89)‏ إن الله فالق الحب والنوي‏...*‏
بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هذا النص القرآني جاء في مطلع النصف الثاني من سورة الأنعام‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ ومن طوال سور القرآن الكريم إذ يبلغ عدد آياتها‏165‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي الأنعام في أكثر من موضع‏;‏ ومن خصائص هذه السورة المباركة أنها أنزلت دفعة واحدة‏.‏
وقد استهلت سورة الأنعام بحمد الله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي خلق السماوات والأرض‏,‏ وجعل الظلمات والنور‏,‏ وعلي الرغم من ذلك كله يكفر بنعمه الكافرون‏,‏ ويشرك بجلاله وبوحدانيته المشركون دون أدني قدر من البصيرة أو العقل‏.‏

ثم انتقلت السورة الكريمة بالإشارة إلي خلق الإنسان من طين‏,‏ وإلي تحديد آجال المخلوقين في سجل مدون عند رب العالمين‏,‏ وعلي الرغم من ذلك يجادل الكافرون في إمكانية البعث والنشور‏,‏ وترد عليهم الآيات بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو رب السماوات والأرض ومن فيهن‏,‏ الذي يعلم السر والجهر‏,‏ ويعلم ماتكسب كل نفس‏.‏
ثم تتجه السورة بالخطاب إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بأن المشركين لاتأتيهم آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين‏,‏ فقد كذبوا بالقرآن الكريم ولذلك فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون من خزي في الدنيا‏,‏ وعذاب في الآخرة‏,‏ وهو صائبهم لا محالة‏,‏ وتذكرهم الآيات بأمم كثيرة من قبلهم أهلكهم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بذنوبهم بعد أن اعطاهم من أسباب القوة المادية والتمكين في الأرض مالم يعط كفار قريش‏,‏ فلم يشكروا نعم الله‏(‏ تعالي‏)‏ ولذلك قضي عليهم‏,‏ وأنشأ من بعدهم قوما آخرين‏.‏

وتضيف سورة الأنعام أنه لو أنزل دليل نبوة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ مكتوبا في كتاب يراه الكفار والمشركون بأم أعينهم نازلا من السماء ولمسوه بأيديهم لقالوا‏:‏ إن هذا إلا سحر مبين‏,‏ ولطالبوا بملك ينزل من السماء يصدق دعوي هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏ ثم يرد الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ عليهم بأنه لو أنزل ملكا ولم يؤمنوا به لقضي الأمر بإهلاكهم دون إمهال‏,‏ ولو أنزل‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ملكا لأنزله علي هيئة البشر حتي يستطيعوا رؤيته‏,‏ والفهم عنه لأنهم ببشريتهم لايستطيعون رؤية الملك وهو في هيئته الملائكية‏,‏ وإذن لا لتبس عليهم الأمر ولوقعوا في نفس الخطأ الذي هم فيه واقعون‏...,‏ وما انطبق علي كفار قريش ومشركيها ينطبق علي الملايين من منكري البعثة المحمدية الشريفة ممن جاءوا بعد قريش إلي قيام الساعة‏.‏
وتعاود سورة الأنعام توجيه الخطاب إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في مواساة رقيقة بأن الكفار قد سخروا برسل من قبله فحاق بالذين سخروا ماكانوا به يستهزئون‏,‏ وتأمره الآيات‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن يقول للكافرين‏:‏ سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏,‏ وأن يسألهم‏:‏ لمن ما في السماوات والأرض؟ وأن يؤكد لهم أن ذلك كله لله الذي كتب علي نفسه الرحمة بخلقه‏,‏ وقرر أنه جامعهم جميعا إلي يوم القيامة الذي لاشك فيه‏,‏ وأن الذين لايؤمنون بالله واليوم الآخر قد خسروا أنفسهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين‏.‏ وتتابع الآيات خطابها إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ فتأمره ان يقول لكفار زمانه‏,‏ وللكافرين في كل عصر وحين من بعده‏:‏ هل يعقل ـ بعد كل هذه الأدلة ـ أن أتخذ وليا غير الله الذي خلق السماوات والأرض علي غير مثال سابق‏,‏ وهو الذي يطعم عباده بإمدادهم‏,‏ بمختلف أنواع الرزق‏,‏ وهو غني عن ذلك كله وعنهم أجمعين‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد امره بأن يكون أول المسلمين‏,‏ وأن يؤكد مخافته‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ من عذاب الآخرة‏;‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ إذا أصاب عبدا من عباده بسوء فلا كاشف له إلا هو‏,‏ وإذا أصابه بخير فلا راد لفضله‏,‏ لأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ علي كل شيء قدير‏,‏ وهو‏(‏ تعالي‏)‏ الغالب بقدرته فوق عباده‏.‏

وتعاود الآيات مطالبة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بأن يسأل المكذبين بنبوته ولرسالته‏(‏ من زمانه وإلي قيام الساعة‏)‏ فيقول‏:‏ أي شئ أكبر وأعظم شهادة؟ وأحق بالتصديق من الله‏(‏ تعالي‏)‏ منزل القرآن الكريم عليه حجة له علي جميع الخلق؟ حجة شاهدة علي صدق نبوته‏,‏ ورسالته‏,‏ ولينذر قريشا وكل من بلغه خبره‏,‏ ويحذرهم من جريمتي الشرك والكفر بالله‏.‏
وتقرر الآيات في سورة الأنعام أن أهل الكتاب يعرفون خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ كمعرفتهم أبناءهم وذلك من نصوص كتبهم المحرفة والتي بقيت بها بعض بقايا الحق القديم‏.‏ وعلي ذلك فإن عدم الإيمان ببعثة المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يجعل الكافرين به وببعثته يخسرون أنفسهم خسرانا بينا‏,‏ لأنه ليس في الوجود أظلم لنفسه من إنسان افتري علي الله الكذب أو كذب بآياته‏,‏ أو أشرك به أو كفر بنعمائه أو ادعي نسبة الصاحبة أو الولد لله‏(‏ تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا‏)‏ أو نسبة غير ذلك من الأوصاف التي لاتليق بجلال الله‏.‏ ومثل هؤلاء الظالمين لا فلاح لهم في الدنيا‏.‏ ولا نجاة لهم في الآخرة‏.‏

وتشير الآيات إلي أن هؤلاء المشركين سوف يسألون يوم القيامة‏:‏ أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ فيحاولون التخلص من شركهم بالكذب علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي يقسمون به أنهم لم يكونوا مشركين‏.‏
ومن هؤلاء المشركين من كان يستمع إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ـ وهو يتلو القرآن الكريم ـ لابقصد فهمه‏,‏ والاهتداء بهديه‏,‏ وإنما بقصد تلمس السبل للطعن فيه‏,‏ والسخرية منه‏,‏ وما أكثر الطاعنين في الحق والساخرين منه في زماننا وإلي قيام الساعة‏,‏ وهؤلاء المشركون في القديم والحديث محرومون من الانتفاع بما يسمعون‏,‏ وقلوبهم محجوبة عن رؤية حجيته‏,‏ وآذانهم قد اصابها الصمم فلا تسمع جمال نظمه‏,‏ وروعة تعبيراته‏,‏ وجلال معانيه‏,‏ وعقولهم قد اغلقت دون فهم أدلته‏,‏ واستيعاب آياته لدرجة انهم يرون الدليل واضحا جليا فلا يؤمنون به‏,‏ ويجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق‏,‏ فتارة يتخيلون التناقض في القرآن الكريم وليس به من تناقض‏,‏ وتارة يدعون كذبا أنه من اساطير الأولين وما هو بذلك أبدا في محاولات يائسة للصد عنه‏,‏ والاستخفاء من نوره في دياجير الضلال والظلام وهم يتوهمون الهروب عن هديه‏,‏ ولا يدركون أنهم بذلك إنما يهلكون أنفسهم وهم لايشعرون والتاريخ يعيد نفسه فكما كان هذا هو حال المشركين في زمن البعثة المحمدية‏(‏ علي صاحبها أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏)‏ يتكرر في زماننا علي هيئة قطعان من الجرذان البشرية المذعورة والمستترة خلف شاشات شبكات المعلومات الدولية المعروفة باسم الشبكات العنكبوتية‏(‏ أو الإنترنت‏)‏ فيملأون صفحاتها بتجنيهم علي الله وعلي رسوله وكتابه بألفاظ لاتليق بأقل الناس أدبا أو ذوقا أو فهما أو علما‏...!!!‏

وترد الآيات في سورة الأنعام علي هؤلاء المتطاولين علي الحق في القديم والحديث وإلي ان يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها ـ بالإشارة إلي موقفهم وهم يعرضون علي النار‏,‏ ويعانون من أهوالها‏,‏ فيصرخون متمنين الرجوع إلي الدنيا لإصلاح ما قد أفسدوا فيها‏,‏ ومعاودة التصديق بآيات ربهم‏,‏ وبخاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ حتي يكونوا من الناجين‏,‏ وهم لن يقولوا ذلك إلا من رهبة ما يشهدون من ألوان العذاب المبين‏,‏ وتقرر الآيات انهم لو ردوا إلي الحياة الدنيا لعادوا إلي كفرهم الذي نهوا عنه‏,‏ وإلي كذبهم علي الله‏,‏ وافترائهم علي أنبيائه ورسله‏,‏ ولقالوا كما رددوا من قبل قولتهم الكافرة‏:...‏ إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين‏*)‏
‏(‏ الأنعام‏:29).‏

وتعاود الآيات استعراض موقف هؤلاء الكافرين والمشركين وقد وقفوا للحساب أمام ربهم الذي يسألهم‏:‏ أليس هذا بالحق الذي كذبتم به‏,‏ وأنكرتموه في دنياكم؟ فيجيبون في ذلة‏:‏ بلي وربنا إنه الحق‏!!‏ فيرد الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليهم بأمره أن يذوقوا عذاب النار في الآخرة جزاء كفرهم في الدنيا‏...!!!‏
وبذلك تقرر الآيات في سورة الأنعام أن الذين كذبوا بلقاء الله‏,‏ أو أشركوا به‏,‏ وظلوا علي إنكارهم حتي فاجأتهم مشاهد الآخرة قد خسروا خسرانا مبينا‏,‏ وأن الحياة الدنيا ماهي إلا لعب ولهو ـ لقصر أجلها‏,‏ وقلة خطرها ـ وأن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية لأبديتها وخلودها‏.‏

وتعاود الآيات توجيه الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في مواساة جميلة لتكذيب الكافرين والمشركين ببعثته الشريفة وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لايكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون‏*‏ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا علي ما كذبوا وأوذوا حتي أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين‏*(‏ الأنعام‏:34,33).‏
ثم تحدثت الآيات عن عدد من الأمم السابقة الذين كانوا إذا جاءهم بأس الله تضرعوا إليه ليكشف عنهم العذاب‏,‏ وبدلا من العودة إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعد رفع العذاب عنهم تصفهم الآيات بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏....‏ ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون‏*)(‏ الأنعام‏:43).‏

فلما نسوا الاتعاظ بالابتلاء مد الله‏(‏ تعالي‏)‏ لهم‏,‏ وفتح عليهم أبواب كل شئ ليأخذهم أخذ عزيز مقتدر وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتي إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون‏*‏ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمدلله رب العالمين‏*(‏ الأنعام‏:45,44).‏
وكما انطبق ذلك علي الأمم السابقة من أهل الكفر والضلال ينطبق اليوم علي غطرسة الصهاينة وغلاة غيرهم من أهل الشرك والكفر والضلال في زماننا‏,‏ والذين فتح الله لهم أبواب العلوم والتقنية فأغراهم ذلك بالاعتداء علي غيرهم من الأمم باجتياحات رهيبة كالتي حدثت ولا تزال تحدث في كل من فلسطين وافغانستان والعراق‏,‏ وغيرها من أراضي المسلمين‏,‏ مما سوف يعجل بدمارهم إن شاء الله رب العالمين‏.‏

وأردفت الآيات بالإشارة إلي عدد من نعم الله علي عباده‏,‏ وحذرت من هلاك الظالمين يوم يأتي عذاب الله بغتة‏,‏ وأكدت أن رسالة المرسلين هي البشارات والنذر وتعاود بتوجيه الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ أن يبلغ الكفار والمشركين بأنه يتبع مايوحي إليه من ربه لينذر‏...‏ الذين يخافون أن يحشروا إلي ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون‏*(‏ الأنعام‏:51).‏
وتقرر الآيات أن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قد امتحن المتكبرين من عباده بسبق المستضعفين إلي الإسلام‏,‏ وتستمر في استنكار شرك المشركين‏,‏ متبرئة إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ منهم ومن شركهم‏,‏ ومؤكدة صدق ما جاء به القرآن الكريم في حقهم‏.‏

ثم تهدد الآيات بوعد الله ووعيده في الدنيا قبل الآخرة‏,‏ وتنهي عن الجلوس في مجالس الكفار وهم يتطاولون علي القرآن الكريم بالطعن في صحته‏,‏ أو بالسخرية مما جاء فيه من الحق‏,‏ وتأمر بالرد علي تطاولهم الكاذب لعلهم يكفون عن باطلهم‏,‏ كما تأمر بتذكيرهم بالآخرة وأهوالها‏,‏ يوم ترتهن كل نفس بعملها‏,‏ وحيث لا ناصر ولا معين إلا الله‏(‏ تعالي‏),‏ ولاتقبل فدية للنجاة من العذاب‏.‏
وتأمر الآيات كذلك بالإعراض عن المشركين بعد دعوتهم إلي الدين الحق‏,‏ وبالانصراف إلي عبادة الله الواحد القهار‏,‏ وأداء الصلاة بحقها من الخشوع والخضوع لله‏(‏ تعالي‏)‏ وتقواه‏,‏ فإن مصير الخلق جميعا إلي الله‏...!!!‏

بعد ذلك تنتقل سورة الأنعام بالإشارة إلي جوانب من سير عدد من أنبياء الله‏,‏ مؤكدة وحدة رسالة السماء التي تكاملت في بعثة النبي الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏
وتستعرض الآيات وصف حال الظالمين وهم في غمرات الموت‏,‏ والملائكة ينزعون أرواحهم من أجسادهم‏,‏ وينذرونهم بالعذاب المذل المهين جزاء ما كانوا يتقولون علي الله بغير الحق‏,‏ ويتطاولون علي آيات القرآن الكريم بالتكذيب‏,‏ ويستكبرون عن النظر في أنفسهم وفي الكون من حولهم لاستقراء آيات الله في الآفاق والاعتبار بها‏.‏ فعلي الرغم من الأدلة القاطعة في كل ذلك علي ألوهية الله‏,‏ وربوبيته‏,‏ ووحدانيته‏,‏ فإن الكافرين قد أشركوا الجن بالله‏(‏ تعالي‏)‏ واختلقوا له‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ البنين والبنات‏,‏ وفي ذلك ترد عليهم الآيات بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

بديع السماوات والأرض أني يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم‏*‏ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو علي كل شئ وكيل‏*‏ لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير‏*(‏ الأنعام‏:101‏ ـ‏103).‏
وتتابع الآيات التأكيد علي صدق القرآن الكريم في كل ما جاء به‏,‏ وعلي كذب الكافرين الذين أقسموا علي أنه إذا جاءتهم آية ليؤمنن بها‏,‏ وذلك لما أصاب قلوبهم من ظلام الكفر بالله أو الشرك به‏,‏ فإذا جاءت كل آية فلن يؤمنوا بها أبدا إلا أن يشاء الله‏.‏

وتقرر الآيات أن كل نبي من أنبياء الله قد جوبه بأعداء من عتاة الإنس والجن وذلك ليمحص الله عباده المؤمنين‏,‏ وليختبر غيرهم ممن لا يؤمنون بالآخرة‏.‏
ولما قال المشركون للمؤمنين‏:‏ أتأكلون ما قتلتم أنتم‏(‏ أي ذبحتم‏)‏ ولا تأكلون ما قتل ربكم‏(‏ أي الميتة‏)‏؟ نزل قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين‏*(‏ الأنعام‏:118).‏

وبينت الآيات ما حرمه الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي عباده المؤمنين من المطعومات التي لايجوز أكلها إلا ما دعت إليه الضرورة‏.‏
وتنتقل الآيات إلي استعراض عدد من آيات الله في الكون‏,‏ مؤكدة أن الإسلام العظيم هو صراط الله المستقيم‏,‏ وواصفة جانبا من أحوال الكافرين في يوم الدين‏,‏ والملائكة يدفعون بهم إلي النار جزاء كفرهم بالله وآياته‏,‏ وناقضة ما ابتدعته أوهام هؤلاء الكافرين من زعم باطل بأنهم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا‏,‏ ولشركائهم الذين أشركوهم مع الله‏(‏ تعالي‏)‏ ـ ظلما وعدوانا ـ نصيبا آخر‏,‏ فما يجعلونه للأوثان يصل إليها‏,‏ ومايجعلونه لله لايصل شئ منه إلي الفقراء والمساكين‏.‏ كذلك زينت لهم أوهامهم قتل أولادهم ذبحا تقربا لأوثانهم‏,‏ وسوف ينالون العقاب علي ذلك من الله الذي لو شاء مافعلوه‏;‏ ومن ذلك تحريمهم لأنعام معينة‏,‏ ومحاصيل محددة لا يأكلها أحد إلا من يختارون من خدمة أوثانهم‏,‏ وأنعام حرموا ركوبها‏,‏ وأنعام لايذكرون اسم الله عليها عند ذبحها افتراء علي الله‏,‏ ومن أوهامهم التي ابتدعوها القول بأن ما في بطون الأنعام التي حرموا ذبحها أو ركوبها من أجنة هي خالصة للذكور منهم دون الإناث‏,‏ فإذا نزلت ميتة فهم فيها شركاء مدعين كذبا أن هذا تشريع من الله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي سوف يجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم‏,‏ وتوصي الآيات رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن يتركهم ومايفترون علي الله من الكذب الذي سوف ينالون العقاب الرادع عليه إن شاء الله‏(‏ تعالي‏).‏

وتؤكد الآيات أن الإسلام العظيم بريء من الذين فرقوا الدين الواحد بالعقائد الزائفة‏,‏ والتشريعات الباطلة‏,‏ وصاروا بذلك فرقا دينية متعددة‏,‏ والرسول الخاتم ليس مسئولا عن انحرافاتهم وعصيانهم لأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده هو الذي يملك أمرهم ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون‏.‏
وتختتم السورة الكريمة بتقرير وحدة الدين مرة أخري وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي لسان خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏

قل إنني هداني ربي إلي صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين‏*‏ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين‏*‏ لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين‏*‏ قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شئ ولاتكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخري ثم إلي ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون‏*‏
‏(‏الأنعام‏:161‏ ـ‏164).‏

هذا وقد سبق لنا تلخيص كل من ركائز العقيدة‏,‏ وقواعد التشريع التي جاءت في سورة الأنعام‏,‏ والآيات الكونية التي استشهدت بها‏,‏ ولا أري حاجة إلي إعادة ذلك مرة أخري هنا‏,‏ كما سبق أن تناولنا عددا من الآيات الكونية في هذه السورة المباركة‏,‏ ونضيف هنا الدلالة العلمية لقول الحق تبارك وتعالي‏:‏
إن الله فالق الحب والنوي‏.....*(‏ الأنعام‏:95).‏
وقبل الوصول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين السابقين والمعاصرين في شرح هذا النص القرآني المبارك‏.‏

من أقوال المفسرين
‏*‏ جاء في مختصر تفسير ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ مانصه‏:‏ يخبر تعالي أنه فالق الحب والنوي‏,‏ أي يشقه في الثري فتنبت منه الزروع علي اختلاف اصنافها من الحبوب‏,‏ والثمار علي اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها من النوي‏,‏ ولهذا فسر قوله‏:(‏ فالق الحب والنوي‏)‏ بما جاء بعدها‏....‏
‏*‏ وذكر صاحبا تفسير الجلالين‏(‏ رحمهما الله‏)‏ ما مختصره‏:(‏ إن الله فالق‏)‏ شاق‏(‏ الحب‏)‏ عن النبات‏(‏ والنوي‏)‏ عن النخل‏...‏

‏*‏ وجاء في الظلال‏(‏ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة‏)‏ مانصه‏:...‏ إنها المعجزة التي لايدري سرها أحد‏,‏ فضلا علي أن يملك صنعها أحد‏!!‏ معجرة الحياة نشأة وحركة‏...‏ وفي كل لحظة تنفلق الحبة الساكنة عن نبتة نامية‏,‏ وتنفلق النواة الهامدة عن شجرة صاعدة‏.‏ والحياة الكامنة في الحبة والنواة‏,‏ النامية في النبتة والشجرة‏,‏ سر مكنون‏,‏ لايعلم حقيقته إلا الله‏;‏ ولا يعلم مصدره إلا الله‏...‏ وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الحياة وأشكالها‏,‏ وبعد كل مادرست من خصائصها وأطوارها‏...‏ تقف أمام السر المغيب كما وقف الإنسان الأول‏,‏ تدرك الوظيفة والمظهر‏,‏ وتجهل المصدر والجوهر‏,‏ والحياة ماضية في طريقها‏,‏ والمعجزة تقع في لحظة‏!!!.‏
‏*‏ وذكر صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ ما نصه‏:(‏ إن الله فالق الحب والنوي‏)‏ شروع في ذكر دلائل كمال القدرة والعلم والحكمة‏,‏ بعد تقرير دلائل التوحيد والنبوة‏.‏ و‏(‏فالق‏)‏ أي شاق‏,‏ يشق الحبة اليابسة كالحنطة فيخرج منها النبات الأخضر النامي‏,‏ ويشق النواة اليابسة فيخرج منها النخلة والشجرة النامية‏....‏

‏*‏ وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزاهم الله خيرا‏)‏ ما نصه‏:‏ إن دلائل قدرة الله علي البعث‏,‏ واستحقاقه وحده للعبادة‏,...‏ متوافرة متنوعة‏,‏ فهو وحده الذي يشق الحب‏,‏ ويخرج منه النبات‏,‏ ويشق النوي ويخرج منه الشجر‏,....‏
وجاء في تعليق الخبراء بالهامش ما يلي‏:‏ من دلائل قدرة الله سبحانه وتعالي خلق الحب والنوي والجنين في كل مكان منها يشغل حيزا ضيقا‏,‏ أما باقي جسم الحبة أو النواة فيتكون من مواد مكتنزة غير حية‏,‏ وعندما يتنبه الجنين ويبدأ في الإنبات تتحول هذه المواد المكتنزة إلي حالة صالحة لتغذية الجنين‏,‏ ويبدأ في النمو‏,‏ وتتكون الخلايا الحية حتي تنتقل الحبة النابتة من طور الإنبات إلي طور البادرة فيبدأ النبات في الاعتماد علي غذائه من الأملاح المذابة في ماء التربة التي يمتصها الجذير مع ما تكونه الأوراق الخضراء من مواد كربوايدراتية كالسكريات والنشويات في وجود ضوء الشمس‏,‏ وعندما تتم دورة حياة النبات تتكون الثمار وبداخلها الحب أو النوي من جديد‏.‏

‏*‏ وجاء في صفوة التفاسير‏(‏ جزي الله كاتبها خيرا‏)‏ مانصه‏:‏ عاد الكلام إلي الاحتجاج علي المشركين بعجائب الصنع ولطائف التدبير فقال سبحانه‏:(‏ إن الله فالق الحب والنوي‏)‏ أي يفلق الحب تحت الأرض لخروج النبات منها‏,‏ ويفلق النوي لخروج الشجر منها وقال القرطبي‏:‏ أي يشق النواة الميتة فيخرج منها ورقا أخضر وكذلك الحبة‏....‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
للبذور النباتية اسمان متمايزان أولهما‏(‏ الحب‏)‏ وثانيهما‏(‏ النوي‏),‏ ويعبر بلفظة‏(‏ الحب‏)‏ أو‏(‏ الحبوب‏)‏ عن البذور المستخدمة كمحاصيل غذائية أساسية للإنسان من مثل حبوب القمح‏(‏ الحنطة‏)‏ والشعير‏,‏ والذرة‏,‏ والشوفان وكلها من بذور النباتات الوعائية‏,‏ المزهرة‏,‏ ذات البذور المكونة من فلقة واحدة‏,‏ أما البذور ذات الفلقتين فيطلق عليها اسم‏(‏ البذور‏)‏ من مثل بذور العائلة القرنية التي منها الفول‏,‏ والحمص‏,‏ البازلاء‏,‏ الفاصوليا‏,‏ اللوبيا‏,‏ العدس‏,‏ الترمس‏,‏ فول الصويا‏,‏ الفول السوداني‏,‏ الحلبة‏,‏ البامية‏,‏ كما قد تطلق علي البذور التي لا يأكلها الإنسان من مثل بذور البرسيم‏,‏ والقطن وغيرها‏.‏ أما البذور التي لها قدر من الصلابة فيطلق عليها اسم النوي‏(‏ ومفردها نواة‏)‏ كما قد تجمع علي أنواء‏,‏ وذلك مثل نواة كل من البلح‏,‏ والمشمش‏,‏ والبرقوق‏,‏ والخوخ‏,‏ والزيتون وغيرها‏,‏ واللفظة تذكر وتؤنث‏,‏ وقد وردت في القرآن الكريم مرة واحدة‏.‏ وأيا كانت طبيعة غلاف أو اغلفة البذرة رقيقة هشة‏,‏ أو سميكة خشبية أو قرنية صلبة فإن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد اعطي للجنين الكامن بداخلها القدرة علي شقها وفلقها بمجرد توافر الشروط اللازمة لإنباته‏,‏ وذلك من أجل تيسير خروج النبتة الجنينية النامية من داخل البذرة في عملية معجزة تعرف باسم عملية إنبات البذور التي تتكاثر بها معظم النباتات الراقية‏.‏

والنباتات البذرية التي منها معظم طعوم واحتياجات الناس تضم أكثر من ربع مليون نوع من أنواع النباتات الراقية علي اختلاف أوضاعها التصنيفية‏,‏ ويمثل كل نوع منها بعشرة أصناف في المتوسط علي أقل تقدير‏,‏ ويمثل الصنف الواحد بأعداد لاتحصي من الأفراد‏,‏ ويستمر كل فرد من هذه الأفراد في التكاثر عن طريق انتشار أو استنبات بذوره إلي ما شاء الله‏.‏ وقد يطلق علي كل المحاصيل المستخدمة كمواد غذائية أساسية للانسان اسم‏(‏ الغلة‏)‏ وجمعها‏(‏ الغلال‏)‏ بمعني ما تغله الأرض‏,‏ وإن كانت لم ترد هذه اللفظة في القرآن الكريم‏..‏ وأصل كلمة‏(‏ الحبة‏)‏ مستمد من قلب كل شئ أو ثمرته‏,‏ فحبة القلب سويداؤه‏,‏ وحبة النبات ثمرته‏,‏ و‏(‏الحبة‏)‏ و‏(‏الحب‏)‏ بكسر الحاء تقال لبذور نباتات الصحراء مما ليس بقوت للإنسان من مثل بذور الأعشاب‏,‏ والرياحين‏,‏ والحشائش‏,‏ استنادا إلي ما جاء بالحديث الشريف‏:...‏ فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل‏.‏
وجاء ذكر كلمة‏(‏ حبة‏)‏ في القرآن الكريم ست مرات في خمس من الآيات‏.‏

ماهية البذور‏:‏
البذور في النباتات الراقية هي البويضات المخصبة‏,‏ وعلي ذلك فإنها هي وسيلة التكاثر في معظم هذه النباتات لأنها تحوي أجنتها الكامنة في حالة من السكون المؤقت‏,‏ والجنين يشغل حيزا ضئيلا جدا من حجم البذرة‏,‏ أما باقي حجمها فيتكون من مواد غذائية غير حية مكتنزة يحتاج إليها الجنين في مراحل إنباته الأولي حتي يخرج منه المجموع الجذري متجها إلي أسفل‏,‏ مخترقا التربة‏(‏ باحثا عن الماء والغذاء علي هيئة الأملاح المذابة في هذا الماء أو من عناصر ومركبات التربة بطرائق مباشرة أو غير مباشرة‏),‏ وحتي يندفع المجموع الخضري من الجنين إلي أعلي‏,‏ باحثا عن كل من الهواء وأشعة الشمس‏,‏ وبمجرد تكون الأوراق الخضراء‏,‏ يبدأ النبات في تصنيع الغذاء اللازم لنموه ولبناء جميع خلاياه‏,‏ وانسجته‏,‏ وازهاره‏,‏ وثماره بواسطة عملية التمثيل الضوئي‏.‏
ويغلف البذرة بما فيها من الجنين والمواد الغذائية المكتزة عدد من الأغلفة اللازمة لحمايتها من المؤثرات الخارجية‏,‏ ومن أهم هذه الأغلفة مايعرف باسم‏(‏ القصرة‏)‏ وهي تتكون من أغلفة البويضة بعد عملية الإخصاب مباشرة‏,‏ كما يتكون غلاف الثمرة من جدار المبيض فور إتمام عملية الإخصاب‏.‏

وعندما يتم نضج البذرة فإنها تجف‏,‏ ويبقي الجنين الحي بداخلها في حالة من السكون المؤقت حتي تتهيأ له الظروف المناسبة للإنبات‏.‏ ويتفاوت طول الفترة التي تمر بين نضج البذرة وصلاحيتها للإنبات تفاوتا كبيرا‏,‏ ففي بعض الحالات تكون البذور صالحة للإنبات بمجرد انطلاقها من الثمرة أو إخراجها من داخلها‏,‏ ومثل هذه البذور إذا تعرضت للجفاف فإن الجنين بداخلها قد يفقد شيئا من حيويته أو يموت‏,‏ وفي بعض النباتات الأخري قد يظـل الجنين محتفظا بحيويته في داخل البذرة‏(‏ أو الحبة أو النواة‏)‏ لسنوات عديدة كما هو الحال في العائلة القرنية‏,‏ ونوي العديد من الثمار مثل نوي نخيل البلح‏.‏
وتتباين بذور النباتات في عدد أغلفتها‏,‏ وفي شكل وطبيعة تلك الأغلفة‏,‏ وفي حجم وشكل الجنين‏,‏ وفي طبيعة خزن المواد الغذائية المصاحبة للجنين‏,‏ إما في نسيج خاص يعرف باسم الإندوسبرم‏(Endosperm)‏ أو في فلقة واحدة أو فلقتين أو أكثر‏,‏ وهذا الغذاء المختزن إما أن يكون نشويا دقيقيا أو قرنيا صلبا كما هو الحال في حبة الذرة‏,‏ أو يكون سيليولوزيا صلبا كما هو الحال في نواة ثمرة نخيل البلح‏.‏

فلق الحب والنوي‏(‏ أو إنبات البذور‏)‏
تقوم أغلفة البذور بحمايتها من المؤثرات الخارجية‏,‏ وهذه الاغلفة غالبا ما تكون مميزة وتعرف باسم القصرة‏,‏ ولكنها في بعض الأحوال قد تلتحم بجدار البذرة حتي لايمكن تمييزها‏.‏ وقد هيأ الخالق العظيم للجنين في داخل البذرة قدرا من الاتصال المحدود بالعالم الخارجي عن طريق ندبة دائرية دقيقة جدا تعرف باسم السرة وتمثل مكان ارتباط البذرة بالحبل السري‏,‏ ويوجد تحت السرة ثقب أدق منها كثيرا يعرف باسم النقير‏,‏ وتغطي هاتان الفتحتان بنسيج اسفنجي يعرف باسم البسباسة له قدرة علي امتصاص الماء‏,‏ وقد تكون هاتان الفتحتان علي هيئة شقين طوليين دقيقين فيعرفان باسم القلم والكوز‏.‏ وهذه الفتحات هي مدخل الأوكسجين إلي الجنين‏,‏ ومدخل معظم الماء الذي تمتصه البذرة وقت إنباتها‏.‏

والجنين الكامن في داخل البذرة يتكون من ثلاثة اجزاء رئيسية هي‏:‏
‏(1)‏ الريشة وتعطي المجموع الخضري بعد نموها‏,(2)‏ الجذير ويعطي المجموع الجذري بعد نموه‏,(3)‏ السويقة وتعطي الساق بعد نموها‏;‏ ويحيط بالجنين مخزون من المواد الغذائية في نسيج خاص يعرف باسم الإندوسبرم أو في فلقة واحدة أو في فلقتين أو أكثر‏,‏ وهذه المواد الغذائية المختزنة في داخل بذور النباتات تتكون من المواد الكربوهيدراتية‏,‏ والبروتينية‏,‏ والدهون بنسب تتفاوت بتفاوت نوع النبات‏.‏ فمن النباتات مغطاة البذور ذوات الفلقة الواحدة نبات الذرة‏,‏ ومن ذوات الفلقتين نبات الفول‏,‏ ومن النباتات عديدة الفلقات الصنوبر وهو من النباتات معراة البذور‏.‏ وقد تبقي الفلقة أو الفلقتان أو الفلقات تحت سطح التربة‏,‏ وقد ترتفع أو ترتفعان فوق سطح الأرض وتلعب أو تلعبان دور أوراق أولية تعرف باسم الأوراق الفلقية‏.‏

من شروط إنبات البذور
بعد فترة السكون التي عاشها الجنين في داخل البذرة الجافة‏,‏ فإن البذرة لكي تنبت وتتحول بالتدريج إلي بادرة ثم إلي النبات الكامل فإنها تحتاج إلي توافر عدد من الشروط الداخلية والخارجية‏,‏ والشروط الداخلية تتعلق بالبذرة ذاتها ومنها حيوية الجنين‏,‏ ونضج البذرة وسلامتها من التسوس والعفن‏,‏ ومن سمات نضج البذرة تخلصها من المواد الكابحة للنمو والمثبطة له من مثل الحمض الأبسيسي‏(AbscisicAcid)‏ والذي يتخلق في بعض البذور ليساعد الجنين علي السكون والكمون في داخل البذرة‏,‏ ويضمن سباته حتي تتوافر له الظروف المناسبة لإنباته‏.‏ وكثير من البذور يتوقف إنباتها علي إزالة تلك المواد المثبطة للنمو‏,‏ ويتم ذلك بواسطة الضوء والحرارة‏,‏ أو بإفراز مواد مضادة للمواد المثبطة بواسطة الجنين ذاته في داخل البذرة‏,‏ فسبحان الذي قدر ذلك بعلمه وقدرته‏.‏
ومن الشروط الداخلية توافر الإمكانية لامتصاص البذرة للقدر الكافي من كل من الماء والأكسجين عن طريق فتحات دقيقة هيأها الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في جسم البذرة من مثل السرة والنقير أو القلم والكوز‏,‏ خاصة أن بعض أنواع البذور مغطاة بطبقة خارجية صلبة قد تحول دون وصول القدر الكافي من الماء والأكسجين إلي الجنين إلا بعد أن تمر تلك الطبقة الخارجية للبذرة بسلسلة من النشاطات الطبيعية أو الكيميائية أو الميكروبية التي تعين علي تمزيقها‏.‏ ومثل هذه البذور قد يصعب استنباتها إلا بعد خدش غطائها الخارجي‏,‏ أو غسلها ونقعها في الماء لفترة محددة‏,‏ أو تعريضها للضوء أو لدرجات الحرارة المنخفضة‏(‏ حوالي خمس درجات مئوية لمدة تتراوح بين أربعة وستة أسابيع‏),‏ وذلك لأن كلا من الضوء والحرارة المنخفضة يعمل علي تنشيط الجنين في داخل البذرة‏,‏ ومساعدته علي الإنبات
أما عن الشروط الخارجية فأولها توافر الماء بالمواصفات المناسبة لأنه أهم شروط الإنبات‏,‏ وبالقدر الكافي لأن غمر البذور بالماء قد يؤدي إلي إفسادها لمنعه الأكسجين من الوصول إلي الجنين في داخل البذرة‏,‏ وكذلك توافر القدر الكافي من الأكسجين‏,‏ وتوافر درجات الحرارة والإضاءة المناسبة‏,‏ وذلك لأن بعض البذور تنشط عملية إنباتها في الضوء بينما البعض الآخر يفضل الظلام‏.‏

التغيرات التي تطرأعلي البذرة في أثناء إنباتها
عند توافر كل من الشروط الداخلية والخارجية للإنبات تبدأ البذرة بامتصاص الماء والانتفاخ لزيادة حجمها‏,‏ وحينئذ تبدأ في داخل البذرة سلسلة معقدة من عمليات البناء والهدم التي تعين الجنين علي التحرك بالنمو بعد فترة السكون التام التي عاشها وهو كامن في داخل البذرة الجافة‏,‏ فيبدأ بالإنبات ليعيد دورة حياة النبتة الأم من جديد‏.‏ وتشمل عملية الإنبات ما يلي‏:‏
‏(1)‏ امتصاص البذرة للماء‏,‏ وانتفاخها بسبب الامتلاء التدريجي بهذا الماء حتي تبدأ القصرة‏(‏ غلاف البذرة‏)‏ في التمزق بسبب ازدياد الضغط عليها من داخل البذرة‏,‏ وبذلك يصل الماء بالقدر الكافي إلي الجنين‏,‏ وإلي كتلة الغذاء المختزنة حوله مما يساعد علي تنشيط كتلة الغذاء كيميائيا‏,‏ وعلي تنشيط الجنين حيويا‏.‏

‏(2)‏ بدء الجنين في إفراز عدد من الإنزيمات القادرة علي تفتيت وتحلل المواد الغذائية المختزنة حوله في داخل البذرة إما في الفلقات أو في نسيج خاص‏,‏ وهي مواد معقدة التركيب وغير قابلة للذوبان في الماء‏,‏ فتحللها تلك الإنزيمات إلي مواد بسيطة وقابلة للذوبان في الماء حتي يمكن للجنين امتصاصها والعيش عليها‏,‏ أثناء فترات الإنبات الأولي‏.‏ ومن امثلة هذه الإنزيمات ما يلي‏:‏
إنزيم الدياستيز الذي يحول النشا إلي سكر‏.‏
إنزيم البروتيز الذي يحول البروتينات إلي أحماض أمينية‏.‏
وإنزيم الليبيز الذي يحول الدهون والزيوت إلي أحماض دهنية وجلسرين‏,‏ ويؤدي ذلك إلي تضخم حجم المخزون الغذائي في داخل البذرة أضعافا كثيرة‏.‏

‏(3)‏ شق التربة‏:‏ من أهم عوامل شق التربة انتفاخ البذور نتيجة لامتصاصها كميات مناسبة من الماء لأن ذلك يولد قوة هائلة تعرف باسم قوة الإنبات لايكاد العقل البشري أن يتصور قدرها‏,‏ لدرجة أننا إذا ملأنا زجاجة بالبذور الجافة‏,‏ وأضفنا إليها قدرا مناسبا من الماء‏,‏ وأحكمنا غلق الزجاجة فإن القوة الناتجة عن إنبات البذور وتضخم حجمها بامتصاص الماء تصبح كافية لتفجير الزجاجة مهما يكن سمك جدارها‏.‏
ويعين علي شق التربة تعطش المعادن المكونة لها للماء‏,‏ وامتصاصه بكميات كبيرة مما يؤدي إلي زيادة حجمها‏,‏ وارتفاعها إلي أعلي حتي ترق التربة رقة شديدة ثم تنشق لتفسح طريقا سهلا للسويقة الممتدة إلي أعلي من البذرة النابتة‏.‏
ويساعد علي تحرك جزيئات التربة إلي أعلي غلبة المعادن الصلصالية عليها‏,‏ وهي علي هيئة رقائق صفائحية دقيقة تحتفظ بقدر من الغازات فيما بينها‏,‏ فإذا تخللها الماء حل محل تلك الغازات‏,‏ ودفع بها إلي خارج التربة مما يؤدي إلي انتفاض حبيبات التربة إلي أعلي واهتزازها بعنف حتي ترق التربة وتنشق‏.‏ ويعين علي ذلك ايضا ما تحمله رقائق الصلصال من شحنات كهربية تتنافر مع الشحنات المشابهة علي جزئ الماء ذي القطبية الكهربية المزدوجة الموجبة علي ذرتي الإيدروجين والسالبة علي ذرة الأوكسجين‏.‏

‏(4)‏ بدء خلايا الجنين في الانقسام والنمو حتي يمتد الجذير إلي أسفل ويعمل علي تثبيت النبتة في التربة‏,‏ وبذلك تتصل بمصدر غذائها الطبيعي الذي تقوم بامتصاصه علي هيئة العصارة الغذائية المكونة من الماء وما به من العناصر والمركبات المذابة أو التي يستخرجها المجموع الجذري مباشرة من مكونات التربة‏,‏ وقد أعطي الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ كل نبتة من النباتات قدرات اختيارية عالية تختار بها مايناسبها من عناصر ومركبات الأرض اللازمة لنموها‏.‏ وبعد تكون المجموع الجذري ترتفع الريشة مخترقة شقوق التربة لتظهر فوق مستوي سطح الأرض‏,‏ وبذلك تتحول‏(‏ البذرة النابتة‏)‏ إلي ما يسمي باسم‏(‏ البادرة‏)‏ التي تستطيل بالتدريج لتعطي الساق حاملا الأوراق والبراعم مكونة المجموع الخضري‏.‏ وباستمرار مراحل النمو المتتالية تتحول البادرة إلي‏(‏ النبات الكامل‏)‏ فتبارك الله أحسن الخالقين‏.‏
وفي عملية الإنبات قد تبقي الفلقة أو الفلقتان تحت سطح التربة‏(‏ محاطة بالقصرة الممزقة‏)‏ حتي يستنفد ما خزن بها أو بهما من غذاء في تغذية الجنين‏,‏ وذلك كما يحدث في إنبات بذور البازلاء‏,‏ أو إنبات نوي نخيل البلح وفي المقابل قد تنمو السويقة إلي أعلي حاملة معها الفلقة أو الفلقتين إلي ما فوق سطح التربة‏,‏ ومعهما الريشة‏,‏ وتأخذ الفلقة أو الفلقتان في الاخضرار التدريجي للمشاركة في عملية التمثيل الضوئي لفترة محددة‏,‏ حتي تستطيل الريشة وتظهر عليها الأوراق الخضراء مكونة المجموع الخضري للنبات الذي يقوم بعملية التمثيل الضوئي‏,‏ وحينئذ تضمر الورقة الفلقية أو الورقتان الفلقيتان وتسقط أو تسقطان بعد استنفاد ما بهما من غذاء‏.‏

هذه العمليات المعقدة في فلق الحب والنوي لايقوي عليهما أحد من الخلق‏,‏ ولايمكن لهما أن تتما بغير توجيه‏,‏ وهداية ربانية ومن هنا نسب الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ هاتين العمليتين لذاته العلية تشريفا لهما‏,‏ وتعظيما لشأنهما لأنه بدونهما ما كانت هناك إمكانية للحياة علي الأرض ولذلك قال‏(‏ عز من قائل‏):‏
إن الله فالق الحب والنوي‏...(‏ الأنعام‏:95)‏

فالحمدلله علي نعمه المتعددة ومنها فلق الحب والنوي‏,‏ وعلي رأس تلك النعم‏:‏ القرآن الكريم‏,‏ الذي أنزله ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وتعهد‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بحفظه في نفس لغة وحيه‏,‏ كلمة كلمة‏,‏ وحرفا حرفا‏,‏ ولذلك بقي القرآن الكريم محتفظا بجلال الربوبية المتلألئ بين آياته‏,‏ وبالدقة العلمية الواضحة في كل اشاراته‏,‏ والشاهدة علي صدق وحيه‏,‏ وصدق نبوة الرسول الخاتم الذي تلقاه‏.‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ والحمدالله رب العالمين‏.‏