.
قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ

[الأنعام 50]

ينفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه صفة من صفات الألوهية ؛ لأن الخزائن الكونية هي في يد الله ، وكذلك ينفي عن نفسه علم الغيب . ولقائل أن يقول :

ولكن ماذا عن الأشياء والأحداث التي كان يخبرنا بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . وهي أحداث مستقبلية ؟

نقول : إن ذلك ليس علماً بالغيب ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم مُعَلَّم غيب ، أي أن ربنا سبحانه وتعالى قد علمه ، ومثال ذلك قول القرآن الكريم :

ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
[سورة آل عمران 44]

إن الحق سبحانه هو الذي علَّم رسوله صلى الله عليه وسلم تلك الأخبار التي كانت من أنباء الغيب ، ويحسم الحق هذه المسألة عندما يقول :

عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا {72/26} إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا {72/27}
[الجن]

فسبحانه وتعالى هو وحده عالم الغيب ، ولا يُطْلِع أحداً من خلقه على الغيب إلا الرسول الذي يرتضيه الله ليخبره ببعض من الغيب ، ويُحفظ الحق رسوله في أثناء ذلك بملائكة حفظة تحميه من تعرض الجن لما يريد إطلاعه لئلا يسترقوه ويهمسوا به إلى الكهنة قبل أن يبلغه الرسول وحتى يصل الوحي إلى الناس خالصاً من تخليط الجن وعبثهم .

إذن فالرسول مُعَلَّم غيب وليس عالم غيب . والغيب - كما نعلم - هو ما غاب عن الحس ، ولم توجد له مقدمات تدل عليه ، فهناك أشياء تغيب عنك ولكن لها مقدمات ، فإن ألتزمت بالمقدمات من بدايتها يمكنك أن تصل إلى نتيجة . مثال ذلك :

إن أعطيت تلميذ مسألة حسابية ليقوم بحلها ، وعندما يحل التلميذ هذه المسألة فهو لم يعلم الغيب ، ولكنه أخذ المقدمات والمعطيات ، وبحث عن المطلوب ، واخذ يرتب المعلومات ليستنبط منها النتيجة .

وكذلك حال الذين أكتشفوا اسراراً في الوجود ، أعلموا غيباً ؟ لا

إنهم فقط استخدموا بعضاً من المقدمات التي كانت موجودة أمامهم في الكون ، وتوصلوا إلى نتائج جديدة ، صحيح أن هذه النتائج كانت غائبة عنا ، ولكن مقدماتها كانت موجودة ، وكذلك كل النظريات الهندسية ، كل نظرية نجدها تعتمد على سابقتها ، وكل نظرية - حتى اعقدها وأصعبها - هي ملاحظة لأمر بدهي في الكون .

وكل علم من العلوم له مقدمات إن بحث فيها باحث فإنه يصل إلى النتائج الجديدة ، وهذا ما نسميه (( غيباً إضافياً )) ، أي كان غيباً في وقت ما لكنه غير غيب في وقت آخر ، ولذلك يُنسب هذا العلم إلى البشر دائماً ، ولنقرأ قول الحق سبحانه :



وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ..(255)
[البقرة]

والإحاطة بالعلم كلها لله ، وهو سبحانه الذي يأذن لبعض من خلقه بالإحاطة ببعض من هذا العلم ، وكل سر من أسرار هذا الكون لا يولد إلا بإذن منه سبحانه وتعالى ، وهو سبحانه يوفق العلماء أن يبحثوا في المقدمات ليصلوا إلى النتائج . ولكن ماذا عن العلم الذي لا توجد له مقدمات ؟ هذا من الغيب المطلق الذي لا يظهره الحق لأحد إلا لمن أرتضى من رسول .

أقول ذلك حتى لا يخطيء أحدنا فيظن أن أخبار إنسان لإنسان بمصير شيء ضاع منه هو معرفة بالغيب ، فقد يكون هذا غيباً بالنسبة لصاحب الشيء الضائع ، ولكنه ليس غيباً بالنسبة للص الذي سرقه ولا هو غيب للشخص الذي أخفى المسروقات ، ولا غيب بالنسبة للجان المحيطين بالنسبة للص ، إذن فهذا ليس غيباً مطلقاً ، ولكنه غيب معلوم للغير .

إذن فخزائن الله ملأى بكل أنواع الخير التي تؤدي للإنسان مهمة البقاء في الأرض سواء من جهة الضرورات أو الأشياء الترفية .

وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ
[الأنعام50]

إذن فالرسول ينفي عن نفسه بقول الحق ثلاثة أشياء : منها شيئان ينفيان الألوهية عن الرسول ، وهي ملكية خزائن الكون ، وعلم الغيب ، وشيء ثالث وهو أنه ليس مَلَكاً .

فهل يعني ذلك أن المَلَك أرفع من النبي ؟ لا

ولكنهم قالوا : إنه يمشي في الأسواق ويتكسب العيش بالعمل , والمَلَك لا يفعل ذلك .

ولكن رسول الله بالطبع أرقى منزلة من المَلَك ، لأنه يقوم بهداية الإنس والجن ويتبع ما يوحيه إليه ملِك الملوك ، وهو الحق سبحانه وتعالى :

إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ

والله أعلم

الإمام / محمد متولي الشعراوي
.