لا تزال تداعيات الرواية المثيرة للجدل (شيفرة دافنتشي) التي قدّمت صورة مغايرة عن الدين المسيحي مستمرة، خصوصاً على الجانب المسيحي المشرقي، والكاثوليكي، فالرواية تحوّلت إلى فيلم، وتحوّلت أنظار ملايين المشاهدين إليها، على الرغم من تخوّف النقاد المسبق من مساحة الحرية الإعلامية العربية التي سوف تعيق انتشار الفيلم، كما أعاقت انتشار الرواية من قبل.
وصدق النقاد الخائفون .. فقد بدأت أول شرارة في عالم المحاصرة الإعلامية المعهودة على الساحة العربية حين رفض نواب البرلمان المصري أي مساس بالأديان، تحت دعوى حرية التعبير، وطالبوا الحكومة بسحب كتاب «شفرة دافنتشي» للكاتب (دان براون)، بنسختيه العربية والإنجليزية بصفته يسيء للسيد المسيح عليه السلام، وعدم السماح بدخول الفيلم وعرضه في مصر. وتعهدت الحكومة المصرية بعدم عرض الفيلم في مصر، والعمل على منع الكتاب. في الوقت الذي أعلن فيه النواب الأقباط والمسلمون رفضهم المطلق، وإدانتهم لمحاولات الإساءة للسيد المسيح في كتاب وفيلم «شفرة دافنتشي»، مطالبين بسحب الكتاب فوراً من السوق المصرية سواء النسخة المترجمة باللغة العربية أو باللغة الأجنبية.
لكن على الرغم من جميع مظاهر الاحتجاج والرؤى النقدية السلبية فقد حقق الفيلم إيرادات وُصفت بأنها ثاني أكبر عائدات يشهدها افتتاح فيلم في التاريخ السينمائي؛ إذ بلغت (224) مليون دولار لدى بداية عرضه في جميع أنحاء العالم حسب تقرير وكالة (د.ب.أ).
وقالت شركة كولومبيا: إن إيرادات الفيلم بلغت (77) مليون دولار خلال الأيام الثلاثة الأولى لعرضه في الولايات المتحدة وكندا.


وكان مراقبو شباك التذاكر يتوقعون أن يحقق الفيلم الذي كان الأكثر ترقباً هذا العام أرباحاً تتراوح بين (50 -80) مليون دولار. وحقق إيرادات بلغت (147) مليون دولار في باقي أنحاء العالم، وهو أكبر افتتاح دولي لفيلم على الإطلاق. وتعزو الوكالة سبب المبيعات إلى سلسلة من الاحتجاجات والدعاية التي لم تحدث منذ حقق فيلم ديني آخر هو «آلام المسيح» للممثل والمخرج (ميل جيبسون) إيرادات بلغت (84) مليون دولار على الصعيد المحلي في بداية عرضه في فبراير (شباط) 2004. وحصد الفيلم (612) مليون دولار من جميع أنحاء العالم.
وفي مهرجان «كان» حقق الفيلم مبيعات هائلة بلغت (224) مليون دولار خلال العروض الافتتاحية في مطلع هذا الأسبوع، كما ذكرت مجلة «سكرين انترناشيونال».
ويُعدّ هذا المبلغ ثاني أكبر عائدات يشهدها افتتاح فيلم في التاريخ السينمائي فقط بعد فيلم «حرب النجوم الجزء الثالث..انتقام سيث» الذي سجل في العام الماضي (9.253) مليون دولار.
وافتتح فيلم «شفرة دافنتشي» الذي بلغت ميزانيته (125) مليون دولار في دور العرض في كل أنحاء العالم، باستثناء الهند والشرق الأوسط.


ترقّب وانتظار

موجة من الترقب والانتظار عاشها العالم منذ أعلنت «سوني» الشركة المنتجة أنها اشترت حقوق الرواية الأصلية لـ(دان براون)، وستعمل على إخراجها فيلماً لا يأتي فقط كون هذا الفيلم أُسند إلى أحد كبار مخرجي هوليود حالياً: (رون هوارد)، الفائز بأوسكار أفضل مخرج عن فيلمه «عقل جميل»، ولا بكون الشخصية الرئيسة ستكون للممثل الكبير ونجم شباك التذاكر الأول (توم هانكس)، وإنما يأتي كل هذا الانتظار من أجل الرواية ذاتها التي حققت أعلى المبيعات في السنوات الأخيرة، وأثارت الكثير جداً من الجدل، وتم حظر بيعها ومقاطعتها في عدد من الدول في العالم بسبب موضوعها المثير الذي طرحه (دان براوان)، أشهر الروائيين حالياً، والذي يتعلق بتقديم صورة أخرى لبنية الدين المسيحي وتاريخ المسيحية، والتأكيد على بشرية المسيح عيسى عليه السلام، وتقديم رؤية جديدة لعدد من المعاني الدينية، كالكأس المقدسة، ومكانة الأنثى في الديانات البشرية التي ألغتها المسيحية، حسب الرواية، واتهام رجال الفاتيكان بالتزييف وتغيير الحقائق وتفسير جديد لأشهر لوحات الفن الحديث وربطه بالرموز الوثنية المعروفة. كل هذا كان يأتي بطريقة خاصة تميّز بها (دان براون) تجمع ما بين الإثارة والتشويق والحس البوليسي في البحث والاستكشاف وفك الرموز.



في «شيفرة دافنتشي» كان هناك العالم (روبرت لانغدون)، أستاذ علم الرموز الدينية، (يقوم بدوره توم هانكس) يحاول تفسير الجريمة البشعة التي تعرض لها أمين متحف اللوفر بباريس، (جاك سونيير)، والرسالة التي أراد توصيلها وهو مستلقٍ ميتاً بطريقة غريبة، ودوافع هذه الجريمة، تساعده في ذلك حفيدة (سونيير) المتخصصة في علم الشيفرات صوفي نوفو (تقوم بدورها الممثلة الفرنسية أودري توت بطلة فيلم اميلي).
يتكئ الكاتب في هذه الرواية على حقيقة أن هناك جمعية دينية سرية تُسمّى «جمعية سيون» تأسست عام 1099 وتضم نخبة من العلماء والمشاهير مثل نيوتن وفيكتور هوغو ودافنتشي، وهذه الجمعية تمتلك عقيدة جوهرية تتعلق «بالأنثى المقدسة» وتحمل تفسيرها الخاص للدين المسيحي ورموزه المقدسة، وهي بجانب ذلك تمتلك عدداً من الوثائق السرية التي لا يمكن نشرها بسهولة؛ لأنها تعطي انقلاباً كبيراً على المعتقد المسيحي. لكن هذه الجمعية ستظل ملاحقة من قبل مجموعة أسقفية فاتيكانية تُسمّى (اوبوس داي) وهي مذهب كاثوليكي متشدد لن يقبل مثل هذا الانقلاب الذي تحتفظ به جمعية (سيون) السرية. بالتأكيد فإن الرواية بهذا الشكل فاجأت العالم، وأثارت جدلاً كبيراً، وبرز اسم (دان براون) الذي ليس له تاريخ روائي يذكر من قبل، وكان الموقف تجاه هذه الرواية التي تُرجمت لأكثر من خمسين لغة بحدة الرواية ذاتها؛ إذ رفضها الكثير وخرجت مجموعة من الكتب التي ترد عليها مثل «حل شيفرة دافنتشي» و«الحقيقة وراء شيفرة دافنتشي»، وبلغ الأمر في بلد عربي مثل لبنان الذي تميز بحريته الإعلامية قياساً بباقي البلدان العربية إلى أن صدر قرار يقضي بمنع تداول الرواية وبيعها.


توافق حذر


لا يمكن تجاهل الدور الكبير الذي تلعبه الرواية عبر شخوصها وأحداثها وعقدها في نقض ونسف العقيدة المسيحية الحالية على نحو جوهري؛ بل إنها تلغي أحياناً بين سطورها حقائق عقدية غاية في الأهمية. الفيلم قدّم بعض الحقائق التي تتفق مع الرؤية الإسلامية الأصيلة التي تؤكد على بشرية المسيح عليه السلام، وإنسانيته (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). [آل عمران:59]. وهو الأمر الذي استفز الأسقف (آنجيلو أماتو) المسؤول في الفاتيكان ليطالب جميع الكاثوليك في العالم بمقاطعة الفيلم؛ لأنه أهان الإيمان المسيحي، وقدّم معلومات خاطئة وأكاذيب عن المسيح عليه السلام تضمنت مزاعم حول بشريّته.



المثير أيضاً أن الرواية أكّدت أن المسيحية دخلت منعطفاً تاريخياً عندما تنصّر الإمبراطور (قسطنطين)، وأدخل تعديلات خطيرة على المسيحية، مخالفة لسياقها وانتمائها الأصلي لسلسلة الديانات والرسل من قبيل ألوهية المسيح، وأن المسيحية الحالية هي مسيحية من صنع (قسطنطين).
و في سردها تعرض الرواية أن (قسطنطين) -حسب اعتقاد السيونية– ظل وثنياً، ولم يتنصّر؛ بل إنه لم يُعمّد إلا وهو على سرير الموت عندما كان أضعف من أن يعترض على ذلك، وكان الدين الرسمي في عهده هو عبادة الشمس، وكان (قسطنطين) كبير كهنتها، لكن لسوء حظه كان هناك اهتياج ديني متزايد يجتاح روما؛ إذ تضاعف أتباع المسيحية على نحو مذهل، وبدأ المسيحيون والوثنيون يتصارعون إلى درجة تهديد الإمبراطورية الرومانية بالانقسام.
ورأى (قسطنطين) أنه يجب اتخاذ قرار حاسم؛ فقرر عام 325 توحيد الإمبراطورية تحت لواء دين واحد هو المسيحية، لكنه أنشأ ديناً هجيناً مقبولاً من الطرفين، وذلك بدمج الرموز والطقوس الوثنية والمسيحية معاً.
ويُستدلّ على ذلك بعدة شواهد من قبيل أقراص الشمس المصرية التي أصبحت هالات تحيط برؤوس القديسين الكاثوليكيين، والرموز التصويرية لـ(إيزيس) وهي تحضن طفلها الرضيع المعجزة (حورس) مثل (مريم) تحتضن المسيح الرضيع، وتاج الأسقف والمذبح والمناولة كلها طقوس مستمدة مباشرة من أديان قديمة وثنية غامضة، وتاريخ ميلاد المسيح 25 ديسمبر/ كانون الأول هو أيضاً تاريخ ميلاد (أوزيريس) و(أدونيس) و(كريشنا)، وحتى يوم العطلة الأسبوعية الأحد هو يوم عابدي الشمس أيضاً (sun day) أي يوم الشمس!




وتنسف الرواية حقائق عقدية مسيحية غاية في الرسوخ من قبيل أن ألوهية المسيح كانت حاجة ملّحة وضرورية للسلطة السياسية تم اعتمادها كضرورة فقط.
والمثير ما تقوله الرواية من أن (قسطنطين) أمر بإنجيل جديد أبطل الأناجيل السابقة التي تتحدث عن إنسانية المسيح وبشريته وجمعها وحرقها كلها.
وهذا ما يؤكده الباحث الإسلامي الأردني إبراهيم غرايبة؛ إذ يشير إلى أن وثائق البحر الميت التي اكتُشفت عام 1950 وتنازعت عليها الأردن وإسرائيل تُعدّ دليلاً مخالفاًَ لأناجيل (قسطنطين)، فقد تحدثت تلك الوثائق عن كهنوت المسيح بمصطلحات إنسانية تماماً، وهي تلقي الضوء على فبركات تاريخية تؤكد أن الإنجيل قد أُعدّ ونُقّح على أيدي رجال ذوي أهداف سياسية.





ويؤكد "غرايبة" أن في القرآن إشارة لتأثير الأديان خاصة معتقدات الخصب والعطاء على بني إسرائيل، مثل عبادة (بعل) إله الخصب والعطاء عند الفنيقيين، وقد تحوّل بعض بني إسرائيل لعبادته، فكان (إلياس) الرسول -الذي كان يعيش في بلدة في مدينة عجلون شمال الأردن، يخاطب قومه كما في القرآن (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ). [الصافات:125]. ويعتقد "غرايبة" أن رواية (شيفرة دافنشي) ليست أكثر من محاولة لفهم تأثير المسيحية على ديانات كانت سائدة، وتأثير هذه الديانات والمعتقدات على فئات وطوائف مسيحية؛ فنشأت طوائف تمزج بين المسيحية والأديان السابقة، كما في حالة فرسان الهيكل وأخوية (سيون)، وقد بقيت المسيحية العربية برأيه فترة طويلة تؤمن بالتوحيد، وترفض عقيدة التثليث التي يؤمن بها مسيحيو اليوم!

المصدر موقع اسلام اليوم