‏(75)‏ الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون
بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في مقدمات سورة البقرة‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ وآياتها‏286‏ بعد البسملة‏,‏ وعلي ذلك فهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق‏,‏ وأول سوره بعد فاتحة الكتاب في ترتيب سور المصحف الشريف‏,‏ وقد عظمها رسول الله صلي الله عليه وسلم تعظيما كبيرا فقال إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة‏.‏
ويدور المحور الرئيسي لسورة البقرة حول عدد من الأحكام الشرعية‏,‏ والقضايا التعبدية‏,‏ والضوابط الأخلاقية والسلوكية‏,‏ والركائز العقدية التي يمكن إيجاز الخطوط العريضة لها في النقاط الأساسية التالية‏:‏

‏(1)‏ الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده‏(‏ بغير شريك ولا شبيه ولا منازع‏),‏ والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر‏.‏

‏(2)‏ هذا الإيمان يقتضي التسليم بوحدة الرسالة السماوية التي أنزلها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي فترة من الرسل‏,‏ وختمها وأتمها‏,‏ وأكملها في القرآن الكريم‏,‏ الذي تعهد ربنا‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بحفظه فحفظ حفظا كاملا في لغة وحيه علي مدي أربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏,‏ ليبقي مصدرا لهداية الناس كافة حتي يوم الدين‏.‏

‏(3)‏ الإيمان بوحدة الجنس البشري دون تمييز عرقي أو عنصري أو علي أي أساس آخر لأن البشرية كلها ينتهي نسبها إلي آدم وحواء‏(‏ عليهما من الله السلام‏).‏

‏(4)‏ الالتزام بركائز الدين من الشهادتين‏,‏ وإقام الصلاة‏,‏ وإيتاء الزكاة‏,‏ وصوم رمضان‏,‏ وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا‏.‏

‏(5)‏ عدم التفرقة بين رسل الله‏,‏ وترك التفضيل بينهم لله‏,‏ وتتويج الإيمان بهم جميعا بالإيمان بالنبي الخاتم والرسول الخاتم سيدنا محمد بن عبدالله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وبالرسالة الخاتمة التي أوحيت إليه والتي حفظت في القرآن الكريم وفي سنته الشريفة‏.‏

‏(6)‏ الإيمان بضرورة تلقي الدين عن طريق القناعة العقلية والقلبية الكاملة‏,‏ والتسليم بأن دين الله مبني علي اليسر‏,‏ ورفع الحرج‏,‏ وأن من أصوله الثابتة أنه‏:‏ لا إكراه في الدين‏....‏
‏(‏البقرة‏:256).‏

‏(7)‏ التسليم بأن القتال مشروع في الإسلام لدفع المظالم‏,‏ وللدفاع عن الأرض‏,‏ والعرض‏,‏ وعن النفس والمال والولد والأهل‏,‏ وعن الدين ومقدساته‏,‏ ولتأمين سيادة عدل الله في الأرض‏,‏ ولضمان حرية التدين‏,‏ وللمحافظة علي كرامة الإنسان من أي جور أو طغيان‏,‏ ولذلك تدعو سورة البقرة إلي الجهاد في سبيل الله دون اعتداء‏,‏ وإلي تعظيم منازل الشهداء‏,‏ والمجاهدين‏,‏ وإلي تقدير مقامات الصابرين في البأساء والضراء‏,‏ ومقامات الموفين بعهودهم إذا عاهدوا‏,‏ وإلي غير ذلك من القيم ومن مكارم الأخلاق‏.‏

‏(8)‏ الإيمان بحتمية الآخرة وبضرورتها‏,‏ والتحذير من فجائية وقوعها‏,‏ وأهوالها‏,‏ والعمل علي مواجهتها‏,‏ وفي ذلك جاء قول الله‏(‏ تعالي‏):‏ واتقوا يوما ترجعون فيه إلي الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لايظلمون‏.(‏ البقرة‏:281)‏
وهو آخر ما نزل من القرآن الكريم‏.‏

‏(9)‏ الدعوة إلي التأمل بعين البصيرة في آيات الله العديدة المنتشرة في الأنفس والآفاق لأنها هي كتاب الله المنظور كما أن القرآن الكريم هو كتابه المقروء‏.‏

‏(10)‏ فصلت سورة البقرة أحكام الأسرة من الزواج‏,‏ والطلاق‏,‏ والعدة‏,‏ والرضاع وغيرها‏.‏

‏(11)‏ تدعو سورة البقرة في مواضع عديدة منها إلي الإنفاق في سبيل الله‏,‏ وإلي الإحسان إلي الخلق بصفة عامة‏,‏ وتدعو إلي إيثار الخير ونبذ الشر‏,‏ كما تدعو إلي العمل الصالح المنطلق من الإيمان الصادق بالله‏,‏ وإلي الاستعانة علي كل جليل من الأمور بالصبر والصلاة‏,‏ وإلي ترك العصبيات العرقية والإقليمية الضيقة‏,‏ وإلي نبذ الموروثات المغلوطة‏,‏ والتقليد الأعمي‏,‏ وإلي التمسك بتحكيم العقل من أجل الوصول إلي سلامة الحكم في كل أمر من أمور الحياة‏,‏ كما تنعي السورة الكريمة علي كل من يدعو إلي الحق وفضائل الأعمال ثم ينسي نفسه‏,‏ وتحذر بشدة من التعامل بالربا وتهدد الواقعين فيه بحرب من الله ورسوله‏,‏ كما تحذر من كتم الشهادة‏,‏ وتؤكد المحافظة علي حقوق الآخرين بكل وسيلة مشروعة‏,‏ وتحذر من ديون العباد‏,‏ وتضع الشروط الواجبة لحفظ حقوق الآخرين فيها‏.‏

‏(12)‏ مايزت سورة البقرة في مواقع عديدة منها بين صفات كل من المتقين والمنافقين‏,‏ وضربت نماذج لكل منهم‏,‏ وألمحت إلي نعيم المتقين في الجنة‏,‏ وإلي عذاب المنافقين من الكفار والمشركين في النار‏,‏ وصورت جانبا من ذلهم وحيرتهم يوم القيامة‏,‏ وحذرت المؤمنين من موالاتهم أو الركون إليهم في الدنيا‏,‏ كما حذرت من متابعة الشيطان الرجيم وأعوانه وجنده‏.‏

‏(13)‏ وللتأكيد علي هذه المعاني والقيم ألمحت سورة البقرة لقصة أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ وزوجه‏,‏ وإلي جوانب من قصة نبي الله إبراهيم‏(‏ علي نبينا وعليه السلام‏),‏ وأشارت إلي اختلاف أتباع نبي الله عيسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ من بعده بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):...‏ ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر‏...‏
‏(‏ البقرة‏:253).‏

كما تحدثت سورة البقرة عن واقعة تحويل القبلة‏,‏ وعن قرار الله‏(‏ تعالي‏)‏ بجعل أمة الإسلام أمة وسطا ليكونوا شهداء علي الناس‏,‏ ويكون الرسول عليهم شهيدا‏.‏
‏(14)‏ وختمت سورة البقرة بدعاء إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ يهز القلوب والعقول‏,‏ ويحرك الضمائر والمشاعر حيث تقول‏:‏

‏...‏ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏,‏ ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته علي الذين من قبلنا‏,‏ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏,‏ واعف عنا واغفر لنا وارحمنا‏,‏ أنت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين
‏(‏البقرة‏:286).‏

من الآيات الكونية في سورة البقرة
‏(1)‏ التأكيد علي أن القرآن الكريم كتاب لا ريب فيه والبحث العلمي يؤكد ذلك في كل كلمة وحرف وإشارة وردت فيه‏(‏ الآية‏2).‏

‏(2)‏ الإشارة إلي أمراض القلوب ومنها الخوف والوسوسة والشك في زمن لم يكن معروفا لأحد شيء من تلك الأمراض‏(‏ الآية‏10).‏

‏(3)‏ التمييز بين كل من الضياء والنور والنار‏,‏ والمقابلة بين الظلمات والنور وهي من الحقائق العلمية التي لم يدركها الإنسان إلا مؤخرا
‏(‏الآية‏17).‏

‏(4)‏ ذكر الصيب من السماء وهو المطر الغزير الذي يكثر هطوله بالليل‏,‏ والمصحوب بالرعد والبرق والصواعق والعواصف وهو تجمع فريد من الظواهر الكونية التي لم تدرك إلا مؤخرا‏.‏
‏(‏ الآية‏19).‏

‏(5)‏ الإشارة إلي خطف البصر عن طريق البحلقة في ضوء البرق‏,‏ وتقديم السمع علي البصر
‏(‏الآية‏20).‏

‏(6)‏ الإقرار بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق الخلق جميعا
‏(‏الآية‏21).‏

‏(7)‏ الإشارة إلي فرش الأرض وتمهيدها‏,‏ وبناء السماء وإحكامها وحبكها‏,‏ وإنزال الماء من السحاب‏,‏ وإخراج مختلف الثمرات بواسطته‏,‏ والنهي عن الشرك بالله تعالي‏(‏ الآية‏22).‏

‏(8)‏ ضرب المثل بالبعوضة وما فوقها وهي من الحشرات المميزة في بناء جسدها‏.‏
‏(‏الآية‏26).‏

‏(9)‏ التأكيد علي أن الموت سابق للحياة ولاحق بها‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ خلق ما في الأرض جميعا ثم استوي إلي السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم‏(‏ الآية‏29).‏

‏(10)‏ التأكيد علي واقعة فلق البحر لنبي الله موسي‏(‏ علي نبينا وعليه السلام‏)‏ وفرقه إلي فرقتين‏,‏ ونجاة موسي ومن معه‏,‏ وهلاك فرعون وجنده وهي من حقائق التاريخ‏(‏ الآية‏50).‏

‏(11)‏ التأكيد علي انفجار اثنتي عشرة عينا من عيون الماء بضربة من عصا موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ علي الضفة الشرقية من خليج السويس في منطقة تعرف اليوم باسم عيون موسي‏(‏ الآية‏60).‏

‏(12)‏ الإشارة بالمشرق والمغرب إلي الكون كله‏(‏ الآيتان‏142,115).‏

‏(13)‏ اتخاذ المسجد الحرام قبلة للمسلمين والعلم يؤكد مركزيته بالنسبة لليابسة
‏(‏الآيات‏150,149,144).‏

‏(14)‏ الإشارة إلي خلق السماوات والأرض‏,‏ واختلاف الليل والنهار‏,‏ وإلي الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس‏,‏ وإلي إنزال الماء من السماء‏,‏ وإحياء الأرض به بعد موتها‏,‏ وبث الدواب من كل نوع فيها‏,‏ وتصريف الرياح‏,‏ والسحاب المسخر بين السماء والأرض وجعل ذلك كله آيات لقوم يعقلون
‏(‏الآية‏164).‏

‏(15)‏ التأكيد علي حقيقة أن الأهلة هي مواقيت للناس والحج‏(‏ الآية‏189).‏

‏(16)‏ التأكيد علي ما في كل من الخمر والميسر من آثام تفوق أي نفع يمكن أن يجتني من ورائهما
‏(‏الآية‏219).‏

‏(17)‏ التأكيد علي ما في المحيض من أذي
‏(‏الآية‏222).‏

‏(18)‏ التأكيد علي حقيقة أن الجنة‏(‏ أي الحديقة ذات الأشجار الكثيفة الملتفة علي بعضها البعض‏)‏ بالربوة العالية إذا أصابها الوابل‏(‏ أي المطر الشديد‏)‏ آتت أكلها ضعفين‏,‏ وهو لا يضرها باحتمال إغراقها بالسيول لارتفاعها وسرعة انحسار الماء عنها بعد أخذ كفايتها منه‏,‏ وإن لم يصبها وابل فإن الطل‏(‏ أي المطر الخفيف أو الرذاذ‏)‏ يكفيها لري نباتاتها وطيب عطائها‏,‏ والمقصود أن هذه الجنة تزكو وتزدهر وتثمر كثر المطر عليها أو قل‏,‏ وهو تشبيه قائم علي حقيقة علمية راسخة‏,‏ تصف إنفاق الصالحين ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم بأنه يزكو عند الله ويطيب‏,‏ زاد قدره أم قل كما تزكو الجنة بالربوة زاد المطر عليها أو قل‏.‏

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي الآيتين‏22,21‏ من سورة البقرة واللتين تتحدثان عن خمس قضايا محددة هي‏:‏
‏(1)‏ الإقرار بأن الله تعالي هو خالق الخلق جميعا‏.‏
‏(2)‏ فرش الأرض وتمهيدها‏.‏
‏(3)‏ بناء السماء وإحكامها وحبكها‏.‏
‏(4)‏ إنزال الماء من السماء‏.‏
‏(5)‏ إخراج الثمرات بواسطة الماء‏.‏

وختام ذلك يأتي النهي عن الشرك بالله تعالي‏,‏ نهيا قاطعا جازما‏.‏
وقبل الدخول إلي شرح كل واحدة من هذه القضايا أري لزاما علي استعراض أقوال عدد من كبار المفسرين القدامي والمعاصرين في شرح هاتين الآيتين الكريمتين‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون‏*‏ الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون
‏(‏ البقرة‏:22,21).‏

‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما نصه‏:‏ في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هو المنعم علي عبيده بإخراجهم من العدم إلي الوجود‏,‏ وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة‏,‏ بأن جعل لهم الأرض فراشا‏:‏ أي مهدا كالفراش‏,‏ مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات‏;(‏ والسماء بناء‏)‏ وهو السقف‏,‏ كما قال تعالي‏:(‏ وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون‏);(‏ وأنزل من السماء ماء‏)‏ والمراد به السحاب ههنا في وقته عند احتياجهم إليه‏;‏ فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار رزقا لهم ولأنعامهم‏.‏ ومضمونه‏:‏ أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم‏,‏ فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره‏,‏ ولهذا قال‏:‏ فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون‏....‏
وأضاف‏:‏ قال ابن عباس‏,‏ قال الله تعالي‏:(‏ يا أيها الناس اعبدوا ربكم‏)‏ للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين‏,‏ أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم‏.‏ وعنه أيضا في تفسير قوله تعالي‏:(‏ فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون‏):‏ أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر‏(‏ وأنتم تعلمون‏)‏ أنه لا رب لكم يرزقكم غيره‏,‏ وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ من التوحيد هو الحل الذي لا شك فيه‏.‏

وأضاف كذلك‏:‏ قال أبو العالية‏:(‏ فلا تجعلوا لله أندادا‏)‏ أي عدلاء شركاء‏,‏ وقال مجاهد في تفسير قوله تعالي‏:(‏ فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون‏)‏ قال‏:‏ تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل‏.‏
وأضاف ابن كثير عددا من الأحاديث النبوية الشريفة والروايات في معني هذه الآية الكريمة تؤيد ما ذهب إليه في تفسيرها‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏).‏

‏*‏ وجاء في الظلال‏(‏ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة‏)‏ تفسيرا لهاتين الآيتين الكريمتين ما نصه‏:‏ إنه النداء إلي الناس كلهم لعبادة ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم‏.‏ ربهم الذي تفرد بالخلق‏,‏ فوجب أن ينفرد بالعبادة‏...‏ وللعبادة هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققونه‏:(‏ لعلكم تتقون‏)...‏ لعلكم تصيرون إلي تلك الصورة المختارة من صور البشرية‏,‏ صورة العابدين لله‏,‏ المتقين لله‏,‏ الذين أدوا حق الربوبية الخالقة‏,‏ فعبدوا الخالق وحده‏,‏ رب الحاضرين والغابرين‏,‏ وخالق الناس أجمعين‏,‏ ورازقهم كذلك من الأرض والسماء بلا ند ولا شريك‏.‏
‏(‏الذي جعل لكم الأرض فراشا‏)‏ وهو تعبير يشي باليسر في حياة البشر علي هذه الأرض‏,‏ وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكنا مريحا وملجأ وافيا كالفراش‏...‏ والناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم لطول ما ألفوه‏,‏ ينسون هذا التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهد لهم وسائل العيش‏,‏ وما سخره لهم فيها من وسائل الراحة والمتاع‏,‏ ولولا هذا التوافق ما قامت حياتهم علي هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والطمأنينة‏.‏ ولو فقد عنصر واحد من عناصر الحياة في هذا الكوكب ما قام هؤلاء الأناسي في غير البيئة التي تكفل لهم الحياة‏.‏ ولو نقص عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم لشق علي الناس أن يلتقطوا أنفاسهم حتي لو قدرت لهم الحياة‏.‏
‏(‏والسماء بناء‏)...‏ فيها متانة البناء وتنسيق البناء‏.....‏

‏(‏وأنزل من السماء ماء‏,‏ فأخرج به من الثمرات رزقا لكم‏)...‏ والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعا‏...‏ وقصة الماء في الأرض‏,‏ ودوره في حياة الناس‏,‏ وتوقف الحياة عليه في كل صورها وأشكالها‏...‏ كل هذا أمر لا يقبل المماحكة‏,‏ فتكفي الإشارة إليه‏,‏ والتذكير به‏,‏ في معرض الدعوة إلي عبادة الخالق الرازق الوهاب‏.‏
وفي ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور الإسلامي‏:‏ وحدة الخالق لكل الخلائق‏(‏ الذي خلقكم والذين من قبلكم‏),‏ ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته للحياة وللإنسان‏:(‏ الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم‏)‏ فهذا الكون أرضه مفروشة لهذا الإنسان‏,‏ وسماؤه مبنية بنظام‏,‏ معينة بالماء الذي تخرج به الثمرات رزقا للناس‏..‏ والفضل في هذا كله للخالق الواحد‏:(‏ فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون‏)..‏ تعلمون أنه خلقكم والذين من قبلكم‏,‏ وتعلمون أنه جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء‏,‏ وأنزل من السماء ماء‏,‏ وأنه لم يكن له شريك يساعد‏,‏ ولا ند يعارض‏,‏ فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا يليق‏!.‏

والأنداد التي يشدد القرآن في النهي عنها لتخلص عقيدة التوحيد نقية واضحة‏,‏ قد لا تكون آلهة تعبد مع الله علي النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون‏(‏ ولا يزالون‏)..‏ فقد تكون الأنداد في صور أخري خفية‏;‏ قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة‏,‏ وفي الخوف من غير الله في أي صورة‏,‏ وفي الاعتقاد بنفع أو ضر من غير الله في أي صورة‏....,‏ وضرب عددا من النماذج ثم أضاف‏:‏ هكذا كان سلف هذه الأمة ينظر إلي الشرك الخفي والأنداد مع الله‏..‏ فلننظر بحق أين نحن من هذه الحساسية المرهفة‏,‏ وأين نحن من حقيقة التوحيد الكبيرة‏!!!.‏
‏*‏ وجاء في كل من تفسير الجلالين‏,‏ وصفوة البيان لمعاني القرآن‏,‏ والمنتخب في تفسير القرآن الكريم وصفوة التفاسير‏(‏ جزي الله كاتبيها خيرا‏)‏ كلام مشابه لا حاجة بنا لإعادته‏.‏

الدلالة العلمية للآية الكريمة
أولا‏:‏ في قوله‏(‏ تعالي‏):‏ الذي جعل لكم الأرض فراشا‏:‏
تقدر مساحة سطح الأرض الحالية بنحو‏510‏ ملايين كيلو متر مربع‏,‏ منها‏29%(‏ أي نحو‏149‏ مليون كيلو متر مربع‏)‏ يابسة‏,71%(‏ أي نحو‏361‏ مليون كيلو متر مربع‏)‏ مسطحات مائية‏,‏ نصفها تقريبا‏(‏ أي نحو‏173.6‏ مليون كيلو متر مربع‏)‏ أرصفة قارية أي أجزاء من حواف القارات مغمورة بالماء‏.‏ وهذه الضخامة في أبعاد الأرض جعلتها تبدو مستوية بالنسبة إلي نظر الإنسان وإمكانات حسه‏.‏
وكل من سطح اليابسة وقيعان البحار والمحيطات ليس تام الاستواء‏,‏ حيث أن كلا منهما يتعرج في تضاريس متباينة‏;‏ ويقدر ارتفاع أعلي قمة علي سطح اليابسة وهي قمة إفرست بأقل قليلا من تسعة كيلو مترات‏(8.848‏ م‏),‏ ويقدر منسوب أخفض نقطة علي سطح اليابسة‏(‏ وهي حوض البحر الميت‏)‏ بنحو أربعمائة متر تحت مستوي سطح البحر‏,‏ وقاع البحر الميت الذي تصل أعمق أجزائه إلي نحو ثمانمائة متر تحت مستوي سطح البحر يعتبر جزءا من اليابسة لأنه بحر مغلق‏.‏

ويصل منسوب أعمق أغوار المحيطات‏(‏ وهو غور ماريانا في قاع المحيط الهادي بالقرب من جزر الفلبين‏)‏ إلي أكثر قليلا من الأحد عشر كيلو مترا‏(11.033‏ كم‏).‏ وبذلك يصل الفرق بين أعلي وأخفض نقطتين علي سطح الكرة الأرضية إلي أقل قليلا من العشرين كيلو مترا‏(19.881‏ كم‏),‏ وبنسبة ذلك إلي نصف قطر الأرض‏(‏ المقدر بنحو‏6371‏ كيلو مترا في المتوسط‏)‏ يتضح أن الفارق بين أعلي وأخفض نقطتين علي سطح الكرة الأرضية لا يكاد يتعدي‏0.3%‏ من طول نصف قطرها‏.‏
وإذا أخذنا الفرق بين متوسط ارتفاع اليابسة‏(‏ والمقدر بنحو‏840‏ م فوق مستوي سطح البحر‏)‏ ومتوسط أعماق البحار والمحيطات‏(‏ والمقدر بنحو‏3729‏ م إلي‏4500‏ م‏)‏ ونسبنا ذلك إلي نصف قطر الأرض‏(‏ المقدر بنحو‏6371‏ كم‏)‏ كانت النسبة في حدود‏0.007%‏ وهذا يمثل قمة التسوية والتمهيد والفرش لسطح الأرض خاصة إذا علمنا أن اليابسة بدأت بسلاسل من الجبال شديدة الوعورة‏,‏ ثم سخر الله‏(‏ تعالي‏)‏ عمليات التعرية المختلفة من التجوية والتحات إلي النقل والترسيب في تسوية تلك السلاسل الجبلية إلي تلال قليلة الارتفاع أو متوسطة‏,‏ وسهول منبسطة تشقها الأودية والمجاري المائية التي تحمل رسوبياتها إلي السهول والمنخفضات كما تحملها إلي البحار والمحيطات مكونة دالات عملاقة ظاهرة ومغمورة تتقدم في البحار التي تصب فيها‏,‏ وهنا تنتهي عمليات تعرية سطح الأرض بوصوله إلي مستوي سطح البحر علي هيئة سهل تحاتي منبسط‏.‏

وقد استمر الصراع بين العمليات الداخلية البانية لسطح الأرض‏,‏ والعمليات الخارجية الهدمية التي تحاول أن تصل بسطح الأرض إلي مستوي سطح البحر في دورات متتالية تعرف باسم دورات شكل الأرض أو دورات التحات ظلت تعمل علي مدي‏4.6‏ بليون سنة علي الأقل حتي تم تمهيد سطح الأرض وبسطه‏,‏ وجعله فراشا للإنسان ولغيره من المخلوقات‏,‏ وأمكن شق الفجاج والسبل فيه‏,‏ وتكوين المجاري المائية‏,‏ والبحيرات الداخلية‏,‏ والأغوار والمنخفضات الأخري‏,‏ وسوف يظل الأمر كذلك حتي يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏,‏ في تبادل مستمر بين اليابسة والماء‏(‏ القارات والمحيطات‏),‏ وبين المرتفعات والمنخفضات‏,‏ وبين دورات الصخور‏,‏ وغير ذلك من عمليات الاتزان الأرضي التي سخرها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في تهيئة الأرض لاستقبال الحياة‏,‏ والتي لا تزال تعمل إلي قيام الساعة‏.‏ وفي تلك الدورات المتبادلة بين البناء والهدم تكونت السهول الخصبة‏,‏ والتربة الغنية‏,‏ والركازات المختلفة من المعادن‏,‏ والصخور التي تحوي في أحشائها الكثير من خيرات الأرض التي تجمعت عبر ملايين السنين‏,‏ فمعدلات تجمع الرسوبيات تتراوح بين مائة ومائتين من السنين لتجمع السنتيمتر الواحد من سمك الطبقات المترسبة‏,‏ بينما تتراوح معدلات التعرية بين ثلاث سنوات وثلاثمائة سنة لإزالة سنتيمتر واحد من كتلة الصخور المتكونة‏,‏ وهذا يعني أن عمليات تسوية سطح الأرض حتي أصبحت صالحة للعمران قد استهلكت من الزمن والطاقة ما لا تستطيع البشرية مجتمعة أن تقوم بالوفاء بتكلفته‏,‏ ومن هنا يمن علينا ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بقوله‏:(‏ عز من قائل‏):‏
الذي جعل لكم الأرض فراشا‏...‏
وذلك في مقام الاستدلال علي ألوهيته ووحدانيته وطلاقة قدرته في إبداعه لخلقه‏.‏

ثانيا‏:‏ في قوله‏(‏ تعالي‏):...‏ والسماء بناء‏:‏
يمن علينا ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ أنه جعل السماء من فوقنا بناء محكما علي ضخامة أبعادها‏,‏ وتعدد أجرامها‏,‏ وانتشار مختلف صور المادة والطاقة فيها‏,‏ وذلك بعدد من القوي التي أودعها ربنا‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في كل جزئية من جزئياتها‏,‏ ومن هذه القوي ما يلي‏:‏
‏(1)‏ القوي النووية الشديدة‏:‏ التي تمسك باللبنات الأولية للمادة في داخل نوي الذرة‏,‏ ولولاها ما تكونت نوي الذرات‏,‏ ولظل الكون مليئا باللبنات الأولية للمادة فقط‏,‏ والتي لا تعني شيئا‏.‏

‏(2)‏ القوي النووية الضعيفة‏:‏ التي تمسك باللبنات الأولية للمادة في داخل الذرات‏,‏ ولولاها ما تكونت ذرات المادة ولبقي الكون مليئا بنوي ذرات المادة فقط‏.‏
‏(3)‏ القوي الكهرومغناطيسية‏:‏ التي تمسك بذرات المادة في داخل كل من جزيئاتها ومركباتها‏,‏ وهي التي تؤدي إلي حدوث الإشعاع الكهرومغناطيسي علي هيئة فوتونات الطاقة أو ما يعرف باسم الكم الضوئي‏,‏ ولولا هذه القوة الكهرومغناطيسية لكان الكون مليئا بذرات العناصر السائبة‏,‏ ولما كانت هناك جزيئات ولا مركبات ولا نور ولا دفء ولاستحالت الحياة‏.‏
‏(4)‏ قوي الجاذبية‏:‏ وهي القوي التي تمسك بأطراف السماء وبكل أجرامها‏,‏ ومختلف تجمعاتها‏;‏ ولولا هذا الرباط الحاكم الذي أودعه الله‏(‏ تعالي‏)‏ في كل أجرام الكون ما كانت الأرض ولا كانت السماء‏,‏ ولو زال هذا الرباط لانفرط عقد الكون وانهارت مكوناته‏,‏ ومن هنا كانت المنة الإلهية بجعل السماء بناء‏.‏

ثالثا‏:‏ في قوله‏(‏ تعالي‏):...‏ وأنزل من السماء ماء‏:‏
أي أنزل من السحاب ماء عذبا فراتا لأن المصدر الرئيسي للماء النقي علي سطح الأرض هو ماء المطر‏,‏ وذلك لأنه منذ أن أخرج الله‏(‏ تعالي‏)‏ ماء الأرض من داخلها علي هيئة بخار الماء الصاعد مع ثورات البراكين‏,‏ وكثفه في نطاق المناخ من الغلاف الغازي للأرض الذي يتبرد بالارتفاع‏,‏ فرده مطرا سال علي سطح الأرض‏,‏ وفاض إلي منخفضاتها مكونا البحار والمحيطات‏,‏ ثم بدأت دورة الماء حول الأرض‏;‏ ويقدر ما يرتفع من الأرض إلي غلافها الغازي سنويا بنحو‏(380.000‏ كيلو متر مكعب‏)‏ من الماء يتبخر أغلبه من أسطح البحار والمحيطات‏(320.000‏ كيلو متر مكعب‏),‏ ويرتفع الباقي من اليابسة‏(60.000‏ كيلو متر مكعب‏).‏
ويعود كل ما يتبخر من ماء الأرض إليها ثانية بمشيئة الله وإرادته لينزل منه علي اليابسة‏(96.000‏ كيلو متر مكعب‏)‏ وعلي البحار والمحيطات‏(284.000‏ كيلو متر مكعب‏),‏ وفي هذه الدورة المعجزة تكسب اليابسة سنويا‏(36000‏ كيلو متر مكعب‏)‏ من ماء البحار والمحيطات ينزل عليها مطرا يجري ماء علي سطح الأرض ويؤدي أدوارا مهمة علي اليابسة ثم يفيض إلي البحار والمحيطات مرة أخري‏,‏ وكل الماء المخزون تحت سطح الأرض ـعلي كثرتهـ أصله من ماء المطر‏.‏

وفي هذه الدورة المعجزة للماء حول الأرض يتحرك الماء إلي الغلاف الغازي للأرض فيتطهر مما تجمع به من أملاح وملوثات‏,‏ ويعاود نزوله علي الأرض ماء طهورا‏,‏ وتمتد هذه الدورة من نحو الكيلو متر تحت مستوي سطح البحر إلي ارتفاع‏15‏ كم فوق مستوي سطح البحر‏,‏ فيتم بواسطتها تطهير الماء‏,‏ وتلطيف الجو‏,‏ وتوفير نسب متفاوتة من الرطوبة فيه‏,‏ وري كل من الإنسان والحيوان والنبات‏,‏ وتغذية كل من الأنهار والجداول‏,‏ والتربة السطحية‏,‏ وخزانات الماء تحت سطح الأرض فيعمل علي زيادة كمياتها‏,‏ وعلي تجديد عذوبتها‏,‏ وعلي تعويض ما يفيض إلي السطح أو يضخ منها‏,‏ كما يتم تفتيت الصخور‏,‏ وتكون كل من التربة والصخور الرسوبية‏,‏ وتركيز العديد من المعادن والصخور والخامات الاقتصادية‏.‏
وكما يكون في ماء المطر خير ورحمة‏,‏ فقد يجعله ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ عقابا وعذابا حينما تؤدي السيول الجارفة إلي دمار شامل أو فيضانات مغرقة بالأنهار والجداول والسيول تأتي علي الحرث والنسل‏.‏
والغطاء الرسوبي للأرض الذي يقدر حجمه بأكثر من‏360.000‏ كيلو متر مكعب يرجع الفضل في تكوينه إلي دورة الماء حول الأرض‏,‏ وما بهذا الغطاء من رسوبيات ملحية تقدر كتلتها بملايين الأطنان ناتج عن عمليات التبخير بعد أن أذابته مياه الأمطار أصلا من صخور اليابسة ثم حملته إلي البحار والمحيطات ليعود مرة أخري إلي اليابسة في دورات التبادل بين المحيطات والقارات‏,‏ حينما يتحول أحدهما إلي الآخر‏.‏

رابعا‏:‏ في قوله‏(‏ تعالي‏):...‏ فأخرج به من الثمرات رزقا لكم‏...:‏
جاء ذكر إخراج الثمرات من الأرض لتمثل النعمة الرابعة من نعم الله علي العباد في هذه الآية الكريمة‏,‏ وهي نعمة لا تستقيم الحياة بدونها وذلك لارتباط حياة كل من الإنسان والحيوان بالنبات ومنتجاته خاصة بثمار النباتات العليا‏.‏ ومن هنا كانت حكمة الله البالغة في خلق النبات ثم الحيوان‏,‏ وبعد أن اكتملت كل صور الخلق وهيئت الأرض لاستقبال الإنسان خلقه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وجعله أكرم المخلوقات‏.‏
وقد جاء ذكر إخراج الثمرات من الأرض في هذه الآية الكريمة في تسلسل منطقي جميل‏,‏ أشار أولا إلي تكوين التربة بواسطة عمليات التعرية المختلفة‏(‏ من التجوية والتحات إلي النقل والترسيب‏)‏ التي فتتت صخور الأرض‏,‏ وكونت السهول المنبسطة‏,‏ والتربة الخصبة اللازمة للإنبات‏,‏ وجعلت الأرض فراشا ممهدا لحياة كل من النبات والحيوان والإنسان‏.‏ ثم أشارت إلي بناء السماء وأولها الغلاف الغازي للأرض والسحاب المسخر بينهما في نطاق المناخ الذي خصصه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بالتبرد مع الارتفاع حتي يتكثف فيه بخار الماء المرتفع من الأرض فيعود إليها مطرا بإذن الله‏..‏ ولذلك أشارت الآية الكريمة إلي إنزال الماء من السماء‏,‏ فأخرج الله‏(‏ تعالي‏)‏ به مختلف الثمرات رزقا للعباد‏,‏ وهي من نعم الله العديدة علي الإنسان وعلي ما حوله من مخلوقات‏.‏

وتشمل الثمرات كل جزء يستخدمه الإنسان من النبات سواء كان هذا الجزء من جذور النبات أو سيقانه أو أوراقه أو أزهاره‏,‏ وبذلك تقسم الثمرات إلي ثمرات حقيقية وأخري غير حقيقية‏.,‏ ومن الثمرات الحقيقية ثمرات الفاكهة‏,‏ التي تمثل الثمرة فيها مبيض الزهرة بعد تمام إخصابه بحبوب اللقاح‏,‏ وتكون جنين النبتة في البذرة‏(‏ أو البذور‏)‏ محاطا بالعديد من الأغلفة النباتية لحمايته ولتغذية الجنين في وقت إنباته‏,‏ وقد تمثل الثمرة بالبذرة‏(‏ أو البذور‏)‏ في حالات الحبوب والبقول بأنواعها المختلفة‏.‏ ووظيفة الثمار الأولي هي المحافظة علي جنين النبتة في داخل البذرة‏(‏ أو البذور‏)‏ ومده بالغذاء في وقت الإنبات‏,‏ ومساعدة هذا النوع من النبات علي استمرارية الوجود علي الأرض إلي أن يشاء الله‏,‏ وعلي الانتشار الأفقي في الأرض بانتشار بذوره‏,‏ ولولا ذلك لانقرضت أنواع النباتات العليا‏,‏ ووظيفة الثمار الثانية هي غذاء كل من الإنسان والحيوان‏.‏
وتقسم الثمار الحقيقية إلي ثمار بسيطة‏,‏ ومجمعة‏,‏ ومركبة‏,‏ وتقسم الثمار البسيطة إلي جافة وغضة‏,‏ أما الثمار المجمعة المركبة فأغلبها غضة‏;‏ والثمار غير الحقيقية هي الثمار التي تدخل في تركيبها أجزاء أخري غير المبيض‏,‏ وهذه أيضا إما أن تكون بسيطة كالتفاح‏,‏ أو مجمعة كالشليك‏,‏ أو مركبة من مثل كل من التين والتوت‏,‏ أو قد تكون جزءا من النبات غير النورة والزهرة‏.‏
ومن ثمرات النبات ما يمثل غذاء رئيسيا للإنسان‏,‏ ولما يستخدمه من مختلف صور الحيوان‏,‏ ومنها كثير من الزيوت والدهون والأصباغ والألوان التي يستخدمها الإنسان في طعامه وصناعاته المختلفة‏,‏ ومنها العديد من أنواع الدواء التي يحتاجها كل من الإنسان والحيوان في تطبيب أمراضه‏,‏ وعلاج أوجاعه‏,‏ ومن هنا كان إخراج الثمرات من الأرض من رزق الله الذي يمتن به علي عباده‏,‏ ومن الشهادات الناطقة بطلاقة القدرة الإلهية في إبداع الخلق وتنوعه‏.‏

خامسا‏:‏ في قوله‏(‏ تعالي‏):‏ فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون‏:‏
بعد استعراض جانب من نعم الله علي العباد جاء الأمر الإلهي بتحريم الشرك بالله أندادا لا تنفع ولا تضر‏,‏ ولا تملك لنفسها من أمر الله شيئا‏,‏ وكل عاقل يدرك أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده هو الخالق الرازق ذو القوة المتين‏,‏ وأن الخلق جميعا عبيده‏,‏ ولذلك عندما سئل رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ أي الذنب أعظم عند الله؟ قال‏:‏ أن تجعل لله ندا وهو خلقك وقوله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لمعاذ بن جبل‏:‏ أتدري ما حق الله علي عباده؟ ثم أجاب‏(‏ عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏):‏ بقوله الشريف أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا‏.‏
هذه الحقائق التي ساقتها الآية الكريمة لتنتهي إلي الأمر بتوحيد الله الخلاق الرزاق العليم‏,‏ وإلي النهي عن الشرك الذي وصفه ابن عباس‏(‏ رضي الله عنهما‏)‏ بقوله‏:‏ الأنداد هو الشرك أخفي من دبيب النمل علي صفاة سوداء في ظلمة الليل‏....‏
هذه الحقائق الكونية لم يصل إليها علم الإنسان إلا في القرنين التاسع عشر والعشرين‏,‏ وورودها في كتاب الله المنزل من قبل أربعة عشر قرنا لمما يقطع بأنه كلام الله الخالق‏,‏ ويشهد بالنبوة والرسالة للنبي والرسول الخاتم الذي تلقاه‏,‏ كما يشهد بصدق ما جاء به من الدعوة إلي التوحيد الخالص لله‏,‏ وعبادته‏(‏ تعالي‏)‏ وحده بما أمر‏,‏ بغير شريك ولا شبيه ولا منازع‏..‏ فأشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏)‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏