بقلم :د يحيى هاشم حسن فرغل
في شهر ديسمبر 1967 تلقى السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان آنذاك رسالة من بابا الفاتيكان بولس السادس يدعوه فيها إلى الاحتفال بأول يناير 1968 كعيد للسلام !! فرد عليه برسالة لم تكن مجرد تعبير عن الأماني الطيبة وإنما تضمنت تقييما موجزا للموقف ، وتحليلا صريحا للمشكلة ومقترحات عملية لتحويل العداوة إلى تعاون صادق
وأبو الأعلى المودودي أحد عظماء المفكرين في العالم الإسلامي في القرن العشرين ولد في باكستان ؟؟؟ عام 1903 وبدأ حياته كعالم وصحفي ، وأصدر مجلته االعلمية الخاصة باللغة الأردية واشترك مع الدكتور محمد إقبال الذي دعاه في عام 1937 للتعاون معه في مهمة تجديد الفقه الإسلامي وتقنينه ، واشتغل عميد لكلية اللاهوت بالكلية الإسلامية بلاهور قرابة عامين ، وفي عام 1941 نظم حركة البعث الإسلامي وانتخب رئيسا لها ، وألف المودودي أكثر من ستين كتابا عن الإسلام ترجم كثير منها إلى اللغة العربية والإنجليزية ، والتركية والفرنسية ، والبنغالية وغيرها من اللغات المحلية ، في الهند وباكستان ، وكان من أكثر كتاب شبه القارة الهندوباكستانية قراءة
ذهب البابا في رسالته إلى ( أن الأساس الموضوعي للسلام يتمثل في إيجادروح جديدة تبعث التعايش بين الشعوب وتغرس نظرة حديدة لفنسان لأداء واجباته وتحقيق مصيره ، .. كما لابد من إعداد تربية الأجيال الجديدة وتعليمها الاحترام المتبادل بين الأمم والأخوة والتعاون بين الشعوب والأجناس ) و ( دعا الجميع إلى مساندة المنظمات الدولية وتدعيمها والتعريف بها بصورة أفضل وتكريمها وإحاطتها بالعناية والثقة وتزويدها بالسلطات والوسائل الملائمة لمهمتها ،.. )
وأطلق البابا تحذيره من أن ( السلام لا يمكن أن يقوم على أساس من الكلمات البليغة التي تلقى ترحيبا لأنها تلبي الآمال الحقيقية للإنسانية ولكنها يمكن أن تساهم بكل أسف في طمس الروح الحقيقية والنوايا الصادقة للسلام )
ثم أكد أنه ( لا يمكن للمرء أن يتحدث عن السلام بحق في الوقت الذي لا يوجد فيه اعتراف أو احترام لأركانه : من الإخلاص والعدل والحب والحرية ..) على مستوى الأفراد والعلاقة بين الحاكم والمحكوم والعلاقة بين المواطنين ، والشعوب في كفة المجالات ( .. المدنية والثقافية والخلقية والدينية ) ..
( وإلا فلن يكون هناك سلام .. وإنما مزيد من العصيان والحرب التي لا يمكن قهرها بصورة نهائية .. )
ثم ختم الباب رسالته بأن ( السلام ليس استسلاما ولا يتضمن في طياته تصورا وضيعا كسولا للحياة ولكنه يعلن عن أسمى قيم الحياة وأوسعها انتشارا في العالم وأعني بها : الحق والعدل والحرية والمحبة )
وقد ر د السيد أبو الأعلى المودودي بالشكر الصادق على دعوته للسلام معتبرا إياه حجر الزاوية لتحقيق الرخاء والتقدم البشري مبديا أسفه لكون ( الإنسانية لا تزال محرومة منه حتى اللحظة الراهنة ، ، والسبب في ذلك ناجم عن العوامل التي ذكرت بعضها في رسالتك .. وإنني على يقين من أنه ما لم يتم اتخاذ إجراء ما بصورة صارمة ، وبأسلوب ملموس لتصفية هذه العوامل فلن تستطيع الأماني الطيبة ومحض التعبير عن النوايا الحسنة والتعاون أن تقود الجنس البشري إلى غايات بعيدة .
إني أحس إحساسا عميقا أن أشد ما نحتاج إليه هو تفتيش قلوبنا بكل إخلاص وأمانة وصدق . إننا بحاجة إلى تحليل نفسي صريح من جانب الأفراد والجماعات ومجموعة الأمم وأعضاء الطوائف الدينية المختلفة ، تحليل يهدف إلى أن يفهم هؤلاء عيوبهم ونقائصهم ، ويكتشف كل منهم نصيبه المقصود أو العفوي ودوره في العوامل التي تشفي الإنسان ، وكذلك نصيب كل منا ، كل بمفرده في المثل الأعلى الذي نسعى لتحقيقه ونتطلع إليه لإقامة السلام الحقيقي ، وليس ذلك فحسب ، وإنما المطلوب أيضا هو أن يسعى كل واحد منا جاهدا في ضوء ما تقدم لإزالة تلك العوامل التي تعترض الطريق إلى السلام بكافة السبل الممكنة
كذلك من واجب كل منا أن يعمل بقلب مفتوح وصراحة صادقة واتجاه للسلام لا لزيادة الأحقاد والنوايا الشريرة فيحاول مصارحة الرجال الخيرين المنتمين إلى الفئات والديانات الأخرى بالنواحي التي لا تعجبه بصورة مباشرة أو غير مباشرة من سلوكهم ومواقفهم ، وذلك لكي يعمدوا إلى إصلاحها وإزالة أسباب الشقاق .
وبهذه الروح ذاتها أود أن ألفت انتباهكم إلى أمور معينة أنشأت الضغينة في صفوف المسلمين ، وهي أمور تعتبر أساسا لشكواهم من إخوانهم النصارى ، وسوف أبينها هنا لأنكم لكونكم أرفع منزلة في الكنيسة النصرانية تتمتعون به من التبجيل الكبير والاحترام والنفوذ العظيمين أن تصلحوا الموقف وأن تعملوا على إحداث تغيير إلى الأفضل في موقف النصارى وسلوكهم .
كما أود أن أضيف أنني أرحب وأدعو إخواننا النصارى أن يخبرونا بصراحة مماثلة بما يأخذون علينا من شكاوى ذات أسباب معقولة وتؤكد لهم أننا سنبذل قصارى جهدنا للقضاء عليها ، ولن يتسنى لنا – لعمر الحق – أن نعمل على إقامة جو من السلام والمحبة والخير في العالم ما لم ينصف كل منا الطرف الآخر ، وبهذه الطريقة يمكننا أن نتعاون معا على خدمة فضية السلام
وأود أن أقول : إننا حتى ولو فشلنا في إظهار التسامح والكرم تجاه بعضنا البعض فإنه يمكننا على الأقل أن نكف عن التظالم وجرح مشاعر بعضنا البعض
وأقترح أن أبسط أمامكم بأسلوب صريح لا لبس فيه تلك الجوانب من موقف إخواننا النصارى وتصرفاتهم التي تعتبر معادية ومسيئة إلى المقدسات في نظر المسلمين لا في نظر قلة أو فئات منهم فحسب ، بل أستطيع أن أقول في نظر جميع المسلمين في العالم ، وهذا هو سبب شكايتهم من العالم النصراني :
1- إن التهجمات الموجهة ضد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وضد القرآن والإسلام بصفة عامة من قبل المفكرين النصارى في كتاباتهم واعتداءاتهم التي تستمر حتى الآن هذه التهجمات هي مصدر إساءة كبيرة للمسلمين ، وقد تعمدت استخدام عبارة :" تهجم " و" اعتداء " حتى لا ينشأ سوء فهم بأننا نشكو من النقد المنصف والمجابهة المعقولة ، فالمناقشات الأكاديمية التي تتخذ نهجا عقليا وتكون في حدود اللياقة لا يمكن بحال أن تسبب الاحتقار أو الضيق ، فمثل هذه المناقشة لا تسيء إلينا حتى ولو تضمنت أقسى الاعتراضات ، وليس ذلك فحسب بل إن المسلمين يرحبون بذلك ، وإنهم على استعداد تام للمشاركة والإسهام في مثل هذه المناقشات
إنه لمن دواعي سرورهم العظيم أن يواجهوا الحجج القائمة على أساس منطقي ، ولكننا نشعر أننا على حق حين نستنكر تيار المهاجمة المقذعة الموجهة ضدنا بصورة لا ترتفع عن الأكاذيب والشتائم المبطنة بأسلوب عظيم الإثارة والإساءة ، ولا تزال هذه الحملة الكلامية على أشدها
ومن الجدير بالذكر أننا نحن المسلمين نحترم كلا من مريم وعيسى عليهما السلام ونقدرهما أعظم تقدير ، وهذا يشكل جزءا من عقيدتنا وكل كلمة تشم منها أدنى إساءة لهما تعتبر كفرا في ديننا ، أي تجعلنا خارجين عن الإسلام وربما لا تستطيع أن تذكر مثالا واحدا يزعم أن أحد المسلمين قد وجه أدنى إساءة يمكن تصورها للنبي الكريم عيسى عليه السلام وأمه الصديقة عليهما السلام ، ونحن بطبيعة الحال لا نؤمن بألوهية عيسى إلا أن إيماننا بنبوته لا يتزعزع كإيماننا بنبوة محمد عليهما الصلاة والسلام ولا يمكن لأي فرد أن يصبح مسلما بحق ما لم يؤمن بعيسى وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى جانب إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم .
كذلك فإننا نعتقد أن كلا من القرآن والتوراة والإنجيل كتب سماوية ، نزلت من عند الله تعالى ، ولايمكن لأي مسلم أن يكن عدم الاحترام لهذه الكتب المقدسة ، وإذا كانت هناك أية مناقشة لإنجيل في أوساطنا فقد كان ذلك من زاوية التأكد فيما إذا كان الإنجيل المتوفر في أيامنا هذه والمطبوع في كتب صحيحا ومعتمدا أم لا ؟ وهل يحتفظ بالوحي كاملا كما نزل على الأنبياء ؟ وهذه مشكلة تعرضت لنقاش عظيم حتى من قبل علماء النصارى أنفسهم ، ولكن لم يحدث قط أن أنكر أحد من المسلمين أن كلمة الله قد نزلت على أنبياء من أمثال موسى وعيسى وبقية الرسل الوارد ذكرهم في الإنجيل ، إلا أن المسلمين لا يسلمون أن الإنجيل الحالي يتضمن كلمة الله كاملة في صورتها الخالصة ، ومع ذلك فإنهم يؤمنون أنه يشتمل على كلمة الله ، والواقع أن إخواننا النصارى لم تسنح لهم أية فرصة للشكوى بأننا نتعرض لأنبيائهم أو لكتبهم المقدسة ، على العكس من ذلك فقد دلت تجاربنا على أننا نتعرض باستمرار لصنوف التعذيب العقلي من قبلهم ، ولا يزال هذا الوضع مستمرا منذ قرون ، فالمستشرقون وغيرهم من الكتاب والمتحدثين النصارى لا يدعون فرصة تلوح لهم إلا وينفثون فيها سمومهم ضد نبينا وكتابنا المقدس وديننا ، وهذا عامل مهم جدا من العوامل المسببة للتوتر في العلاقات بين الطائفتين العالميتين النصارى والمسلمين ، فهذا يولد المرارة والبغضاء ، كما أن هذه الدعاية الخبيثة تؤدي حتما إلى بث الاحتقار والضغينة ضد المسلمين في قلوب الجماهير النصرانية ، فإذا أقنعتم أتباع الديانة المسيحية بتغيير موقفهم وتصرفاتهم بهذا الشأن بصورة لا تجعل النقد والمعارضة وسيلة للبغضاء والإثارة ، وإذا نجحتم في ذلك فإنكم تقدمون خدمة جليلة لقضية السلام في العالم .
دور جمعيات التبشير النصرانية :
هناك أمر آخر يستدعي الاهتمام الفوري ، ويتعلق بالأساليب التي تستخدمها جمعيات التبشير النصرانية والمبشرون النصارى لنشر ديانتهم في البلاد الإسلامية ، فأسلوب العمل الذي يتبعه مبشرو الإنجيل هؤلاء شنيع للغاية ، ويعتبر مصدرا من مصادر الشقاق والخلاف ، وتتمثل شكوانا في أنهم لا يقصرون نشاطاتهم على نشر الدين فحسب ، ولكنهم بدلا من ذلك يلجأون إلى أساليب وسبل لا مناص من اعتبارها وسائل للضغط السياسي والاستغلال الاقتصادي ، والتخريب للأخلاق والدين ،ويشهد على ذلك ما رأيناه بأم أعيننا وما يشاهد في بقية أنحاء العالم الإسلامي ، فلا يمكن لأي عقل مهما كان محدودا ، ولا يليق بأي إنسان كريم أن يعتبر تلك الأساليب وسائل مباحة لنشر أي دين من الأديان
فقد قام هؤلاء المبشرون في مناطق شاسعة من أفريقيا بحرمان المسلمين من كافة الخدمات التعليمية وذلك بالتواطؤ مع الدول الاستعمارية الغربية وتغافلها عن جرائمهم في الوقت الذي كانوا يسيطرون فيه على تلك المناطق .
فقد أوصدوا أبواب المعاهد التعليمية أمام كل شخص لا يدين بالنصرانية ، أو على الأقل ليس لديه الاستعداد لتغيير اسمه الإسلامي واستبداله باسم نصراني ، وبهذه الكيفية قويت شوكة الأقلية النصرانية وأصبحت الطبقة الحاكمة ، وهذه الفئة المنبثقة القوية النفوذ هي التي تولت السلطات السياسية والعسكرية والاقتصادية بعد الاستقلال في كثير من الدول الأفريقية التي تعيش فيها أغلبية ساحقة من المسلمين ، وهذا ظلم صارخ نزل بالمناطق الأفريقية التي تقطنها أغلبية من المسلمين
وفي السودان استأثر المبشرون النصارى بجنوب السودان بمساعدة الاستعمار البريطاني ، وأصبحت كافة حقوق نشر العلم الحديث امتيازا خاصا بالنصارى دون غيرهم ، وفرضت على المسلمين قيود حتى في زيارة هذا الإقليم ، لا لأغراض الدعوة ونشر دينهم فيه فحسب ، بل لأي غرض كائنا ما كان .
لست أدري كيف يمكن اعتبار مثل هذه الإجراءات وسائل عادلة ومعقولة لنشر الدين ؟!
وهنا في باكستان فإن التصرف المشترك بين كافة المستشفيات والمعاهد التربوية التبشيرية هو أنها تفرض رسوما باهظة على المرضى والطلاب المسلمين ، ، وإذا اعتنق أحد من الفقراء النصرانية فإنه يزود بالتسهيلات الطبية والتربوية بلا مقابل أو برسوم رمزية ن بلا مقابل أو برسوم رمزية ن وواضح أن هذا ليس تبشيرا دينيا ، وإنما هو محاولة للعبث والعبث بالضمير الإنساني والعقيدة مقابل فتات تافهة .
وهناك جانب آخر من المشكلة عظيم الأهمية فالمؤسسات التعليمية للمبشرين تخرج طبقة جديد من الناس من الناس ، طبق لا تتمسك بالنصرانية ولا تظل على دين الإسلام ، وإنما تفصل نفسها عن تراثها ولا تطبق أي تراث أخلاقي آخر .
والنتيجة هي أن تصبح نموذجا غريبا ، من الجنس البشري في مواقفها الأخلاقية ومعاييرها الثقافية وكذلك في أخلاقها وتصرفاتها وفي لغتها وعاداتها الاجتماعية وفي منهج حياتها كله ، فمن وجهة النظر الدينية الصرفية لا تظل هذه الفئة متمسكة بالإسلام كما لا تنجذب نحو المسيحية ، وإنما تنساق بدلا من ذلك في أحضان العلمانية والإلحاد وانحلال الدين والخلق . فهل بوسع أي رجل عاقل أن يعتبر هذه النشاطات من قبل بعثات التبشير النصرانية خدمة للدين بأي وجه من الوجوه ؟
وهذه هي الأسباب الحقيقية التي جعل المسلمين ينظرون بريبة شديدة تجاه هذه البعثات ، ويشعرون أنها لا تعمل في خدمة الدين وإنما تحيك مؤامرة ضد الإسلام والمجتمع المسلم ، رجاء أن تولوا هذه الجوانب قدرا مناسبا من التفكير، وأن تبذلوا نفوذكم لإقناع الإرساليات التبشيرية بالكف عن هذه الأعمال التخريبية المكشوفة والمستورة .
إسرائيل خطر على السلام .
هناك شعور مشترك بين المسلمين تجاه العالم النصراني وهو أنه يكن عداوة شديدة ضد المسلمين ، ومما يقوي هذا الشعور ما نلاحظه ونجربه في كل مكان تقريبا ، وآخر تعبير له : ما حدث بمناسبة الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967 م ، فقد فرح الناس في معظم أقطار أوربا وأميركا بانتصار إسرائيل مما ترك جرحا عميقا في قلوب المسلمين في العالم بأسره ، وربما لا تجد مسلما واحدا إلا ويعتبر موجة الفرح والسرور الطافح التي غمرت أوربا وأميركا على إثر هزيمة المسلمين العرب مظهرا من مظاهر العداوة والبغضاء المتأصلين في أوساط العالم النصراني ضد المسلمين ، فقد زاد ذلك إساءة على إساءة خاصة – إذا نظرنا إليه من زاوية تاريخية
– فقصة وجود إسرائيل بل إقحامها وفرضها علينا ، لم تعد هذه القصة سرا ،فقد ظلت فلسطين طوال الألفي عام الماضية موطنا للعرب ، وفي السنوات الأولى من القرن الحالي { العشرين } كانت نسبة اليهود لا تزيد على ثمانية بالمائة من مجموع السكان وعلى الرغم من هذا قررت الحكومة البريطانية فرض الانتداب في فلسطين مما أكد هذه السياسة ، ولم تكتف بذلك بل أصدرت إليها تعليمات بجعل الوكالة اليهودية شريكا في الحكم ، وذلك لترجمة هذا الاقتراح إلى حقيقة واقعة . – – وسرعان ما بدأت حملة لحشد اليهود من كافة ـرجاء المعمورة ، واستقر هؤلاء المهاجرين في فلسطين بكل الوسائل الممكنة مما رفع نسبته إلى 33 في المائة من كمجموع السكان خلال ثلاثين عاما، وكان هذا ظلما صارخا ، كانت نتيجته طرد سكان البلاط الحقيقيين ، من أوطانهم وفرض أناس غرباء على البلاد وجعلها وطنا مفتعلا لهم .
ولم تنته الجريمة النكراء عند هذا الحد ، بل ارتكب اعتداء آخر أشد ظلما وأكثر تعسفا ، فأخذت أميركا تمارس ضغطا علنيا على الأمم المتحدة حتى تقرر تحويل هذا الوطن اليهودي المصطنع إلى دولة يهودية ، وبناء عليه أعطي السكان اليهود وهم 33 % من مجمع السكان 55% من مساحة فلسطين بينما أجبر 67% من السكان على الانكماش في حدود 45% من مساحة وطنهم إلا أن اليهود بما لديهم من العتاد الذي زودتهم به نفس الدول التي كانت تفرضهم على العرب فرضا لم قنعوا بما قدم لهم ، فلجأوا إلى القوة والإرهاب والضم التعسفي واستولوا على 77% من مساحة البلاد ، وافتعلوا جوا من السلب والنهب والقتل والإرهاب جعلوا الحياة فيه مستحيلة بالنسبة للعرب ، واخذوا يشردون السكان حتى أجبروا أكثر من مليون عربي على ترك بيوتهم وأوطانهم .
هذه لعمرو الحق هي إسرائيل على حقيقتها وعلى ضوء هذه الحقائق التي لا محل للخلاف عليها هل يستطيع أي رجل منصف أمين أن يقول بأن إسرائيل دولة شرعية قامت بوسائل عادلة طبيعية ؟ فالحق أن وجودها ذاته كان عملا عدوانيا شنيعا وعلى الرغم من هذا فلم يرض اليهود بالحدود التي فرضوها بالقوة ، بل على العكس من ذلك فهم يعلنون على رءوس الأشهاد أن وطنهم القومي المزعوم يمتد من النيل إلى الفرات .
وبعبارة أخرى فإن هذا إعلان دائم عن مخططاتهم العدوانية لاحتلال المنطقة بأسرها بالقوة وطرد سكانها الأصليين من بيوتهم وجلب يهود من كافة أنحاء العالمي للاستيطان فيها ، ولقد كان عدوان يونيو 1967 المفاجئ في الحقيقة جزءا من هذا المخطط العدواني ذاته ضمت إسرائيل على إثره منطقة مساحتها 26000 ميلا مربعا .
وليكن معلوما بعبارات واضحة أن المسلمين يعتقدون أن العالم النصراني هو المسئول عن إيقاع هذا الظلم ، وهو السبب الحقيقي في هذا الجور والبغي ، فالشعوب النصرانية هي التي أوجدت وطنا مصطنعا لشعب داخل وطن شعب آخر ؟ والنصارى هم الذين حولوا هذا الوطن الزائف إلى دولة ، ولم يكتفوا بذلك بل جعلوا المعتدي على درجة من القوة وزودوه بالمال والسلاح حتى ينفذ مخططاته التوسعية عن طريق القوة المجردة .
وهذا العالم النصراني نفسه هو الذي يعرب عن سعادته وفرحه العظيم بانتصار اليهود على المسلمين .
فهل تعتقد بعد هذه التجربة المريرة أن أي عربي أو أي مسلم في أي مكان من العالم يمكن أن يصدق التصريحات الكلامية المخلصة للعالم النصراني ؟ وهل يمكن بحال أن يفكر في اعتبار النصارى أنصارا للعدل والإنصاف وتجسيدا للحب والإخلاص ؟ ومن يا ترى يستطيع أن يعتبر النصارى شعوبا بعيدة عن مشاعر الحقد والتعصب الديني ؟ وكيف يمكن للمسلمين أن يثقوا بهم بصورة من الصور ؟ وهل لي أن أسأل : هل تعتقد أن السلام يمكن أن يقوم في العالم رغم هذا كله ؟
حقا إن هذا ليس من واجبنا بل هو من واجبكم أن تجعلوا إخوانكم النصارى يحسون بوخز الضمير وتأنيبه على هذه السابقة الشنيعة ، ويحاولون تصفية نفوسهم وتطهيرها من الشوائب والدنس ؟
السيطرة الدولية على القدس ؟
وبصدد الحديث عن إسرائيل لا أملك إلا أن أبين أن جنابكم قد ارتكبتم غلوا وتجاوزا للحد رغم أني أعتقد أن ذلك قد تم بحسن نية ، فنيتكم الطيبة {} فوق مستوى الشك ، ولكن يبدو أن قد فاتتكم جوانب معينة من القضية : إنني أشير هنا إلى اقتراحكم بوضع القدس القديمة تحت إشراف دولي ، فربما جاء اقتراحكم هذا بقصد حماية المدينة المقدسة وحفظها من ويلات الحرب والنواع والدمار ولكن الذي سيحدث يغاير ذلك مغايرة تامة : فإن ذلك سيفتح الباب لا رتكاب مظلمة أخرى وبدء مأساة جديدة ، فمن الجلي الواضح أن الرقابة الدولية ستتم عن طريق المنظمة الدولية ذاتها التي جاءت بهذه الدويلة المصطنعة إلى حيز الوجود _ أعني إسرائيل – والتي تعجز عن ردع أي عدوان ترتكبه إسرائيل أو إصلاح أي خطا تقترفه حتى هذه اللحظة ، وبمجرد ان تنتقل هذه المدينة إلى أيدي الأمم المتحدة فإنها ستفتح أبوابها على مصراعيها لتوطين اليهود تماما كما حدث في ظل الانتداب الذي منحته عصبة الأمم للحكومة البريطانية ، وسوف تبدأ موجة جديدة من الهجرة اليهودية إلى المدينة ، وستتوفر للمستوطنين اليهود كافة التسهيلات للحصول على الأراضي والممتلكات وشرائها في القدس بالوسائل المشروعة وغير المشروعة ، وهكذا سيحتل اليهود المدينة بأسرها ويتحكمون في مصيرها وهم لا يعرفون معنى الاحترام للأماكن المقدسة عند النصارى والمسلمين على السواء ، وهذا ما سيفضي إليه الاقتراح في الحقيقة { هذا ما تم فعلا }
أرجو المعذرة على هذا الرد المطول جوابا على رسالتكم ، كما أرجو عدم المؤاخذة للأسلوب الصريح المباشر الذي حاولت به مشاطرتكم أفكاري ، فالواقع أنني اعتقدت أن من واجبي أن أبين لكم العقبات الحقيقية التي تعترض سبيل إقامة السلام ، والتي يجدر إزالتها ومعالجتها بصورة ملموسة ، وقد كنت صريحا في رسالتي وأتوقع ذلك من عطوفتكم
مرة ثانية : أكرر أنه إذا كان هناك أي شيء من جانب العالم الإسلامي يمكن أن يكون عائقا في سبيل السلام فأرجو عدم التردد في بيانه لنا ، وأعدكم أنني سأبذل ما لدي من تأثير في العالم الإسلامي لخدمة هذه القضية
كما أنني على استعداد لأن ألفت أنظار يقية الزعماء في المجتمع الإسلامي تجاه هذه المشكلة ، وان أدعوهم لبذل قصارى ما يستطيعون ، لإزالة العوائق من الطريق المؤدي إلى السلام والمحبة ) .
لاهور
17 يناير 1968 المخلص أبو الأعلى المودودي
نقلا عن مجلة الأزهر عدد شعبان 1397 \ يوليو 1977
إنتهى . . .