90)‏‏ كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفيـن فإن لم يصبها وابل فطل‏....‏
‏*‏ البقرة‏:265*‏
بقلم الدكتور ‏: ‏زغـلول النجـار
هــذا النص القرآني جاء في العشر الأخير من سورة البقرة‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ وعدد آياتها‏286‏ بعد البسملة‏,‏ وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي تلك المعجزة التي أجراها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي يدي نبيه موسي‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ حين تعرض شخص من بني إسرائيل في زمانه للقتل‏,‏ ولم يعرف قاتله‏,‏ فأوحي الله‏(‏ تعالي‏)‏ إلي عبده موسي أن يأمر قومه بذبح بقرة‏,‏ وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله‏,‏ ويخبرهم عن قاتله إحقاقا للحق‏,‏ وشهادة لله‏(‏ تعالي‏)‏ بالقدرة علي إحياء الموتي‏.‏
ومن مزايا هذه السورة المباركة أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قد أوصي بقراءتها في البيوت فقال‏:‏ لا تجعلوا بيوتكم مقابر‏,‏ إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة‏(‏ أخرجه مسلم والترمذي‏).‏

وقال‏(‏ عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏)‏ أيضا‏:‏ اقرأوا سورة البقرة‏,‏ فإن أخذها بركة‏,‏ وتركها حسرة‏,‏ ولايستطيعها البطلة‏(‏ رواه مسلم‏).‏
ويدور المحور الرئيسي لسورة البقرة حول قضية التشريع الإسلامي في العبادات والأخلاق والمعاملات‏,‏ وإن لم تغفل ركائز العقيدة الإسلامية من الإيمان بالله‏,‏ وملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ واليوم الآخر‏,‏ وتنزيه الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن كل وصف لا يليق بجلاله من نحو افتراض الشريك أو الشبيه أو المنازع أو الصاحبة أو الولد‏,‏ وكلها من صفات المخلوقين ولا تليق بجلال الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏

كذلك حددت السورة الكريمة صفات كل من المؤمنين‏,‏ والكافرين‏,‏ والمنافقين‏,‏ وسجلت قصة الخلق البشري ممثلا في أبوينا آدم وحواء‏(‏ عليهما من الله السلام‏),‏ وأشارت إلي عدد من أنبياء الله ورسله من مثل إبراهيم‏,‏ وولده إسماعيل‏,‏ وحفيده يعقوب‏,‏ وموسي‏,‏ وداود‏,‏ وسليمان‏,‏ وعيسي ابن مريم‏(‏ علي نبينا وعليهم من الله أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏).‏
وتناولت سورة البقرة أهل الكتاب بإسهاب وصل إلي أكثر من ثلث السورة‏,‏ وختمت بإقرار حقيقة الإيمان وبدعاء إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ يهز القلب والروح والعقل معا‏....!!‏ ويمكن إيجاز أهم معطيات سورة البقرة فيما يلي‏:‏

أولا‏:‏ من ركائز العقيدة الإسلامية‏:‏
‏(1)‏ الإيمان بالقرآن الكريم آخر الكتب السماوية التي أنزلها الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالحق‏,‏ وأتمها وأكملها‏,‏ ولذلك تعهد ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بحفظ رسالته الخاتمة في ذات اللغة التي أوحيت بها‏(‏ اللغة العربية‏),‏ وحفظها كلمة كلمة‏,‏ وحرفا حرفا علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد‏,‏ وإلي قيام الساعة تحقيقا للوعد الإلهي الذي قطعه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي ذاته العلية فقال‏(‏ عز من قائل‏):‏
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏*.‏
‏(‏الحجر‏:9)‏

ونظرا لهذا الحفظ الدقيق للقرآن الكريم بصفائه الرباني‏,‏ وإشراقاته النورانية‏,‏ كان معجزا في كل أمر من أموره‏,‏ وبذلك تحدي الله‏(‏ تعالي‏)‏ الجن والإنس متعاضدين أن يأتوا بسورة من مثله‏,‏ ولا يزال هذا التحدي قائما دون أن يستطيع أحد من العقلاء أن يجابهه‏.‏
‏(2)‏ الإيمان بالغيب انطلاقا من الإيمان بالله الواحد الأحد‏,‏ الفرد الصمد‏,‏ الذي لم يلد‏,‏ ولم يولد‏,‏ ولم يكن له كفوا أحد‏,‏ وانطلاقا من الإيمان بملائكته‏,‏ وبجميع كتبه ورسله‏,‏ بغير تمييز‏,‏ ولاتفريق‏,‏ وباليوم الآخر الذي ترجع فيه كل الخلائق إلي الله خالقها‏,‏ ثم الخلود في الآخرة إما في الجنة أبدا‏,‏ أو في النار أبدا‏.‏
‏(3)‏ الإيمان بأن الله تعالي منزه عن الشبيه‏,‏ والشريك‏,‏ والمنازع‏,‏ والصاحبة والولد‏,‏ وأنه سبحانه وتعالي هو خالق كل شيء‏,‏ وأنه علي كل شيء قدير‏,‏ وأن من خلقه السماوات السبع والأرضون السبع‏,‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ أحيا الخلق من العدم‏(‏ الموت‏),‏ وأنه سوف يميتهم فردا فردا‏,‏ ثم يحييهم بعثا واحدا ليعودوا إلي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ الذي يعلم غيب السماوات والأرض فيحاسبهم ويجازيهم وهو الرحمن الرحيم‏,‏ وأنه تعالي شديد العقاب‏,‏ وقد وصف ذاته العلية بقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم
‏(‏ البقرة‏:255).‏

‏(4)‏ الإيمان بوحدة الجنس البشري‏,‏ وبانتهاء نسبه إلي أبوينا‏:‏ آدم وحواء‏(‏ عليهما من الله السلام‏),‏ ومن هنا العمل علي نبذ جميع أشكال العصبيات العرقية‏,‏ والدينية والاجتماعية‏.‏
‏(5)‏ الإيمان بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد علم آدم الأسماء كلها‏,‏ وبذلك يكون الإنسان قد بدأ وجوده عالما عابدا‏,‏ وليس جاهلا كافرا كما يدعي أصحاب الدراسات الوضعية في علم الإنسان‏.‏

‏(6)‏ الإيمان بوحي السماء‏,‏ وبوحدة جميع الأنبياء والمرسلين الذين أرسلهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالإسلام الصافي‏,‏ والتوحيد الخالص لله‏(‏ تعالي‏),‏ وقد تكاملت رسالاتهم جميعا في الرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ الذي بعثه الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالحق بشيرا ونذيرا للخلق كافة‏.‏
‏(7)‏ الإيمان بتنزيه الله‏(‏ تعالي‏)‏ عن الشريك‏,‏ والشبيه‏,‏ والمنازع‏,‏ والصاحبة‏,‏ والولد‏,‏ وبأن الشرك من أبشع صور الكفر بالله‏,‏ وأن من الكفر بالله أيضا منع مساجد الله ان يذكر فيها اسمه‏,‏ أو السعي في خرابها‏.‏

‏(8)‏ الإيمان بأن الشيطان للإنسان عدو مبين‏,‏ وأنه يأمر بالسوء والفحشاء‏,‏ ويغري العباد بأن يقولوا علي الله ما لا يعلمون‏,‏ ومن هنا كانت مخالفته‏,‏ ورفضه من الأمور الواجبة علي كل مسلم ومسلمة‏,‏ اعتصاما بحبل الله المتين‏,‏ ونجاة من وساوس هذا اللعين‏,‏ وللتأكيد علي ذلك عرضت السورة الكريمة لقصة الشيطان مع أبوينا آدم وحواء‏(‏ عليهما السلام‏)‏ حتي تم إخراجهما من الجنة بوسوسته وغوايته‏,‏ ثم توبتهما‏,‏ وقبول الله تلك التوبة‏,‏ وأن ذنب هذه المعصية لايطول أحدا من ذريتهما أبدا لأن ذلك يتنافي مع العدل الإلهي المطلق الذي قرره ربنا تبارك وتعالي بقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏
ألا تزر وازرة وزر أخري‏*‏وأن ليس للإنسان إلا ما سعي‏*‏
‏(‏النجم‏:39,38)‏

‏(9)‏ الإيمان بأن دين الله‏(‏ تعالي‏)‏ وهو الإسلام مبني علي السماحة واليسر ورفع الحرج وأن من أصوله الثابتة أنه لا إكراه في الدين‏...‏
‏(‏البقرة‏:256).‏

‏(10)‏ الإيمان بحتمية الآخرة وبضرورتها والخوف من فجائيتها وأهوالها وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
واتقوا يوما ترجعون فيه إلي الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لايظلمون
‏(‏البقرة‏:281)‏

ثانيا‏:‏ من أسس العبادة‏:‏
‏(1)‏ إقامة الصلاة‏,‏ وإيتاء الزكاة‏,‏ والإنفاق في سبيل الله‏,‏ والإحسان إلي الخلق بصفة عامة‏,‏ واليقين بأن ذلك كله كان من متطلبات العبادة في كل الشرائع السماوية السابقة وكلها كانت إسلاما لله‏.‏
‏(2)‏ الدعوة إلي الجهاد في سبيل الله‏,‏ ردعا للمعتدين والغاصبين والمتجبرين‏,‏ فالقتال مشروع في الإسلام لدفع الظالمين والغائرين علي أراضي المسلمين‏,‏ المعتدين علي دمائهم وأموالهم وأعراضهم ومقدساتهم ودينهم وذلك صونا لكرامة الإنسان وإقامة لعدل الله في الأرض‏,‏ وإعزازا للدين الذي لا يرتضي ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ من عباده دينا سواه‏.‏

‏(3)‏ أداء الحج والعمرة لمن استطاع إلي ذلك سبيلا‏,‏ وقد وضحت سورة البقرة آداب هاتين الشعيرتين وضوابطهما الشرعية‏.‏
‏(4)‏ صوم رمضان‏,‏ وآداب الصوم وضوابطه الشرعية‏.‏
‏(5)‏ الدعاء إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده وأوقات ذلك المفضلة وآداب الدعاء‏.‏

‏(6)‏ مراعاة حرمة الأشهر الحرم وتوقيرها‏,‏ وإقامة السنن التي شرعها لنا رسول الله فيها‏.‏
‏(7)‏ التزام تقوي الله‏(‏ تعالي‏)‏ في كل حال‏.‏

ثالثا‏:‏ من مكارم الأخلاق التي دعت إليها سورة البقرة‏:‏
‏(1)‏ الصبر في البأساء والضراء وحين البأس‏.‏
‏(2)‏ الوفاء بالعهود والمواثيق‏.‏
‏(3)‏ الشجاعة والإقدام أملا في الاستشهاد في سبيل الله‏.‏
‏(4)‏ الجرأة في مناصرة الحق‏,‏ وإعلان الرأي‏,‏ وعدم كتمان الشهادة‏.‏
‏(5)‏ الجود والكرم والإنفاق في سبيل الله‏.‏
‏(6)‏ الحرص علي العمل الصالح‏,‏ وقول المعروف‏,‏ والمغفرة للناس‏.‏

‏(7)‏ إكرام الوالدين والإحسان إلي ذي القربي واليتامي والمساكين وإلي الناس كافة دون من أو أذي‏.‏
‏(8)‏ تجنب المال الحرام بكافة صوره وأشكاله‏.‏

رابعا‏:‏ من التشريعات الإسلامية في سورة البقرة‏:‏
‏(1)‏ فصلت سورة البقرة أحكام الأسرة المسلمة من الخطبة إلي الزواج‏,‏ والطلاق‏,‏ والمتعة‏,‏ والرضاعة‏,‏ والعدة وغيرها‏,‏ وأمرت باعتزال النساء في المحيض ونهت عن نكاح المشركات والمشركين حتي يؤمنوا‏.‏
‏(2)‏ عددت هذه السورة الكريمة المحرمات من الطعام من مثل الميتة‏,‏ والدم‏,‏ ولحم الخنزير‏,‏ وما أهل به لغير الله‏,‏ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه كما حرمت كلا من الخمر والميسر‏.‏

‏(3)‏ وشرعت للقصاص في القتلي‏.‏
‏(4)‏ وحضت علي كتابة الوصية قبل الموت وحرمت وجرمت تبديلها أو إخفاءها‏.‏
‏(5)‏ وحرمت أكل أموال الناس بالباطل‏.‏

‏(6)‏ ووضعت ضوابط للتعامل بالدين‏.‏
‏(7)‏ وحرمت التعامل بالربا تحريما قاطعا‏.‏
‏(8)‏ وحضت علي رعاية اليتيم وحددت ضوابط الإنفاق في سبيل الله‏.‏
‏(9)‏ وحرمت إنكار المعلوم من الدين بالضرورة‏.‏

خامسا‏:‏ من القصص القرآني في سورة البقرة‏:‏
جاء في سورة البقرة ذكر عدد من أنبياء الله ورسله‏,‏ كما جاءت الإشارة إلي عدد من الأحداث للاعتبار بها وأخذ الدروس منها ونوجز ذلك فيما يلي‏:‏
‏(1)‏ قصة أبوينا آدم وحواء‏(‏ عليهما من الله السلام‏).‏

‏(2)‏ قصة بني إسرائيل مع فرعون مصر وخروجهم منها مع نبي الله موسي‏(‏ عليه السلام‏),‏ وعبور موسي بهم البحر‏,‏ وتفجير الأرض لهم بالماء الزلال‏,‏ وعصيانهم من بعد ذلك كله‏,‏ وارتدادهم إلي عبادة العجل‏,‏ وصعقهم ثم إحياؤهم‏,‏ ومسخ الذين اعتدوا منهم في السبت إلي قردة وخنازير‏,‏ ثم كفرهم بآيات الله‏,‏ وقتلهم للأنبياء بغير حق‏,‏ وتحريفهم للتوراة‏,‏ وعصيانهم لأوامر الله‏,‏ واعتداؤهم علي حدوده‏,‏ ورفع الطور فوقهم تهديدا لهم وتخويفا‏,‏ وقصتهم مع القتيل‏,‏ وأمر الله لهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها فيبعثه الله‏(‏ تعالي‏)‏ حتي يخبر عن قاتله ثم يموت‏,‏ وقصتهم مع كل من طالوت ملكهم وجالوت وداود‏(‏ عليه السلام‏).‏
‏(3)‏ قصص بعض أنبياء بني إسرائيل من أمثال كل من داود وسليمان‏(‏ عليهما السلام‏).‏

‏(4)‏ قصة نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل‏(‏ عليهما من الله السلام‏),‏ ورفعهما لقواعد الكعبة المشرفة‏,‏ ودعوتهما إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ ان يبعث خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في مكة المكرمة‏,‏ وحوار إبراهيم‏(‏ عليه السلام‏)‏ مع نمرود بن كنعان أول من ادعي الربوبية كذبا وبهتانا‏.‏
‏(5)‏ قصة نبي الله يعقوب‏(‏ عليه السلام‏).‏
‏(6)‏ حادثة تحويل القبلة‏.‏

‏(7)‏ قصة نبي الله عيسي ابن مريم‏(‏ عليهما السلام‏).‏
‏(8)‏ قصة الرجل الصالح عزير الذي مر علي بيت المقدس بعد ان خربها بختنصر‏:‏
‏(...‏ قال أني يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلي طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلي حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلي العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله علي كل شيء قدير‏)‏
‏(‏البقرة‏:259)‏

سادسا‏:‏ من الإشارات الكونية في سورة البقرة‏:‏
جاء في هذه السورة المباركة عدد كبير من الإشارات الكونية نوجزها فيما يلي‏:‏
‏(1)‏ التفرقة الدقيقة بين الضياء والنور وهما أمران متمايزان‏,‏ والمقابلة بين الظلمات والنور‏,‏ وهذه من الحقائق العلمية التي لم تدرك إلا مؤخرا‏.‏

‏(2)‏ تقديم حاسة السمع علي حاسة الإبصار وثبت علميا سبقها في مراحل خلق الإنسان‏.‏
‏(3)‏ وصف التلازم الدقيق بين هطول المطر الغزير وبين كل من الظلمات والرعد والبرق والصواعق‏.‏
‏(4)‏ الإشارة إلي إمكانية خطف البصر بواسطة البرق‏.‏

‏(5)‏ الإشارة إلي المراحل المتتالية في إعداد الأرض لعمارتها بخلق الإنسان ومن ذلك تمهيد سطحها‏,‏ وبناء السماء من حولها‏,‏ وإنزال الماء عليها‏,‏ وإخراج الثمرات رزقا للعباد‏,‏ وإحياء الأرض بعد موتها وبث كل دابة فيها‏.‏
‏(6)‏ ذكر معجزات فلق البحر لنبي الله موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ ونجاته ومن معه وهلاك فرعون وجنده‏,‏ وكذلك تفجير اثنتي عشرة بئرا مائية بضربة من عصي موسي‏(‏ علي نبينا وعليه من الله تعالي السلام‏)‏ وتلك الآبار لاتزال موجودة حتي اليوم علي طول صدع أرضي واحد بالمنطقة الشرقية من خليج السويس‏.‏

‏(7)‏ الإشارة إلي أمراض القلوب ومنها الخوف‏,‏ والوسوسة‏,‏ والشك‏,‏ وقد أثبتت الدراسات النفسية أنها حقائق علمية لم تكن معروفة وقت تنزل القرآن الكريم‏.‏
وتشبيه قسوة قلوب اليهود بأنها أشد من قسوة الحجارة لأن من الحجارة ما يلين بتفجرها بالأنهار‏,‏ أو بتشققها وخروج الماء منها‏,‏ أو بهبوطها من خشية الله‏(‏ تعالي‏),‏ وقسوة قلوب اليهود لا تلين أبدا‏.‏

‏(8)‏ الحديث عن المشرق الحقيقي والمغرب الحقيقي للأرض مما يشير إلي وسطيتها للكون‏,‏ وهي مما لايستطيع العلم الكسبي إدراكه‏.‏
‏(9)‏ الإشارة إلي خلق السماوات والأرض‏,‏ واختلاف الليل والنهار‏,‏ وإلي الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس‏,‏ وبأن ذلك كله لله‏.‏

‏(10)‏ الإشارة إلي تصريف الرياح‏,‏ وإلي السحاب المسخر بين السماء والأرض وهي حقائق لم تدرك بشئ من التفصيل إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين‏.‏
‏(11)‏ وصف الأهلة بأنها مواقيت للناس والحج‏.‏

‏(12)‏ الإشارة إلي أذي المحيض‏,‏ والنصيحة باعتزال النساء في فترة المحيض وقد أثبتت الدراسات الطبية صحة ذلك‏.‏
‏(13)‏ التأكيد علي ما في كل من الخمر والميسر من آثام تفوق أية منافع يمكن أن تجتني من وراء الخوض في آثامهما‏.‏
‏(14)‏ التأكيد علي حقيقة أن الجنة‏(‏ أي الحديقة ذات الأشجار الكثيفة الملتفة علي بعضها البعض‏)‏ بالربوة المرتفعة عن كل من الهضاب والسهول المحيطة بها إذا اصابها وابل‏(‏ أي مطر غزير‏)‏ آتت أكلها ضعفين لأن احتمال إغراقها بماء المطر الغزير غير وارد لسرعة انحسار الماء عنها بعد أخذ كفايتها منه نظرا لارتفاعها فوق أعلي منسوب للسهول المحيطة بها‏.‏

وفي حالة عدم هطول المطر الغزير فإن الطل أي رذاذ المطر الخفيف أو الندي‏)‏ يكفيها لري نباتاتها وطيب ثمارها ووفرة عطائها‏.‏
والمقصود بذلك أن الجنة بالربوة العالية تزكو وتزدهر وتثمر وتجود بعطائها سواء كثر المطر عليها أو قل‏.‏

وقد وصفت سورة البقرة إنفاق الصالحين من عباد الله‏,‏ الذين لايبغون من وراء إنفاقهم إلا مرضاة الله والثبات علي الحق بأنه يزكو عند الله ويطيب‏(‏ زاد قدره أم قل‏)‏ تماما كما يزكو عطاء الجنة بالربوة العالية زاد المطر عليها أو قل‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا العلمية تحتاج إلي معالجة مستقلة‏,‏ ولذلك فإني سوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الأخيرة منها وهي المتعلقة بوصف الجنة بالربوة العالية‏,‏ وقبل الدخول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين القدامي والمعاصرين في تفسير تلك الآية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير
‏(‏البقرة‏:265)‏

‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:‏ وهذا مثل المؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضات الله عنهم في ذلك‏(‏ وتثبيتا من أنفسهم‏)‏ أي وهم متحققون ومتثبتون أن الله سيجزيهم عن ذلك أوفر الجزاء‏..‏
قال الشعبي‏:(‏ وتثبيتا من أنفسهم أي تصديقا ويقينا‏).‏

وقوله تعالي‏:‏ ـ‏(‏كمثل جنة بربوة‏)‏ أي كمثل بستان بربوة‏,‏ وهو عند الجمهور المكان المرتفع من الأرض‏,‏ وزاد ابن عباس والضحاك‏:‏ وتجري فيه الأنهار
وقوله تعالي‏:(‏ أصابها وابل‏)‏ وهو المطر الشديد‏...(‏ فآتت أكلها‏)‏ أي ثمرتها‏(‏ ضعفين‏)‏ أي بالنسبة إلي غيرها من الجنان‏,(‏ فإن لم يصبها وابل فطل‏).‏

قال الضحاك‏:‏ هو الرذاذ وهو اللين من المطر‏,‏ أي هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبدا لأنها إن لم يصبها وابل فطل‏,‏ وأيا ما كان فهو كفايتها‏,‏ وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدا بل يتقبله الله ويكثره وينميه‏,‏ كل عامل بحسبه‏,‏ ولهذا قال‏:(‏ والله بما تعملون بصير‏)‏ أي لايخفي عليه من أعمال عباده شئ
‏*‏ وجاء في تفسير الجلالين‏(‏ رحم الله كاتبيه‏)‏ ما مختصره‏:(‏ ومثل‏)‏ نفقات‏(‏ الذين ينفقون أموالهم ابتغاء‏)‏ طلب‏(‏ مرضات الله وتثبيا من أنفسهم‏)‏ أي‏:‏ تحقيقا للثواب عليه‏,‏ بخلاف المنافقين الذين لا يرجونه‏,‏ لإنكارهم له و‏(‏من‏)‏ ابتدائية‏(‏ كمثل جنة‏)‏ بستان‏(‏ بربوة‏)‏ بضم الراء وفتحها‏,‏ مكان مرتفع مستو‏(‏ اصابها وابل فأتت‏)‏ أعطت‏(‏ أكلها‏)‏ بضم الكاف وسكونها‏,‏ أي‏:‏ ثمرها‏(‏ ضعفين‏)‏ مثلي ما يثمر غيرها‏(‏ فإن لم يصبها وابل فطل‏)‏ مطر خفيف‏,‏ يصيبها ويكفيها لارتفاعها‏,‏ المعني‏:‏ تثمر وتزكو‏,‏ كثر المطر أم قل فكذلك نفقات من ذكر‏,‏ تزكو عند الله كثرت أم قلت‏(‏ والله بما تعملون بصير‏)‏ فيجازيكم به‏.‏

‏*‏ وذكر صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ ما نصه‏:(‏ وتثبيتا من أنفسهم‏)‏ أي كما أنفقوا أموالهم في سبيل الله ابتغاء مرضاته أنفقوها توطينا لأنفسهم علي حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها‏,‏ ف‏(‏ من‏)‏ بمعني اللام‏,‏ أو تثبيتا للإسلام وتصديقا به‏,‏ وتحقيقا للجزاء الموعود به من أصل أنفسهم‏,‏ فهي الدافعة له وهي المنشأ والمبتدأ‏.(‏ جنة‏)‏ تطلق علي الأشجار الملتفة المتكاثفة‏,‏ وهي الأنسب هنا‏,‏ كما تطلق علي الأرض المشتملة عليها‏.‏
‏(‏بربوة‏)‏ بمكان من الأرض مرتفع عن السيل‏,‏ والعادة في أشجار الربي أن تكون أحسن منظرا وأزكي ثمرا‏.(‏ أكلها‏)‏ ثمرها‏.‏ وكل مأكول‏:‏ أكل‏.(‏ فطل‏)‏ فمطر خفيف يكفيها لطيبها وكرم منبتها‏.‏ والطل‏:‏ أضعف المطر وهو الرذاذ‏,‏ وجمعه طلال وطلل‏.‏
والمراد‏:‏ أن هذه الجنة تزكو وتثمر‏,‏ كثر المطر أو قل‏,‏ فكذلك نفقة هؤلاء ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم تزكو عند الله وتطيب‏,‏ كثرت أو قلت‏.‏

‏*‏ وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ ما نصه‏:‏ حال الذين ينفقون أموالهم طلبا لمرضاة الله وتثبيتا لأنفسهم علي الإيمان‏,‏ كحال صاحب بستان بأرض خصبة مرتفعة يفيده كثير الماء وقليله‏,‏ فإن أصابه مطر غزير أثمر مثلين‏,‏ وإن لم يصبه المطر الكثير بل القليل فإنه يكفي لإثماره لجودة الأرض وطيبها‏,‏ فهو مثمر في الحالتين ـ فالمؤمنون المخلصون لاتبور أعمالهم ـ والله لا يخفي عليه شئ من أعمالكم‏.‏
وجاء تعليق الخبراء في الهامش بالنص التالي‏:‏ في تعبير القرآن الكريم بكلمة ربوة وهي الأرض الخصبة المرتفعة إشارة إلي ما كشفه العلم الحديث لأنه بارتفاعها تبعد عن المياه الجوفية ليغوص المجموع الجذري في التربة من غير ماء يضره‏,‏ ويتضاعف عدد الشعيرات الماصة لأكبر كمية من الغذاء للسيقان والمجموع الخضري فيتضاعف المحصول‏,‏ وللوابل من الأمطار فائدة فوق التغذية أنه يذيب بعض المواد التي لا تحتاج إليها النباتات‏,‏ ويغسلها من التربة لأن وجودها مما يعطل نمو النباتات‏,‏ كما يغسلها من الآفات‏.‏
‏*‏ وجاء في كل من تفسير الطبري والظلال‏(‏ رحم الله كاتبيه برحمته الواسعة‏)‏ وصفوة التفاسير‏(‏ جزي الله كاتبها خيرا‏)‏ كلام مشابه ولا أري حاجة إلي تكراره هنا‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
من الأمور المشاهدة أن سطح الأرض ليس تام الاستواء‏,‏ فهناك القمم السامقة للسلاسل الجبلية‏,‏ وهناك السفوح الهابطة‏,‏ لتلك السلاسل حتي تصل إلي السهول المنبسطة والممتدة إلي ما فوق مستوي سطح البحر بقليل‏.‏
وبين القمم السامقة والسهول المنبسطة نجد الروابي أو الربي‏(‏ جمع ربوة أو رابية‏),‏ والتلال جمع تل‏,‏ والأكام‏(‏ جمع أكمة‏)‏ وهي النتوءات الأرضية المختلفة دون الربوة‏,‏ ثم الهضاب‏(‏ جمع هضبة‏)‏ أو النجود‏(‏ جمع نجد‏),‏ ثم السهول ومن بعد السهول يأتي كل من المنخفضات الأرضية علي اليابسة‏,‏ والمنخفضات البحرية‏(‏ المغمورة بماء البحار والمحيطات‏),‏

ويرجع السبب في تباين تضاريس سطح الأرض إلي اختلاف التركيب الكيميائي والمعدني للصخور المكونة لها‏,‏ وبالتالي إلي اختلاف كثافة تلك الصخور‏,‏ وذلك لأن كتل الغلاف الصخري للأرض تطفو فوق نطاق من الصخور شبه المنصهرة يعرف باسم نطاق الضعف الأرضي يحكمها في ذلك قانون الطفو‏:‏ تماما كما تطفو جبال الجليد في ماء المحيطات‏.‏
ويصل ارتفاع أعلي نقطة علي سطح الأرض‏(‏ وهي قمة جبل إفرست في سلسلة جبال الهمالايا‏)‏ إلي‏8848‏ مترا فوق مستوي سطح البحر‏,‏ بينما يقدر منسوب أخفض نقطة علي اليابسة‏(‏ وهي حوض البحر الميت‏)‏ بحوالي الأربعمائة متر تحت مستوي سطح البحر‏,‏ ويقدر متوسط منسوب سطح اليابسة بحوالي‏840‏ مترا فوق مستوي سطح البحر‏.‏
وفي المقابل يصل أكثر أغوار المحيطات عمقا‏(‏ وهو غور ماريانا في قاع المحيط الهادي بالقرب من جزر الفلبين‏)‏ إلي أكثر قليلا من‏(11)‏ كيلو مترا‏,‏ بينما يصل متوسط أعماق المحيطات إلي حوالي الأربعة كيلو مترات‏(3729‏ إلي‏4500‏ متر‏)‏ تحت مستوي سطح البحر‏.‏

وهذا التباين في المناسيب وفر عددا هائلا من البيئات التي يتناسب كل منها مع أنواع محددة من صور الحياة‏,‏ ومن ذلك أن أشجار الفاكهة والكستناء وأشجار الثمار بصفة عامة تجود في الهضاب والنجود والروابي دون الألف متر فوق مستوي سطح البحر‏,‏ بينما يتوقف نمو الحبوب ودرنات البطاطس عند حوالي الألفي متر فوق مستوي سطح البحر‏(2160‏ مترا تقريبا‏)‏ ويصل الحد الأعلي لنمو الغابات إلي حوالي‏2660‏ مترا فوق مستوي سطح البحر‏.‏
وتحديد بيئة الروابي للجنة المضروب بها المثل في الآية الكريمة التي نحن بصددها تحديد معجز لأن هذه البيئة هي أفضل البيئات المعروفة لنا لنمو أشجار الفاكهة ولنمو كل من أشجار الثمار الأخري كالزيتون واللوزيات والصنوبريات وغيرها وذلك لأن بيئة الروابي تتميز بلطف مناخها‏,‏ ووفرة مائها‏,‏ وزيادة فرص تعرضها لأشعة الشمس‏,‏ ولأمطار السماء‏,‏ ولرطوبة الجو‏,‏ ولحركة الرياح‏,‏ ولتجدد الهواء حولها‏,‏ وكذلك فهي أنسب البيئات لنمو الأشجار بصفة عامة‏,‏ ولنمو أشجار الثمار بصفة خاصة‏.‏

فالروابي من أشكال سطح الأرض المستوية والمرتفعة فوق مستوي سطح البحر ارتفاعا متوسطا يتراوح بين الثلاثمائة والستمائة متر‏.‏ لأنها دون الجبل وفوق التل‏,‏ وعلي ذلك فإن ماء المطر لايغرقها مهما انهمر بغزارة لاندفاعه بالجاذبية إلي المستويات الأقل في منسوبها من الربوة في المنطقة المحيطة بها وذلك بعد تشبع تربتها وصخورها بالقدر اللازم من الماء المرطب لها والمخزون فيها‏.‏ وضبط هذا المخزون المائي يساعد النبات علي القيام بجميع أنشطته الحيوية بكفاءة دون إغراق أو جفاف‏,‏ وذلك لأن الجفاف يقضي علي النبات‏,‏ كما أن الإغراق بالماء‏,‏ أو الزيادة في مخزون الصخور والتربة منه يؤدي إلي تعفن جذوره وتعطنها وتحللها مما يؤدي كذلك إلي القضاء عليه‏.‏
وعند هطول المطر علي الربوة فإن كلا من تربتها وصخورها‏,‏ والنباتات النامية عليها يأخذ كفايته من الماء بينما يفيض الزائد عن تلك الكفاية إلي المناسيب الأخفض حتي يصل إلي الأودية والسهول المحيطة بالربوة‏.‏ ويساعد انضباط كمية المخزون المائي في تربة وصخور الربوة علي امتداد المجموع الجذري للنباتات بصفة عامة‏,‏ وللأشجار منها بصفة خاصة إلي أبعاد أعمق في كل من التربة والصخور مما يضاعف من كمية العناصر والمركبات التي يتاح لجذور النبات الوصول إليها وامتصاصها مع عصارته الغذائية التي تستخلصها تلك الجذور من الأرض‏,‏ كما يساعد علي زيادة تثبيت النباتات بالأرض ومقاومته لشدة هبوب الرياح‏,‏ وغيرها من المتغيرات البيئية‏.‏

ومن مميزات بيئة الروابي أنها إذا نزلت بها الأمطار هاطلة تضاعف إنتاجها وإذا تضاءلت الرطوبة في الجو من حولها إلي الرذاذ أو الندي فقط فإنها تعطي ثمارها وافرة‏,‏ لأن نباتات الربوة يمكنها الاستفادة بماء المطر مهما قل وبماء الندي الذي يتكثف من حولها بمعدلات أعلي من تكثفة في السهول أو في بطون الأودية المغلقة خاصة في المناطق الجافة‏.‏
وعلي ذلك فإن إثمار كل من أشجار الفاكهة‏,‏ وغيرها من أشجار الثمار الأخري كالزيتون واللوزيات والصنوبريات يجود بشكل ملحوظ في الروابي المرتفعة فوق مستوي سطح البحر عنها في السهول المنبسطة والأودية المغلقة‏,‏ وذلك لأنها إذا أصابها المطر الغزير افادها ولم يضرها لسرعة انحسار مائه عنها بعد ريها ريا كافيا فتتحسن وتثمر ثمرا مضاعفا وإن لم يصبها هذا الوابل من المطر الغزير فإن الرذاذ الخفيف أو الندي المتكثف حولها يمكن ان يوفيها حاجتها من الماء فتستمر في الحياة وتؤتي أكلها بإذن الله‏.‏

هذا وقد شبهت الآية الكريمة المؤمنين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله‏,‏ ابتغاء مرضاته‏,‏ وابتغاء التثبيت من أنفسهم‏(‏ مهما تكن إمكاناتهم المادية‏)‏ بالجنة من الأشجار المثمرة النامية علي الربوة المرتفعة تحت ظروف بيئية طيبة وفرت لها كل أسباب النماء والعطاء فأثمرت وأعطت بسخاء شديد إذا نزل عليها ماء المطر‏,‏ وبسخاء أيضا إذا قل عليها المطر‏,‏ فعطاؤها لايتوقف ولا ينقطع تحت مختلف الظروف وكذلك المؤمنون الذين ينطلقون من منطلق الإيمان الجازم بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الرزاق ذو القوة المتين فيبذلون في سبيله سواء كثرت إمكاناتهم أو قلت‏,‏ وذلك طلبا لمرضاته‏,‏ وتثبيتا من أنفسهم لأن من وسائل تربية النفس الإنسانية إخراج المال في سبيل الله‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير
‏(‏البقرة‏:265)‏

وفي هذه الآية الكريمة إشارة واضحة إلي تفضيل زراعة أشجار الثمار في أراضي الروابي بصفة عامة‏,‏ وهي أراض مسطحة مرتفعة‏,‏ دون الجبل‏,‏ وفوق التل‏(‏ يتراوح ارتفاعها بين ثلاثمائة وستمائة من الأمتار فوق مستوي سطح البحر‏),‏ وهذه حقيقة علمية أثبتتها التجارب علي مدي عقود متتالية‏,‏ وورودها في كتاب الله الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة علي نبي أمي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين وكانت تعيش في صحراء جرداء قاحلة‏,‏ لاتعرف الجنات ولا تعرف الأشجار المثمرة غير نخيل التمر وبعض الأعناب إلا في أماكن محدودة جدا منها‏,‏ ومن هنا يأتي هذا الوصف القرآني شاهدا للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏
ولكونه الرسالة الخاتمة فقد تعهد ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بحفظه بنفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ فحفظه كلمة كلمة‏,‏ وحرفا حرفا‏,‏ من أية زيادة أو نقص‏,‏ أو تبديل أو تغيير علي مدي يزيد علي الأربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها وذلك تحقيقا للوعد الإلهي الذي قال‏(‏ تعالي‏)‏ فيه‏:‏
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
‏(‏الحجر‏:9)‏

فالحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏,‏ والحمدلله في الآخرة والأولي والصلاة والسلام علي خاتم الأنبياء والمرسلين‏,‏ وعلي آله وصحبه‏,‏ ومن تبع هداه‏,‏ ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏.‏