حُفِظ مختار منه وطُبِع ثلاث مرات.
    * الرسالة العسلية في الرد على النصارى للجاحظ. مفقودة.
    * رد على النصارى لأبي القاسم ترجمان الدين الحسني الشيعي (ت 246هـ). منشور مرتين.
    * الحجة على النصارى لمحمد بن سحنون المالكي (ت 256هـ). مفقود.
    * رد على أصناف النصارى لعلي بن ربّن الطبري. قطعة وحيدة منه منشورة في بيروت سنة 1959م بجامعة القديس يوسف، وحفظت نصوص منه في رد ابن العسال النصراني, وترجمه كوديل إلى الفرنسية عام 1996م.
    * الدين و الدولة لعلى بن ربَّن الطبري. مطبوع بتحقيق منيانا، وأعاد نشره عادل نويهض.
    * رد حميد بن سعيد بن بختيار المتكلم على مَطران فارس المسمى يوشع بخت. مفقود.
    * كتاب لحميد بن سعيد بن بختيار المتكلم رد فيه على النصارى في مسألة النعيم و الأكل و الشرب في الآخرة وعلى جميع من قال بضد ذلك. مفقود.
    * رد على النصارى للقحطبي. مفقود.
    * رد على النصارى للحسن بن أيوب, وهو كتاب إلى أخيه علي بن أيوب يبين فيه فساد مقالات النصارى و تثبيت النبوة. محفوظ جله في الجواب الصحيح لابن تيمية, وقد حقق مستقلا في هولندة كرسالة دكتوراه.
    * الكلام على النصارى مما يحتج به عليهم من سائر الكتب التي يعترفون بها لأبي الحسن الأشعري.
    * رد على النصارى (ناقص) لمؤلف مشرقي من القرن الرابع. نشر مع دراسة عنه بالفرنسية بمجلة دراسات إسلامية.
    * الإعلام بمناقب الإسلام لأبي الحسن العامري (ت381ه)ـ مطبوع.
    * كلام على النصارى للقاضي أبي بكر الباقلاني (ت 403هـ) في كتاب التمهيد، له. مطبوع.
    * رد على النصارى للقاضي عبد الجبار المعتزلي ضمن كتابه تثبيت دلائل النبوة. مطبوع.
    * كلام على النصارى في كتاب المغني ج 5 للقاضي عبد الجبار المعتزلي.
    * الرد على أناجيل النصارى لابن حزم. مذكور في سير أعلام النبلاء للذهبي.
    * إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بين أيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل، لابن حزم.(جذوة المقتبس للحميدي).
    * مناظرة الحسن ابن بقي المالقي صديق ابن حزم لنصراني. موجودة.
    * مناظرة لابن حزم مع قاضي نصارى قرطبة حول الأكل والشرب في الجنة. نشرتها على الملتقى المفتوح.
    * مناظرة ابن الطلاع القرطبي لنصراني من طليطلة. مفقودة.
    * قصيدة في الرد على نقفور فوقاس لابن حزم. ورد نصها في فهرسة ابن خير، والبداية و النهاية لابن كثير، و طبقات الشافعية الكبرى.
    * جواب أبي الوليد الباجي (ت 474هـ) على رسالة راهب إفرنسة. نشرت أربع مرات اعتمادا على مخطوطة وحيدة في الأسكوريال رقم 538.
    * شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل لأبي المعالي الجويني (ت 478هـ). منشور مرتين.
    * إفحام النصارى لابن جزلة المتطبب (ت 493هـ). مفقود.
    * رسالة ابن جزلة ( أبو علي يحيى بن عيسى) كتبها إلى إليا القس. مفقودة.
    * الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل لأبي حامد الغزالي (ت 505 هـ). نشر ثلاث نشرات مختلفة.
    * رسالة ميزان الصدق المفرق بين أهل الباطل وأهل الحق، إملاء أبي مروان عبد الملك بن مسرة بن عزيز اليحصبي قاضي الجماعة بقرطبة (ت 552هـ) في مجاوبته عن كتاب أساقفة النصارى إليه مع قصيدة له نظمها في معنى هذه الرسالة (فهرسة بن خير ص 373). مفقود.
    * مقامع الصلبان لأبي جعفر أحمد بن عبد الصمد الخزرجي القرطبي (ت582هـ). طبع مرتين.
    * قصيدة في الرد على نقفور فوقاس عظيم الروم، للفقيه أبي الأصبغ عيسى بن موسى ابن عمر بن زروال الشعباني ثم الغرناطي. توفي قبل سنة 575هـ (فهرسة ابن خير ص 368 رقم 1145). مفقودة.
    * كتاب في الرد على النصارى للرهاوي (ذكره صالح بن الحسين الجعفري صاحب التخجيل لمن حرف الإنجيل).
    * كتاب في الرد على النصارى لخلف الدمياطي (ذكره الجعفري صاحب التخجيل).
    * الرد على المتنصر لأبي الطاهر ابن عوف المالكي (ت 581هـ).
    * الداعي إلى الإسلام للأنباري (ت 577هـ) (فيه فصل في الكلام على النصارى). مطبوع.
    * النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية لنصر بن يحيى بن سعيد المتطبب. مطبوع.
    * مناظرة في الرد على النصارى لفخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت 606هـ). مطبوعة.
    ومما جاء على لسان الأنبا جرجى أيضا فى المجادلة المزيفة المصنوعة قوله: "فقد شهدت السماء والأرض والملائكة والناس والملوك والعوام والجاهل والعاقل أن الحواريين رسل الله تعالى وأنصار دينه الحق الصادق. ونبيك محمّد يشهد لهم ويحقّق قولهم وإنجيلهم بقوله في القرآن: "إننا أنزلنا القرآن مصدّقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل". فإذا كان نبيّك وكتابك قد صدَّق الإنجيل فقد لزمك أنت أيضا أن تصدّقه، وإن كذبته فقد كذّبت نبيّك وكتابك". وجوابنا أن هذا كله كلام خطابى لا برهان عليه، إذ ليس كل الناس (وخَلِّ الملائكة الآن على جنب!) يؤمنون برسل المسيح، وهذا لو كان الذى يُنْسَب لهم من الكتب هو مما كتبه فعلا حواريوه الحقيقيون رضى الله عنهم، وهو ما نشك فيه شكا مطلقا لأن الحواريين لا يمكن أن يكفروا بالله ويشركوا به عبده عيسى بعد أن صح إيمانهم به على عهده صلى الله عليه وسلم، بل الذين يؤمنون به على النحو الذى تشرحه كتبهم هم النصارى المثلثون فقط. أما قول الأنبا التعبان فى مخه إن فى القرآن نصا يقول: "إننا أنزلنا القرآن مصدّقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل" فهو كذب مبين لأن مثل هذا النص لا وجود له فى القرآن، بل الموجود فيه هو قوله تعالى: "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ"، "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ". والمهم أن القرآن (كما نرى) يعلن نفسه مهيمنا على الكتب السابقة، أى أن ما يقوله عنها هو الصواب الذى ينبغى اعتماده. ومعنى هذا أن الأنبا، إذا أراد أن يحاجّ المسلمين بكتابهم، فعليه أن ينقل كلام كتابهم كما هو، مثلما أفعل أنا مثلا حين أجادل القوم فأنقل كلامهم بنصه، لا أن يؤلف كلاما من عنديّاته ثم يزعم أن هذا هو كلام القرآن.
    وعلى هذا فلا معنى لقوله إن القرآن قد شهد للتوراة والإنجيل، ومن ثم فعليكم أيها المسلمون أن تصدقوا بما فى أيدينا. ذلك أن التوراة والإنجيل لدينا غير التوراة والإنجيل لديهم، فالتوراة والإنجيل لدينا وَحْيان نزلا على موسى وعيسى، أما الذى عندهم فهو العهد القديم والعهد الجديد، وهما مجموعة من الكتب ألفها أشخاص متعددون بعد موت موسى وانتهاء حياة عيسى على الأرض، وليسا وحيين سماويين، وإن لم يعن هذا بالضرورة أن كل ما فيهما لا يمت إلى الوحى بصلة، إذ قد بقيت فيهما أشياءُ وأصداءٌ من وحى السماء مختلطة بما سطرته أيدى البشر. ومن هنا فلا بد أن ينزل الأنبا على حكم القرآن إن كان يريد أن يقنع المسلمين من خلال آيات ذلك القرآن، أما أن يلوى النصوص القرآنية ويحرفها جريا على ما تعوده قومه مع التوراة والإنجيل فليس من العدل ولا من الأمانة ولا من المنهجية فى شىء. واضح أيها القمص المنكوح، يا من أرسلت لى تلك الحدوتة التافهة تفاهة عقلك، أم نعيد الكلام من أول وجديد؟
    ومن ثم فقول المسلم للأنبا المزعوم: "أنا مصدّق الإنجيل، ولكنّكم حرفتموه بعد نبيّنا (أحسب أن المقصود: "بعد نبيكم") وجعلتموه على غرضكم وهواكم" هو كلام صحيح تمام الصحة. لكن ماذا قال الراهب؟ وماذا كان رد المسلم عليه؟ وكيف مضت المحاورة؟ هذا ما سنقرؤه الآن. "قال الراهب: لا تتحدّث بهذا ولا تورد قضية لا يمكنك القيام بتحقيقها، وأخيرا تخجل بباطلك كمن يروم ستر الشمس عن الناس بكفِّه. قل لي يا أبا سلامة: كم من السنين مضت من المسيح إلى محمد؟
    قال المسلم: ما أدري.
    قال الراهب: أنا أقيم لك البيّنة. إن من المسيح إلى محمد ستمائة سنة ونيّف.
    قال المسلم: صدقت يا راهب. كذلك هو، وكذلك وجدنا في التواريخ.
    قال الراهب: أفما كان النصارى قد وُجِدوا في الدنيا كلها؟
    قال المسلم: نعم.
    قال الراهب: مثلما في وقتنا هذا؟
    قال المسلم: نعم. (وما زاد).
    قال الراهب: فهل يمكنك أن تعدَّ الأناجيل التي كُتِبت في أقطار الأرض وفي سائر اللغات والألسن؟
    قال المسلم: لا أقدر على ذلك.
    قال الراهب: فاجعل أن طائفة من أهل الغرب حرَّفت أناجيلها، فكيف وصلت هذه الأناجيل إلى الذين هم في أواخر الشرق، ولهم لغة أخرى ولسان آخر؟ وكذلك الذين هم في الجنوب والشمال مع تخالف لغاتهم وسجاياهم. فكيف يمكن أنْ كان إنجيل واحد قد تحرّف كما تقول أمكن أن تحرَّف به أناجيل لا تعدّ ولا تحصى في أقطار الأرض كلّها عند شعوب مختلفة لغاتها؟ فهذا من الممتنع أن يكون الاتفاق عليه. ولو كان ذلك لوجدت بعضها محرّفة عند جماعة من النصارى، وبقيت عند غيرهم أناجيل غير محرّفة. ولكنّك إن طفتَ الدنيا كلها: الجنوب والشمال والشرق والغرب تجد الأناجيل في سائر اللغات على المثال الذي سلَّمه إلينا الحواريين رسل المسيح لا يخالف الواحد للآخر. وأنا أحضر لك مثال يصدّق ويحقّق قولي: إن قَدِم أحد الناس وأظهر قرآنا يخالف القرآن المعروف الآن عندكم وقال لكم: هذا القرآن المنزل على النبي، وليس هو ذاك، فهل كنتم تقبلونه؟
    فقال الأمير: لا. وعليّ ما كنّا نقبله بل نحرقه ومن أتى به.
    قال الراهب: فإذا كان كتابكم قد كُتِب في لغةٍ واحدة وبشفةٍ واحدة لا يمكن ولا يجوز أن يحرّف، فكيف يمكن لمن يروم تحريف الأناجيل، وقد وُزِّعت في المسكونة كلها عند شعوب مختلفة لغاتها؟ وقد يوجد عندنا حجج واضحة وبراهين بيّنة غير هذه توضّح صدق ما أوردنا الآن لكم من الكتب العتيقة مما قَدِمَتْ به الأنبيا من قديم الزمان عن المسيح ورسله، لكنْ أَوْجَزْنا الكلام خيفة أن يكون عندكم ثقل من إطالة الشرح".
    وواضح أولا أن كاتب الحدوتة لا يحسن التلفيق، فالشيخ المسلم يعلن جهله بالمسافة الزمنية التى تفصل بين النبيين العظيمين، وهو أمر لا يجهله أصغر تلميذ مسلم. لكن الله سبحانه يأبى إلا أن يفضح الأنبا، وبلسانه هو الذى يستحق القطع من اللغلوغ، إذ يقول على لسان الشيخ تعليقا على الموضوع ذاته: "صدقت يا راهب. كذلك هو، وكذلك وجدنا في التواريخ"، يما يعنى أنه يعرف الفارق الزمنى بين محمد والمسيح ولا يجهله كما ادعى عليه الكاتب الكذاب. وواضح كذلك ما فى ردود الأنبا وتعليقاته من سفسطة مضحكة، فهو يتحدث كما لو لم يكن هناك إلا الأناجيل التى بأيدى النصارى المثلثين، متجاهلا ما يعرفه كل من له أدنى إلمام بتاريخ النصرانية من أن ثمة أناجيل كثيرة جدا سوى التى تعترف بها الكنيسة، وهى تختلف عن هذه اختلافات عنيفة، مثلما أن هذه تختلف فيما بينها اختلافات عنيفة أيضا حسبما وضحتُ أنا مثلا فى دراسة سابقة لى على المشباك نشرتْها عدة مواقع منذ شهور بعنوان "إلى القمّص المنكوح: الأناجيل- نظرة طائر"، كما أن هناك فِرَقًا أخرى من النصارى لا تؤمن بألوهية المسيح على أى وضع: لا ربًّا ولا ابنا للرب، بل عبدا ورسولا لا أكثر ولا أقل، وهو ما يقول به القرآن، علاوة على أن ثمة إنجيلا يحمل اسم برنابا ليس فيه عن المسيح إلا أنه عبد ورسول، مَثَلُه مَثَلُ أى نبى آخر من أنبياء الله. ليس ذلك فقط، بل هناك فى العهد الجديد أسفار لم تكن الكنيسة تعترف بها فى البداية، ثم عادت فأدخلتها فى كتبه، وهى رسالة يعقوب، والرسالة الثانية لبطرس، ورسالة بولس إلى العبرانيين، والرسالتان الثانية والثالثة ليوحنا، ورؤيا يوحنا اللاهوتى. بيد أن الأنبا غير المحترم يقفز فوق هذا كله محاولا إيهام القارئ الذى ليس لديه اطلاع على تاريخ الأناجيل أن الأشياء معدن، وكله تمام التمام. وهذا هو التدليس بعينه وأنفه وفمه! إذن فليس هناك إنجيل واحد، بل أناجيل كانت بالعشرات اختفى جزء منها وبقى جزء آخر عندى منه أكثر من عشرة أناجيل مترجمة إلى الإنجليزية، ولا تعترف الكنيسة إلا بأربعة من هذا الجزء الباقى فقط. وقد اتخذت الكنيسة إجراءات صارمة للقضاء على هذه الأناجيل وأصدرت أمرا بإعدامها، إلا أن الحق غالبٌ مهما كانت قوة أعدائه. ولسوف يأتى يوم ينكشف فيه ما تخبئه الكنائس فى سراديبها البعيدة عن العيون من مخطوطات لا تريد أن يلقى عليها أحدٌ نظرةً مخافة الافتضاح وانهيار البناء المؤسس على الباطل، ولسوف يتضح أن كل ما يهرف به القوم هو هراء فى هراء. هذه هى حقيقة الأمر، لا الذى يطنطن به الأنبا البكاش!
    ومرة أخرى نقول: إن الإنجيل الذى يتحدث عنه الإسلام هو الإنجيل الذى نزل على عيسى لا الأناجيل التى كُتِبَتْ بعد رفع الله له، فهذه مجرد تراجم للسيد المسيح تشبه فى إطارها العام سيرة نبينا عليه السلام، مع الفارق الكبير المتمثل فى أن السيرة المحمدية قائمة على الإسناد بحيث يعرف القارئ من أين بدأ الخبر، ومَنْ نقله لنا، وعَمَّنْ نقله، أما الأناجيل فهى كتابات كتبها أصحابها دون أن يعنّوا أنفسهم بإسناد ما يكتبونه، بل يعتمدون على الشائعات والروايات المختلفة بلا أية محاولة للتثبت والتمحيص. لكن أين الإنجيل الذى كان يبشر به المسيح عليه السلام؟ ذلك هو مربط الفرس! إن فى الأناجيل الحالية كلاما للسيد المسيح صلى الله عليه وسلم يذكر فيه الإنجيل، وهو ما يعنى أنه كان هناك إنجيل يبشر به عليه السلام قبل تلك الأناجيل التى بأيدى النصارى حاليا. إلا أن الأناجيل الحالية لا تذكر فى أى موضع منها على الإطلاق أن تلاميذ عيسى بن مريم كانوا يكتبونه. وأعتقد أن هذا هو السبب فى أنه قد ضاع. لقد بقيت منه، فيما نتصور، عبارات وشذرات نقلها لنا كتاب الأناجيل الموجودة بين أيدينا الآن، أما باقى ذلك الإنجيل فلم تحتفظ به ذاكرة النصارى آنذاك، وبخاصة أن أتباع عيسى عليه السلام كانوا، كما هو واضح من القراءة اليقظة للأناجيل، قلة قليلة جدا حتى إنهم، عند القبض عليه (حسب رواية تلك الأناجيل)، قد تركوه يقاسى وحده مصيره الرهيب دون أدنى محاولة من جانبهم للدفاع عنه أو تخليصه من أيدى أعدائه، لا يُسْتَثْنَى من ذلك أقرب المقربين من حوارييه إليه، إذ وجدنا بطرس ينكره ويقسم بالله كذبا إنه لا يعرف عن هذا الرجل شيئا، كما أن واحدا آخر من المؤمنين به خلع عن نفسه ملابسه التى أمسكه الجند منها ومضى يجرى لا يلوى على شىء وهو بلبوص لا يغطى عورته غطاء، فضلا عن أن الاضطهادات كانت تنتاش هذا العدد القليل جدا من كل جانب فلم تدع لهم عقلا، فيما يبدو، يذكرون به كل ما قاله السيد المسيح، وبخاصة فى ظل الظروف الغريبة التى انتهت بها حياة المسيح على الأرض! ومن هنا كانت الاختلافات الرهيبة بين الأناجيل المختلفة، إذ كان كل مؤلف يكتب ما يعنّ له أو ما يؤمن به أو ما وصله وكان على هواه!
    وهذا ما يقوله لوقا مثلا فى أول الترجمة التى كتبها عن السيد المسيح والمسماة: "إنجيل لوقا"، وهى فى الحقيقة ليست من الإنجيل فى شىء، اللهم إلا بعض بقايا من بقاياه مما استطاعت الذاكرة النصرانية آنذاك الاحتفاظ به بعُجَره وبُجَره: "1إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، 2كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، 3رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، 4لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ". فالأمر إذن، كما يرى القارئ، لا يعدو أن يكون تأليفا منقولا مما سمعه لوقا وغيره، لا وحيا من السماء نزل على عيسى وحفظه التلاميذ من بعده كتابة واستذكارا كما هو الحال فى القرآن الكريم، أو حتى فى الحديث النبوى الشريف رغم نزوله فى درجة اليقين عن كتاب الله. لقد كان القرآن المجيد يُكْتَب أولا بأول غِبَّ نزوله من عند الله، كما كانت الذاكرة البشرية تظاهر القلم فى ذلك. وفى كل جيل كان ولا يزال هناك ملايين من المسلمين كبارا وصغارا يحفظون القرآن عن ظهر قلب. وفى الأحاديث كان هناك منهج لكل محدِّث يعتمده فى قبول أو رفض ما يجمعه من الروايات المنسوبة إلى رسول الله، علاوة على أن المسلمين يحفظون كثيرا من كلامه صلى الله عليه وسلم. أما الإنجيل فلم يعرف هذا ولا ذاك، إذ لم يحدث أن كُتِب منذ البداية أو فكر أحد فى حفظه فى صدره، كما أن مؤلفيه لم يستندوا إلى أى منهج فى قبول ما وقع لهم من الروايات المتعلقة بحياة السيد المسيح أو رفضها، وهذا جَلِىٌّ من كلام لوقا فى مفتتح السيرة التى ألفها عن حياة عيسى عليه السلام كما مرّ آنفا .

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    وإلى القارئ المثالين التاليين كيلا يكون كلامنا بلا دليل: وأحدهما خاص بنسب السيد المسيح، والآخر يتعلق بالحَجَر الذى قيل إنه كان يسد القبر الذى دُفِن فيه ثم زُحْزِح من موضعه. فأما بالنسبة لنسب المسيح فمتّى فى بداية الإصحاح الأول يقول إن عيسى عليه السلام هو ابن داود بن إبراهيم، أى أنه من سلالة بشرية: "1 كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ: 2إِبْراهِيمُ وَلَدَ إِسْحاقَ. وَإِسْحاقُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يَهُوذَا وَإِخْوَتَهُ. 3وَيَهُوذَا وَلَدَ فَارِصَ وَزَارَحَ مِنْ ثَامَارَ. وَفَارِصُ وَلَدَ حَصْرُونَ. وَحَصْرُونُ وَلَدَ أَرَامَ. 4وَأَرَامُ وَلَدَ عَمِّينَادَابَ. وَعَمِّينَادَابُ وَلَدَ نَحْشُونَ. وَنَحْشُونُ وَلَدَ سَلْمُونَ. 5وَسَلْمُونُ وَلَدَ بُوعَزَ مِنْ رَاحَابَ. وَبُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ مِنْ رَاعُوثَ. وَعُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى. 6وَيَسَّى وَلَدَ دَاوُدَ الْمَلِكَ. وَدَاوُدُ الْمَلِكُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنَ الَّتِي لأُورِيَّا. 7وَسُلَيْمَانُ وَلَدَ رَحَبْعَامَ. وَرَحَبْعَامُ وَلَدَ أَبِيَّا. وَأَبِيَّا وَلَدَ آسَا. 8وَآسَا وَلَدَ يَهُوشَافَاطَ. وَيَهُوشَافَاطُ وَلَدَ يُورَامَ. وَيُورَامُ وَلَدَ عُزِّيَّا. 9وَعُزِّيَّا وَلَدَ يُوثَامَ. وَيُوثَامُ وَلَدَ أَحَازَ. وَأَحَازُ وَلَدَ حَزَقِيَّا. 10وَحَزَقِيَّا وَلَدَ مَنَسَّى. وَمَنَسَّى وَلَدَ آمُونَ. وَآمُونُ وَلَدَ يُوشِيَّا. 11وَيُوشِيَّا وَلَدَ يَكُنْيَا وَإِخْوَتَهُ عِنْدَ سَبْيِ بَابِلَ. 12وَبَعْدَ سَبْيِ بَابِلَ يَكُنْيَا وَلَدَ شَأَلْتِئِيلَ. وَشَأَلْتِئِيلُ وَلَدَ زَرُبَّابِلَ. 13وَزَرُبَّابِلُ وَلَدَ أَبِيهُودَ. وَأَبِيهُودُ وَلَدَ أَلِيَاقِيمَ. وَأَلِيَاقِيمُ وَلَدَ عَازُورَ. 14وَعَازُورُ وَلَدَ صَادُوقَ. وَصَادُوقُ وَلَدَ أَخِيمَ. وَأَخِيمُ وَلَدَ أَلِيُودَ. 15وَأَلِيُودُ وَلَدَ أَلِيعَازَرَ. وَأَلِيعَازَرُ وَلَدَ مَتَّانَ. وَمَتَّانُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. 16وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ". هذا ما قاله متى، على حين يقول لوقا فى أول فقرة من أول إصحاح فيه: "بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ"، أى أنه من سلالة إلهية، لكنه فى موضع آخر يورد نسبه على النحو التالى: "23وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً ، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ ، بْنِ هَالِي،24بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي ، بْنِ مَلْكِي ، بْنِ يَنَّا ، بْنِ يُوسُفَ،25بْنِ مَتَّاثِيَا ، بْنِ عَامُوصَ ، بْنِ نَاحُومَ ، بْنِ حَسْلِي ، بْنِ نَجَّايِ، 26بْنِ مَآثَ ، بْنِ مَتَّاثِيَا ، بْنِ شِمْعِي ، بْنِ يُوسُفَ ، بْنِ يَهُوذَا،27بْنِ يُوحَنَّا ، بْنِ رِيسَا ، بْنِ زَرُبَّابِلَ ، بْنِ شَأَلْتِئِيلَ ، بْنِ نِيرِي،28بْنِ مَلْكِي ، بْنِ أَدِّي ، بْنِ قُصَمَ ، بْنِ أَلْمُودَامَ ، بْنِ عِيرِ، 29بْنِ يُوسِي ، بْنِ أَلِيعَازَرَ ، بْنِ يُورِيمَ ، بْنِ مَتْثَاتَ ، بْنِ لاَوِي،30بْنِ شِمْعُونَ ، بْنِ يَهُوذَا ، بْنِ يُوسُفَ ، بْنِ يُونَانَ ، بْنِ أَلِيَاقِيمَ،31بْنِ مَلَيَا ، بْنِ مَيْنَانَ ، بْنِ مَتَّاثَا ، بْنِ نَاثَانَ ، بْنِ دَاوُدَ،32بْنِ يَسَّى ، بْنِ عُوبِيدَ ، بْنِ بُوعَزَ ، بْنِ سَلْمُونَ ، بْنِ نَحْشُونَ،33بْنِ عَمِّينَادَابَ ، بْنِ آرَامَ ، بْنِ حَصْرُونَ ، بْنِ فَارِصَ ، بْنِ يَهُوذَا ، 34بْنِ يَعْقُوبَ ، بْنِ إِسْحَاقَ ، بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، بْنِ تَارَحَ ، بْنِ نَاحُورَ،35بْنِ سَرُوجَ ، بْنِ رَعُو ، بْنِ فَالَجَ ، بْنِ عَابِرَ ، بْنِ شَالَحَ، 36بْنِ قِينَانَ ، بْنِ أَرْفَكْشَادَ ، بْنِ سَامِ ، بْنِ نُوحِ ، بْنِ لاَمَكَ، 37بْنِ مَتُوشَالَحَ ، بْنِ أَخْنُوخَ ، بْنِ يَارِدَ ، بْنِ مَهْلَلْئِيلَ ، بْنِ قِينَانَ،38بْنِ أَنُوشَ ، بْنِ شِيتِ ، بْنِ آدَمَ ، ابْنِ اللهِ".
    وكما ترى فهذه السلسلة تختلف إلى حد بعيد عن سلسلة متى، سواء فى عدد حلقاتها أو فى ترتيبها، وهو أمر مضحك، إذ ليس من المعقول أن يجهل القوم سلسلة نسب ربهم. فيا له من رب! وياله من نسب! ولا تظن أيها القارئ أنى أتهكم حين أقول: "سلسلة نسب ربهم"، فقد قالوها هم بأنفسهم رغم أنى كتبت ما كتبت قبل أن أرى ما كتبوا، بل رجعت إليه فيما بعد. وهذا مثلا ما كتبه محررو "تفسير الكتاب المقدس": "إن غرض تتبع سلسلة نسب ربنا والرجوع به إلى داود هو أن يظهر أن المواعيد التى أعطيت لداود إنه سيصير سلفا للمَسِيّا قد تحققت فى يسوع المسيح" (تأليف مجموعة من اللاهوتيين برئاسة الدكتور فرنسيس دافدسون/ ط2/ دار منشورات التفسير/ بيروت/ 5/ 1990م/ 14). بل إن الشخص المذكور فى هذه السلسة على أنه ابن الله ليس هو المسيح بل آدم، أما المسيح فهو، حسبما كان يقول الناس، ابن يوسف! أما سلسلة متى فهى صريحة فى أنه ابن يوسف، أستغفر الله، إذ ليس هناك من معنى للقول بأنه ابن يوسف إلا معنى واحد لا أستطيع أن أنطق به! وهو ما يؤكده النص التالى المأخوذ من مطلع إنجيل توما (أحد الأناجيل غير القانونية): "And a certain Jew when he saw what Jesus did, playing upon the Sabbath day, departed straightway and told his father Joseph: Lo, thy child is at the brook, and he hath taken clay and fashioned twelve little birds, and hath polluted the Sabbath day. "، إذ يقول المؤلف إن يهوديا من اليهود الغيارى على الشريعة الموسوية، حين رأى عيسى الصغير يصنع يومَ سبتٍ من الطين طيرًا، ذهب من فوره إلى "أبيه يوسف" وشكا له ما صنع الغلام من الاعتداء على حرمة اليوم المقدس. ومثله قول المؤلف فى موضع آخر إن عيسى ذهب ذات يوم لزراعة القمح مع "والده" فى حقلهم: "Again, in the time of sowing the young child went forth with his father to sow wheat in their land: and as his father sowed, the young child Jesus sowed also one corn of wheat"... وغير ذلك من المواضع التى وُصِف فيها يوسف بأنه "أبوه". بل إننا لنقرأ أن يوسف، تعجُّبًا من المعجزات التى كان يعملها عيسى الصغير، قد دعا ربه شاكرا أنْ "أعطاه طفلا مثله": " Happy am I for that God hath given me this young child".
    وبعد قليل يقول الكاتب السابق: "يُرَجَّح أن سلسلة النسب هذه (يقصد سلسلة النسب المذكورة فى متّى) لا تتبع التسلسل الطبيعى (الذى تجده فى لوقا...)، بل الملكى والشرعى الذى بفضله كان المسيح وارثا لعرش داود" (نفس المرجع والصفحة). عال، عال! عشنا وشفنا الآلهة لها نسب. وأى نسب؟: 1- نسبٌ طبيعى، وهذا نعرفه فيما بيننا، لكن لا يصح أن نظهره لأنه كفيل بإفساد الخطة الخاصة بوراثة العرش. 2- ونسبٌ أىّ كلام لزوم وراثة العرش عن داود وعشيقته (التى صارت زوجته فيما بعد) بَتْشَبَع: إى نعم، داود وبتشبع الزانيين القراريّين كما تكلم عنهما الكتاب المقدس ذاته ولست أنا والله العظيم! وأنطسّ فى نظرى لو كنت قلت هذا أو شيئا من هذا أو أرضى بهذا أو لا ألعن سنسفيل جدود من قال هذا، عليه وعلى من يرضى بهذا لعنات الله والملائكة والرسل والمسيح والناس أجمعين خالدين فيها إلى يوم يبعثون! لكن نعود للنسبين: الإلهى والبشرى، ونتساءل: لماذا هذا الاختلاف بين الكاتبين فلم يذكر كل منهما النسبين فيريح ويستريح؟ سيقولون إن كلا منهما ركز على جانب من جانبى السيد المسيح. لكن السؤال هو: ولماذا لم يكن كل منهما واضحا فى هذه المسألة التى تقوم عليها الديانة التى ينتمى إليها فيقول بصريح العبارة إنه قد ركز على جانب واحد من الأمر وترك الجانب الآخر من أجل كذا وكذا؟ كما أن ثمة سؤالا آخر فى غاية الخطورة: ترى هل معنى تركيز متّى على الجانب البشرى فى المسيح أن ينسبه، وفى بداية الإصحاح الأول منه، إلى يوسف النجار، الذى كان كثير من اليهود وما زالوا يتهمون به مريم عليها السلام؟ إن أقل ما يقال فى متّى أنه قد أعطى بذلك أعداء المسيح صلى الله عليه وسلم الخنجر لطعن شرفه وعِرْض أمه الكريمة الطاهرة التى رفعها القرآن الكريم فوق نساء العالمين، إن لم نقل فيما فعله أكثر من هذا! وهاهو ذا متّى يؤكد أنه ابن يوسف ومريم معا فى أكثر من موضع، إذ يصفهما مثلا بأنهما: "أَبَوَاهُ" (2/ 41)، "وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ ، لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ النَّامُوسِ..." (2/ 27)، كما تقول مريم مخاطبة عيسى الصغير وهى تشير إلى يوسف ونفسها: "يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هَكَذَا؟ هُوَ ذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!" (2/ 48).
    ولو تركنا وراء ظهورنا هذه المشكلة إلى أن يجد لها أحد حلا، وهذا مستحيل، وانتقلنا إلى المثال الثانى، وهو موضوع الحَجَر الذى زُحْزِح من فوق فوهة القبر المدفون فيه المسيح، لوجدنا عدة مشاكل معقدة أشد التعقيد، وكل ما فى تلك الديانة معقد تعقيدا لم تتعقده أية قضية أخرى: فهل كانت أمه مريم وخالتُه هما اللتين ذهبتا إلى القبر؟ أم هل كانت مريم المجدلية ومريم الأخرى؟ أم هل كانت المجدلية وحدها؟ وهل كان ذلك فى غلس الظلام؟ أم هل كان عند الفجر؟ أم هل كان بعد بزوغ الشمس؟ وهل دخلت مَنْ ذهبتْ هناك إلى القبر أو لم تدخله وانصرفت كما جاءت؟ وهل كان هناك ملاك واحد أو اثنان أو شابّ أو لم يكن هناك ملائكة ولا ناس بالمرة؟ وهل كل الذى قيل هو أن يسوع قام من الأموات وينتظر تلاميذه فى الجليل؟ أم هل قيل كلام أكثر من ذلك؟ وهل أتى بعض التلاميذ للقبر ليتأكدوا مما حدث أوْ لا؟ وهل لمست مريم المسيح كما جاء فى الرواية التى تقول إنها ورفيقتها أمسكتا بقدميه وسجدتا له؟ أم هل منعها عليه السلام من لمسه بذريعة أنه لم يصعد بعد إلى السماء، وكأنها بعد صعوده للسماء ستراه مرة أخرى وتلمسه كما تحب؟ والمضحك أنها، بعد كل ما قاله لها عن "أبيه وأبيهم وإلهه وإلههم"، تقول إنها قد رأت "ربّها"! يعنى: على رأى سعد زغلول "ما فيش فايدة"! وها هى ذى النصوص أضعها أمام القارئ ليقارن بينها ويتحقق من الأمر بنفسه:
    متى (ف 27- 28): "62وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاِسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ 63قَائِلِينَ: يَا سَيِّدُ ،قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. 64فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ ،لِئَلا يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ: إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ ،فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى! 65فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُون. 66فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ. 28 1 وَبَعْدَ السَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ.2وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ ،لأَنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ ،وَجَلَسَ عَلَيْهِ. 3وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ ،وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ. 4فَمِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ. 5فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ: لاَ تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. 6لَيْسَ هُوَ هَهُنَا ،لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ! هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ. 7وَاذْهَبَا سَرِيعاً قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ : إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا . 8فَخَرَجَتَا سَرِيعاً مِنَ الْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ ،رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ. 9وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكُمَا . فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ. 10فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: لاَ تَخَافَا. اِذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجَلِيلِ وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي".
    مرقس (ف 16): "16 1وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطاً لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ. 2وَبَاكِراً جِدّاً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. 3وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟ 4فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ الْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ! لأَنَّهُ كَانَ عَظِيماً جِدّاً. 5وَلَمَّا دَخَلْنَ الْقَبْرَ رَأَيْنَ شَابّاً جَالِساً عَنِ الْيَمِينِ لاَبِساً حُلَّةً بَيْضَاءَ، فَانْدَهَشْنَ. 6فَقَالَ لَهُنَّ: لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ هَهُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. 7لَكِنِ اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ: إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُم . 8فَخَرَجْنَ سَرِيعاً وَهَرَبْنَ مِنَ الْقَبْرِ، لأَنَّ الرِّعْدَةَ وَالْحَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ. وَلَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئاً لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ. 9وَبَعْدَمَا قَامَ بَاكِراً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ، الَّتِي كَانَ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ. 10فَذَهَبَتْ هَذِهِ وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَهُمْ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ. 11فَلَمَّا سَمِعَ أُولَئِكَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَقَدْ نَظَرَتْهُ، لَمْ يُصَدِّقُوا".
    لوقا (ف 24): "24 1ثُمَّ فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ، أَوَّلَ الْفَجْرِ ، أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ حَامِلاَتٍ الْحَنُوطَ الَّذِي أَعْدَدْنَهُ ، وَمَعَهُنَّ أُنَاسٌ. 2فَوَجَدْنَ الْحَجَرَ مُدَحْرَجاً عَنِ الْقَبْرِ، 3فَدَخَلْنَ وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ الرَّبِّ يَسُوعَ. 4وَفِيمَا هُنَّ مُحْتَارَاتٌ فِي ذَلِكَ ، إِذَا رَجُلاَنِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ. 5وَإِذْ كُنَّ خَائِفَاتٍ وَمُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إِلَى الأَرْضِ ، قَالاَ لَهُنَّ: لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ 6لَيْسَ هُوَ هَهُنَا ، لَكِنَّهُ قَامَ! اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْجَلِيلِ 7قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ ، وَيُصْلَبَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُوم . 8فَتَذَكَّرْنَ كَلاَمَهُ، 9وَرَجَعْنَ مِنَ الْقَبْرِ ، وَأَخْبَرْنَ الأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ بِهَذَا كُلِّهِ. 10وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَيُوَنَّا وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَالْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ ، اللَّوَاتِي قُلْنَ هَذَا لِلرُّسُلِ. 11فَتَرَاءَى كَلاَمُهُنَّ لَهُمْ كَالْهَذَيَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ. 12فَقَامَ بُطْرُسُ وَرَكَضَ إِلَى الْقَبْرِ ، فَانْحَنَى وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا ، فَمَضَى مُتَعَجِّباً فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ".
    يوحنا (ف 20): "20 1وَفِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِراً، وَالظّلاَمُ بَاقٍ. فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعاً عَنِ الْقَبْرِ. 2فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا: أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ! . 3فَخَرَجَ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الآخَرُ وَأَتَيَا إِلَى الْقَبْرِ. 4وَكَانَ الاِثْنَانِ يَرْكُضَانِ مَعاً. فَسَبَقَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ بُطْرُسَ وَجَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ، 5وَانْحَنَى فَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ. 6ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ، وَدَخَلَ الْقَبْرَ وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، 7وَالْمِنْدِيلَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعاً مَعَ الأَكْفَانِ، بَلْ مَلْفُوفاً فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ. 8فَحِينَئِذٍ دَخَلَ أَيْضاً التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي جَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ، وَرَأَى فَآمَنَ، 9لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ مِنَ الأَمْوَاتِ. 10فَمَضَى التِّلْمِيذَانِ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِهِمَا. 11أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ الْقَبْرِ خَارِجاً تَبْكِي. وَفِيمَا هِيَ تَبْكِي انْحَنَتْ إِلَى الْقَبْرِ، 12فَنَظَرَتْ مَلاَكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِداً عِنْدَ الرَّأْسِ وَالآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ، حَيْثُ كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ مَوْضُوعاً. 13فَقَالاَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ قَالَتْ لَهُمَا: إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ! . 14وَلَمَّا قَالَتْ هَذَا الْتَفَتَتْ إِلَى الْوَرَاءِ، فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفاً، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ. 15قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟ فَظَنَّتْ تِلْكَ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُه . 16قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا مَرْيَم فَالْتَفَتَتْ تِلْكَ وَقَالَتْ لَهُ: رَبُّونِي! الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ. 17قَالَ لَهَا يَسُوعُ: لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلَكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُم . 18فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التَّلاَمِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هَذَا". والآن فلينظر القارئ الفرق بين ما ردده من ألوان الهلس الأنبا جرجى الذى ليس له أى وجود إلا فى أستاه الكذابين وبين حقيقة أمر الأناجيل كما هى فى الواقع. كل ذلك، ولم نقل شيئا عن الشكوك العاصفة التى تحيط بكل ما يتعلق بالأناجيل: كتابها الحقيقيين، وتاريخ كتابتها، ومدى أهليتها للثقة عند العلماء المحققين من النصارى قبل المسلمين.
    وهنا تنعطف المجادلة فى الحدوتة التى نحن بصددها إلى المقارنة بين الرسول الكريم وأخيه عيسى بن مريم عليهما السلام، فنقرأ ما يلى:
    "قال المسلم: فمحمّد عندكم في منزلة دون المسيح ودون الحواريين؟
    قال الراهب: وكيف أستجيز أن أساوي بين العبد بالمولى، والمخلوق بالخالق، والإنسان بالإله؟
    قال المسلم: ألا تعلم يا راهب أن محمّدا نبيّ الله ورسوله لأنه هدى أمّة إسماعيل ونقلها عن عبادة الأصنام إلى عبادة الله نظير المسيح ورسله؟
    قال الراهب: أنا أعلم أن محمدا تملّك على الأعراب أولاد إسماعيل ونقلهم من عبادة الأصنام إلى معرفة الله، لكن ليس إلى معرفته الحقيقيّة لأنه قصد التملّك عليهم وإدخالهم تحت الطاعة له أكثر من أن يعرّفهم الخالق المعرفة الحقة. فإن أطلتَ أنّاتك وملكتَ الصبر في ذاتك وتوادعتَ في أخلاقك أوردتُ لك الحجة الكافية عنّي وعن أهل ديني في أمر محمد، ولماذا لم نوجِّبه ولم نَدْعُه نبيّا ولا رسولا.
    قال المسلم: إذ كان الأمير، أعزه الله، قد أرخى لك العِنَان وخوَّلكَ الأمان وفسح لك الكلام في دين الإسلام، فقل ما شئتَ.
    أجاب الأمير وقال: يا أبا سلامة، إن الراهب إلى الآن لم ينطق إلا بما يناسب الصدق ويقرب إلى الحق ويليق في قياس العقل.
    قال المسلم: هاتِ ما عندك في أمر محمّد.
    قال الراهب: اعلم يا أبا سلامة أن محمدا كان من الأعراب من بني قريش من أمّة إسماعيل من بني هاجر المصريّة عَبْدة سارة امرأة إبراهيم، وكان رجلا أعرابيا سفّارا يتردّد بسفره إلى بيت المقدس، فأضاف برجلٍ نصراني نسطوري اسمه بحيرا. فلما استخبره بحيرا عن مذهبه ودينه وَجَدَه من الأمة التي لا تعرف الله من بني إسماعيل. وكانوا يعبدون صنما يسمّونه الأكبر، وكانت صلاتهم أمام ذلك الصنم أشعارا تشتمل معانيها على الشوق والعشق، وكانوا يكتبونها على الألواح ويعلّقونها فوق ذلك الصنم يصلّون بها ويتقربون بها إليه ويسمّونها: "المعلّقات السبع". فلما علم بحيرا أنه من تلك القبيلة رقّ له على سبيل الألفة والمروءة وأفاده المعرفة بالله وتلا عليه فصولا من الإنجيل والتوراة والزبور. ولما عاد محمد إلى أرضه وأمته قال لهم: ويحكم! إنكم على ضلالة وعبادة باطلة ضارة غير نافعة... وكان محمد يكاتب بحيرا بما يتجدّد له، وبحيرا يأمره بنهيهم عن مثل ذلك...".
    وهذا كله خبل وكذب وافتراء، فليس عيسى سوى عبد الله ورسوله، والله سبحانه لا يمكن أن يتجسد ويدخل بطن امرأة تحبل به وتلده وتعطف عليه فترضعه وتقول له وهى تطبطب على ظهره: "خذ البِزّة ونم!"، وتغير له كافولته وتعلمه المشى والكلام وتهشتكه وتمشتكه، وعندما يكبر قليلا تنهره بل تضربه على أردافه كلما عملها على نفسه، وتُمَشْوِره فى طلبات البيت وترسله للمعبد لتعليمه الكتابة والقراءة لأنه إلهٌ أمىٌّ لا بد من تنجيره وصقله على أيدى الأحبار من بنى إسرائيل! يا له من إلهٍ! أما بخصوص بحيرا والكلام المضحك الذى يفتريه النصارى بشأنه منذ قرون وقرون، فهل كان بحيرا يلتقيه عليه السلام فى جُبٍّ تحت الأرض بحيث لا يراه أحد فيسجل لنا ما كانا يتقاولانه؟ إن حياته صلى الله عليه وسلم كتاب مفتوح، ولم يحدث شىء من هذا على الإطلاق. ثم لماذا لم يتكلم بحيرا أو أحد من النصارى الذين كانوا مع بحيرا أو كان لهم اتصال ببحيرا فيقول إنه هو الذى علم محمدا كذا، وقال له: قل كذا، وأْمُرْ قومك بكذا، وانههم عن كذا. وبالمثل فإن أحدا من قومه، ومنهم من كان يخرج معه فى القوافل للتجارة وسمع ببحيرا أو رآه إذا كان لبحيرا هذا وجود، لم يفتح فمه بكلمة واحدة من هذا الاتهام، ولم يجر بحيرا لهم على لسان ولو مرة واحدة عارضة طوال الحرب الضروس التى شنوها عليه صلى الله عليه وسلم وامتدت أعواما طوالا لم يألوا أثناءها جهدا فى اتهامه بكل التهم، ثم رجعوا فلحسوا جميع ما قالوه فيه وآمنوا به، مبرهنين بذلك على أنهم، فى كل ما عابوه به، كانوا يكذبون كذبا مفضوحا. فما معنى ذلك؟ وحتى لو صدقنا بأنه قد قابل بحيرا مرة يتيمة فى سفرة من سفراته، وهو صبىٌّ صغير إلى بلاد الشام، رفقةَ عمه أبى طالب (وكان ذلك بالمناسبة على مرأى ومسمع من القافلة كلها، وكان بحيرا (حسبما تقول الرواية) هو الذى طلب رؤيته وأراد الاطمئنان إلى أنه هو النبى المنتظر، وحذر عمه أبا طالب من غدر يهود طالبا منه أن يعود به من حيث أتى حتى لا يتعرض لمكايدهم، وهذه هى المرة اليتيمة التى يقال إن بحيرا قد رآه فيها كما قلنا)، فمتى وأين كان يقابله بحيرا بعد ذلك، ومعروف أن الرسول، بمجرد أن بدأ دعوته إلى أن هاجر للمدينة، لم يغادر مكة إلا إلى الطائف مرة يتيمة؟ وكيف كانت تدور بينهما المحاورات والمناقشات والمراجعات يا ترى وهما لا يلتقيان؟ أتراهما كانا يستعملان المحمول ونحن لا ندرى؟ أم تراهما كانا يتبادلان الرسائل بالماسنجر؟
    ثم إن ما قاله القرآن عن المسيح وأنه لم يُصْلَب ولم يُقْتَل ولم يكن ثمة فداء ولا خطيئة أولى لَيتصادم مع النصرانية كما يؤمن بها القطاع الأعظم من النصارى، فما موقع بحيرا من إعراب تلك الجملة؟ ولماذا اندفعت الملايين النصرانية إلى الدخول فى الإسلام عند سنوح أول فرصة والتصديق بما قاله محمد عن دينهم السابق إذا كانوا يعرفون حقيقةً أنه ليس إلا صناعة نصرانية بَحِيراويّة؟ لقد كان عندهم الأصل، فكيف يتركونه ويؤثرون عليه الفرع؟ كذلك فإن القول بأنه عليه السلام كان أعرابيا هو كذبٌ فاضح، فالأعراب هم سكان البادية، والرسول كان من قريش سكان أم القرى، وكان يشتغل بالتجارة قبيل رسالته، فهو إذن حضرى لا بدوى، فكيف يقول الراهب المهتوك إنه عليه السلام كان أعرابيا؟ وأنكى من ذلك أن يحاول ذلك الأحمق إقناعنا بأن الشيخ المسلم قد وافقه على هذا الهراء، وكان كل همه مساواة الرسول بالمسيح، إذ ما من عالم من علماء الإسلام إلا ويعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو سيد الأنبياء والمرسلين وأنه قد فُضِّل على سائرهم بعدة مزايا، وأنه فوق ذلك مرسل إلى الناس كافة لا إلى أولاد إسماعيل وحدهم، وإلا فأين نضع الأكراد والفرس والترك وأهل الهند والصين والشام وفلسطين ومصر والسودان والمغرب والأندلس، ثم أهل أوربا وأمريكا وأستراليا فى العصر الحديث يا مفترى يا ضلالى أنت وهو؟ أوكل هؤلاء من أولاد إسماعيل؟ إن أصغر طفل مسلم فى أتفه كتاب فى أحقر قرية فى أجهل بلد فى العالم ليعرف أن محمدا هو رسول للعالمين جميعا، على حين أن عيسى (كما يقرأ كل يوم فى القرآن) لم يُرْسَل إلا لبنى إسرائيل وحدهم ليس إلا، وأن هذا هو أحد الفروق بين الرسولين الكريمين، فكيف تغيب هذه عن إمام من أئمة المسلمين أو عن الأمير الذى دارت المجادلة فى حضرته، وهو ابن من أبناء صلاح الدين "الكردى" قاهر الصليبيين، ومُكْمِد المثلِّثين، وناصر دين النبى الأمين، محمد سيد الأنبياء والمرسلين؟ ويبقى تخريف الأنبا الأخرق الذى يدّعى فيه كذبا وزورا أن العرب كانوا يصلّون لآلهتهم بالقصائد التى ينظمها شعراؤهم فى الغزل والمديح والفخر والهجاء والحروب ويكتبونها على ألواح يعلقونها عليها. ألواح يا لوح أنت وهو؟ أرأيتم، أيها القراء، قلة حياء وسماكة جلد بهذا الشكل؟ يا أيها المنكوح، إننى رغم تخصصى فى الأدب العربى ورغم تأليفى عدة دراسات فى الأدب الجاهلى لم أسمع بهذا قَطُّ، ولن أسمع به عَوْضُ!
    "قال الراهب:... لعمري إن محمدا يقول إنه وأنتم على هدى أو ضلال مبين عن الهدى والطريق المستقيم بقوله: "ما أعلم ما بي وبكم"، وقال أيضا: "إني وإياكم على هدى أم على ضلال مبين" (سورة سبأ)، وقوله: "اتقوا ما استطعتم لعلكم تفلحون"، ثم رسم لكم في كل صلاة تصلّونها أن تسألوا الله الهدى إلى الطريق المستقيم بقولكم: "اهدنا السراط المستقيم" (الفاتحة). فإن كنتم على هدى، فما لكم حاجة لتسألوا الهدى لأن من قد اهتدى دفعةً فما باله يسأل الهدى؟ بل يسأل الله العون للسير في هداه. وخذ المثل في ذلك واجعل أيها الأمير أنني اليوم قد خرجت عن حضرتك طالبا المقرّ والوطن وضللت عن السبيل فلا أزال أسأل الله والناس الهدى حتى أجد السبيل الراشد إلى الوطن، فإذا وجدتُ السبيل فما بي حاجة أن أسأل الهدى، بل أسأل العون على الوصول إلى الوطن.
    قال المسلم: وهو كما تقول.
    قال الراهب: ولو عرف محمد أنكم على هدى لما سنَّ وشرّع لكم السؤال إلى الله في الرشد والهدى. ثم لعلمه أن صلاته لا تجزيه عند الله تعالى ربطك أيضا وشرّع لكم الصلاة عليه بقوله: "يا أيها الذين آمنوا صَلُّوا عليه وسَلِّموا تسليما".
    قال المسلم: أما علمتَ أن الله وملائكته يصلّون على محمد؟ أفما يجب أن أصلي أنا عليه؟
    قال الراهب: أفما كان أولى بك أن تصلي على ذاتك وتسأل الله العفو عن زلاتك، ولا تكون كمن أضواه الجوع وهو يسأل الطعام لغيره، أو كمن انسقم بذاته ويطلب الطبّ لغيره؟ فإذا كنتَ أنت والله والملائكة يصلّون على محمّد، فمن الإله الذي يقبل الصلاة؟ فإذا كان هذا الرأي فقد ساويت بالصلاة بين الله وملائكته والناس.
    قال المسلم: إن الصلاة هي رحمة منه على عباده.
    قال الراهب: فمن قدر على نيل رحمة الله وملائكته فما به حاجة إلى صلاتك، بل الأولى بك أن تصلي على نفسك.
    قال المسلم: أفما تصلون أنتم النصارى على مسيحكم؟
    قال الراهب: لا. ولكنا نصلي إليه لأنه إلهنا وخالقنا، وهو يقبل صلاة العباد.
    قال المسلم: يا ذا الكفر المبين والرأي الفاسد الوخيم! إنكم تعبدون إنسانا مخلوقا وُلِد من امرأة وصابه من الهوان ما أنتم به مقرّون، وأنت يا راهب لا تنكره على نفسك، وأنت تَتَّقِح وتهجو نبيّنا محمد المصطفى".
    أرأيتم رقاعة بهذا الشكل؟ ترى ما وجه الخطإ فى أن يستعين الإنسان بربه ويطلب منه أن يهديه فلا يضل السبيل؟ إن هذا التخطىء والتشنيع ليناقض الإيمان بالله من أساسه، وإلا فما معنى عبادة الله والإيمان بقدرته ورحمته؟ وما الفرق بين المؤمن والكافر إذن؟ يا أنبا يا فَطّاس، ألم تقرأ ما ورد فى الإصحاح الثالث من الإنجيل الذى ألفه متى عن محاولة الشيطان إغواء المسيح؟ فهذا هو ما يتعوذ منه المسلم بالضبط، فماذا فيه؟: "1ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ. 2فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا. 3فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ:«إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا». 4فَأَجَابَ وَقَالَ:«مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ». 5ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ، 6وَقَالَ لَهُ:«إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ». 7قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ». 8ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِبْلِيسُ إِلَى جَبَل عَال جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا، 9وَقَالَ لَهُ: «أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي». 10حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ». 11ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ، وَإِذَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُهُ". ألم يكن عيسى عليه السلام، وهو الإله حسب ادعائهم، يعرف الطريق المستقيم؟ بلى كان يعرف ذلك، إلا أن هذا لم يمنع أمير الظلام من الاجتهاد فى محاولة إضلاله وتكفيره مرة واحدة لا إغرائه بالزنا مثلا أو السرقة فقط! ألا يقول الرقيع هو وهو وهو فى صلاتهم: "نجّنا من الشرير (أى الشيطان)"؟ بلى يقولون ذلك، فما العيب إذن أن يقول مثلها المسلمون؟ ألم يتهم عيسى عليه السلام حوارييه مرارا بضعف الإيمان والنفاق رغم أنهم كانوا قد عرفوا الطريق واتبعوه؟ ثم ما معنى نصحه لهم فى النص التالى: "أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ"؟ أليس معناه أن من الممكن جدا بعد اهتدائهم على يديه أن يعودوا فينتكسوا ويفسدوا مثلما يفسد الملح فيلقى به عندئذ تحت الأقدام ويدوسه الناس؟ إذن فمخاطر الطريق كثيرة حتى لو تأكد الإنسان أنها هى فعلا الطريق التى تؤدى به إلى هدفه، إذ من الجائز مثلا أن يهجم عليه أسد أو يطلع عليه لص أو قاطع طريق أو يقع فى الظلام فى حفرة مهلكة أو يلدغه ثعبان أو يتعرض له بتزيين الكفر، أو على الأقل بنتانة دبره، قمص منكوح مثل الأنبا جرجى، شارب الدّرْدِى، أو أبى الزيك، ذى الدبر الهتيك، فيفسد عليه أمره كله!
    لنسمع ما ينسبونه من نصائح وتوجيهات للمسيح فى إنجيل متى على سبيل المثال: "27قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. 28وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. 29فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. 30وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ... اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 2فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 3وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، 4لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 5وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 6وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 7وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلاً كَالأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. 8فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ... 16وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. 17وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، 18لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 19«لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. 20بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ، 21لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا. 22سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، 23وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!".
    أليس هذا وسواه مما يمكن أن يفاجئ الإنسان فى أثناء الطريق؟ أليس هذا وسواه هو ما سماه السيد المسيح فى النص التالى: "عثرات"؟: "7وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْعَثَرَاتِ! فَلاَ بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ! 8فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ. 9وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمِ النَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ". أليس هذا وسواه مما ينبغى أن يتعوذ الإنسان منه ويستعين بالله عليه؟ ألم يضلّ حواريوه حين تركوه ساعة القبض عليه وفروا هاربين لا يلوون على شىء وأنكروه وأقسم بطرس إنه لا صلة له به البتة طبقا لرواية الأناجيل؟ أما كانوا يعرفون الطريق المستقيم؟ أمنعهم هذا من الحَيْد عن الطريق؟ إن الشهوات إنما تسكن أعماق قلوبنا ولا تأتينا من خارج: "20إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. 21لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، 22سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. 23جَمِيعُ هذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ»" (مرقس/ 7)، ومن ثم فلا مفر لنا منها، وكل ما نستطيعه حيالها هو أن نبذل جهدنا للانعتاق مما تغرينا به من حرام، أما أن نتجاهلها تماما فمستحيل. ولسوف نظل طول الحياة نتعرض لإغراءاتها، ولسوف يظل المؤمن بحاجة إلى الاستعانة عليها بربه ودعائه إياه أن يهديه الصراط المستقيم فلا يحيد عن الحلال ولا يتطلع إلى الحرام. إننا نسلك فى العادة طريقا معينا كل يوم، ومع هذا فكثيرا ما تقع فيه أشياء تنكّد علينا صفونا، بل كثيرا ما تحدث مصائب لا تخطر على بال، كأن يلقى أحدهم، ولو بدون قصد، حجرا يكسر زجاج النافذة، أو نفاجأ ببلاعة لم نتحسب لها لأن اللصوص سرقوا غطاءها فنقع فيها، أو أهمل العمال إحكامه فبقى ناتئا فاصدمت به عجلات سيارتنا فتمزقت إطاراتها كما حدث لى ذات مرة، أو بسلك كهربى عار فيصعقنا، أو ببلطجى يعترض طريقنا ويجردنا مما معنا، أو ببعض السفلة يخطفوننا ويضربوننا ثم يخلعون عنا ملابسنا ويتركوننا فى طريق صحراوى إلى أن تمر سيارة يعطف أصحابها علينا ويأخذوننا معهم ونحن على هذا الوضع المزرى الذى قصد به فاعلوه أن يربّونا حتى نلزم حدودنا ولا نتعرض للكبار بكلمة سفيهة مثلنا ونمشى على العجين فلا نلخبطه... إلخ. وهذا رغم الفارق الكبير بين الطريق الذى نقطعه كل يوم وطريق الحياة الذى يمتد من ميلادنا إلى مماتنا: فطريق الحياة لا ينتهى ولا نعرفه حق المعرفة إلا بعد أن نموت، ونظل طول عمرنا نجهل مفاجآته ومنعطفاته، أما طريق كل يوم فقد حفظناه عن ظهر قلب، إذ نقطعه كل يوم ذهوبا وجيئة مرات ومرات، ومع هذا فما أكثر ما يبادهنا بما لم يخطر لنا من قبل على بال، فما بالنا بالطريق الآخر المحجوب عنا؟ ثم هل يصح أن نقيم من أنفسنا قضاة على سلوكنا وأخلاقنا فنصدر لمصلحتها الأحكام ونعطيها الدرجات والتقديرات العالية ونتجاوز بهذا حدودنا وصلاحياتنا؟
    وقبل ذلك كله ألم يتعمّد المسيح على يد يحيى مؤكدا أنه ينبغى له تلقّى التعميد منه حتى يكمل كل بِرّ؟ ألم يأكل هو وتلاميذه من الحقل دون إذن من أصحابه؟ ويقول الأحمق إن عيسى لم يكن يصلى لله بل كان الناس يصلون له. ألم أقل إنه جاهل حتى بكتابه الذى يقدسه؟ ألم يقرأ ما قاله متى بعد انصراف الجموع الذين أطعمهم سمكا وخبزا: "22وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوهُ إِلَى الْعَبْرِ حَتَّى يَصْرِفَ الْجُمُوعَ. 23وَبَعْدَمَا صَرَفَ الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ مُنْفَرِدًا لِيُصَلِّيَ"، "36حِينَئِذٍ جَاءَ مَعَهُمْ يَسُوعُ إِلَى ضَيْعَةٍ يُقَالُ لَهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ:«اجْلِسُوا ههُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ».37ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَابْنَيْ زَبْدِي، وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ. 38فَقَالَ لَهُمْ:«نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ. اُمْكُثُوا ههُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي». 39ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً:«يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ»... 42فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلاً:«يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ». 43ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضًا نِيَامًا، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً. 44فَتَرَكَهُمْ وَمَضَى أَيْضًا وَصَلَّى ثَالِثَةً قَائِلاً ذلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ". ألم يغلبه الألم على نفسه فجعل يصرخ ويدعو الله قائلا: "إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟"؟ فما معنى هذا؟ ألم يسمع الأنبا الجاهل قول المسيح كما حكاه كتابه: "لماذا تدعونى صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد، وهو الله". ومن هنا كانت دهشتى عظيمة حين شاهدت ذات مرة إحدى الراهبات الأجنبيات فى برنامج مرنائى عربى تؤكد أنها لا تخطئ ولا ترتكب ذنبا وأنها من ثم تعرف أنها ناجية يوم القيامة. إن هذا لهو الخبل العقلى والغرور الخلقى! نعوذ بالله من انغلاق القلوب وتحجر الضمائر! إن الراهبة المخبولة تتصور نفسها وكأنها إنسان آلى مبرمج على نظام معين فهو لا يعدوه ولا يستطيع الخروج عنه إلى ارتكاب الخطإ بحال، وأنى لها أو لسواها ذلك؟ بل من قال إن الإنسان الآلى لا يخطئ أو يتعطل أو يخرج على برنامجه المُغَذَّى به سلفا؟ أوقد تجردت تماما ونهائيا من الغرائز والشهوات فهى لا تضلّ أبدا؟ أوقد ضمنت ألا تنسى شيئا أو تخطئ فى وضعه موضعه الصحيح؟ أوقد أخذت على الله عهدا أنها لا يمكن أن يدور فى ذهنها أية نية غير سليمة؟ إن استغفار محمد وطلبه الهدى دائما من ربه لهو أكبر دليل على صدقه صلى الله عليه وسلم، وإلا أفلم يكن قادرا على أن يقول ما قالته الراهبة المجنونة لو كان الأمر عنده أمر ادعاء للنبوة؟ لا لا، ليس هذا بصنيع الكذابين المدلسين! لقد كان محمد نبيا عظيما رغم أنه كان دائما ما يحث أتباعه ألا يفضّلوه على أى من إخوانه. وهذه هى العظمة النفسية والأخلاقية فى أبهى صورها! أما أمر القرآن له فى سورة "سبإ" عليه السلام بأن يقول للكفار: "وإنا أو إياكم لعلى هُدًى أو فى ضلالٍ مبين" فهو الغاية فى أدب الجدال، إذ الأمر من الناحية النظرية المجردة لا يخرج عن هذا، وقد أُمِر صلى الله عليه وسلم بذلك حتى يضع حدا للجدال الذى لا ينتهى والذى كان الكفار بغبائهم وعنادهم بارعين فيه مثلما كان بنو إسرائيل يشغبون دائما على المسيح طبقا لروايات الأناجيل ويكثرون من الأسئلة التى يريدون بها إرهاقه وإعناته لا التعلم منه ومحاولة الوصول إلى الحقيقة بالتعاون معه. وأنا، أيها العبد الضعيف، كثيرا ما ألجأ لشىء مثل هذا فى محاضراتى حين يطول الجدال بينى وبين أحد الطلاب دون أن ننتهى إلى رأى نتفق عليه أو نتوصل إلى حل وسط، فأقول له عندئذ: "هأنتذا ترى أننا قد وصلنا إلى طريق مسدود وأن كُلاًّ منّا قد قال كل ما لديه ولم يعد هناك شىء يمكن أن يضاف إلى ما قلناه. فلهذا لا داعى لأن نمضى فى المناقشة بعد أن أصبحت المسألة واضحة، وليس هناك من جديد نقوله، ولا يريد أحدنا أن يقتنع بما يقوله الآخر. وقد أكون أنا المخطئ، أو قد تكون أنت". أقول له هذا دون أن أحاول إجباره على تبنِّى رأيى! كل ذلك دون أن أحاول التقليل من موقفه رغم تصورى أننى بطبيعة الحال على الحق وأننى أعلم من الموضوع أكبر كثيرا مما يعلم هو. ولكن هذه هى طريقتى "الديمقراطية"، إذا أحببت أيها القارئ أن تسميها هكذا، إذ لا مانع عندى! وهل هناك من يكره؟ وفى النهاية ألم يقل عيسى عليه السلام إن جميع من أتى قبله من الأنبياء والمرسلين كانوا لصوصا؟ "8جَمِيعُ الَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ" (يوحنا/ 10)، نعم حميع الأنبياء بما فيهم إيليا وموسى كما أكد د. ألبير باييه فى كتابه: "أخلاق الإنجيل- دراسة سوسيولوجية" (ترجمة د. عادل العوا/ دار كنعان ودار الحصاد/ 26). فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لهؤلاء الأماجد، فكيف بمن ليسوا أنبياء ولا مرسلين؟ أليسوا بحاجة أشد إلى طلب العون من الله واستهدائه الطريق المستقيم فى كل خطوة؟ إننى بطبيعة الحال لا أصدق أن السيد المسيح قال شيئا من هذا، بَيْدَ أنى أحاكم القوم إلى كتابهم حتى أبين لهم ولكل من كان عنده عين للقراءة أنهم يهرفون بما لا يعرفون!
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    أما إشارة الأنبا المضحكة إلى مسألة زينب بنت عمة الرسول عليها رضوان الله وقوله إنه عليه الصلاة والسلام "هام بامرأة زيد مولاه سابقا لمّا نظر إليها، وأخذها منه كُرها وزعم أنّ الله قد أزوجه بها دون زيد، وخاطب بها صحابته قائلا: "ولما قضى زيد منها وطرا أزوجناك بها يا محمد"، وزعم أن هذا وحي من الله أُنزل عليه في امرأة زيد. ولما خاطب بذلك صحابته قالوا: خذ يا رسول الله ما أنعم به عليك وحلّله لك وحرّمه على غيرك"، فملخص القصة (بعيدا عن كذب الأنبا المزعوم وجهله بالآيات القرآنية، أو تحريفها بالأحرى كما فعل قومه مع كتابهم المقدس من قبل) أنه عليه السلام كان قد خطبها لزيدٍ عبده السابق ومتبَنَّاه اللاحق رغم كراهيتها هى وأخيها لذلك، إذ كانت من ذؤابة قريش وبنت عمة الرسول، أما زيد فمجرد عبد عتيق لابن خالها محمد. ومع هذا فقد التزمت بما نزل فى القرآن من وجوب الانصياع لمثل هذا القرار وتزوجته، إلا أن الأيام لم تفلح فى تلطيف مشاعرها تجاه زوجها وظلت الأمور بينهما متوترة. وفى يوم من الأيام فكر زيد فى تطليقها كى يضع حدا لهذا التوتر، وفاتح الرسول بهذا، لكنه عليه السلام راجعه وطلب منه الصبر. وفى النهاية طلقها زيد وتزوجها الرسول عليه السلام حين نزل القرآن بذلك كى يعرف الناس أن التبنى لا يعطى للابن غير الحقيقى فى مسائل الزواج أو النسب وضع الابن الحقيقى أبدا. وكان زيد رضى الله عنه هو الذى خطبها بدوره لرسول الله، وهو ما يدل على أنه لم يكن فى الأمر ما يثير شكوكه أو حنقه. هذه هى المسألة باختصار، فلم الطنطنة والتشهير؟ هل طمع فيها الرسول وتآمر على تطليقها من زوجها؟ أبدا، فقد رأيناه يراجعه ويأمره بالصبر. هل انتهز فرصة غيابه عن البيت ودخل على زوجته ليستمتع ولو بتبادل الحديث معها والتغزل فى محاسنها، ولا نقول: الزنا بها؟ أبدا، فإن الروايات تنص على أنه حين ذهب يطلب زيدا فى أمر من الأمور ولم يجده انصرف فى الحال ولم يتلبث. إذن فما المشكلة؟ سنفترض أنه عليه السلام قد تعلق بها بعد أن كان هو الذى ضغط عليها كى تتزوج زيدا، فما وجه العيب فى هذا؟ هل يملك البشر عواطفهم فى أيديهم؟ ومع ذلك فلا بد أن يعرف القارئ أن زينب كانت تحت بصر الرسول وتصرُّفه طوال الوقت قبل أن يزوجها زيدا على كره منها ومن أخيها، أفلمّا تزوجها عبده السابق، وهو (فوق عبوديته له) من قبيلةٍ لا تسامت قبيلته هو وزينب، تحلو فى عينيه إلى الحد الذى يريد الأفاكون أن يجعلوا من حبتها قبة؟
    المهم أنه لم يلجأ إلى أى شىء يمكن أن يُؤْخَذ عليه فى هذا السياق: فلا هو ألمح لزيد برغبته فى امرأته حتى يدفعه من طَرْفٍ خفىٍّ إلى التنازل له عنها، فضلا عن أن يكرهه على طلاقها، ولا هو حاول إبعاده عن البيت كى يخلو بها متى أحب، ولا هو تآمر على قتله كما صنع داود (داود النبى والملك) مع قائده وجاره أوريّا الحثى الذى رأى زوجته عارية كما ولدتها أمها (طبعا! ألم تكن من راقصات الإستربتيز؟) وهى تستحم فى فناء بيت قائده المجاور لقصره حين كان يتمشى على سطح القصر ذات يوم، ولا أدرى ماذا كان يفعل ملك مثله على سطح القصر إلا أن تكون هناك بقايا طفولة لم تزل فيه فصعد ليطير طائرته الورقية أو ليطمئن على غيّة الحمام الذى يربيه هناك (داود "ابن الله البكر" كما جاء فى العهد القديم، وجَدّ إله الأنبا الأحمق أو أبوه كما يقولون، إذ المسيح عندهم هو "ابن داود". والمصيبة أنه ابنه من جهة يوسف لا من جهة مريم، فتأمل الخيبة القوية واتهامهم مريم فى شرفها وعفتها بغباءٍ ما بعده غباء!)، فما كان منه إلا أن أرسل فأحضرها وزنى بها (هكذا خبط لزق "دون إِحِم أو دستور"!)، ثم لم يكتف بهذا بل وضع خطة للتخلص بها من الزوج المسكين. ولما تمت الجريمة استلحقها بحريمه، ولكن بعد أن انقضت أيام مناحتها. شوفوا ذوقه وحنيّة قلبه ومراعاته للتقاليد! والله فيه الخير! لكن نعود فنقول: يا ليته ما زنى ولا راعى التقاليد، وترك الرجل وزوجته فى حالهما!
    أما الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، فرغم أن مسألته زواجٌ حلالٌ لا زنًا كما فى حالة داود حسبما يفترى عليه ملفقو العهد القديم عليهم لعائن الله، فقد مكث فترة من الزمن يحاول أن يتجنب التزوج من زينب خشية أن يظن الناس أنه اقترانُ أبٍ بامرأة ابنه كما كانت العرب حتى ذلك الحين تعتقد، إلى أن نزل القرآن يعاتبه ويشتد عليه صلى الله عليه وسلم ويأمره أمرًا بإمضاء هذا الزواج حتى يضع حدا لذلك الفهم الجاهلى. ثم إنه عليه السلام لم يكن يوسّع فى نفقة زينب ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وحين طلبن منه ذات مرة أن يوفر لهن شيئا من بحبوحة العيش كسائر النساء نزل القرآن يخيّرهن جميعا بين الرضا بما هن فيه أو تسريح الرسول عليه الصلاة والسلام لمن لا ترضى بهذا الوضع المتقشف منهن، إلا أنهن جميعا قد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة على حظوظ الدنيا. وليس هذا بطبيعة الحال سلوك من تأسره النساء ويتسلطن على عقله وحكمته ويفسدن عليه أمره، بل سلوك نبى كريم يملك نفسه تماما أمام المرأة إن كان ثمن ذلك هو الخروج على مبادئه التى يدعو إليها أدنى خروج! ثم لا ينبغى هنا أن ننسى شيئا، وهو أن زيدا لو شعر أن فى الأمر ما يريب، أكان يظل على ولائه لمحمد ودين محمد ويخرج للغزو معرضا حياته بحرارة فى سبيل الدفاع عن ذلك الدين ولا يهرب مثلا إلى الروم أو فارس ويفضحه هناك؟ وذلك بدلا من أن يموت فى معركة مؤتة ميتته البطولية التى تدل على إيمان لا يتزعزع، إذ كانت كل عوامل النصر من فارق ضخم فى العدد والعتاد فى صف الروم، فضلا عن انحياز أرض المعركة لأهلها، ومع ذلك خاضها، رضى الله عنه، هو وبقية زملائه فى رجولة وإخلاص لا يُبَارَيان! ويمكن القارئ أن يرجع إلى ما كتبته فى هذا الأمر فى الفصل الأول من الباب الأول من كتابى: "مصدر القرآن- دراسة لشبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحى المحمدى" (مكتبة زهراء الشرق/ 1417هــ- 1997م/ 71 فما بعدها). والعجيب بعد هذا كله أن يقول النصارى إن الله قد غفر لداود وغيره من أنبياء العهد القديم جرائمهم ذات العيار الثقيل لأنهم فى نهاية المطاف بشر، والبشر خطاؤون، ثم يجيئون إلى الحلال الزلال الذى فعله النبى محمد عليه السلام فتضيق أستاههم النتنة المدوَّدة غيرةً على الشرف الرفيع (كشرف الراقصة اللولبية فلانة الفلانية! وأحسن م الشرف ما فيش!)، ويذهبون فيلطمون الخدود ويشقون الجيوب ويضعون على رؤوسهم مما تحت أرجلهم ويَدْعُون بدعوى الجاهلية زاعمين التألم للأخلاق والدين! يا حرام!
    "قال المسلم: ويحك! إنما ننكر عليكم أنكم تجعلون لله ابنا وأن المسيح ابن الله وأنه الأزلي خالق الخلائق، وتجعلونه مساويا لله في الطبيعة والجوهر والقدرة، وهو إنسان وُلِد من امرأة، ومَثَله مَثَل آدم، قال له الله: كن، فكان.
    قال الراهب: هل أنت يا أبا سلامة مصدّق كل ما ذكره نبيك في القرآن؟
    قال المسلم: نعم أنا مصدّق جميع ما في القرآن لأنه منزل من الله على نبيه المصطفى محمد.
    قال الراهب: أفليس في القرآن أن المسيح روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم؟
    قال المسلم: نعم، كذلك هو.
    قال الراهب: فإذا لله روح وكلمة؟
    قال المسلم: نعم.
    قال الراهب: أخبرني عن روح الله وكلمته: أزليّة هي أم محدثة؟
    قال المسلم: بل أزليّة غير محدثة.
    قال الراهب: فهل كان الله في وقتٍ من الأوقات أصم أخرس خاليا من كلمةٍ وروحٍ؟
    قال المسلم: أعوذ بالله من ذلك حيث إن الله لم يخلُ قط من كلمته وروحه.
    قال الراهب: وكلمة الله خالقة أم مخلوقة؟
    قال المسلم: ما أشك في أنها خالقة.
    قال الراهب: أفما تعبد أنت الله؟
    قال المسلم: نعم.
    قال الراهب: فهل عبادتك لله مع كلمته وروحه أم لا.
    قال المسلم: أعبد الله وروحه وكلمته.
    قال الراهب: قل الآن: أومن بالله وروحه وكلمته.
    قال المسلم: آمنت بالله وروحه وكلمته، ولكني لا أجعلهم ثلاثة آلهة بل إله واحد.
    قال الراهب: فهذا الرأي هو رأيي واعتقادي واعتقاد كل نصراني. وإلى هذا كان قصدي بأن أقودك إليه لتعرف الثالوث: الآب الذي هو الله، والابن الذي هو كلمته، وروحهما القدوس.
    وكان الأمير متكئا فاستولى جالسا ورفع عن حاجبيه شربوشه، وصفّق وكبّر، وقال ضاحكا: وحق عليٍّ يا أبا سلامة لقد نصّرك الراهب وأدخلك في دينه".
    ومرة أخرى نجد أنفسنا وجها لوجه مع الخبث والتفاهة والتهافت، فالقرآن لا يقول عن عيسى عليه السلام إنه روح الله، بل "روح منه"، وهو فى هذا لا يتميز على أى إنسان كائنا من كان، إذ ما من أحد من بنى آدم جميعا إلا وفيه من روح الله. قال تعالى: "ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (9)" (سورة "السجدة"). فالله، كما تقول الآية الأخيرة، قد نفخ فى البشر من روحه سبحانه، وهذا هو نفسه الوضع فى حالة عيسى عليه السلام، فهو إذن كسائر البشر: كلاهما مخلوق. أما أنه عليه السلام كلمة الله فالمقصود كلمة "كن" فيكون، وهذا هو نفسه الوضع فى حالة آدم أيضا: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)" (آل عمران). وطبعا ليس المقصود أنه هو الكلمة ذاتها، بل العبارة هنا على المجاز، إذ ليس عيسى ولا أى مخلوق آخر غير عيسى هو الكلمة نفسها، بل ما أحدثته الكلمة فى عالم الوجود، وذلك كما يقول الواحد منا لغيره: "أنا ذراعك اليمنى"، ولا يمكن أن يقصد أنه ذراعه فعلا، بل المقصود أن بإمكانه الاعتماد عليه مثلما يعتمد على ذراعه. ومثل ذلك ما قاله ابن منظور صاحب "لسان العرب" فى مادة"يمن"، ونصه: "وفي الحديث: الحَجرُ الأَسودُ يَمينُ الله في الأَرض. قال ابن الأَثير: هذا كلام تمثيل وتخييل، وأَصله أَن الملك إذا صافح رجلاً قَبَّلَ الرجلُ يده، فكأنَّ الحجر الأَسود لله بمنزلة اليمين للمَلِك حيث يُسْتلَم ويُلْثَم". وعليه فلا تميز لعيسى فى هذا، اللهم إلا أن ولادته قد اختلفت عن ولادتنا: فنحن قد خُلِقْنا بكلمة التكوين، لكن من خلال القوانين الطبيعية للولادة، أما هو فخُلِق بكلمة التكوين مباشرة دون الخضوع لتلك القوانين كاملة، إذ لم يكن له أب، وإن كانت له أم سكن أحشاءها وبقى فيها زمنا. أما آدم فقد خُلِق دون أب أو أم، ومن هنا فإن خلقه أعجب وأبعث على الدهشة. كل ما فى الأمر أن أحدا من البشر لم يكن هناك ليدهش أو يعجب، لأننا ببساطة لم نكن قد خُلِقْنا بعد، وإلا لعبده الناس هو أيضا، والحكاية ليست ناقصة مصيبة ثانية، وإن كان العهد القديم يقول عنه رغم ذلك إنه ابن الله!
    ولقد زاد القرآن هذه القضية إيضاحا وتأكيدا فى مواضع أخرى منه ولم يتركها غامضة حتى تأتى است هذا الأنبا فتفتى فيها، فالفتاوى بحمد الله متوفرة عندنا، وهى فتاوى طيبة طاهرة لأنها خارجة من أفواه طاهرة طيبة لا كفتاواه المنتنة، وكأنهم لم يكتفوا بتحريف كتابهم وإفساده، فهم يريدون أن يلبِّسوا علينا نحن أيضا ديننا وكتابنا، خيبهم الله! قال جل شأنه: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (173)" (النساء)، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)" (المائدة)، "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)" (المائدة)، "ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)" (مريم)... إلخ.
    فكيف يزعم الأنبا المخبول بعد ذلك أن القرآن يؤله المسيح؟ أما قوله عن الأمير الأيوبى السنى: "وكان الأمير متكئا فاستولى جالسا ورفع عن حاجبيه شربوشه، وصفّق وكبّر، وقال ضاحكا: "وحقّ عليٍّ يا أبا سلامة لقد نصّرك الراهب وأدخلك في دينه"، فلا أدرى كيف يقسم سُنِّىٌّ (سُنِّىٌّ حطّم أبوه دولة الشيعة فى مصر والشام) بحقّ علىٍّ، وهو يمينٌ لا يقسم به سوى الشيعة، الذين بينهم وبينه هو وأبيه وأسرته كلها حتى اليوم وإلى ما بعد اليوم إلى أن تقوم القيامة ما طرق الحدّاد. وبالمثل لا أدرى كيف يُبْدِى أمير مسلم فى ذلك الوقت الذى كان للدين فيه سلطانه الهائل على القلوب، وبالذات أيام الحروب الصليبية التى كان للأيوبيين فيها القِدْح المُعَلَّى، شماتتَه على الملإ فى دينه ودين أمته وانحيازَه لجماعة من النصارى لا قيمة لهم عنده ولا يمثلون له أى اعتبار، خارجا بذلك عن الملة!
    لقد كان ذلك الأمير، فيما قرأنا، مؤمنا حريصا على أداء فروضه الدينية، فعلى سبيل المثال كان عزمه قد صحَّ على أداء مناسك الحج فى سنة كانت هناك مشاكل سياسية بينه هو وأخيه الأفضل وبين الكامل ابن عمهما أرسل الكامل من جرائها عسكرا كثيرا ينتظرونه قبيل مكة ظنا منهم أنه ينوى الذهاب لليمن بغية أخذها لا لأداء الفريضة. ولنستمع إلى النويرى فى "نهاية الأرب" يحكى لنا القصة كلها، ووجه الشاهد فيها أنه كان ديـّنا: أولا فى خروجه للحج على ما فيه من مشقة يعرفها كل من خاض تجربته، وثانيا فى عرضه على الخصوم أن يقيدوه ويحيطوا به حتى يقضى المناسك كى يطمئنوا إلى أنه فى أيديهم لا يريد اليمن بل الحج، وثالثا فى حرصه على اتباع سنة النبى فى غزوة الحديبية لما عجز عن تأدية الشعيرة، إذ ذبح أميرنا وقصّر شعره وانصرف قافلا إلى الشام، ورفض الدخول فى معارك وإراقة دماء مع جند ابن عمه: "وفيها (أى فى السنة العاشرة بعد الخمسمائة من الهجرة) توجه الملك الظافر الخضر بن السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب من حلب لقصد الحج. فنزل بالقابون في يوم الأحد رابع شوال، ثم انتقل إلى مسجد القدم في خامس الشهر. وكان الملك المعظم بحوران، فوصل إلى دمشق، وأدخله إليها وعمل له ضيافة. ثم توجه إلى الحجاز صحبة الركب الشامي، فلما وصل إلى المدينة زار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحرم بالحج من ذي الحُلَيْفة. فلما انتهى إلى بدر وجد عسكر الملك الكامل قد سبقه من مصر إلى بدر خوفا منه أن يتوجه إلى اليمن ويستولى عليها. فقالوا له: ترجع! فعلم مرادهم، فقال: إنه قد بقي بيني وبين مكة مسافة يسيرة، وإني قد أحرمت. ووالله ما قصدي اليمن، ولا أقصد غير الحج، فقيِّدوني واحتاطوا بي حتى أقضي المناسك وأعود. فلم يوافقوه على ذلك، وأعادوه إلى الشام. فصنع كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين صده المشركون عن البيت: قصر وذبح ما تيسر، وعاد إلى الشام". وكان بمستطاعه أن يهب لمحاربتهم كما قلنا أخذًا بما اقترحه عليه قواده وجنده الذين عز عليهم أن يرجع على هذا النحو المهين دون أن يحج، إلا أنه رفض كما جاء فى "تاريخ الإسلام" للذهبى: "قال أبو شامة: وحكى لي والدي، وكان قد حج معهم، قال: شق على الناس ما جرى عليه، وأراد كثير منهم أن يقاتلوا الذين صدوه عن الحج، فنهاهم وفعل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين صُدّ عن البيت، فقصر من شعره، وذبح ما تيسر، ولبس ثيابه، ورجع وعيون الناس باكية، ولهم ضجيج لأجله". فهل من يتصرف مثلا على هذا النحو من الحب لدينه وتحمُّل المشاق من أجل تأدية مناسكه والحرص على اقتفاء سنة رسوله عليه السلام منذ أن خرج للحج حتى أعيق عن إتمامه يمكن اتهامه بأنه يمالئ النصرانية ضد الإسلام؟
    وذكر ابن العديم فى كتابه: "بغية الطلب فى تاريخ حلب" أن الأمير المشمر كان عالما محدِّثا، "سمع منه بعض أصحابنا شيئا يسيرا. خرّج عنه صاحبنا أبو عبد الله محمد بن يوسف البرزالي حديثا في معجم شيوخه، وروى لنا عنه أبو المحامد إسماعيل بن حامد القوصي إنشادا أخرجه عنه في معجم شيوخه. وكان يزور عمي أبا غانم، وكنت أجتمع به عنده في المسجد المعروف بنا، فلم أتحقق ما سمعته منه، فإنه كان يورد أشياء حسنة... وكان جوادا سخيا شجاعا عارفا بالتواريخ وأيام الناس، وكان من جِلّة بني الملك الناصر يوسف بن أيوب وكان يُنْبَز (أى يلقَّب) بالملك المشمّر، بحيث أنه غلب على لقبه: الملك الظافر. وبلغني أنه إنما غلب عليه هذا اللقب لأن أباه قسم البلاد على أكابر إخوته، قال: أنا مشمر، فغلب عليه المشمر، وهجر ما سواه...". وفى "الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام و الجزيرة" لابن شداد أنه بنى فى أرباض حلب مسجدا. أفمثل هذا الأمير يمكن أن يوالس مع النصارى ضد الإسلام ونبيه، فضلا عن أن يفعل ذلك على مرأى ومسمع من عسكره ورجال حاشيته وضيوفه والناس جميعا؟ وأخيرا وليس آخرا ها هو ذا الراوى الكذاب الذى لا يحسن تلفيق حدوتته الساذجة يقول إن الأنبا حين سأل الأمير السؤال التالى: "إن قَدِم أحد الناس وأظهر قرآنا يخالف القرآن المعروف الآن عندكم وقال لكم: هذا القرآن المنزل على النبي، وليس هو ذاك، فهل كنتم تقبلونه؟" جاء رد الأمير صاعقا على الفور هكذا: "لا. وعليّ ما كنّا نقبله بل نحرقه ومن أتى به". فهل من يكون رد فعله بهذا العنف على دعوى وجود قرآن غير القرآن يمكن أن يشمت بالإسلام وعلمائه الذين ينافحون عنه، ويشجع المناكيح المقاريح على تثليثهم ويُسِرّ لهم بأنه معهم بقلبه لأن أمه نصرانية مثلهم؟ كما أنطقه الراوى، حين أراد أن يوهمنا باتخاذه صف الأنبا، بصيحة "الله أكبر"، وهى صيحة إسلامية خالصة لا يقولها الأمير لو كان فى قلبه موالاة للنصارى. يا للكذب! يا للعار! أرأيت أيها القارئ كيف يقع هؤلاء الحمقى فى شر أعمالهم؟
    على أن الأمر لم ينته عند هذا الحد، إذ طفق الراهب المزعوم يحاول تفنيد ما نفهمه نحن المسلمين، ويفهمه معنا كل من لديه أدنى قدر من العقل، من نص سورة "آل عمران" الذى مر آنفا فى التسوية بين آدم والمسيح. ولم لا يأخذ الراهب راحته، والملعب ملعبه، والحَكَم من طرفه، والخصم غير موجود، إذ ليس هناك فى الحقيقة إلا "روبوت" يحركه من بعيد كما يشاء بــ"الريموت كونترول"؟ بل إن المسألة كلها ليست أكثر من حدوتة خيالية لم تقع إلا فى وهم كاتبها؟ "قال الراهب: وأما قولك يا أبا سلامة أن نبيك قال: "وما مثل عيسى ابن مريم إلا مثل آدم قال له: كن، فكان" (سورة آل عمران) فقد صدق نبيك في قوله لأن كلمة الله وروحه الخالقة الأزلية غير المحدودة وغير المدركة اتخذت لها من طبيعة آدم جسما من مريم وسكن فيه واحتجب به لاهوت الكلمة لأجل السياسة والتدبير لأن الجوهر اللطيف لا يظهر إلا في جسم. وخذ المثل من جوهر النار، فإنه جوهر لطيف لا يُنْظَر ولا يُرَى إلا في مادة من المواد. ثم اعلم أن موسى النبي طلب من الله تعالى أن يبصر الله بجوهر اللاهوت، فقال له الله: ادخل في باطن الصخرة، وأنا أضع يدي في ثقب الصخرة، وأنت تبصر ما ورائي. فلما كان منه ذلك أبصر موسى ما كان وراء الجوهر الإلهي، فلمع فى وجه موسى نورٌ لا يستطاع النظر إليه حتى ما كان أحد من الشعب ينظر إلى وجه موسى إلا مات. فاحتاج إلى برقع كان يضعه على وجهه حين كان يخاطب الشعب لئلا يموت كل من ينظر إلى وجه موسى من الشعب.
    قال المسلم: إذا كان اعتقادك أن روح الله وكلمته حلا في بطن مريم فقد بقي الله بغير روح ولا كلمة بعد حلولها في بطن مريم.
    قال الراهب: توهّمك هذا يا أبا سلامة يليق بصبيان المكاتب وأهل القرى والمضارب لأنك تقايس الإله الجوهر اللطيف الذي لا يُحَدُّ ولا يُرَد، ولا يحصره مكان ولا يحويه زمان، وهو غير المتنقل، وتتخيله محصورا ومتنقلا. أَبْعِدْ هذا الوهم من ظنك، وهذا الرأي من رأيك، ولا تتخيَّلْ روح الله وكلمته محصورة ومتنقلة.
    قال المسلم: فكيف يمكنني أن أحقّق أن كلمة الله وروحه بجملتها في بطن مريم، وهي بجملتها على العرش عند الله ولا يخلو منه ولا يفارقه على حسب رأيك؟
    قال الراهب: توهّمك هذا يناسب عيشتك الغليظة الرخية ومذهبك وناموسك وشريعتك لأنكم تتصورون وتنسبون الأشياء المعقولة كالأشياء المحسوسة بحسب عقولكم المكدرة من رخاوة العيشة واستعمال اللذات الجسدية، ولكني لا أكسل عن أن أوضّح لك البيان عما سألت وآتيك بمثالات توضّح الصدق. فما قولك في الشمس؟ أليس هي في أفق السما؟
    قال المسلم: نعم.
    قال الراهب: أفليس تبعث شعاعها وحرارتها ونورها على الأرض كلها؟
    قال المسلم: نعم.
    قال الراهب: فهل نورها وحرارتها حين تبعثهما إلى الأرض يفارقها أم لا؟
    قال المسلم: لا يفارقها ولا يخلو منها.
    قال الراهب: كذلك كلمة الله وروحه حلت في مريم ولم تخلُ من الله الآب. ونأتيك بمثال آخر فنقول إن مولانا الأمير إذا تكلم كلمة برزت من عقله ومِنْ فيه، وصارت الكلمة في كتاب من الرَّقّ والمداد، وحصلت في جسم ثم نودي بها في العالم وصارت مسموعة عند الكل، فهل كلمة الأمير فارقت عقله وبقي فيما بعد بغير كلمة؟! أفليس الكلمة بجملتها في عقل الأمير، وهي بجملتها في الكتاب والقرطاس والمداد؟
    قال المسلم: نعم".
    والمجادلة كلها سفسطة فى سفسطة، فالله سبحانه مطلق لا يحده حد، فكيف يحل فى بطن مريم ويبقى هناك طوال شهور الحمل، ثم حين يولد يظل فى الأرض محصورا فى ذلك الحيز المادى المتغير من لحظة لأخرى، وهو جسد عيسى الرضيع فالطفل فالصبى فالمراهق فالشاب فالرجل، ويعتريه ما يعترى أجسادنا جميعا من انحلال أنسجة وتكوّن غيرها، وموت خلايا وحلول سواها محلها، فضلا عن الألم والضعف والصداع والحاجة إلى الطعام والشراب والرغبة فى الدخول إلى الخلاء والحركة والانتقال من مكان إلى مكان وتلقى الشتم والتكذيب... إلى آخر مظاهر المعاناة التى تحتمها مطالب العيش والتفاهم مع الآخرين، إلى حين القبض عليه كما يُقْبَض على أحقر مجرم وتعرُّضه للضرب والطعن والإهانة والسخرية والصلب والقتل، وهو يجأر فى جنبات الفضاء نِشْدَانًا لعون لا يأتيه أبدا: "إلهى إلهى، لم تركتنى؟"، مقرًّا على نفسه رغم كل سفسطات الأنبا البكاش وأشباهه أنه ليس إلا "عبدا" ضعيفا يتجه إلى "إلهه" يرجوه المساعدة؟ ولقد صدق المسلم حين علق على هذه السفسطة الرقيعة قائلا: "إذا كان اعتقادك أن روح الله وكلمته حلا في بطن مريم فقد بقي الله بغير روح ولا كلمة بعد حلولها في بطن مريم". ذلك أنه متى ما جعلنا لله وجودا متحيزا بحيز المكان والزمان فلا بد أن يجرى عليه من ثم كل ما يجرى على الوجود المتحيز من الانحصار دائما فى مكان دون سائر الأمكنة، وفى زمان دون باقى الأزمان. وعلى هذا فإذا كان الله فى بطن مريم أو فى البيت الفلانى أو على الصليب العلانى فلا وجود له حينئذ فى غير هذا البطن أو ذاك البيت أو على غير ذلك الصليب. إن المسلمين حين يقولون هذا فإنما يقولون ما يقضى به العقل والمنطق، وما سوى ذلك هو مجرد سفسطة رقيعة كما قلنا مرارا. ثم إن عالما مسلما، فضلا عن أن يكون هذا العالم من أئمة المسلمين، لا يمكن إذا أراد الردّ بالإيجاب على سؤال منفى أن يقول: "نعم" كما ادّعى كاتب الحدوتة على الشيخ، بل عليه أن يستعمل كلمة "بَلَى". جاءك "البَلا" منك له يا بعيد! فهذه علامة أخرى من العلامات المخزية التى تفضح كاتب الحدوتة وتهتك ستار كذبه وزيفه!
    والغريب أن الراهب الكذاب يأبى إلا أن يَحُور إلى طبيعته المدلسة الكذابة فيتهم المسلم بأنه هو الذى يقول بتحيز الله! انظروا إلى مدى الالتواء فى تفكير هذا الكائن وسلوكه: "توهّمك هذا يا أبا سلامة يليق بصبيان المكاتب وأهل القرى والمضارب لأنك تقايس الإله الجوهر اللطيف الذي لا يُحَدُّ ولا يُرَدّ، ولا يحصره مكان ولا يحويه زمان، وهو غير المتنقل، وتتخيله محصورا ومتنقلا"، وإلا فإذا كان الله جوهرا لطيفا لا يُحَدّ، فكيف يريد الأنبا الرقيع حَصْره فى بطن مريم وغيره من الأماكن التى كان يحل فيها عيسى عليه السلام أو يتنقل بينها؟ وهو يتطاول على المسلمين (طبعا لأنه كالكلب: ينبح ما لم يجد إنسانا حوله، فإذا شم رائحته انقمع وتخاذل وخرس تماما)، قائلا إنهم حسيون متبلدو المشاعر والفهم لانشغالهم باللذائذ المادية، وكأنه هو وأمثاله يعيشون على نور الشمس ونسمات الهواء فلا يأكلون ولا يشربون ولا يلبسون ولا ينامون، وفوق ذلك كله لا يُنْكَحون؟ اللهم إلا إذا قال عن الأخيرة إنها من مذهب أفلاطون، وأفلاطون من الفلاسفة المثاليين، فعندئذ نسكت ولا نفتح فمنا بالكلام عن الاتجاه الجديد فى بعض الكنائس لترسيم الأساقفة من اللوطيين حتى تتم الخيبة القوية ويُقْبِل الأسقف من هؤلاء على رعيته فيعظهم ويصلى بهم ودبره مبلول من ماء الفحل الذى نهض عنه لتوه، مثلما كان حال ذلك الشيوعى الحقير المُسْتَهْوِد الذى نكحه خادمهم النوبى فى بيتهم ذى النوافذ المفتوحة وبلله فذهب إلى الحمام، وقد تدلى سرواله وبانت مؤخرته، ليزيل آثار ذلك النكاح اللذيذ عند كل من يكره الإسلام، ثم عاد منه وماء الصنبور الذى تسرب إلى حذائه يحدث صوتا يشبه ما يسمونه فى الإنجليزية: "squelching"، ولا أدرى كيف أقوله بالعربية لجهلى أنا لا لضيق لغتنا العبقرية! الآن عرفنا لماذا قال لنا أولاده ذات يوم إنهم لا يريدون الانتساب له! والله معهم حق!
    أما قول الراهب إن "كلمة الله وروحه الخالقة الأزلية غير المحدودة وغير المدركة اتخذت لها من طبيعة آدم جسما من مريم وسكن فيه واحتجب به لاهوت الكلمة لأجل السياسة والتدبير لأن الجوهر اللطيف لا يظهر إلا في جسم"، فليس له من معنى سوى أنه سبحانه لم يكن يدبّر أو يسوس قبل زمن عيسى ولا بعد انتقاله عن دنيانا. ألم يقل إن الجوهر الإلهى اللطيف إنما سكن جسد عيسى كى يتم التدبير والسياسة؟ إذن فنحن الآن بلا سياسة ولا تدبير إلهيين، والذى يدبر ويسوس هو أمريكا، وقد عَرَفها فوكوياما العفريت المكّار من نفسه وأدرك على الفور أنها "نهاية التاريخ"، كما أعلن نيتشه المجنون من قبل أن "الله مات"، ولا عزاء للسيدات ولا حتى للبنات، أما بالنسبة للرجال فهل عاد هناك رجال بعد أن أخصتهم أمريكا وأحالتهم إمَّعات؟ ولا يكتفى الأحمق بما مضى، بل يأبى إلا أن يسقط سقطة قاتلة أخرى حين يقول: "ولما كنا ذوي أجسام وجب عند حكمته أن يخاطبنا بجسم لأن اللاهوت عادم الجسم، كما إن جوهر النار لا يُعْلَنُ ولا ينتفع الناس منه إن لم يظهر في مادة من المواد". وسؤالنا هنا هو: وكيف كان الله يخاطب البشر منذ بدء الخليقة؟ ألم يكن يرسل لهم أنبياء ورسلا، أم كان يتجسد بنفسه فى هؤلاء الأنبياء والرسل؟ إن قال بالأولى فعيسى مجرد نبى ورسول مثل سائر الأنبياء والمرسلين، وإن قال بالثانية فجميع الأنبياء والرسل إذن آلهة أو أبناء آلهة. وفى الحالتين لا فرق بين عيسى وسواه!
    ولا يكتفى الأنبا المزيف بهذا، بل يلجأ إلى مثال النار التالى ليقنع المسلم بسخف ما يقول: "فما قولك في الشمس؟ أليس هي في أفق السما؟
    قال المسلم: نعم.
    قال الراهب: أفليس تبعث شعاعها وحرارتها ونورها على الأرض كلها؟
    قال المسلم: نعم.
    قال الراهب: فهل نورها وحرارتها يفارقها حين تبعثهما إلى الأرض أم لا؟
    قال المسلم: لا يفارقها ولا يخلو منها.
    قال الراهب: كذلك كلمة الله وروحه حلت في مريم ولم تَخْلُ من الله الآب".
    وهذا المثال مما يجرى على ألسنة النصارى للتدليل على صحة تثليثهم، مع أن هناك فارقا جذريا بين النار وبين الله: فالنار كيان مادى، أىْ مُرَكَّبٌ من عناصر متعددة كانت متفرقة قبل ذلك ثم تجمعت وأصبحت نارا، وسوف تتفرق بعد ذلك كرة أخرى... وهكذا دواليك. فهل الله هكذا؟ وهل الله كالنار متحيز فى مكان وزمان معينين؟ ثم إن النار باستمرار صدور أشعتها منها تفنى، وبعد قليل لا تعود هناك نار. بل إن الشمس وسائر النجوم، وهى كرات نارية هائلة الحجم إلى درجة رهيبة، لها عمرٌ مقدَّر سوف تبلغ تمامه يوما ولا تعود ثمة شمس ولا نجوم، وإن كان عمرها أطول بما لا يقاس من النيران الأرضية التى سرعان ما تفنى كما قلنا، والتى لا يصح تشبيه الله بها بالمعنى الذى يريده الأنبا الأخرق. كذلك فإن أشعة النار والشمس ليست هى النار أو الشمس كلها، بل جزءا منها فقط، وهو عندما يغادرها لا يعود جزءا منها بل ينفصل عنها، فما علاقة ذلك بروح الله التى تفارقه ولا تفارقه؟ ثم إن حرارة الشمس تضعف كلما ابتعدنا عنها، فهل روح الله تضعف على هذا النحو أيضا؟ يعنى: هل كان عيسى إذن إلها على قد حاله؟ إلها "نصّ نصّ" كما تقول نانسى عجرم التى ينتحل اسمها وشخصيتها أحد المناكيح فى رسائله لى فى محاولة منه لتحسين نفسه والإيهام بأنه لا يزال "حلوة وشابة"! اسم الله عليها! كما أن وصول الأشعة والنور من الشمس إلينا يستغرق وقتا، فهل يجوز أن نقول ذلك عن روح الله؟ أترى هذا هو السبب فى أن عيسى لم يصل إلينا منذ أول الخليقة، بل تأخر إلى ما قبل ألفى عام من الآن؟ كذلك فإن أشعة الشمس ونورها لا يصلان إلى كل مكان، فهل نقول عن روح الله ما نقوله عنهما ونفسر فى ضوء ذلك أن عيسى بن مريم عليه السلام كان، فى الوقت الذى يوجد فيه فى مكان معين، يكون غائبا عن بقية الأماكن؟ يمينا بالله إن هؤلاء لحمقى أغبياء!

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    ومرة أخرى يسقط الجردل سقطة قاتلة، إذ يتحذلق قائلا: "ونأتيك بمثال آخر فنقول إن مولانا الأمير إذا تكلم كلمة برزت من عقله ومِنْ فيه وصارت الكلمة في كتاب من الرَّقّ والمداد وحصلت في جسم ثم نودي بها في العالم وصارت مسموعة عند الكل، فهل كلمة الأمير فارقت عقله وبقي فيما بعد بغير كلمة؟ أفليس الكلمة بجملتها في عقل الأمير، وهي بجملتها في الكتاب والقرطاس والمداد؟". ومرة أخرى نجده يلجأ إلى أسلوب التفكير العامى الذى لا يصلح فى مخاطبة العقل والمنطق، فالكلام المقيّد فى الكراس ليس هو الفكرة التى فى عقل الأمير، بل هو مجرد رمز لها وصورة منها، والصورة غير الأصل كما هو معروف، وإلا كان لزاما علينا أن نقول إن صورتى المنشورة فى بعض المواقع المشباكية هى أنا، هذه الصورة التى يشبّهها المنكوح المذكور آنفا (فى رسائله إلىّ) بمؤخرته، مع أنى (رغم كونى من غير ذوى الوسامة) لست قبيحا ولا منتنا كمؤخرته ذات الدبر المتهدل الذى ضرب فيه الدود! ولا شك أن لكل من الأصل والصورة كيانه ووجوده المستقل، فالفكرة فى عقل الأمير مثلا لا تبقى كما هى بل تتطور، أما فى الكراس فستبقى كما هى برمزها الأول لا يعتريها تطور، كما أن فكرة الأمير حين تنتقل إلى عقل شخص آخر تمتزج به وتصبح عنصرا من عناصر فكره، فهل نقول هذا عن الله وروح الله؟ وبالمثل إذا أراد الأمير أن يستعيد فكرته كما انبثقت فى ذهنه لأول مرة بالضبط فلن يستطيع ذلك أبدا، بخلاف رمزها الكتابى فى الكراس، فهو دقيق واضح تماما كما كُتِب للمرة الأولى. كما أن الأمير عندما يموت تنتهى معه الفكرة التى كانت فى ذهنه، على حين يبقى رمزها الكتابى الذى فى الكراس، أو قد يحترق الكراس وتبقى الفكرة الذهنية فى رأس صاحبها، ولكن بعد اعتراء التطور لها حسبما وضحنا، أو قد يموت الأمير ويحترق الكراس جميعا: إما فى نفس الوقت، أو فى وقتين مختلفين، مع تقدم هذا على ذاك، أو ذاك على هذا. ثم قبل ذلك كله ينبغى ألا يفوتنا ما قلناه عند حديثنا عن النار، وهو أن الفكرة التى فى ذهن الأمير (بل كل الأفكار التى فى ذهن الأمير والخفير والشريف والحقير) لم تكن هناك من قبل ثم كانت، وهى تدين فى وجودها لما قرأه الأمير أو الخفير أو سمعه أو شعر به أو فكر فيه من قبل، فهل روح الله هكذا؟
    ولا يتوقف الراهب الضلالى عن الكذب، وهذا أمر طبيعى، إذ قد أصبح الكذب يجرى فى دمه هو وأمثاله بحيث إذا توقف عنه مات كما يقع للسمكة إذا بقيت خارج الماء. ومن هنا نجده يكذب على القرآن والإسلام زاعما أنه يشهد لكتابهم وعقيدتهم بالصدق. ونسى الكذاب القرارى أنه لو صح ذلك فلماذا يشتم هو ومن على شاكلته المسلمين ويهاجم الرسول؟ لكن مثل هذا الأغلف لا يفقه ولا يفهم، وليس عنده من الأحمر بعض شىء. ولنقرأ ما قاله المعجون المأفون: "قال المسلم: ومَنِ الشاهدُ لك بصحة دينك؟
    قال الراهب: أنت ونبيك وكتابك.
    قال المسلم: فما بيان ذلك؟
    قال الراهب: أليس يقول كتابك في سورة "آل عمران" إن "من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله في الليل والنهار ويؤمنون بالله واليوم الأخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. أولئك هم الصالحون بأعمالهم، ونورهم يعلو كل نور"؟ ويقول أيضا فيها: "إنا أنزلنا القرآن نورا وهدى مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل". ويقول: "آمنا بالذي أنزل عليكم وعلينا، وإلهنا وإلهكم إله واحد" (سورة العنكبوت). ويقول: "لتجدنّ أقرب الناس إلينا مودة الذين قالوا إننا نصارى، وذلك أن فيهم قسيسين ورهبانا، وإنهم لا يستكبرون، وهم أمّة من الصالحين يتلون آيات الله ويهذّون بالحق" (سورة آل عمران). ويقول في سورة آل عمران: "المسيح كلمة الله وروحه ألقاها إلى مريم". ويقول أيضا: "يا عيسى ابن مريم، إني متوفيك ورافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا وجاعل الذين آمنوا بك فوق الذين كفروا بك، وأنت ديان العالمين" (سورة آل عمران). أليس نبيك وكتابك يشهدان لنا بهذه الشهادات وأكثر منها، وأن المسيح له في السماء الفضل على سائر الأنبياء، وأنت تتَّقح ولا تصدّق نبيك وكتابك؟ أفما تعلم أنك إذا لم تصدّق الإنجيل فقد كذّبت نبيّك وكتابك فما تكون فيما بعد لا مسلما ولا نصرانيا؟
    قال المسلم: أنا مصدّق القرآن لأنه منزل من السماء، وأصدّق جميع ما كتُبِ فيه عن عيسى.
    قال الراهب: لو صدَّقتَ القرآن لصدَّقت الإنجيل".
    والحق أنه لو لم يكن فى الحدوتة البلهاء التى بين أيدينا سوى هذه الأخطاء فى تلاوة الآيات القرآنية وفى نسبتها إلى غير سُوَرها لكان هذا كافيا وفوق الكافى فى الإيقان بأن هذا الكلام كله مزيف مصنوع وأنه لم تكن هناك مجادلة بين الأنبا المنكوح وأولئك الشيوخ النكاحين. لماذا؟ نعم، قلت لى: لماذا؟ فأقول لك: لأنه لو كانت هناك مثل هذه المجادلة بين الأنبا المنكوح والشيوخ النكاحين لقاموا (يغفر الله لهم!) فنكحوه فى الحال وصححوا له أخطاءه تلك. أمّا وإن شيئا من ذلك لم يحدث، وإلا لذكره الأنبا وكاتب الأنبا لأنه مما يسعدهم وينعشهم أن يقال عنهم فى أرجاء العالم إنهم منكوحون، فمعنى هذا أن المسألة برُمّتها غير حقيقية. بكل يقين ليس من المعقول أن يسمع عالم مسلم أخطاء فاحشة مثل هذه فى تلاوة القرآن وفى نسبة الآيات إلى غير سورها ويسكت، فضلا عن أن يوافق المخطئ ويعلن موافقته له إعلانا. كما أن ملوك بنى أيوب وأمراءهم كانوا أصحاب ثقافة أدبية ودينية رفيعة، بل كان منهم الأدباء والعلماء كما قلنا. وكنا، قبل عدة أسابيع، نناقش رسالة دكتوراه عن المجالس الأدبية فى العصر الأيوبى، وكانت فرصة للمقارنة بين المستوى الثقافى لملوك وأمراء بنى أيوب "الأكراد" وبين الحكام "العرب" الحاليين، فكانت تعليقات بعض المناقشين فاضحة مخزية للأخيرين. ومن ثم فليس من المعقول أبدا أن يخطئ المأفون كل هذه الأخطاء دون أن يصكه الأمير الأيوبى فى فمه بالنعل التى فى قدمه، بَلْهَ أن يرافئه على سخريته بالشيوخ المسلمين ودينهم. ومن يفتح المصحف ويقارن بين ما قاله الأنبا وما يقوله المصحف لأدرك مقدار تحريف العلج الوقح للآيات القرآنية الكريمة التى استشهد بها وعبث بمعناها ليصل منها إلى تقويل القرآن ما ليس فيه بُغْيَةَ إيهام القراء أن الكتاب العزيز يشهد للنصرانية الحالية وأناجيلها بالصحة والاستقامة، وهيهات. وهذا صنيع المبطلين المنافقين لا صنيع الذين يحرصون على إصابة الحق والتزامه، وهو ما يدل على أنهم يعرفون من أنفسهم الضلال والانحراف، ولكنهم يكذبون!
    والآن سوف نقوم بالمقابلة بين ما أورده المأبون من آيات محرفة وبين هذه الآيات نفسها كما وردت فى القرآن، فهو يقول مثلا: "المسيح كلمة الله وروحه ألقاها إلى مريم"، يريد بذلك أن يمرر عقيدته الوثنية فى أن المسيح هو الله نفسه أو ابنه، وصوابها فى سياقها الكامل هو: " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (173)" (النساء)، ففى القرآن أنه المسيح عيسى بن مريم، وأنه كلمة الله وروح منه، وعند الأنبا المشروخ هو "المسيح كلمة الله وروحه" بحذف بنوته لمريم وجَعْله "روح الله" نفسه لا روحا من الله، وهو فرق رهيب. وهكذا تكون الأُبْنَة والتحريف، وإلا فلا. ثم يقولون إن المسلمين يتهمونهم بالباطل بأنهم حرفوا الإنجيل، وها هم أولاء يحرفون لا الإنجيل فقط، بل كتابنا نحن أيضا، عينى عينك ودون أى شعور بالخجل. فما معنى ذلك؟
    وفى آية أخرى نراه يقول: "إنا أنزلنا القرآن نورا وهدى مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل"، على حين أنها فى الأصل: "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ" (آل عمران). ومن نفس السورة نراه يورد الآية رقم 114 على النحو التالى: "من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله في الليل والنهار ويؤمنون بالله واليوم الأخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. أولئك هم الصالحون بأعمالهم، ونورهم يعلو كل نور"، مضيفا إليها ما ليس منها، وحاذفا منها ما هو أصيل فيها، وهذا نصها الصحيح: "مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)". وهى ليست فى النصارى كما يريد اللئيم المغفل أن يلوى عنقها، بل فى من أسلم من أهل الكتاب ولم يَبْقَوْا على دينهم، فآيات الله هنا هى آيات القرآن الكريم، والسجود هو سجود المسلمين، إذ لا يصف القرآن بالإيمان بالله واليوم الآخر أبدا بعد مجىء النبى محمد بدعوته إلا من آمن به وصدّق بالقرآن كما توضح الآيتان 105- 151 من سورة "النساء" والآية 92 من سورة "الأنعام" والآيات 156- 158 من سورة "الأعراف" وغيرها.
    وبالمثل فالذين قالوا إنا نصارى فى الآية التالية ليسوا هم النصارى بوجه عام بل فريق بعينه منهم جاء إلى المدينة للقاء الرسول عليه السلام، وقد فتح قلبه وعقله لدعوة الحق، فلما سمعوا القرآن منه صلى الله عليه وسلم بَكَوْا وخشعوا وسارعوا إلى الدخول فى الدين الجديد كما هو جَلِىٌّ بيّنٌ لمن فى عقله أدنى مقدار من الفهم: "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأََنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)" (المائدة)، أما هو فقد أوردها على النحو التالى، وقَصْده أن يقول إن القرآن يثنى على النصارى المثلثين: "لتجدنّ أقرب الناس إلينا مودةً الذين قالوا إننا نصارى، وذلك أن فيهم قسيسين ورهبانا، وإنهم لا يستكبرون. وهم أمّة من الصالحين يتلون آيات الله ويهذّون بالحق". وبالمناسبة فقد قال إن هذه الآية هى من آيات سورة "آل عمران"، على حين أنها من "المائدة". أما الآية التالية فالهدف الخبيث الذى يتوخاه المنفوخ المشروخ واضح لا يحتاج إلى شرح، فهو يقول فى الآية رقم 55 من سورة "آل عمران": "يا عيسى ابن مريم إني متوفيك ورافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا وجاعل الذين آمنوا بك فوق الذين كفروا بك، وأنت ديان العالمين"، فى حين أنها فى الحقيقة تجرى على النحو التالى: "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)". والفرق بين القراءتين هو الفرق بين الكفر والإيمان، فالمسيح فى الآية الصحيحة لا يعدو أن يكون عبدا لله لا يملك من الأمر شيئا، أما فى الآية المحرفة فهو "ديان العالمين"، والدينونة هى من صلاحيات الله سبحانه وحده لا يشاركه فيها أحد. فانظر الفرق بين الأصل والتحريف تعرف ما عند هؤلاء المناجيس المتاعيس من كفر والتواء وخبث وفساد. وأخيرا فقوله تعالى فى آخر الآية التالية من سورة "العنكبوت": "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)" معناه أنه ليس هناك إله إلا الله: فلا المسيح إله، ولا روح القدس إله، ومن ثم فلا أقانيم ولا تثليث، على عكس ما يريد كاتب الحدوتة أن يوقع فى رُوع القراء من أن القرآن يشهد بأن الإله ذا الأقانيم الثلاثة الذى يؤمن به النصارى هو الإله الذى ينبغى أن يؤمن به المسلمون أيضا. وشتان هذا وذاك!
    إلهنا الذى نؤمن نحن المسلمين به ولا نعرف إلها غيره واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولَد ولم يكن له كفوا أحد. إلهنا لم يتجسد ولم يُصْلَب ولم يُقْتَل ولم يُدْفَن ولا يأكل أو يشرب، ولم تكن له صاحبة أو ولد، وخلق كل شىء فقدّره تقديرا. ومع هذا فكل إنسان وما يعتقد، والمهم ألا يتجاوز أحد حدوده ويتواقح على ديننا ويشتم ربنا ونبينا ويدَّعى الكذب ويؤلف الحكايات المسيئة المتخلفة، فإن فعل فليس أمامنا إلا الرد بحزم، وليس لأحد الحق فى أن يغضب ويطلب منا أن نسكت، وإلا فردّنا معروف، وهو إسكات الكلاب النابحة علينا، فإن قالوا إننا عاجزون عن ذلك فهم إذن عن إسكاتنا أعجز لأنه ليس من العقل ولا من العدل أن تطلب ممن يطرد عن نفسه الكلاب النبّاحة العضّاضة تَرْكَها تعضه وتنبحه! أما قول الأنبا المزعوم: "أليس نبيك وكتابك يشهدان لنا بهذه الشهادات وأكثر منها وأن المسيح له في السماء الفضل على سائر الأنبياء وأنت تتقح ولا تصدّق نبيك وكتابك؟ أفما تعلم أنك إذا لم تصدّق الإنجيل فقد كذّبت نبيّك وكتابك فما تكون فيما بعد لا مسلما ولا نصرانيا؟" فجوابه هو أننا نؤمن بعيسى بن مريم عبدا لله ونبيا من أنبيائه كما ورد فى القرآن، ولا نزيد عن ذلك شعرة لأن ما يقوله الأنبا المخبوط فى عقله لا وجود له فى القرآن، بل فى الآيات التى حرّفها على عادة قومه فى العبث بالنصوص السماوية، إذ يكتبونها بأيديهم التى تستحق القطع ثم يقولون: "هذا من عند الله" ليشتروا به ثمنا قليلا. ولكن هيهات، فنحن لهم بالمرصاد نفضح كذبهم ونهتك تدجيلهم، وأدبارهم فوق البيعة. أما أن يحاول كاتب الحدوتة خداع الناس بالقول بأن القرآن الكريم يشهد لعيسى عليه السلام بما يعتقده النصارى المثلثون فيه فهو تزييف وتدليس حقير. ولو كان هذا صحيحا فلماذا يا ترى يتطاول الأنبا الحقير على النبى محمد عليه الصلاة والسلام؟ ألم يكن ينبغى عليه أن يرفع له القبعة (أقصد الطاجن الذى على رأسه) احتراما؟ لكن لأنه يكذب نراه يتناقض، وهذا شأن اللص حين يُضْبَط متلبسا بجريمته، فهو يدافع عن نفسه بكلام لا منطق فيه، ويتخبط فى هذا الدفاع بكلمة من الشرق وكلمة من الغرب.
    ومرة أخرى يعود كاتب الحدوتة إلى الزعم بأنه "لما كنا ذوي أجسام وجب عند حكمته أن يخاطبنا بجسم لأن اللاهوت عادم الجسم كما إن جوهر النار لا يُعْلَنُ ولا ينتفع الناس منه إن لم يظهر في مادة من المواد. فأرسل الله ابنه وحبيبه الذي هو كلمته وروحه إلى مريم العذراء حسبما يشهد بذلك نبيك وكتابك بقوله: "ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا" (سورة التحريم). ويقول أيضا إن الله اصطفى كلمته وروحه الخالقة الأزلية وحلّت في بطن مريم، ومع حلولها اتخذت جسما من طبيعة آدم بريئا من الخطية وكونته كما شاءت. واحتجبت الكلمة والروح اللطيف بذلك الجسم واتحدت به، ولم يتقدم الجسم قبل حلول الكلمة والروح بل مع حلول كلمة وروح الله الخالقة تكوَّن الجسم. ومثال ذلك يكون الضو مع البرق وظهور الضو مع حضور النار. واتحد اللاهوت بالناسوت المأخوذ من طبيعة آدم اتحادا بلا اختلاط لأن الطبيعة الإلهية لم تنتقل إلى طبيعة الجسم الآدمي، ولا طبيعة الجسم الآدمي انتقلت إلى طبيعة اللاهوت، بل صار كل منهما مالكا خاصته وطبيعته. مثال ذلك أنك إذا أخذت سيفا أو سكينا وأحميتهما بالنار حميا بليغا صار ذلك السيف أو السكين يفعل فعل الحديد وفعل النار فيقطع ويحرق، ولم تنتقل طبيعة الحديد إلى طبيعة النار. كذلك الجسد المأخوذ من طبيعة آدم صار يفعل فعل اللاهوت باتحاده باللاهوت. وبيان ذلك أن المسيح أقام الموتى وشفى البُرْص والمرضى وفتح عيون العميان بوضع يده. وبتوسُّط ذلك الجسم المقدس نحن نسجد لإله متأنِّس. فإن عزلتَ بوهمٍ ذلك الجسم عن كلمة الله وروحه فإنه غير مسجود ولا معبود. ولكنّا نعتقد أن الواحد إله، والآخر تألَّه بحلول الإله فيه. فإذا أخذتَ خمس حبّات مسك ثم وضعتها في خزانة وأدخلتها في منديل ألا تحصل رائحة المسك في الخزانة والمنديل؟
    قال المسلم: نعم
    قال الراهب: فإذا كان المسك الذي هو مادة من المواد المخلوقة يملك هذه القوة والفعل، فكم تقدر كلمة الله روحه الخالقة الأزلية إذا اصطفَتْ لها مسكنا وحلّت فيه لأجل قصدٍ اعتمدته من السياسة والتدبير؟".
    وقد سبق أن رددنا على حكاية الضرورة التى توجب إرسال جسم إلى البشر حتى يفهموا، ومع ذلك فلا بأس أن نعيد هنا ما قلناه قبلا من أن الرسل ذوو أجسام مثل سائر البشر، ومن ثم كانت فيهم الكفاية لتأدية المهمة التى يتحدث عنها الأنبا، ولا حاجة إلى تجسد الله، وإلا فما القول فى الرسل السابقين؟ أكانوا آلهة متجسدين؟ إذن فالمسيح لا ينفرد بهذه الميزة؟ أم أَدَّوُا المهمة رغم أنهم كانوا بشرا؟ إذن فالمسيح مثلهم، قام بنفس المهمة التى قاموا بها، ولا معنى للزعم بأنه من طبيعة إلهية نزولا على حكم الضرورة التى يدلس بها الأنبا الدجال لأنه لا ضرورة هناك كما هو واضح. أما قوله: "أرسل الله ابنه وحبيبه الذي هو كلمته وروحه إلى مريم العذراء حسبما يشهد بذلك نبيك وكتابك بقوله: "ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا" (سورة التحريم). ويقول أيضا إن الله اصطفى كلمته وروحه الخالقة الأزلية وحلت في بطن مريم، ومع حلولها اتخذت جسما من طبيعة آدم بريئا من الخطية وكونته كما شاءت. واحتجبت الكلمة والروح اللطيف بذلك الجسم واتحدت به، ولم يتقدم الجسم قبل حلول الكلمة والروح، بل مع حلول كلمة وروح الله الخالقة تكوَّن الجسم"، فهو كذب مثلث لأنه لا وجود لهذا الذى يقول فى أى موضع من القرآن، وإلا فليدلنا هذا الكذاب الذى لن يكسِّبه ربنا أبدا لا فى السارحة ولا فى الرائحة على الآيات القرآنية التى تقول إن الله أرسل ابنه وحبيبه الذى هو كلمته وروحه... إلى آخر هذا الكلام الذى نَعُدّه كفرا وشركا يُرْدِى فى جهنم الحمراء حيث مثوى الراهب المنكوح المفضوح ومثوى كل من يفترى على الله الكذب ويحرّف كتابه وينسب له ما ليس فيه. لقد نفى القرآن نفيا مطلقا أن يكون عيسى بن مريم ابنا له سبحانه قائلا إن السماوات يكدن أن يتفطرن وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هَدًّا أنْ دعا الكفار لله ولدا، إذ لا ينبغى أن يتخذ الله ولدا، بل كل من فى السماوات والأرض بما فيهم عيسى بن مريم سوف يأتى الله يوم القيامة عبدا، ولسوف يسأل الله عيسى بن مريم ساعتئذ: "أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله؟"، ولسوف يرد عليه فى منتهى الخشوع والعبودية: "سبحانك! ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق. إن كنتُ قلتُه فقد عَلِمْتَه. تَعْلَم ما فى نفسى ولا أَعْلَم ما فى نفسك. إنك أنت علام الغيوب* ما قلتُ لهم إلا ما أمرتنى به أَنِ اعبدوا الله ربى وربَّكم". كذلك لم يقل القرآن قط إن عيسى بن مريم "روح الله"، بل قال: "روح منه"، مثلما قال أيضا عن آدم: "ونفخ فيه من روحه". فهذا هو الذى يقوله القرآن، أما ما يقوله الأنبا، أو بالأحرى: الكاتب الكذاب الذى لفق هذه الحدوتة، فليس له من مكان يليق به إلا المراحيض!
    أما كيف تكون الطبيعتان الإلهية والبشرية للسيد المسيح (حسب زعمهم وكفرهم) متحدتين دون أن تختلطا فهذا ما أتركه لذهن الأنبا الغبى، أما نحن فنربأ بأذهاننا أن تؤمن بهذا الغثاء. اتحاد ولا اختلاط؟ الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنه لا اتحاد هنا ولا اختلاط على أى وضع من الأوضاع، تعالى الله عن ذلك، ونستغفره سبحانه عن كتابة هذا الكلام رغم أننا لا نؤمن به ولا نتصوره مجرد تصور ولا ندرى كيف يكون. إن الاتحاد معناه أن الطبيعتين أصبحتا شيئا واحدا: فإما أن تكونا قد أصبحتا كلتاهما إلهية، وإما أن تكونا قد أصبحتا كلتاهما بشرية، وإما أن تكونا قد تقابلتا فى منتصف الطريق على طريقة الحل الوسط وأصبحتا شيئا ثالثا لا هو إلهى خالص ولا هو بشرى محض. ولْيَحُلّ لنا الأنبا المأفون هذه المعضلة قبل أن ينتقل إلى تدليسة أخرى من تدليساته ويقول إن الأمير من شدة إعجابه به قد دسّ إصبعا آخر من أصابعه المتختمة فى دبره أيضا حتى تكون المصيبة مصيبتين ويكون علينا أن نبحث فيهما بدورهما، وهل يا ترى احتفظت كل من المصيبتين بطبيعتها؟ أم هل اتحدتا دون اختلاط؟ أم هل اختلطتا دون اتحاد؟ أم هل تقابلتا فى منتصف الطريق فوقفتا عند حلقة دبره فلم تدخلاه؟ أم اخترقتاه حتى اللغلوغ فمزقتاه؟ أم ماذا؟ ولقد أتى الأنبا بعد كل الذى قال فزعم أنهم حين يسجدون لعيسى إنما يسجدون "لإله متأنس"! الله أكبر، إذن فقد تأنس الإله، أى تحولت طبيعته من الإلهية الخالصة إلى الإلهية المتأنسة، ولَمْ نَعُدْ أمام إلهٍ صافى الألوهية، بل إله "نصف نصف"! إله تجارى لا يابانى أصلى! لكن انتظروا من فضلكم أيها القراء، فالأنبا الملتاث يعود فيقول إنهم يعتقدون "أن المسيح ذو طبيعتين: طبيعة إلهية وطبيعة إنسانية نسجد لهما مع استقرار ونفوذ إحداهما في الأخرى بغير اختلاط ولا انفصال"، وكأنك يا أبا زيد لا رحت ولا جيت! إن الذين يفكرون بعقولهم لا يستطيعون أن يهضموا هذا الهراء، ومع ذلك فلربما كانت أستاه بعض الناس تستطيع ما لا تستطيعه عقولنا. وتبقى حكاية حبات المسك الخمس والمنديل: فأما المنديل فقد تكفل به كارم محمود وعبد العزيز محمود وشهرزاد وغيرهم فى أغانيهم الجميلة التى يَشْدُون فيها بمناديل العشاق فيُرْجَع إليها فى ذلك، ولا بأس كذلك بإضافة المغنية المسلوخة الصوت التى تقول لنينتها إن منديلها وقع فى الحارة وتسأل البنات هل رأين منديلها مع أية جارة. وأما المسك فَاسْتُ كل من الأنبا والقمص تحتاجه أشد الحاجة لفوحان نتانتها فى الآفاق، فلو دسّ كل منهما حبات المسك فى دبره فمن يدرى؟ لعل وعسى! وإن كنت أشك فى ذلك لأن مثل تلك النتانة لا يكفيها خمس حبات ولا خمسون ولا حتى خمسمائة ولا ألف، بل "ولا ألف وثلاثمائة ولا مليوووون" كما يؤكد المغنى حكيم الذى يفتح فمه دائما (مثل الوزير إياه الذى كانت صحيفة "الوفد" تتخذه سَلْوتها فى الثمانينات) كاشفا عن أسنانه الكبيرة والظريفة "بعض الشىء" على عكس أسنان الوزير! وأعجب من ذلك أنهم لا يستحون ولا يَتَوَارَوْن بعقيدتهم بل يأبَوْن إلا أن يجادلونا ويخطئونا ويتطاولوا على رسولنا الذى لم تنجب الأرض مثله ولم يأت رسول بما أتى به بهذا الوضوح والبقاء سالما نقيا لم تمسسه أيدى التحريف بعد انتقاله لربه.
    ثم هذا الإنسان الذى تألم على الصليب وأهين وقُتِل، ما ذنبه مادام غير إلهى؟ إن الذى شعر بالألم هو هذا الآدمى لا الله. أليس كذلك؟ فأين الرحمة الإلهية فى عملية الصلب إذن إذا كان الله قد أراد أن يخلص البشر من خطيئتهم الأولى من خلال تحمّله هو نفسه لها دونهم ثم غافلهم فأحضر بشرا مثلهم تعذب نيابة عنهم؟ إنه إذن لإله أحمق ظالم، وعاجز كاذب! لقد وَعَد أن يَحْمِل عن البشر جميعا خطيئتهم ثم سهّاهم وحمّلها واحدًا منهم. أى أنه حمّل خطيئة البشرية واحدا فقط من البشرية وترك الباقين، وبهذا يكون قد كذب فيما قاله، وعجز عن الوفاء بما وعد، وظلم المسكينَ الذى كُتِب عليه الصلب والضرب والشتم والإهانة والصفع والطعن وحده دون باقى البشر. حرام والله! وفوق ذلك فإنه كان دائم السخط على الناس الذين قال إنه أتى لفدائهم، إذ كان لا يكف عن شتمهم وعن توعُّدهم بالحرق هم والذين حَطّوا بذرتهم، لم ينج من لسانه الحادّ أحد ولا الحواريون أنفسهم. أىّ إله هذا الذى لا يدرى ماذا يريد، ولا كيف يتصرف، وفوق ذلك يخالف قوله فعله، حتى إذا جَدَّت ساعة الجِدّ أخذ يُعْوِل ويصيح ويقول: "أجيرونى يا خَلْق هُوه"؟ لماذا بالله؟ أوقد نَسِىَ ما أتى من أجله أم ماذا؟
    وعندما ينكر الشيخ، على الراهب البكاش لاعب البيضة والحجر وسليل المحرفين العابثين بالكتب السماوية، تسمية النصارى للمسيح: "ابن الله" يرد عليه الأنبا الكذاب الذى لا يعرف شيئا اسمه الحياء قائلا إن محمدا "قد قال في قرآنك: "إن الله لو أراد أن يتخذ له ولدا لاصطفاه من ولد آدم" (سورة الزمر)، أفتنكر أن الله اصطفى كلمته وروحه وسماها ولدا له؟ وإنما نبيك محمد، لما عرف من غلظ فهمك وكثافة عقلك لئلا تتصور في الله ولادة جسمية، قال لك: "قل: هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد"...". فانظر مدى الوقاحة التى يتمتع بها كاتب هذا الهراء، إذ لا يبالى أن يكشف المسلمون كذبه وتضليله وتدجيله، فتراه يمضى ساخرا متهكما وكأنه صاحب حق عندنا أكلناه عليه وأنكرناه! لكن من قال إنه يبالى؟ إن هدفه هو تثبيت أهل ملته على ما هم عليه، وتشكيك عوام المسلمين: فأما أهل ملته فسيفرحهم هذا الكلام وأشباهه وسينتشون به، وهذا كل ما يريدونه. وأما عوام المسلمين الذين لا يحفظون القرآن فهو يرجو وقوعهم فى مصيدته اعتمادا على أنهم لن يتصوروا لجوءه إلى تحريف آيات القرآن على هذا النحو الجلف. وعلى أقل تقدير فــ"العيار الذى لا يصيب يزعج"! كذلك فهو بسلامته يريد أن يوهمنا أن التوحيد غلظ فى الطباع، أما التثليث والتجسيد وعبادة البشر فهو الدليل الذى لا يُرَدّ ولا يُصَدّ على أن صاحبه عبقرى عميق الفهم رقيق العقل. هذا، وصواب الآية الكريمة هو: "لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ". فأين زعمه أن الله لو أراد أن يتخذ له ولدا لاصطفاه من ولد آدم؟ وعلى أية حال فوجود حرف "لو" فى الجملة معناه أنه سبحانه لم يُرِدْ، ومن ثم لم يتخذ ولدا، وهذا الحرف يسمَّى: "حرف الامتناع للامتناع". أى أن اتخاذه سبحانه الولد امتنع فلم يقع لأن مشيئته لذلك امتنعت بدورها فلم تتم. كما أن قوله عقب ذلك: "سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ " هو تأكيد آخر على أنه سبحانه وتعالى واحد أحد لا اثنان ولا ثلاثة بأية صورة من الصور!
    ولا تتوقف وقاحة راوى الحدوتة عند هذا الحد، بل يستمر فى الغرور والنرجسية زاعما أنه صياد ماهر لا يستطيع الظبىُ (الذى هو الشيخ) إلا أن يقع فى يده ويستسلم للذبح والسلخ والطبخ. يقول الشيخ: "إنه يصيدني بأقواله، ويجادلني من قرآني كأنه صياد يحاول الظبي ويأخذ عليه الدروب ومخارج السبل، فلا شكّ أن له تابعا من الجنّ". وبطبيعة الحال لن يجد هذا الجنى مكانا يسكنه إلا دبر الأنبا المنكوح المقبوح حتى يكون قريبا منه، متى استدعاه أجابه فى الحال. وينتشى الراهب ذو الدبر المنتن المقروح كدبر زيكو المنكوح فيمضى فى الغرور والنرجسية قائلا: "ولهذا تعبت في إطالة الشرح لكي أصيدك وأدنيك مني وأوقفك على ما أنا عليه لتعرف الصدق والحق وتختاره طائعا". ما كل هذا التواضع يا مولانا؟ لقد أخجلتنا، لعنك الله وشَرَم دبرك الكاذب أكثر مما هو مشروم! ثم يستمر فى الوقاحة والكذب فيقول للشيخ إن "كتابك ونبيك يشهدان لديني بالحق اليقين بقوله: إن الله حقق الحق بكلمته وروحه". يا للوقاحة والكذب! ترى أين فى القرآن، أو حتى فى السُّنّة، هذا الذى يقول؟ ألم يقرأ قوله تعالى: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)" (المائدة)؟ إن هذه الآية وحدها لكفيلة بإخراس ذلك الكلب، ولكن متى كانت الكلاب تفهم أو تعقل؟ وإذا كان الرسول محمد عليه وعلى أخيه عيسى الصلاة والسلام يشهد لكِتَاب النصارى الحالى بالحق ويوافقهم على تأليههم لعيسى، فلم لا يؤمن الراهب المنكوح بمحمد إذن ويكف هو وأمثاله عن التطاول عليه وعلى الكتاب الذى جاء به؟ أتريد منا أيها المنكوح أن نصدق بأنه صلى الله عليه وسلم قد دعا إلى التثليث والتجسيد والصلب والفداء؟ ألا لعنة الله على كل مفتر كذاب! فلماذا إذن كل هذا الغِلّ الذى يُهْرِئ أبدانكم وقلوبكم منذ أربعة عشر قرنا؟
    ثم يأخذنا ملفق الحدوتة فى جولة من جولات الحكايات الشعبية المسلية فيحكى لنا قصة عن إبليس مسرفة الطول لا يهمنا منها إلا ما انتهت به من قضاء الله على قوة الشر فى العالم بمجىء المسيح (الذى هو الله عندهم) ووقوعه سبحانه فى قبضة إبليس وحبس هذا له فى هاوية الجحيم فترة من الزمن وتعذيبه وإهانته إياه، ثم مكاشفة الله له فى النهاية بحقيقته الإلهية التى كان يجهلها اللعين وحُكْمه سبحانه عليه بالبقاء فى الجحيم أبد الآبدين قائلا: "أنا لا أحكم عليك إلا بما حكمتَ عليَّ لأنَّ ظلمك يعود إلى رأسك، وجَوْرك يرجع إليك، وتكون في هذه الهاوية دائما مؤبدا مغلولا بتلك الرباطات. ومع كلام الملك حصل القول في ذلك المارد فعلا، وأمر الملك بخراب ذلك السجن وبإطلاق من فيه وأن يُدْرَس درسا كليّا، وعاد الملك إلى قصره قاهرا ظافرا". الله أكبر! لم يبق إلا أن يُحْبَس الآلهة ويصفَّدوا فى الأغلال فى قعر الجحيم! أى آلهة هؤلاء يا ترى؟ كذلك فمعنى أن الله عاد فى النهاية إلى قصره قاهرا ظافرا أنه قبل ذلك لم يكن قاهرا ولا ظافرا، وهذا أمر طبيعى حسب عقيدة الأنبا المغفل، فقد حبس الشيطان الله كما رأينا فى الهاوية وقيّده وعذّبه. أستغفر الله العظيم من كل كفر عظيم! ومعنى هذا أيضا أن إبليس قد اندحر منذ ذلك التاريخ اندحارا نهائيا، وهو ما تكذبه حقائق الحياة، أما هذه الإنشائيات فلا مكان لها إلا لدى العوام الذين يشغفون بحواديت عقلة الصباع وأُمّنا الغُولة وما أشبه، وإلا فما معنى أن الأديان الأخرى غير النصرانية لا تزال موجودة؟ أليست هذه الأديان فى اعتقادهم من صنع الشيطان؟ والنصارى أنفسهم، أوقد أصبحوا ملائكة طُوبَاويّين لا يخطئون ولا يكذبون ولا يسرقون ولا ينمّون ولا يغتابون ولا ينافقون ولا يزنون ولا يشربون الخمر ولا يتظالمون أو يتحاقدون؟ فلماذا إذن لا يزال إلقاء المواعظ الكنسية وتأليف الكتب الدينية مستمرا حتى الآن؟ ولماذا كل تلك الصلوات والأدعية التى يرفعونها إلى المسيح ما داموا قد أصبحوا أطهارا أنقياء كالبفتة البيضاء؟ ولماذا يظلون حتى الآن ينادون المسيح: "ونجّنا من الشرير" إذا كان الشرير، أى الشيطان، قد قُضِىَ عليه القضاء النهائى المبرم بعد مجىء المسيح؟
    أما فى القرآن فقد طلب الشيطان فى بدء الخليقة من ربه أن يمهله إلى يوم البعث، فوعده الله بذلك. أى أن الشيطان لم تتم هزيمته النهائية بعد كما يزعم الأنبا فى كلامه الطفولى، وهذا ما نلمسه فى الحياة من حولنا لمسا. يقول سبحانه فى سورة "الحِجْر": وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آَمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)".
    ويستمر "ابن الفُرْطوس" فى الكذب والجهل فيزعم أن عقيدة الصليب كانت موجودة على عهد موسى عليه السلام، إذ شق بعصاه البحر عَرْضًا حتى عبر بنو إسرائيل، ثم عاد بها عليه بعد ذلك طُولاً فالتأم، فرسمت العصا بهذه الطريقة صورة الصليب، وحصلت البركة وأنقذ الله بنى إسرائيل من الهلاك على يد فرعون، الذى كان يطاردهم ويريد أن يفتك بهم. وبالمثل كانت هناك حيات كثيرة فى البرية بعد الخروج تلدغهم لدغا مهلكا لولا أن موسى وضع إحداها على رمحه عرضا، بعد أن كان قد وضعها بالطول فلم تأت بنتيجة. وهذا نص كلام الكذاب الذى سيشويه الله بمشيئته تعالى فى نار جهنم: "وقد وجدنا في القديمة فعلا إلهيا رسما له من شقّ البحر بالعصا طولا ثم طّقه بعودتها عليه عرضا (خر 4، 21- 27). ولما كان موسى وشعبه في البرّيّة معسكرا خرجت عليهم حيّات تلذغ الشعب لدغا مميتا فقال الله لموسى: اصنع لك حية من نحاس وارفعها على رمح عالٍ، فإنّ كل من نظر إليها من الشعب ما يموت من نهش الحيّات ولدغها. فصنع موسى الحية ووضعها على رمح طويل فما أغنت الشعب شيئا. فقال الله لموسى ضع الحيّة عرضا. فلما وضعها عرضا وصارت برسم صليب لم يمت من الشعب أحد (عدد 21، 6-9)".

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    والآن تعالوا إلى النصين فى الكتاب المقدس ليرى القارئ بنفسه مدى خيانة هذا الراهب وتدليسه، ونبدأ بالنص الأول الخاص بانشقاق البحر والتئامه، وهو موجود فى الإصحاح الرابع عشر من سفر "الخروج" لا الرابع كما جاء فى الحدوتة التافهة: "21وَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ، فَأَجْرَى الرَّبُّ الْبَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيدَةٍ كُلَّ اللَّيْلِ، وَجَعَلَ الْبَحْرَ يَابِسَةً وَانْشَقَّ الْمَاءُ. 22فَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ عَلَى الْيَابِسَةِ، وَالْمَاءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِمْ. 23وَتَبِعَهُمُ الْمِصْرِيُّونَ وَدَخَلُوا وَرَاءَهُمْ. جَمِيعُ خَيْلِ فِرْعَوْنَ وَمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ إِلَى وَسَطِ الْبَحْرِ. 24وَكَانَ فِي هَزِيعِ الصُّبْحِ أَنَّ الرَّبَّ أَشْرَفَ عَلَى عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ فِي عَمُودِ النَّارِ وَالسَّحَابِ، وَأَزْعَجَ عَسْكَرَ الْمِصْرِيِّينَ، 25وَخَلَعَ بَكَرَ مَرْكَبَاتِهِمْ حَتَّى سَاقُوهَا بِثَقْلَةٍ. فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ: «نَهْرُبُ مِنْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّ الرَّبَّ يُقَاتِلُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْهُمْ». 26فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «مُدَّ يَدَكَ عَلَى الْبَحْرِ لِيَرْجعَ الْمَاءُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ، عَلَى مَرْكَبَاتِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ». 27فَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ فَرَجَعَ الْبَحْرُ عِنْدَ إِقْبَالِ الصُّبْحِ إِلَى حَالِهِ الدَّائِمَةِ، وَالْمِصْرِيُّونَ هَارِبُونَ إِلَى لِقَائِهِ. فَدَفَعَ الرَّبُّ الْمِصْرِيِّينَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ. 28فَرَجَعَ الْمَاءُ وَغَطَّى مَرْكَبَاتِ وَفُرْسَانَ جَمِيعِ جَيْشِ فِرْعَوْنَ الَّذِي دَخَلَ وَرَاءَهُمْ فِي الْبَحْرِ. لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ وَلاَ وَاحِدٌ. 29وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَمَشَوْا عَلَى الْيَابِسَةِ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ، وَالْمَاءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِمْ". وكما يلاحظ القارئ بنفسه لا وجود لما افتراه الكذاب على أى نحو، فليس فى النص ذكر لطول أو عرض. وإلى القارئ مرة أخرى ما قيل فى انشقاق البحر والتئامه: "وَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ، فَأَجْرَى الرَّبُّ الْبَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيدَةٍ كُلَّ اللَّيْلِ، وَجَعَلَ الْبَحْرَ يَابِسَةً وَانْشَقَّ الْمَاءُ"، "فَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ فَرَجَعَ الْبَحْرُ عِنْدَ إِقْبَالِ الصُّبْحِ إِلَى حَالِهِ الدَّائِمَةِ".
    ثم نثنى بالنص الثانى الخاص بالحيات والرمح: "6فَأَرْسَلَ الرَّبُّ عَلَى الشَّعْبِ الْحَيَّاتِ الْمُحْرِقَةَ، فَلَدَغَتِ الشَّعْبَ، فَمَاتَ قَوْمٌ كَثِيرُونَ مِنْ إِسْرَائِيلَ. 7فَأَتَى الشَّعْبُ إِلَى مُوسَى وَقَالُوا: «قَدْ أَخْطَأْنَا إِذْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الرَّبِّ وَعَلَيْكَ، فَصَلِّ إِلَى الرَّبِّ لِيَرْفَعَ عَنَّا الْحَيَّاتِ». فَصَلَّى مُوسَى لأَجْلِ الشَّعْبِ. 8فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اصْنَعْ لَكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلَى رَايَةٍ، فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا». 9فَصَنَعَ مُوسَى حَيَّةً مِنْ نُحَاسٍ وَوَضَعَهَا عَلَى الرَّايَةِ، فَكَانَ مَتَى لَدَغَتْ حَيَّةٌ إِنْسَانًا وَنَظَرَ إِلَى حَيَّةِ النُّحَاسِ يَحْيَا". هيه؟ ترى أين الطول والعرض فى هذا الكلام؟ أرأيت أيها القارئ بنفسك وعاينت ببصرك مقدار الكذب الذى يمارسه هذا الكائن وأمثاله بدم بارد وضمير ميت؟ أرأيت كيف مردوا على التزييف حتى استحال جزءا من كيانهم لا يستطيعون أن يدعوه حتى تدع أرواحهم أجسادهم؟ ثم إذا قلنا إنهم قد حرفوا كتابهم ردوا بكل بجاحة: أبدا لم يحدث! يا كذاب فى أصل وجهك أنت وهو وهو، ها أنتم أولاء لا تزالون تحرفون كتابكم وتدّعون عليه ما ليس فيه، وكذلك كتابنا نحن أيضا، فهل هناك دليل أقوى من هذا الدليل؟ ثم لو سلمنا بما قاله الأنبا المقروح الدبر، فأين الصليب يا ترى فى أن يضع موسى الحية مرة بالطول، ومرة بالعرض؟ إن صورة الصليب إنما تتم بتعامد الحيتين فى ذات الوقت. وأين الصليب فى أن يخطّ عليه السلام بعصاه على الماء مرة بالعرض فينشق البحر، وبعد مرور مدة يكون موضوع الخط العرضى أثناءها قد نُسِى تماما يخطّ بها مرة أخرى بالطول فيلتئم ثانية؟ إن الصليب معناه أن يكون هناك خطان مستقيمان متعامدان لا أن يكون عندنا خط عرضى، ثم بعد قليل نشطبه ونرسم بدلا منه خطا بالطول. أليس كذلك يا مغفل منك له؟ وحتى لو كان الكلام الذى زعمه هذا الخنزير عن الصليب فى هاتين القصتين صحيحا، فكيف فاته أن الصليب دليل على أن من مات عليه فهو ملعون من الله كما قال الكتاب المقدس نفسه؟ جاء فى سفر "التثنية" (21/ 23): "وإذا كان على إنسان خطيّةٌ حقُّها الموت، فقُتِل وعلقته على خشبة، فلا تبت جثته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المعلّق ملعون من الله". ترى هل من الممكن أن تتحول اللعنة إلى بركة؟
    ونضحك كثيرا حينما نسمع الراهب يسأل الشيخ المسلم عن الدين الذى يعده حقا بين الأديان الأربعة: الإسلام أم النصرانية أم اليهودية أم الصابئة؟ فيرد الشيخ قائلا: "ما أعلم"! ترى هل هذا ممكن الحدوث، وبخاصة بعد أن كان الشيخ لتوه ينافح عن دينه ويؤكد أنه هو وحده الدين الصحيح؟ وها هما ذانِ سؤال الراهب وإجابة الشيخ عليه: "قال الراهب: صدقتَ في قولك إن كلّ ذي دين يحقّق دينه ويحامي عنه. والأديان أربعة: صابئ ويهودي ومسلم ونصراني، فأيّ منها عندك الدين الحقّ الموضوع من الله؟ قال المسلم: ما أعلم". وكان الشيخ المسلم قبل ذلك قد أكد، كما قلت، أن الإسلام هو ذلك الدين الحق لا سواه: "قال المسلم: السما والأرض والملائكة والناس يشهدون أن ديني وكتابي هو الحق اليقين. وإن الله تعالى أنزله على نبيه محمّد المصطفى نورا وهدى ورحمة من ربّ العالمين". كيف يكون ذلك؟ العلم عند دبر الراهب الفواح، بما يخرج منه من جهلٍ مضمَّخ بالأرياح! ثم نصل إلى قضية المفاضلة العقلية بين الديانتين، وأنا أميل إلى تأجيل الحديث فى هذا الموضوع إلى مقال آخر لأن المقال الحالى قد طال كثيرا، ولأن تلك القضية هى من الأهمية بحيث تحتاج إلى إفرادها ببحث مستقل كان فى نيتى قبل أن أقرأ تلك الحدوتة البلهاء أن أخصص له مقالا مستقلا. لذلك أستميح القراء عذرا إلى فرصة أخرى أرجو أن أعيش حتى أدركها، وعلى الله قصد السبيل. وأخيرا فليست هذه الحدوتة هى المساجلة الوحيدة المزيفة من نوعها، فقد صنع السريان مثلا مساجلة أخرى بين شخصين وهميين هما عبد الله إسماعيل الهاشمى وعبد المسيح بن إسحاق الكندى، وزعموا أنها وقعت فى عصر المأمون (انظر د. محمد أبو شامة فى مقدمة الكتاب الذى حققه لأبى عبيدة الخزرجى باسم "بين الإسلام والمسيحية"/ مكتبة وهبة/ 43 بالهامش).
    ولا يرضى الكاتب الكذاب أن تنتهى الحدوتة دون كذبة تليق بالمقام، فجاءت نهايتها على النحو التالى: "قال المسلم: لقد علم الله تعالى أنك قد أزعجت فكرنا وزعزعت لُبَّنا بما أحسنت في الخطاب وإيراد الجواب، فلم يبقَ بنا عندك سؤال. ولله درّك، فقد أفخرت أهل دينك وجملت أوطانك وزيّنت أخوانك، ولولا نحن على سفر لسألناك في المقام عندنا رغبة بقربك إلينا وصرّفناك فيما يخصنا من مال ودار.
    قال الراهب: جزاك الله عنّا خيرا وإنعاما. لقد قابلتمونا بالإحسان، وإن كنّا أسأنا في الخطاب وأغلظنا في الجواب (انظروا إلى أدب المنكوح الذى نزل على استه فجأة!)، فهذا من شيمة أهل الأدب والأحساب والأنساب، فإلى أين السفر؟
    قال أبو ضاهر: إلى مكة أنا والشيخ أبو سلامة نزور البيت الحرام.
    قال الراهب: يوحشني بعدكم ويثقل عليَّ فراقكم، فقد كنتُ آنستُ بكم.
    قال أبو ضاهر: يا ليتك أن تصحبنا فنأنس بك وتأنس بنا.
    قال الراهب: إن رضيتم بصحبتي صحبتكم وساويت ذاتي بكم.
    فهللا وكبّرا.
    قال أبو ضاهر: وربّ الحج إن صحبتني كفيتك كلفة ما تحتاج إليه من ركوب وماء وزاد فتشرح صدرك وتطيب نفسك وتقرّ عينك وتعزّ عليك ذاتك فأفرج عنك من عيشتك القشفة وحياتك المتعبة وأريك ما لم تَرَه بنظرك من الآيات والمعجزات.
    قال الراهب: فقل لي يا أبا ضاهر بحق دينك ماذا تريني بمكة من الآيات؟
    قال المسلم: أنا، يا راهب، قد حجيت إلى مكة مرتين، وهذه الثالثة، ولستُ أنا جاهلا بها، بل خبير بما فيها.
    قال الراهب: فقد زدتني رغبة فيك وقربا إليك، فصف لي ما هناك وما نراه أولا وأخيرا.
    قال المسلم: أول ما أريك من المطربات أنني أجيزك الحجاز وأريك الحجازيات اللاتي تشوق إليهن الصفاة، وتسرّ بهنّ النفوس، ويليق بهنّ الملبوس. لطاف نظاف، ملاح ظراف، كأنهنّ حور العين، في جنّة الصالحين.
    قال الراهب: فهل نجد عندهم مقاما؟
    قال المسلم: مهما شئت.
    قال الراهب هازئا به، وذاك لا يعلم بمراده: وماذا تريني بعد الحجازيات؟
    قال المسلم: وترى، يا راهب، الحج يجتمع في مِنى في صباح ذلك اليوم، وترى فإذا الحج طوائف يسيرون ويصفقون بالكفوف ويضربون بالدفوف ويقولون: يا صباح البركات، من مِنى إلى عرفات!
    قال الراهب: ومن عرفات إلى أين؟
    قال المسلم: إلى مكّة.
    قال الراهب: وماذا تريني بمكّة؟
    قال المسلم: أريك الحجر الأسود وبثر زمزم والعروة الوثقى والكوز الأخضر والكعبة وظهر الجمل وقبر الحسن والحسين".
    فانظر، أيها القارئ، مدى الضلال الذى يتصف به الجامد الوجه الذى لا يعرف الحياء ولا الصدق وأمانة القول! أهناك بالله عليك مسلم (بَلْهَ أن أن يكون ذلك المسلم عالما، بل إماما من أئمة المسلمين شديد التعصب لدينه يجادل عنه أعنف جدال، لا واحدا من عوام الناس) يقول إنه يذهب للحج كى يستمتع بمرأى النساء هناك، فضلا عن أن يشتغل قوّادا على المسلمات العفيفات لنصرانى كافر؟ وأى نصرانى؟ نصرانى يقول له إنه ليس له أَرَبٌ فى النساء، فهو راهب منفوخ، ودبره مشروخ! ومنذ متى كانت للحجازيات هذه الشهرة بين النساء؟ بل منذ متى كان الكفار يذهبون إلى مكة حتى يعرض الشيخ المسلم على الراهب اصطحابه إلى هناك؟ بل منذ متى كان المهزوم يأنس بهازمه على هذا النحو ويعمل على إكرامه وتبجيله؟ إنه نفس الكلام الذى يقوله الخُطْل فى حكاياتهم الكذابة مثلهم عن انصراف الحجاج الرجال أثناء الطواف حول الكعبة، الذى هو فى الواقع كيوم الحشر عسرا وإذهالا، إلى الاحتكاك بالنساء ومغازلتهن وأخذ المواعيد الغرامية منهن. الواقع أنه لا فرق بين منكوح متقدم منهم أو متأخر، فكلهم ذوو أدبار وعقول مدوّدة منتنة! ولا يكتفى الراهب المنفوخ ذو الدبر المشروخ بأن قد فضحه الله هذه الفضيحة المخزية، بل يضيف لها فضيحة أخرى أشد إخزاءً، إذ يزعم أن الشيخ المسلم قد وعده أيضا أن يريه فى تلك الرحلة قبر الحسن والحسين فى مكة مع الكعبة والكوز الأخضر. فهل قبرا الحسن والحسين فى مكة؟ وأين يا ترى يوجد الكوز الأخضر هذا؟ وما وظيفته؟ كذلك فالمسلمون لا يقولون: "حُور العين" ولا "بيت الحرام" كما جاء على لسان الشيخ فى الحدوتة المتخلفة تخلف عقول أصحابها، بل "الحور العين" و"البيت الحرام". ليس ذلك فقط، بل اقتضت مشيئة الله أن يزداد هذا الوثنىّ ارتكاسا فى حمأة الفضائح، فنراه يزعم على لسان الشيخ أن الحُجّاج ينطلقون من منى إلى عرفات، عاكسا بجهله الفاضح اتجاه سير الحجيج، لأن الوقوف بعرفات إنما يأتى قبل المبيت بمنى كما هو معروف. وفضلا عن ذلك فإن الحجاج لا ينطلقون من عرفات إلى منى مباشرة، بل يذهبون أولا بعد الغروب إلى المزدلفة حيث يصلّون المغرب والعشاء جَمْعًا ويبيتون، ثم يواصلون رحلتهم من هناك إلى منى. وهذا الخطأ الأبله مما لا يمكن أن يقع فيه مسلم عادى، فما بالك بشيخ من أئمة المسلمين سبق له الحج قبل هذا مرتين كما جاء فى الحدوتة؟ وعليه فالسخف الذى يقوله عن الغناء وضرب الدف والتصفيق بالكف وما إلى ذلك لا منبع له إلا من دبره المشروم شرما واسعا سمح لهذه الخزعبلات أن تمر منه إلى الخارج بسهولة وأن يقول أيضا إن الأمير العالم قد أمن على كلامه وأبدى إعجابه بردوده المفحمة ولم ير فيها شيئا ينبغى تصويبه: "أجدتَ، يا راهب، في كلامك وأحسنت في جوابك وأبلغت في خطابك وزيّنت وطنك ودينك. ومثلك يجب، والله، أن يكون إمام النصارى ومقدَّمهم ومن يخاطَب في الدين عنهم. فسَلْنا ما شئتَ، فعندنا ما تحب"! كان الكلام يدخل العقل لو أنه قال له: "سلنا ما شئت، فعندنا لدبرك المنتن غراميل على كيفك"! أمّا وإنه لم يقل له ذلك فالراهب وكاتبه كاذبان مأبونان! وفوق هذا فالحدوتة المتخلفة تزعم أن الأمير قال للأنبا: "زينت وطنك..."، وكأنه كان للأنبا وطن آخر غير المملكة الأيوبية المسلمة! أرأيت، أيها القارئ، كيف يسقط كاتب الحدوتة سقطة مخزية مدوية فى كل خطوة ينقل فيها قدمه التى تستحق البتر! ثم إن الكاتب الحقود، بعد ذلك كله، يأبى إلا أن يخِز المسلمين وخزة سامة، فيقول إن الراهب كان يسخر من أبو ظاهر وهو من بلادة عقله لا يدرى. الواقع أن البليد العقل ليس شخصا آخر سواه هو وراهبه. إنهما يحقدان على الإسلام أن أَضْرَعَهما إلى الأرض وهزم دينهما شر هزيمة، فهما ينفّسان بهذه الطريقة الرخيصة عن ضغائنهما، وليس على التنفيس عن الأحقاد والأضغان من ضريبة تُدْفَع، فلينفِّسا عن المرارة التى فى قلبهما وحلقهما ما شاء لهما التنفيس! وهذا كل ما عندهما، فلا عقل ولا منطق ولا برهان ولا حتى خفة ظل.
    وبعد، فما دام الكلام قصصا وحواديت فإنى أسوق هذه القصة من كتاب "الديارات" لأبى الفرج الصفهانى، وهى قصة ممتعة، وإن كنت لا أظنها صحيحة لما فيها من بعض الحوادث التى هى إلى الأساطير أدنى منها إلى الوقائع الحقيقية. ونحن نسوقها هنا كى يرى الآخرون أننا لا نصدق كل ما نقرؤه حتى لو كان موجودا فى تراثنا، إذ إن لنا عقلا نفكر به ونزن الأمور ولا نندفع مع تيار التعصب والسلام ولا نريد لأمتنا أن تردد ما تقرأ أو تسمع كبعض الأمم الأخرى التى لا يقوم دينها إلا على الخرافات والشعبذات والخزعبلات. وقد وردت تلك القصة الممتعة أثناء كلام الأصفهانى عن "دير الأنوار": "حدث أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال خرجت من الأنبار في بعض أسفاري إلى عمّورية من بلاد الروم، فنزلت في بعض الطريق بدير يقال له دير الأنوار بقرية قريبة من عمورية فخرج إليَّ صاحب الدير المقدم على الرهبان به، وكان اسمه عبد المسيح فأدخلني الدير فوجدت فيه أربعين راهبا فأكرموني تلك الليلة بضيافة حسنة، ثم رحلت عنهم من الغدّ، وقد رأيت من كثرة اجتهادهم وعبادتهم ما لم أره قط من غيرهم، فقضيت غرضي من عمّورية ثم رجعت إلى الأنبار. فلما كان العام المقبل حججت، فبينما أنا أطوف حول البيت الشريف إذ رأيت عبد المسيح الراهب يطوف أيضا ومعه خمسة نفر من أصحابه الرهبان، فلما أثبت معرفته تقدمت إليه، وقلت له: أنت عبد المسيح الراهب؟
    قال: بل أنا عبد الله، الراغب في عفو الله.
    فجعلت أقبل شيبته وأبكي، ثم أخذت بيده، وملت إلى جانب الحرم. وقلت له: بحق من هداك، ألا أخبرتني عن سبب إسلامك؟
    فقال: لقد كان عجبا! وذلك أن جماعة من زهاد المسلمين وعبادهم مروا بالقرية التي فيها فأرسلوا شاباً منهم يشتري لهم طعاما فرأى في السوق جارية نصرانية تبيع الخبز وهي من أحسن النساء، وأجملهن صورة، فلما نظر إليها افتتن بها وسقط لوجهه، مغشياً عليه، فلما أفاق رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما أصابه وقال لهم:
    امضوا لشأنكم، فلست بذاهب معكم. فعذلوه ووعظوه فلم يلتفت إليهم، فانصرفوا وتركوه، فدخل القرية وجلس على باب حانوت تلك المرأة، فسألته عن حاجته فأخبرها أنه عاشق لها، فأعرضت عنه، فمكث في موضعه ثلاثة أيام لم يطعم طعاما وهو شاخص إلى وجهها. فلما رأته لا ينصرف عنها ذهبت إلى أهلها وجيرانها فأخبرتهم، فأطلقوا عليه الصبيان يرجمونه بالحجارة، فرجموه حتى رضخوا رأسه وهشموا وجهه وأدموا أضلاعه، وهو مع ذلك لا ينصرف. فعزم أهل القرية على قتله فجاءني رجل منهم وأخبرني بحاله، فخرجت إليه فرأيته طريحا، فمسحت الدم عن وجهه وحملته إلى الدير وداويت جراحه، فأقام عندي أربعة عشر يوما. فلما قدر على المشي خرج من الدير وأتى باب حانوت المرأة وجلس ينظر إليها. فلما أبصرته قامت إليه وقالت له:
    والله قد رحمتك، فهل لك أن تدخل في ديني حتى أتزوجك؟
    فقال: معاذ الله أن أنسلخ من دين التوحيد وأدخل في دين الشرك.
    فقالت: قم وادخل معي داري واقض مني أربك، وانصرف راشدا.
    فقال: ما كنت بالذي أُذْهِب عبادة اثنتي عشرة سنة بشهوة لحظة واحدة!
    فقال: انصرف عني حينئذ.
    قال: لا يطاوعني قلبي. فأعرضت عنه بوجهها، ففطن له الصبيان فأقبلوا عليه يرجمونه بالحجارة، فسقط على وجهه وهو يقول:
    إنّ وَلِيِّيَ اللهُ الذي نزَّل الكتابَ وهو يتولَّى الصالحين. فخرجتُ من الدير وأتيته فطردت عنه الصبيان ورفعت رأسه من الأرض فسمعته يقول:
    اللهم اجمع بيني وبينها في الجنة. فحملته إلى الدير فمات قبل أن أصل به إليه، فخرجت به عن القرية وحفرت له قبرا ودفنته، فلما دخل الليل وذهب نصفه صرخت تلك المرأة في فراشها صرخة عظيمة، فاجتمع إليها أهل القرية وسألوها عن قصتها فقالت:
    بينما أنا نائمة إذ دخل علي ذلك الرجل المسلم فأخذ بيدي، وانطلق بي إلى الجنة، فلما صار بي إلى بابها منعني خازنها من الدخول إليها، وقال إنها محرمة على الكافرين فأسلمت على يده، ودخلت معه الجنة، فرأيت فيها من القصور والأشجار ما لا أُحسن وصفه لكم. ثم إنه أخذني إلى قصر من الجوهر وقال: هذا القصر لي ولك، وأنا لا أدخله إلا بك، وإلى خمس ليال تكونين عندي فيه إن شاء الله تعالى. ثم مد يده إلى شجرة على باب القصرفقطف منها تفاحتين وقال: كلي هذه الواحدة، وأخبي الأخرى حتى يراها الرهبان. فأكلت التفاحة، فلم أر أطيب منها، ثم إنه أخذ بيدي وأخرجني حتى وصلت إلى داري. ثم إنها أخرجت التفاحة من جيبها فأشرقت في ظلمة الليل كأنها كوكب دُرِّيّ. فجاءوا بالمرأة إلينا إلى الدير ومعها التفاحة فلم نر شيئا مثلها من فواكه الجنة، فأخذت السكين وشققتها على عدد أصحابي فما رأينا ألذّ من طعمها ولا أطيب من ريحها، فقلنا: لعل شيطانا تمثل لها ليغويها عن دينها. فأخذها أهلها وانصرفوا، ثم إنها امتنعت من الأكل والشرب، فلما كانت الليلة الخامسة قامت من فراشها وخرجت من بيتها حتى أتت قبره، فألقت نفسها عليه وماتت، ولم يعلم بها أحد من أهلها. فلما كان وقت الصباح أقبل على القرية شيخان مسلمان عليهما ثياب من الشعر، ومعهما امرأتان كذلك، فقالا: إن لله عندكم ولية من أوليائه قد ماتت مسلمة، ونحن نتولاها دونكم. فطلب أهل القرية تلك المرأة فوجدوها على القبر ميتة، فقالوا:
    هذه صاحبتنا ماتت على ديننا، ونحن نتولاها.
    واشتد الخصام والتنازع بينهم، فقال أحد الشيخين: إن علامة إسلامها أن يُجْمَع رهبان الدير الأربعون ويجذبوها عن القبر، فإن جاءت معهم فهي نصرانية. ويتقدم منا واحد ويجذبها، فإن انجذبت معه فهي مسلمة. فرضي أهل القرية بذلك، فجُمِعَت رهبان الدير الأربعون وأتيناها لنحملها فلم نقدر على حملها، فربطنا في وسطها حبلاً غليظًا، وجذبها الرهبان الأربعون أجمعون، فانقطع الحبل، ولم تتحرك. فتقدم أهل القرية وفعلوا كذلك، فلم تتحرك من موضعها. فلما عجزنا عن حملها بكل الحِيَل قلنا لأحد الشيخين: تقدم أنت واحملها. فتقدم إليها وجذبها بردائه وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم حملها في حضنه وانصرف بها إلى غار هناك فوضعها فيه، وجاءت المرأتان فغسلتاها وكفنتاها. ثم حملها الشيخان وصليا عليها ودفناها إلى قبر ذلك الزاهد، وانصرفنا ونحن نشاهد هذا كله. فلما خلا بعضنا إلى بعض قلنا: إن الحق أحق أن يتبع، وقد وضح لنا الحق بالمشاهدة والعيان، ولا برهان على صحة دين الإسلام أوضح لنا مما رأيناه. ثم أسلمت أنا وأسلم رهبان الدير "الأربعون" وجميع أهل القرية، ثم إنّا بعثنا إلى بلد "الجزيرة" نستدعي فقيها عالما يعلمنا شرائع الإسلام وأحكام الدين، فجاءنا رجل فقيه صالح فعلَّمَنا وجه العبادة وأحكام الإسلام، ونحن اليوم على خير كثير، فلله الحمد والمنة على ذلك".
    مرة أخرى أقول: هذه القصة لا تدخل عقلى رغم أنها تنحاز لدينى، ذلك أن الانحياز للإسلام ليس قيمة فى حد ذاته، بل لا بد أن يكون انحيازا عاقلا حصيفا يجرى على شروط هذا الدين القوى العظيم، وأولها شرط العقل والمنطق والعدل والاعتدال. وهذا ما يميز ديننا، فلا خرافات مضحكة ولا تشنجات غبية ولا تعصبات بالباطل، بل سعة صدر للآخر وتفهم لما يعتز به مهما كانت مخالفته لما عندنا، على ألا يتجاوز هذا الآخر حدوده فيشتمنا ويُقِلّ أدبه على ديننا ورسولنا وقرآننا وتاريخنا ويطلق الشائعات الخبيثة التى تدعى أننا غرباء عن هذا الوطن وينبغى أن نعود من حيث أتينا. وللتدليل مجددا على هذا الكلام أسوق ما قاله د. محمد سليم العوا فى حوار منشور فى بريد الياهو نقلا عن إحدى الصحف أو المجلات، فقد سئل: "بماذا تنصح النظام بحكومته وحزبه ومؤسساته في كيفية التعامل مع ملف الأقباط؟"، وكانت إجابته على النحو التالى: "أول ما ينصح به في هذا الملف هو الصراحة والصدق. نحن نتكلم في ملف الأقباط بكذب أو إخفاء الحقائق. لدينا مثلا مجلة تصدرها كنيسة في عزبة النخل بالقاهرة اسمها «الكتيبة الطِّيبيّة» وهذا الاسم له مدلول تاريخي، ففي القرون الأولي للمسيحية كانت توجد «الكتيبة الطِّيبيّة» للدفاع عن المسيحية ضد الوثنيين الذين كانوا يحاربون المسيحية، وهذه المجلة شعارها أنها تعود بالهوية المصرية إلي الهوية القبطية: «لسنا عربا ولم نأت من جزيرة العرب». وهذا بالضبط مكتوب في أعدادها، كما أن المقالات الموجودة فيها كلها سخرية بالقرآن والإسلام والمسلمين، وإهانة للوطن نفسه، فيها قصائد تحمل كل هذه المساخر. ولما تحدث مسؤولون للبابا شنودة في أمرها، كان الرد أن البابا أصبح يكتب كل شهر مقالا علي غلافها".
    ولتأكيد ما قاله د. العوا أُورِد هنا ما كتبه عزت أندراوس فى موسوعته: "موسوعة تاريخ أقباط مصر" المشباكية تحت عنوان "الكتيبة القبطية" نقلا عن تحقيق منشور بمجلة روز إليوسف (فى 20/12/2005م) عنوانه: "المصريون من أصل عربى ضيوف. واللى موش عاجبه يمشى". وقد ذهب مُعِدّ التحقيق أحمد الباشا إلى رئيس تحرير المجلة المذكورة، وهو القس فيلوباتير جميل، لإجراء حوار معه بخصوص تلك المجلة، وإلى القارئ بعض أسئلة التحقيق وأجوبته:
    "س: لكنكم تتحدثون عن العرب الغزاة بأنهم أصحاب الفتح الإسلامى لمصر، وهم الذين أنقذوا الأقباط من الاضطهاد الرومانى.
    ج: العرب الغزاة لا علاقة لهم بالعرب المسلمين. إذا كان هناك مصريون من أصل عربى الآن فأهلا بهم فهم ضيوف علينا، ومن لم يعجبه ذلك يرجع إلى بلاده وأصوله إذا قبلوه!
    س: لكنى أختلف معك، فعدد كبير من المصريين سواء مسيحيين أو مسلمين لهم أصول عربية، فكثير من المسلمين لهم أصول مصرية!
    س: هذا كلام شكله حلو، لكنه غير صحيح.
    ج: فهل تقنعنى أن ثمانية آلاف عربى مسلم جاءوا مع عمرو بن العاص وأحد الخلفاء بعد ذلك هم جذور 72 مليون مصرى وقاموا بخلط الأنساب، نحن نرفض أن يفرضوا علينا ذلك كما هو الحال فى اسم البلد فنحن «جمهورية مصر العربية»، من أين جاء لفظ «عربية»؟
    س: قلتم أن لكم مطالب من العرب أو ممن أصولهم عربية من المصريين!
    ج: نحن نطالبهم بتقديم وثيقة اعتذار فى حق المصريين لما فعلوه بنا إبان الفتح الإسلامى كما اعتذر الألمان لليهود عن «الهولوكوست»!
    ...
    س: من هم أشهر كتاب الكتيبة الطِّيبيّة؟
    ج: قداسة البابا شنودة والأنبا بيشوى والأنبا مرقص والأنبا بسنتى والقمص مرقص عزيز والقس فلوباتير جميل وغيرهم!!؟ أليس هذا دليلا على علاقتها بالكنيسة وأن هناك سقف حماية لها؟".
    يقول القس ذلك، قافزا على الحقائق التاريخية التى سأستقيها من كتابٍ ألفه نصرانى شديد التعصب يدعو بذات دعوة القس، ونَشَر كتابه فى موقع القس، وطبعته له (عام 2001م) الكتيبة الطِّيبيّة التى أنشأها القس، وهو كتاب "محنة الهوية المصرية" للدكتور كمال فريد إسحاق صديق القس، إذ جاء فى الصفحة السادسة منه أن عدد المصريين عند مجىء الحملة الفرنسية كان مليونين ونصف المليون، على حين أن عدد الأقباط فى ذلك التاريخ (كما هو مذكور فى ص 28) كان مائة وخمسين ألفا. ومعنى ذلك أن نسبتهم حسب إحصاء الفرنسيين هى 6%، وهذه هى الحقيقة التى لا يمكن أن يجادل أحد فيها: أولا لأن هذا الإحصاء السكانى هو من عمل الفرنسيين النصارى لا المسلمين، وثانيا لأن هذين الرقمين قد وردا فى كتاب نشرته مجلة الكتيبة الطِّيبيّة المتعصبة تعصبا ساما، وكتبه مؤلف نصرانى لا يقل عن المجلة تعصبا، إن لم يزد. وهذه النسبة تتطابق مع تلك التى ذكرها أبو إسلام أحمد عبد الله فى مقال له بعنوان "أقباط مصر مسلمون لا نصارى، وإليكم الأدلة"، وذلك بموقعه المشباكى: "بلدى"، إذ قال إن عدد "المسلمين المؤمنين بإله واحد، وكتاب واحد، وسُنَّة نبوية واحدة" (على حد تعبيره) هو سبعة وستون مليونا، أما عدد النصارى فــ"أربعة ملايين نصرانى على أفضل تقدير، بنسبة 87, 5% تقريبا من إجمالي السكان ، وينقسمون فيما بينهم إلى ما لا يقل عن أربعين ملة عقَدية في مصر وحدها" حسب قوله! ومع ذلك كله فنحن نفتح قلوبنا لمن يحترمنا، بل نحترمه أكثر مما يحترمنا. نقولها صدقا لا نفاقا لأن هذه هى مبادئ ديننا التى تعلمناها فى المدارس وفى البيوت وفى الكتب، أما من يتجاوز حجمه فليس له عندنا إلا ما يعرفه القمص المنكوح. إن ديننا غال جدا جدا علينا، ونحن نعرف عبقرية هذا الدين وعبقرية الرسول العظيم الذى اختاره الله لحمل رسالته العالمية الأبدية ونقدّرها التقدير الذى تستحقه، وهو تقدير ضخم هائل، ولايمكن أبدا أن نتسامح مع من يسىء إلى النبى عليه الصلاة والسلام. ولا يَغُرَّنّ هؤلاء الضعفُ الطارئ الذى ألم بالمسلمين، فدوام الحال من المحال. وتوتة توتة، فرغت الحدوتة!
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    132
    آخر نشاط
    17-11-2006
    على الساعة
    09:57 AM

    افتراضي

    جزاك الله خيرا
    لى عودة لتكلمت الموضوع وقت اخر
    افتتاح موقعى من جديد (ارجوا المشاركة )

    www.soatal7aiq.com

    او

    www.soatal7aiq.com/html

حدوتة الأنبا جُرْجِى: هكذا يحارب المدلِّسون الإسلام!

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 25-02-2008, 11:39 PM
  2. مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 17-01-2008, 08:58 PM
  3. الأنبا شنوده : الإسلام لم ينتشر بحد السيف.
    بواسطة طالب علم1 في المنتدى منتدى نصرانيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-02-2007, 01:10 AM
  4. اللهم عليك بكل من يحارب الإسلام العظيم
    بواسطة lelyan في المنتدى الإعجاز العلمي فى القرأن الكريم والسنة النبوية
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 24-11-2006, 10:51 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

حدوتة الأنبا جُرْجِى: هكذا يحارب المدلِّسون الإسلام!

حدوتة الأنبا جُرْجِى: هكذا يحارب المدلِّسون الإسلام!