يشير الباحثون إلى أن وسائل الإعلام تقدم واقعها الخاص الذي كثيرًا ما يأتي مغايرًا -إن لم يكن منحرفًا- عن الواقع الحقيقي المحيط بالفرد، ومن ثَم ظهر اتجاه بحثي في دراسات الاتصال يعنى بتحليل سمات واقع وسائل الإعلام، خاصة تلك التي تقدم بيئة حية مثل التلفزيون والسينما؛ وذلك لرسم هذا الواقع ورصد الصورة النمطية التي تسم جوانب هذا الواقع مثل السمات الشكلية للأشخاص وسماتهم القيمية التي تحكم علاقاتهم.

وأشارت نتائج الدراسات التي أجريت في بلاد مختلفة وعلى فترات زمنية متغايرة إلى وجود نوع من التنميط للأدوار التي يقوم بها الفرد في عالم السينما والتلفزيون بناء على جنسه، كما يوجد نوع من التنميط Stereotyping أيضًا للسمات الجسدية لكل من المرأة والرجل، حيث اتفق المنتجون على اختلاف ثقافاتهم - على وضع المرأة في برواز يجذب المتلقي ويبيعه السلعة أو الفكرة أو يعطيه إشباع الحصول على جو نفسي وواقع يريحه من واقعه المليء بالتعقيدات.

صورة نمطية

ويمكن تناول هذه الصورة النمطية التي تظهر من خلالها المرأة في وسائل الإعلام المرئية من حيث كل من الشكل ونسق القيم الذي تقدمه، ثم نتناول انعكاسات هذه الصورة على المتلقي والمجتمع ككل والأسرة.

أولاً: صورة المرأة من حيث الشكل:

ألحت على مخرجي الأعمال الدرامية فكرة العناية بالمواصفات الجسدية للأنثى التي تؤدي الأدوار الرئيسية والثانوية في المسلسلات والأفلام، ففي دراسة تم خلالها تحليل مجموعة من المسلسلات الأمريكية وجد الباحثون أن 69% من الشخصيات النسائية توافرت فيهن صفة الرشاقة، في حين أن هذه السمة لم تتوافر إلا لدى 17% من الرجال الذين كانوا من ذوي القوام الرياضي في المسلسلات. كما يلاحظ في الأعمال الدرامية أن الرجال يشيخون إذا كانت الأحداث ممتدة على مدى زمني كبير في حين لا يمر الزمن على النساء، فتظل الأنثى محتفظة بشكلها الجذاب حتى وإن تعارض ذلك مع المنطق الدرامي للأحداث.

ومن الغرب إلى الشرق تثبت الصورة النمطية لشكل الأنثى الذي تحرص الشاشات على إبرازه، ففي دراسة عن محتوى الإعلانات التلفزيونية في اليابان اتضح وجود اختلاف بين صورة كل من المرأة والرجل.

فالمرأة التي تقدمها تلك الإعلانات اليابانية إما صغيرة تجذب انتباه الآخرين، أو شخصية مشهورة شابة وجذابة، أو ربة بيت جميلة وفي صور الشباب أيضًا.

أما الرجل الياباني كما قدمته الإعلانات فهو إما في منتصف العمر ومن أصحاب المهن، أو من الشيوخ الذين يستمتعون بخصوصيتهم.

وفي دراسة بريطانية قديمة (1980) تم تحليل صور النساء التي احتلت صفحات الغلاف للمجلات الإنجليزية وجدت الباحثة (فيرجسون) أن الصورة الأكثر تقديمًا للمرأة على غلاف المجلات هي الوجه الحالم للمرأة ثقيل الجفون والذي يعطي إيحاء بأنها متاحة available أو تعطي إيحاء بالدعوة invitation للاقتراب.

كذلك أشارت الدراسات إلى وجود سمتين أساسيتين في شكل بطلات المسلسلات وفتيات الإعلانات، وهما: الطول والرشاقة أو -إن شئت- النحافة، حيث وجدت إحدى الدراسات أن النساء اللاتي يقدمن في البرامج والمسلسلات والإعلانات حاليًّا يزدن في متوسط الطول وينخفضن في متوسط الوزن عن النساء اللائي كن يظهرن في التلفزيون، تختلف كثيرًا عن السمات الجسدية للنساء في العالم الحقيقي، كما أن هذه السمات الجسدية المفرطة في النحافة (الممثلة بطلة مسلسل آني ماكييل كانت تغازل في المسلسل؛ لأنها ترتدي ملابس مقاس صغير "أصغر مقاس نسائي") تتعارض مع التكوين البيولوجي للفتاة التي تحتاج إلى وجود نسبة من السمنة fat في جسمها في بداية البلوغ menarche.

هذا التركيز على سمتي الطول والنحافة في الأنثى تحول إلى معيار لقياس جمال المرأة، حيث قام باحث بتحليل أوزان وأطوال الحائزات على لقب ملكات الجمال على مدى عشرين عامًا، فوجد أن الأوزان تقل والأطوال تزيد (مما يعني مزيدًا من النحافة) مع مرور الوقت وصولاً إلى وقتنا الحالي.

بالتالي فإن النتائج تكاد تتفق على أن النساء في عالم التلفزيون لا تمثلن النساء في العالم الحقيقي سواء من حيث الشكل أو العمر، ومن ناحية أخرى فإن المرأة التلفزيونية صارت هي الأيقونة التي تحدد معايير الجمال في الواقع الحقيقي، ومن ثَم فإنه من اللافت للنظر أن تتحول غالبية الجنس الناعم في محطات التلفزيون العربية إلى شقراوات زرق العيون سواء بالنسبة للمذيعات أو فتيات الأغاني أو الممثلات، وهو ما لا يتفق مع السمات الشكلية، ولكنه ينسجم مع معايير الجمال السائدة.

وفي دراستين أجريتا بكل من كينيا وزامبيا كان النحول والطول أيضًا صفتين شائعتين بين نساء عالم التلفزيون، ولكن بالطبع يمكن أن نقول إن ذلك ربما اقترب من التكوين البيولوجي للفتاة الأفريقية.

هذا الإلحاح على تقديم المرأة داخل إطار شكلي معين ظل مستمرًّا على الشاشة أو صفحات الغلاف، بمعنى أن هذا الاتجاه تصاعد في شدته دون أن يتغير إلى النقيض، في حين أن صورة الرجل أو الشخصية الذكورية المحورية في الدراما شابها التحول في العقد الأخير مقارنة بالتقاليد الهوليودية الكلاسيكية، فبعد أن كان الشخص المسيطر هو القوي مكتنز العضلات صار الرجل الناعم Soft man أو الشاذ جنسيًّا Gay هو المسيطر أو الشخصية المحورية.

أما الشخصية المحورية الأنثوية فظلت محتفظة بشروط الملاحة والرشاقة حتى وإن كان سلوك الشخصية الأنثوية عنيفًا أو مسيطرًا (مثل المرأة الخارقة التي تحل المشاكل وتصرع الشر بالقوة، أو نجلاء فتحي في فيلم "المرأة الحديدية" التي تنتقم من الشر بتعلم الكاراتيه.

ثانيًا: صورة المرأة من حيث الموضوع أو القيم:

خضعت الأدوات التي تؤديها النساء في عالم التلفزيون إلى درجة عالية من التنميط والحصر داخل قوالب محدودة، وهي نتيجة طبيعية للتعامل مع المرأة كجسد ذي سمات مطلوبة ومرسومة، فإذا نظرنا إلى الإعلانات مثلاً لوجدنا أن المرأة يستعان بها في إعلانات السلع الاستهلاكية التي لا ترتبط بالضرورة بالأنثى مثل المشروبات الغازية والأثاث والأطعمة مثل البسكويت والشيكولاتة واللبان، في حين أن الرجل يعرض أكثر في إعلانات الخدمات، وبالتالي السلع الإنتاجية، مثل البنوك والتأمين وأجهزة الحاسب الآلي، ويعتبر هذا النمط في تقديم الذكر والأنثى في الإعلانات أمرًا متفقًا عليه بين الكثير من أنظمة الإعلام في العالم، إلا إذا كان للثقافة المحلية دور أو طبيعة تتعارض مع هذا النمط، حيث وجدت إحدى الدراسات أن إعلانات الأطعمة في إيطاليا تعتمد على الرجال بشكل كبير.

ازدواجية التناول


الأمر الآخر اللافت للنظر أن المرأة في عالم التلفزيون كما يقدمها الغرب لا تعكس القيم الليبرالية التي يتبناها الغرب من حيث المساواة بين الجنسين في الحقوق وفرص العمل والإرث وغير ذلك، حيث أظهرت عدة دراسات حول القيم المصاحبة للشخصيات النسائية في الإعلان أن المرأة غالبًا ما تظهر في الإعلان قليلة الحيلة أو تقف بانتظار الموافقة أو المكافأة من الرجل، كما أشارت باحثة أمريكية (فان إيفرا، 1990) إلى أن المرأة في عالم الدراما تظهر مفرطة في العاطفة، ومعتمدة على الرجل، في حين أن الرجل هو الذي غالبًا ما يظهر بصورة الساعي على إطعام وكفالة الأسرة Bread – winner.

كذلك تشير دراسات أخرى إلى أن وظائف النساء في الإعلام التلفزيوني غالبًا ما تأتي في فئة محددة من الأعمال: الممرضة - الخادمة - السكرتيرة - عارضة الأزياء Model - النادلة، أما الوظائف العليا أو أصحاب النفوذ السياسي أو المالي في إعلام التلفزيون فتأتي حكرًا في الأغلب على الرجال، وعندما تشغل المرأة منصبًا مرموقًا تجدها مهملة لأسرتها أو فاشلة اجتماعيًّا. كذلك أشارت دراسة تحليلية عن الأخبار في شبكات التلفزيون الأمريكية إلى أن الرجال يمثلون غالبية الخبراء أو المحللين والمعلقين الذين يظهرون في الأخبار، كما أن المراسلين هم الأكثر ظهورًا وتغطية للأخبار الجادة (السياسية - الاقتصادية - العلمية) من المراسلات الإخباريات.

أما المرأة في عالم الدراما فهي أكثر وعيًا بجسدها، وأكثر اعتمادًا عليه في تطوير الصراع الدرامي ومن ثَم حل الصراع، حتى النساء اللائي اعتمدن على القوة الجسدية في مواجهة الشر استخدمن جمالهن في استدراج الأشرار والإيقاع بهم. والاعتماد على القدرات الأنثوية غالبًا ما يأتي مغلفًا بالذكاء و"استهبال" الرجل الذي يندفع نحو غرائزه، وأحيانًا أخرى كان يأتي كوسيلة لارتقاء السلم الاجتماعي بسرعة وتحسين الأوضاع المعيشية أو المهنية والسلوكية.

ثالثًا: الآثار الوجدانية للصورة النمطية للمرأة:


هناك أكثر من نظرية تشرح وتتوقع كيف تؤثر سمات عالم الإعلام المرئي على اتجاه الفرد نحو ذاته والآخرين، وكذا على سلوكه في العالم الحقيقي، وربما كانت نظرية التعلم الاجتماعي social Learning لـ"بندورا" من أوائل النظريات التي تناولت هذا التأثير، حيث أشار إلى أن البشر -خاصة في المراحل العمرية المبكرة- يكتسبون المعرفة، ومن ثَم السلوك من خلال التعلم بالمحاكاة أو التقليد. ونظرًا لأن الواقع الاجتماعي الذي يقدمه التلفزيون له جاذبيته من ناحية، ويتكرر يوميًّا من ناحية أخرى، فإنه من المتوقع جدًّا أن يحاكي المتلقي القيم وأنماط السلوك التي يتعلمها من عالم التلفزيون وينقلها إلى واقعه الحقيقي.

كذلك تشرح نظرية "التكييف الاجتماعي" social conditioning جانبًا آخر لتأثير وسائل الإعلام؛ لأن طبيعة الصورة النمطية التي يقدمها التلفزيون أنها تصبح جزءاً من القيم التي يعتنقها الفرد لا شعوريًّا؛ نظرًا لأنها تكرر وترسخ معها أنماطًا للسلوك الذي يجعلها مألوفة، أي أن التلفزيون يوجد نوعًا من التكييف للأفكار والقيم لتصبح في النهاية مقبولة اجتماعيًّا، حتى إن اصطدمت في البداية بالقيم والأفكار السائدة في المجتمع.

هذه التوقعات أيدتها دراسات كثيرة اختبرت تأثير الصورة النمطية للمرأة على الاتجاهات والسلوك.

آثار سلبية

فالصورة النمطية لجسد المرأة في التلفزيون كانت ذات أثر سلبي على المشاهدات، حيث ارتفع معدل الإحباط وعدم الرضا عن الذات لدى الفتيات عندما يقارنَّ بين أجسادهن وأشكالهن وما يرينه على الشاشة، كما ارتفع متوسط الإنفاق على إجراءات إنقاص الوزن لدى الكثير من السيدات مقارنة مع متوسط الإنفاق من أجل الغرض ذاته في عقود سابقة.

كذلك استخدمت الصورة النمطية للمرأة وسيلة لترويج السلع وإدخال تيارات جديدة من السلوك في المجتمعات، حيث اعتمد المعلنون على بيع الصورة الذهنية Image لترويج السلعة، مثل الإعلانات التي كانت تقدم المرأة المدخنة في الولايات المتحدة في الخمسينيات على أنها الأكثر جاذبية، وبالتالي تم الترويج لنوع من السجائر باعتباره مخصصا للمرأة المدخنة.

وفي دراسة على عينة من 166 مراهقة هولندية ظهر أن الفتيات اللائي يشاهدن الدراما التي تقدم الأمهات باعتبارهن ربات بيوت يقدمن سعادة الأطفال ويضعنها في المقام الأول كان لديهن (أي الفتيات) تصورات ذهنية مطابقة لما تقوم به الأمهات في الحقيقة، كما انطبقت هذه الصورة على الدور الذي يردن أن يقمن به عندما يصبحن أمهات، وتشير هذه النتيجة إلى تأثير الدراما على المشاهد من خلال التقمص الوجداني والميل إلى المحاكاة.

وكثير من الموضات أو الصراعات كانت وسائل الإعلام هي منصة الإطلاق لها والمروج لها إما بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل قَصة الشعر التي أخذت اسم الفيلم الذي ظهر فيه البطل بهذا الشكل (أحمد زكي في فيلم كابوريا)، أو الجلباب الحريمي الذي ظهرت به إحدى المطربات في فيديو كليب شهير (جلباب نانسي عجرم، وهي دعاية استخدمتها كثير من المتاجر في القاهرة)، والأمثلة كثيرة.


--------------------------------------------------------------------------------

*قدمت هذه الورقة ضمن أعمال مؤتمر الدوحة العالمي للأسرة وذلك في محور "دور الإعلام وانعكاساته على الأسرة".. الذي أقيم في دولة قطر في الفترة من 28 - 29 نوفمبر 2004.