البلاغة العالية في آية المداينة .....دكتور سعيد جمعة الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

    

 

 

    

 

البلاغة العالية في آية المداينة .....دكتور سعيد جمعة الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر

صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 17

الموضوع: البلاغة العالية في آية المداينة .....دكتور سعيد جمعة الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي البلاغة العالية في آية المداينة .....دكتور سعيد جمعة الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخوتي الكرام
    هذا كتاب وجدته في ملتقي أهل التفسير و رأيت أنه ربما يكون مفيدا فأحببت أن أنقله إلي منتدانا الكريم














    يقول الله تعالى :
    ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً
    فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ
    يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
    وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْه
    ِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
    وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا
    رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ
    إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ
    وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:282)

    تقديم
    الحمد لله رب العالمين ’ والصلاة والسلام على خاتم النبيين , وعلى آله وصحبه أجمعين , ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين , أما بعد :
    فإن المتابع للاقتصاد العالمي – فضلا عن الاقتصاد الإسلامي – لايخفى عليه ملاحظة هذه الظاهرة - ظاهرة التعامل بالدين –التي سادت الأسواق , واتسع نطاقها حتى عمّت جل المعاملات , بين الشركات , والمؤسسات , والبنوك , والأفراد حتى بين الدول بعضها وبعض .
    والمعلوم سلفًا أن الديون و المعاملات التي تدور في فلكها كثيرة , منها : ( بيع السلم , والبيع بالأجل , والبيع بالتقسيط , والقرض الصريح ) وما شابه ذلك ....
    ولقد دخلت الديون بيوتا كثيرة في عصرنا الحاضر في ظل ظروف اقتصادية صعبة زاد فيها الكساد , وقل فيها الإنتاج , وكثر فيها الاستيراد , وزاد من تفاقم الأمر رغبة الكثير من الناس في التمتع بكماليات الحياة الحديثة التي باتت تعلن عن نفسها في كل مكان , وتزينت في إعلاناتها بكثير من سبل الإغراء , من شاكلة :
    تمتع بكل ما تريد ولا تدفع الآن .
    بدون مقدم .
    بدون فوائد .
    على خمسين قسطا.
    أول قسط بعد ثلاثة أشهر ......
    إلى آخر تلك المغريات الكثيرة , والنفس راغبة إذا رغبتها , فيجد الإنسان نفسه قد امتلك السلعة في وقته الحاضر دون أن يدفع شيئا , ولم ينظر في عاقبة أمره , وغالباً ما تكون عاقبة أمره خسراً..!!
    وهكذا صار المجتمع إلى هذه الهاوية , وهي دائرة لا تكاد تنتهي , وبخاصة بعد تعذر السداد , إما بسبب
    إعسار المدين , أو المماطلة وادعاء الفقر .
    هذا في نوع واحد من أنواع التعامل بالدين - وهو بيع التقسيط - , فإذا نظرت إلى البنوك وما تعطيه من قروض , وإلى معاملات الشركات , والمؤسسات , هالك المشهد , ورأيت الصورة قاتمة , حتى كثرت الخلافات والقضايا المطروحة أمام القضاء بسبب الديون , وحتى أصبح الإنسان المسلم الآن لا هم له , ولا شاغل إلا كيفية سداد ما عليه من ديون , والخروج من التبعات التي فرضت عليه حينا , وسعى إليها أحيانا أخرى , وكأنني أرى الأمر مدبراً للعالم الإسلامي حتى يظل أهله في هذه الدائرة التي لا تنتهي .

    ولما كانت هذه المشكلة تمس الكثيرين _ حيث هي من البلاوي العامة _ كان لابد من البحث لها عن علاج , لنخرج من هذا الطوفان الجديد , طوفان الديون .
    ولا شك أن علاج مشكلات الحياة كلها كامن في كتاب الله تعالى , وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم- ولقد جاءت آية واحدة في القرآن الكريم لتعالج هذه المشكلة , وتنظم , وتضمن الحقوق المالية بين الناس , وهي أطول آية في القرآن الكريم .
    فالمشكلة إذن قائمة .
    والحل في كتاب الله تعالى .
    والذي يبقى هو إماطة اللثام عن مقصود الآية , ودلالاتها , وجذب أنظار الناس إلي العلاج الرباني لهذه الآفة التي نحن بصددها , حتى يكون الناس على بينة من أمرهم .
    كما أنه لاشك في أن علم البلاغة هو العلم الذي يضع في مقدمة أولوياته محاولة الوصول إلى أقرب مقصود من المعنى القرآني , ولذلك كان تناول هذه الآية تناولا بلاغيا يبتغى من خلاله الوصول إلى أقرب المرادات الإلهية من الآية القرآنية . وبهذا توفر للبحث مقوماته الأساسية :
    فمحل البحث : آية الدين .
    ونوع البحث : بحث بلاغي .
    والسبب الداعي إليه : ما ألم بالمجتمع من أعباء بسبب الديون .
    والغاية من البحث : محاولة الوصول إلى مراد الآية وحكمها الفصل في هذه المشكلة ؛ ليتبين لنا أيها
    حق ؟
    هل هو إطلاق هذا النوع من التعامل _ كما هو حادث الآن في المجتمع الإسلامي _ ؟
    أم الإبقاء عليه ودعمه , ولكن بالقيود التي تهذبه ؟
    أم محاربته والقضاء عليه وتجريم التعامل به ؟
    والإجابة سنتعرف عليها من خلال مدارسة هذه الآية مدارسة بلاغية .
    وبعد كل هذا يبقى المنهج .
    فما هو المنهج الذي ينتهجه هذا البحث ؟ وما هي الخطة المرسومة لإظهاره للقارئ الكريم ؟









    التمهيد وفيه

    1 ) منهج البحث


    2 ) خطة البحث

    ******















    منهج البحث
    وهو منهج قائم على ثلاثة محاور :

    المحور الأول :
    النظر إلى النص نظرة كلية عامة من الخارج ؛ لبيان موقعه ومقاصده الكلية ,
    ومقصوده الأعظم , وسياقه العام والخاص .. ونحو ذلك .
    المحور الثاني :
    قائم على التحليل البياني , وينطلق من أعلى جزئياته , ثم ينتهي إلى أصغر جزئياته ؛
    لبيان الخصوصيات البلاغية ودلالاتها , وعلاقات هذه الأجزاء ببعضها , والصور
    المرسومة من خلالها , وعلاقة كل ذلك بالغرض العام .
    المحور الثالث :
    وهي النظرة الختامية ؛ أو ما يسمى بإعادة تركيب هذه الجزئيات لبيان الأسلوب
    الشائع فيها وأثره في فهم مراد الآية , وعلاقة باقي الأساليب به .

    وهذا المنهج يتيح النظر إلى النص ثلاث مرات
    : ( رؤية عامة , ثم رؤية تحليلية , ثم رؤية عامة مرة أخرى )
    ولاشك أن كل رؤية من هذه الثلاث تحاول الربط أو تحاول البحث عن مقصود النص عامة , أو أقرب مقصود إليه , وتلك مهمة البلاغة العُليا ؛ حيث إنني أوقن بأن علم البلاغة ليس قاصرا على تذوق الأساليب وإبراز ما فيها من جمال ؛ لأن ذلك يبعد البلاغة عن دائرة العلوم , ويلحقها بعالم الفنون .
    وكل علم لابد أن يكون له دور في خدمة الإنسان ومساعدته في إعمار الحياة على وفق منهج الله تعالى ؛ ليتحقق بذلك استخلافه المأمور به من رب العزة .
    ومن هنا تكون البلاغة من أشرف العلوم ؛ إذ إنها أقرب العلوم لبيان المراد من الكلام من خلال الوقوف على مفرداته , وتراكيبه , وعلاقاته , ومقاصده .





    خطة البحث
    يتكون هذا الكتاب من مقدمة , وتمهيد , وستة فصول , وخاتمة , وفهارس .

    • في المقدمة :
    أتناول وجه الحاجة إلى هذا الموضوع , ونوع الدراسة , ومحلها , والسبب الداعي إليها , ثم الغاية منها .
    • وفي التمهيد :
    أبين منهج البحث وخطته .
    أما المنهج : فهو منهج تحليلي ذو ثلاث خطوات :
    الأولى : نظرة كلية عامة .
    الثانية : تحليل النص بداية , من أكبر الوحدات , وانتهاءً بأصغرها .
    الثالثة : نظرة كلية أخيرة , وفيها يتم إعادة تركيب ما تم تحليله .


    أما الخطة : فأظهر فيها خطوات , وتقسيمات هذا العمل من خلال فصوله المتنوعة .
    • ثم يأتي الفصل الأول : النظرة الكلية الأولى للآية :
    وفيه أتناول النظر إلى النص من خلال عدة أمور :
    1 ) موقع سورة البقرة على مدرجة القرآن الكريم .
    2 ) المقاصد الكلية داخل سورة البقرة .
    3 ) وجه البلاغة في موقع الآية .
    4 ) المقصود الأعظم لسورة البقرة وعلاقة الآية به .
    5 ) وجه اختصاص سورة البقرة بآية الدين .
    6 ) السياق العام والخاص للآية .
    7 ) علاقة الآية بأول السورة وآخرها .
    8 ) وجه البلاغة في طول الآية
    9 ) آية المداينة بين التثقيف والتكليف .
    10 ) مصطلحات وحدود .

    • الفصل الثاني : المعجم اللغوي للآية ودلالته :
    وفيه أتناول أساليب الآية , وأفعالها , وأسماءها , وحروفها , ثم أقف على ماوراء ذلك من معان .


    • الفصل الثالث : التحليل البلاغي للآية :
    وهذا هو المبحث الرئيس ؛ حيث أتناول فيه التراكيب والجمل , والمفردات بالتحليل , مبينا قدر الطاقة وجه البلاغة خلف كل لفظة وموقعها , وصيغتها , وعلاقتها , وأضع لكل جملة في الآية عنواناً من خلال الأسلوب البلاغي البارز فيها .


    • الفصل الرابع : الإيقاع في آية الدين :
    وأحاول في هذا الفصل تسمُّع دلالات النغم في الكلمات , والجمل , والأساليب , وأثر ذلك في بناء المعنى .


    • الفصل الخامس : إعادة التركيب :
    وفي أعيد النظر إلى الآية بعد التحليل ؛ لبيان ما ظهر من خلاله من أساليب مهيمنة ؛ وعلاقات هذه الأساليب .


    • الفصل السادس : الأحاديث النبوية الواردة في شأن الديون :
    وفيه أجمع بعض الأحاديث النبوية التي وردت في شأن الديون ؛ لبيان ما ترمي إليه الآية في مجملها , وبيان وجه الاعتلاق بين هذه الأحاديث ومضمون الآية .

    ثم تأتي الخاتمة :
    وفيها أحاول الوقوف على ثمرة هذا البحث , وما ينبغي علينا الأخذ به في شأن الديون .

    ثم تكون الفهارس العامة للموضوعات والمراجع .....إلخ

    والله تعالى من وراء القصد وهو حسبي ونعم الوكيل
    دكتور / سعيد جمعة
    الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر
    كلية اللغة العربية فرع شبين الكوم

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    الفصل الأول
    النظرة الكلية الأولى للآية















    أولاً : موقع سورة البقرة على مدرجة القرآن الكريم

    غير خفي أن ترتيب السور في المصحف الشريف يخالف ترتيبها نزولا , وذلك لاقتران النزول بملابسات ووقائع في حياة الناس زمن البعثة .
    والثابت أن سورة البقرة ظلت تتوالى أياتها نزولا سنوات عدة , وكان في أثناء نزول آياتها تنزل آيات سور أخرى , وكان جبريل -عليه السلام - ينزل بالآية , وموضعها من سورتها على النبي –صلى الله عليه وسلم فيأمر النبي عليه الصلاة والسلام كُتّاب الوحي بأن توضع آية كذا في سورة كذا , محدداً موضعها(1)
    حتى إذا ماتم القرآن الكريم نزولاً كانت كل آية في كل سورة في موضعها المحكم , وكذلك كل سورة في موضعها من النسق الكلي للقرآن الكريم على النحو الذي هو عليه في اللوح المحفوظ وفي بيت العزة من السماء الدنيا ( 2)

    وإذا كانت الفاتحة هي أم القرآن ( 3 ) ؛ فإن البقرة هي السورة البكر , وهي أول الذرية , وهي بداية التفصيل الذي جُمِع في الفاتحة .
    كما أنها أطول السور القرآنية , ومن أعلاها قدراً ؛ ولذلك أطلق عليها رسول الله –صلى الله عليه وسلم ( سنام القرآن ) (4) .
    والسنام هو أعلى شيء في الجمل , وهو الموضع الذي لا يلتصق أبداً بالتراب , وهو مع ذلك كله مخزن الغذاء عند الجوع .
    وكما أن السنام هو أعلى الشيء مكاناً , فهو أعلاه مكانةً أيضاً ؛ حيث يقال: مجد مُسنّم ؛أي عظيم .
    وعليه فإن السورة تجمع بين عظم المكان والمكانة .
    ولما كانت سورة البقرة في بداية القرآن الكريم فقد جمعت أصول العلاج لمشاكل الإنسان , وهي :
    ( العقيدة –والشريعة – والمعاملات ).
    وهكذا ؛ فموقع السورة يشير إلى هذا القدر الكبير من التكاليف ؛ فالولد البكر يحمل من الأعباء بقدر ما يحظى من الحب والتقدير .
    وكأن القرآن الكريم أريد في بدايته ترسيخ جل هذه الأمور ؛ حتى تستقر في القلوب من أول وهلة , فلا يفتح المسلم كتاب الله تعالى , ويستفتح بالفاتحة , ثم يردفها بالبقرة إلا ويجد هذا التفصيل للأمور التي تدور في خلده – من عقيدة , وشريعة , ومعاملات ؛ فجاء موقع السورة متناغماً مع حال المؤمن الذي امتلأت السورة بالإشارة إليه والحديث معه .
    فبعد انفتاح النفوس بالفاتحة , واستشرافها إلى الوحي السماوي , تأتي سورة البقرة لتكون الجرعة الأولى من الدواء الشافي لكل داء , تماما ً كما يعطى المريض أول جرعة , وغالباً ما تكون هي أكبر الجرعات وأكثرها تركيزا , ثم تقل حتى تكون أصغر شيء ؛ وهذا ما حدث في القرآن الكريم

    ********























    ثانياً : المقاصد الكلية داخل سورة البقرة

    يقول الشيخ دراز- رحمه الله – ما خلاصته : ( إن هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من مقدمة , وأربعة مقاصد , وخاتمة :
    المقدمة من الآية 1 _ 20 في التعريف بشأن هذا القرآن وبيان أن ما فيه من هداية قد بلغ من الوضوح مبلغا لا يتردد فيه ذو قلب سليم , وإنما يُعرض عنه مَن لا قلب له , أو من كان في قلبه مرض .
    المقصد الأول : دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام من الآية ( 21 _ 40 ) .
    المقصد الثاني : في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم , والدخول في هذا الدين الحق من ( 40 _ 162 ) .
    المقصد الثالث : في عرض شرائع الدين الإسلامي مفصلاً من ( 163 _ 283 ) .
    المقصد الرابع : آية واحدة , وفيها الوازع الديني الباعث على ملازمة الشرائع , والعاصم من مخالفتها , وهى الآية رقم ( 284 ) .
    ثم الخاتمة : في التعريف بالذين استجابوا , وما أعد لهم من ( 285 _ 286 ) . ( 5 )

    ويقول أستاذي محمود توفيق سعد_ حفظه الله _ ( الذي أذهب إليه أن تقسيم العلاّمة دراز أفضل من تقسيمات أخرى إلا أنني أميل إلى أن السورة مكونة من مقدمة وقسمين كبيرين وخاتمة .
    المقدمة من الآية (1 _ 20 ) مثلما أبان عنه الدكتور دراز .
    والقسم الأول : من الآية ( 21 _ 167 ) من قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21) إلى آخر قوله تعالى ( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة:167)
    وهذا القسم قائم بالحقائق والتكاليف العقدية الإيمانية .

    القسم الثاني : من الآية ( 168 _ 283 ) من أول قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168) إلى آخر قوله تعالى
    ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة:283).
    وآيات هذا القسم معقودة لبيان أحكام الشريعة ؛ لتكتمل بها صورة الإسلام, وهديه ؛عقيدةً وشريعةً .
    واستهلال هذا الشطر بدعوة الناس كافة إلى أن يأكلوا مما في الأرض حلالاً طيبا , ولا يتبعوا خطوات الشيطان ؛ فهو عدوهم المبين يتناغم مع ما عُقدت له آياته من بيان أحكام الشريعة , وأبرزها أحكام المطعم ؛ لأنها أساس الأعمال ؛ فإن كل جسم نبت من حرام فإن مآله إلى النار , ولا تقبل صلاته وصيامه ولا زكاته ولا حجه ولا جهاده إلى آخر تلك الشرائع التي فصلتها آيات هذا العقد .
    فالتوحيد رأس الجانب العقدي .
    وطيب المطعم رأس الجانب التشريعي .
    فكانت الدعوة إلى الجانب الأول للناس كافة في مستهل آيات القسم الأول العقدي .
    وكانت الدعوة إلى الجانب الآخر للناس كافة في مستهل آيات القسم الثاني التشريعي .
    ثم توالت التشريعات ؛ ليحقق الأمن من طيب المطعم وأحكام الصيام والجهاد والحج والإنفاق والقتال في الأشهر الحرم , والخمر والميسر , وأحكام الأسرة , وأحكام المعاملات المالية من صدقة ورباً وقرض ورهن , فختم آيات هذا القسم بأطول آية : ( آية المداينة ) , فآية الرهن ؛ مؤكدا الدعوة إلى الأمانة والقيام بحق الشهادة .
    ثم تأتي الخاتمة : في ثلاث آيات ( 284 _ 286 ) مقررة أن الكون كله لله وحده , وأن ما في الأنفس يحاسب عليه ؛ فيغفر لمن يشاء , ويعذب من يشاء , فكأن في هذه الآية تعقيباً على القسمين معاً ( العقدي والتشريعي ) , وفي الوقت نفسه توطئة لذكر الذين قاموا بحق هذين القسمين فكان فيه رد عجز السورة على صدرها ) ( 6 )
    وهذا التقسيم يضع السورة _ على طولها _ في إطارين اثنين مع وجود مقدمة وخاتمة , وهذا أقرب إلى واقع السورة , وأكثر تحديداً لأركانها , وأضبط لمعاقدها .
    وتحديد هذه الفصول والمعاقد يبتغي من ورائه الوقوف على وجه البلاغة في موقع الآية من السورة. .





    ثالثا : وجه البلاغة في موقع الآية
    لقد تبين أن آية الدين تقع في ختام القسم التشريعي , بعدما تكون النفوس قد هُذّبت , وترسخ فيها أصول التوحيد , وتمرست على أنواع العبادات _ من صلاة وصيام وحج وجهاد _ وكأن الدَّين أعلى قدراً من حيث حاجته إلى نفوس عالية , وهمم سامقة , وقلوب صافية ؛ حتى تمتثل لما فيه من ضوابط وقوانين .
    وفرق بين أن تلقي خطاباً لنفس خالية من البواعث والمحرضات ، وبين أن تلقي الخطاب نفسه إلى نفوس تشبعت بالإيمان , واستحضرت الآخرة واستعدت لها بأنواع العبادات _ لا شك أن هذا الأمر سيكون محل استجابة وموضع قبول .... ومن أجل ذلك وضعت آية الدين بعد كل هذه الرحلة الطويلة من حديث عن العقيدة وموقف الناس منها , ومن حديث عن التشريع وأعمدته الرئيسة ؛ فالنفوس صارت مهيئةً ,والإيمان في أعلى درجاته , وهذا يصور أهمية استثارة النفوس لتلقي الأوامر والنواهي عامةً ؛ ومنها المتعلقة بالأموال .

    ثم يأتي الختام الزاخر بما أعده للممتثلين الطائعين الطامعين في عطاء الله تعالى وعفوه .

    وكأن ما تقدم من توطئة لا يكفي , فلابد من إحاطة هذه الأوامر والنواهي من جانبيها بسياج منيع ؛ حتى لا يترك للنفوس مخرج , أو محيص عنها ؛ فيذكر بعد آية الدَّين آيات الختام , وهي آيات باعثة ومحرضة أيضاً على الامتثال والطاعة , لما تحمله من جزاء الطائعين وثواب الممتثلين , بالإضافة إلى ترهيب المعرضين , والتنويه بما ينتظرهم من عذاب أليم .

    *********









    رابعاً : المقصود الأعظم لسورة البقرة وعلاقة آية المداينة به
    -------------------------------------

    الإيمان بالغيب – وبخاصة البعث – هو أقرب المعاني إلى مقصود سورة البقرة , وقد انتشر ذلك في السورة على نحو ظاهر ؛ فلقد بدأت السورة بقوله تعالى : ( ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة 1 - 3)
    • فكان أول صفات المتقين : الإيمان بالغيب .
    • وفي قصة آدم عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى للملائكة (َ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30)
    • * وتقرّ الملائكة بهذه الحقيقة فتقول ( سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة:32) .
    • ثم يقول مرة أخرى : ( إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:33) .
    • ( وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:72) .
    • (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) (البقرة:77)
    • ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ )( البقرة 255)

    وفي شأن البعث قيل
    • ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة:28)
    • ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:46)
    • ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:56)
    • ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة:73)
    • (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) (البقرة:243)
    • ( إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) (البقرة:258)
    • )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ٌ) (البقرة:260)
    • وكانت آخر آية نزلت هي (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ) (البقرة:281)

    كما أنه لا توجد سورة جمعت بين أركان الإسلام , والصلاة والزكاة والصيام والحج كما جاءت في سورة البقرة , وهي كلها مبنية على الإيمان بالغيب , والبعث , حتى الجهاد لا يُقدِم عليه إلا من آمن بالغيب , والبعث .
    وإذا كان الإيمان بالغيب هو البرهان على صحة العقيدة , وسلامتها من الخلل ؛ فلا عجب في أن تجد سورة البقرة دائرة حول هذا المقصد العام , ومن مظاهر ذلك أنها ذكرت في مفتتحها تصنيف الناس من خلال عقيدتهم ؛ فهم : إما مؤمنون , أو كافرون , أو منافقون , وهذا تصنيف عقدي في المقام الأول .
    وهنا يمكن القول إن ذكر آية المداينة في هذه السورة وتحت مظلة هذه الغاية إنما هو أحد مقومات الحفاظ على العقيدة الصحيحة , وهذا يشير إلى أهمية الشفافية في علاقات الناس المالية , وأثر هذه المعاملات على عقائد الناس .
    علاقة الآية بالمقصود الأعظم للسورة :
    لاشك أن هذا النوع من المعاملات يشترك فيه أطراف عدة : الدائن , والمدين , والكاتب , والشهود , وهؤلاء جميعا تلحقهم تبعات وتكاليف وقيود لايمكن القيام بحقها إلا إذا وجد باعث ومحرض قوي يدفعهم إلى الالتزام , وأداء ما يطلب منهم .
    ولست أرى باعثًا ومحرضاً على التزام ذلك أقوى من تدبر أمر البعث والإيمان به ؛ فصاحب المال مشترياً كان أو بائعاً أو مقرضاً يحتاج إلى شحنة إيمانية ؛ كي يترك ماله فترة من الوقت عند الغير وهو مطمئن النفس .
    والذي يأخذ الدَّين يحتاج أيضا إلى الإيمان بالبعث ؛ ليكون حاجزا له عن المماطلة أو الإنكار .
    وكذلك الشهود والكاتب : لأنهم وسطاء بين متناكرين في الغالب , والأصل في الشهود أنهم لا يأخذون عوضاً عن شهادتهم ؛ فالذي يدفعهم إلى الشهادة غالباً إيمانهم بالبعث والحساب .
    وهكذا اتصلت الآية بالإيمان بالبعث اتصالاً وثيقاً .

    كما أن اسم السورة ( البقرة ) وهي حادثة حدثت بين موسى عليه الصلاة والسلام وقومه حين جادلوه في ذبح البقرة وقالوا : ( أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) (البقرة:67)
    فكأنهم حين أنكروا الغيب أنكروا ذبح البقرة ؛ إذ لا علاقة _ في نظرهم _ بين ذبح البقرة ومعرفة القاتل , ولو أنهم آمنوا بالغيب لما سألوا عن ماهيتها , ولونها , وتحديدها ..إلخ .
    ومن هنا يتبين لنا أن قصة البقرة ذات علاقة وثيقة بالإيمان بالغيب ؛ ذلك لأن البقرة كانت سبباً في عدة أمور ؛ منها : إحياء الميت , وانفراج الغم الذي أحاط بالناس , والأهم من كل ذلك تعليم بني إسرائيل أن الإيمان بالغيب يستوجب التجرد من الأساليب الظاهرة .
    كما أن هذا الاسم يحمل تحذيراً من منهج اليهود في المجادلة , وتنبيهاً على خطأ أسلوبهم الذي استخدموه مع رب العزة ومع أنبيائه .
    أضف إلى ذلك أن حادثة البقرة كانت لإظهار الحق وحفظه من الضياع , كما هو حال آية الدين .
    فالبقرة أظهرت الحق في الدماء ,
    وآية الدين تظهر الحق وتحفظه في شأن الأموال والديون .




    ********
















    خامساً : وجه اختصاص سورة البقرة بآية الدين
    ---------------------------------------
    في القرآن الكريم قد ترى المعنى الواحد مبثوثاً ومصروفاً في أكثر من سورة , لكن هناك معانٍ لم تذكر إلا في سورة واحدة ولا شك أن هذا المعنى الفريد له علاقة وثيقة بمقصود السورة الأعظم , بل إن هذا المعنى يعدُّ رافدا من روافد الوصول إلى هذا المقصود الأعظم .

    يقول أستاذنا محمود توفيق- حفظه الله - : قصة البقرة مثلاً لم ترد في غير سورة البقرة وكذلك قصة هاروت وماروت , وقصة تحويل القبلة , وفريضة الصيام وبيان أحكامه , وقصة طالوت وجالوت , وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت , وقصة الذي حاج إبراهيم في ربه , وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها , وقصة إبراهيم والطير , وكذلك أحكام المداينة (7) .
    والذي يعنينا هنا هو آية المداينة .

    وبالنظر في تلك المقاصد التي اختصت بها السورة دون غيرها يلحظ أنها وضعت في إطار القصة عدا الحديث عن الصيام وعن المداينة ؛ فقد جاءا في إطار قوله ( كُتب عليكم ) .
    أما الصيام فقد كتبه الله تعالى علينا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183) .
    وأما المداينة فلقد أُمرنا بكتابتها : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ) (البقرة:282) .
    أما وجه اختصاص السورة بآية المداينة فيقف من ورائه عدة أسباب :
    منها : أن السورة جمعت بين الكليات الخمس التي جاء الإسلام لحفظها , وهي ( الدِّين _ والنسل _ والعقل _ والنفس _ والمال ) وحفظ المال يشمل وضع الضوابط للتداين حتى لا يضيع بعجز المدين أو مماطلته .
    ومنها : أن المعاني التي حوتها سورة البقرة تمثل الركائز التي يقام عليها بنيان الأمة , ومن أخطرها المعاملات المادية ؛ فكان البدء بها في أول سورة قرآنية من الضرورة بمكان .
    ******

    سادساً : السياق العام والخاص للآية
    لكل آية قرآنية عدة سياقات : سياق مباشر يتعلق بالمعاني الجزئية المحيطة بالآية .
    وسياق أشمل داخل السورة يستعرض المعاني التي تناولتها , وعلاقاتها بالآية محل البحث .
    ثم سياق عام قد يمتد ليشمل القرآن الكريم كله وبهذا يتحقق مقصود العلماء في أن القرآن الكريم كالكلمة الواحدة .
    ( وكلما ضاقت دائرة السياق كان أثره _ في النظم البياني أولاً وفي فقهه ثانياً _ أكثر جلاءً , وكان إدراكه أيسر , ومن ثم خفَّت مؤنة فقهه على الكثيرين .
    وكلما كانت دائرة السياق أوسع كان أثره في النظم أعمق , وكان فقهه أخفى , وإدراكه أعسر فثقل على كواهل الكثيرين , فقلّتْ الدراسات التي تعنى بسياق السورة , وسياق القرآن الكريم كله ) ( 8 )
    والنظر البلاغي في السياق القرآني ليس مجاله الدائرة الصغرى من دائرة السياق , ومَن اقتصر عليه يكون قد غبن الدرس البلاغي .
    بل رسالته الفريضة أن يمد نظره إلى سياق السورة كلها , وسياق القرآن الكريم كله , إن استطاع ؛ ذلك لأنه يستشرف إلى ما يؤدي تمام المعنى القرآني في دقائقه , ورقائقه , ولطائفه , وذلك لا يتحقق إلا في سياق السورة , ثم في سياق القرآن الكريم كله .
    ( وأهل العلم يدركون قيمة البناء البياني للسورة ؛ إذ هي وحدة التحدي الصغرى الذي جاء به القرآن الكريم , وتمام المعنى لا يدرَك في سياقه الجزئي , وإنما يُدرك في سياق السورة كلها التي هي وحدة التحدي .. وكل درس لآية خارج سياق سورتها هو درس خداج , عاجز عن استبصار كثير من وجوه المعنى القرآني التي تُغزو الروح , والقلب ) ( 9 )
    وفي سياق سورة البقرة تُعدّ آية الدين حلقة من حلقات الحديث عن الاقتصاد الإسلامي , والتي قامت على أساس الحلال , والحض عليه , ونبذ الحرام , والتحذير منه .


    فالجذر الذي بنيت عليه كل المعاملات هو قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168).

    فهذا هو أصل المعاملات , وهو بداية القسم التشريعي في سورة البقرة , بعد القسم العقدي , والذي بدأ بقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21) .
    فكأن السورة يمكن جمعها في سطرين ؛ حيث جاءت نداءً للناس كافة بأمرين :

    الأول : عبادة الله تعالى , والآخر : أكل الحلال .
    وفي السياق التشريعي جانب كبير يتعلق بالأموال , والمكاسب المالية , ثم جانب آخر يتعلق بالإنفاق , ودار السياق على هذين المحورين :
    1 – مصدر المال
    2 – إنفاق المال .
    والملاحظ أن هناك خطابين :
    الأول : للجميع بلفظ ( الناس ) وهو ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168) .
    والآخر : جاء للمؤمنين , وقد فصل هذا الأخير إلى قسمين : ( أمر ونهي ) .
    فقيل في الأمر : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة:172)
    وقيل في النهي : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) (البقرة:188) .
    وهذه دعائم ثلاث توضح المرتكزات التي تُبنى عليها القواعد الاقتصادية , وقد صيغت في قالب الجمع , ثم التقسيم : الجمع في قوله ( يا أيها الناس ) .
    والتقسيم في قوله ( يا أيها الذين آمنوا كلوا ) , ثم , ( ولا تأكلوا أموالكم ) .

    ثم جاء بعد ذلك حديث عن الإنفاق , وهو الركيزة الثانية , أو الجناح الآخر للاقتصاد .
    فالاقتصاد ( كسب , وإنفاق ) ؛ فقيل أولاً : ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195) .
    ثم يتصاعد هذا الحديث عن وجوه الإنفاق , فيذكر مرة أن الإنفاق ( َلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (البقرة:215) .
    ثم وجوه الإنفاق على النكاح ومستتبعاته , ثم الصدقات , ثم تحديد نوع المال المنفق , وأنه لابد أن يكون من الطيبات , ويظل الإلحاح على النفقة , وتهذيبها وتحري الطيبات منها , والتوجه بها إلى الله تعالى وحده ......إلخ

    وهذا يوضح أن الحديث عن الإنفاق زاد بكثير على الحديث عن الكسب , فَلِمَ ؟
    في نظري لأن القصد من الكسب هو الإنفاق , ولم يكن الكسب يوماً غايةً لذاته .
    ثم تعاود السورة الحديث عن ضرب آخر من الكسب , وهو الكسب الربوي , وبينت خطورته , وإثم من يتعاطاه ........
    ثم جاءت آية المداينة , لكنها فصلت عن الحديث عن الربا بآية تحذيرية , وهي آخر آية نزلت من القرآن الكريم , وهي قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة:281) .
    ووضعها بين آيات الربا وآية الدين يفيد أنها تحذر من الربا وما يؤدي إليه .
    أما الربا فقدّم عليها , وأما ما يؤدي إليه فتأخر عنها , فكأن الآية توسطت بين الربا وبين الديون , وهي الباب المؤدي إلى الربا غالباً .
    وهذا الترتيب _ أعني وضع آيات الربا , ثم التذكير بالرجوع إلى الله تعالى , ثم آية المداينة _ هذا الترتيب يعد من أبلغ ألوان التحذير ؛ لأن النفوس مازالت في خوف وترقب , واستشعار الغضب الإلهي بسبب الربا .
    وحين تأتي آية المداينة في هذا الجو المفعم بالخشية , والرعب , والحذر , والترقب ؛ فإن النفوس تضفي على المداينة , وأنواعها ألواناً من التحذيرات التي مازالت عالقة بها من الربا الذي هو حرب لله تعالى ورسوله , ومن مشاهد القيامة التي تجعل الولدان شيبا , ولا شك أن آية المداينة حين صاحبت آيات الربا قد أصابها من وعيدها , وتهديد أصحابها , والمبالغة في إنذارهم الكثير .
    ولم لا والديون بوابة الربا , ومفتاح من مفاتيحه ؟ !
    ولم لا وأكثر الخصام بين الناس يكون بسبب تلك المعاملات ؟!
    ولم لا وآية المداينة قد امتلأت بالأشواك التي تحتاج إلى حذر شديد عند التعامل بها ؟ !
    فإذا توجه البحث إلى النظر في وجود آية االمداينة في خواتيم سورة البقرة لتبين أنها جاءت بعد طريق طويل , سلكت فيه السورة كل سبيل لترسخ قواعد التوحيد , وتفصل شرائع الإسلام , وتربط كل ذلك بالبعث والنشور والرجوع إلى الله تعالى .
    وهذا يعني أن النفوس في تعاملاتها المادية تحتاج إلى توطئة طويلة من الأوامر الدينية , كما تحتاج إلى ضوابط صارمة من الأوامر والنواهي , في هذا المضمار ؛ ولذلك لا توجد آية قرآنية حوت من المحاذير ما حوته آية المداينة .
    إن الحديث عن الاقتصاد الإسلامي من الأهمية بمكان ؛ لأنه ركيزة من ركائز ثبوت الدين , ودوامه , وانتشاره ؛ ولذلك وضع في أول سورة قرآنية بعد الفاتحة .
    والبدايات دائماً تكون كالأسس والدعائم لكل بنيان , فإذا نظرنا إلى الإسلام كبنيان نلحظ أنه يقوم على ركيزتين :
    الأولى : عقيدة راسخة تثمر عبادة وأخلاقاً .
    والأخرى : قوة ٌ تحمي هذه العقيدة وتلك العبادة , وتضمن بقاء الأخلاق وانتشارها , ومن أجل ذلك كان محور سورة البقرة يدور حول هذين الأمرين ؛ لأن الخلل فيهما هدمٌ لمعالم الأمة المسلمة وتفتيت لأركانها , ولا يقوى أحدهما إلا في قوة الآخر ؛ فالأمة التي تُعنى بالعقيدة ولا تعنى بالقوة التي تحمي هذه العقيدة لابد أن يأتيها عدو يزلزل هذه العقيدة .
    ومن هنا تتبين علاقة هذه الآية بالسورة عامة , وبالمقصود الأعظم منها , وهذه العلاقة تتضح , وتنكشف في مواضع , وتخفى وتستكن في مواضع أخرى , لكن في النهاية تظل علاقة الآيات كعلاقة الأنساب في عالم الإنسان , وكأن السورة في الذكر الحكيم قبيلة في أمة يربطها أصل واحد , وإن اختلفت صور أفرادها وأشكالهم , وألوانهم , لكنهم جميعا إلى رجل واحد ( 10 )

    *******









    سابعا: علاقة الآية بأول سورة البقرة وآخرها

    لاشك أن آية المداينة خيط من خيوط السورة , وعنصر من عناصرها , وهذا العنصر يستقي ماءه من جذر السورة , أو المقصود الأعظم , ويرتبط بالباقي برباط يدق في موضع , ويعظم في آخر .
    والذي لابد من الالتفات إليه هو النظر إلى الآية على أنها ختام آيات التشريع في سورة البقرة , والتشريع ما هو إلا رافد كبير من روافد النهر الذي أشارت إليه المقدمة .
    كيف هذا ؟
    إن الجمع بين آية المداينة وأول سورة البقرة يلحظ فيه مايلي :
    أولاً : حدثتنا السورة في بدايتها عن عدة معان :
    * الكتاب * نفي الريب عنه * هداية المتقين * الإيمان بالغيب
    وهذه المعاني شاخصة في آية المداينة ,فأول شيء في الآية بعد النداء هو قوله تعالى ( فاكتبوه ).
    ثم تتابعت هذه اللفظة بصور متعددة فقيل :( وليكتب- كاتب – كاتب –يكتب –فليكتب –تكتبوه – كاتب )
    وهذه الكثرة في مادة الكتابة ليست إلا لحفظ وضمان الحقوق من الضياع أو النسيان أو الإنكار , وكل ذلك يتصل بالكتابة اتصالاً وثيقا .
    ثانيا : تحدثت الآية عن الغاية من الكتابة , والتوثيق ؛ وهي نفي الريب , وذلك في قوله تعالى :
    ( ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) (البقرة:282) .
    وكذلك أول البقرة حيث قيل : ( لا ريب فيه هدى ) .
    فكأن نفي الريب عن الكتاب اشتق منه نفي الريب عن الكاتبين للديون .
    ثالثاً : تحدثت الآية عن أن هذا التشريع يؤدي إلى تقوى الله تعالى ؛ فقالت : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:282) .
    وكذا أول البقرة قيل فيه : ( هدى للمتقين ) .
    ففي آية المداينة يحقق التوثيق تقوى الله تعالى , وفي أول البقرة يحقق الكتاب تقوى الله تعالى .
    وهكذا نجد لُحمة النسب , والماء الجاري بين الآيات ماءً واحداً وإن اختلفت مجاريه .


    علاقة الآية بختام سورة البقرة
    جاء في ختام سورة البقرة قوله تعالى ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (البقرة:284)
    وهذا تذكير بأن أخذ الديون وردها أو أكلها سحتاً لن يخرج عن ملكوت الله تعالى وتقديراته .
    ثم إن ختام السورة تعرض لما يجول في نفوس الناس وهذه الخواطر وتلك الخلجات لها علاقة وثيقة بالديون : من حيث نية الأداء , أو نية الإتلاف , كما جاء في الحديث : ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّ الله عنه , ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ) (11 )
    فالنية وما يدور في النفس هو ما عليه مدار الحساب .
    أضف إلى ذلك امتلاء الآية بهذه الأوامر وتلك النواهي , والشروط , مما يستوجب السمع والطاعة , كما جاء في ختام البقرة : ( وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
    ثم إن الدَّين وهو عبء ثقيل , بل هو هم بالليل وذل بالنهار لايبعد عن قول الله تعالى: ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ َ) (البقرة:286
    وهكذا تتشابك الخيوط وإن بعدت المسافات بين الآية وأول السورة , وختام السورة مما يزيد من وحدة الهدف , وهذا يقوي معني أن السورة القرآنية شبكة واحدة يجمعها نمط من الخيوط المتوازية تارة , والمتقابلة تارة أخرى , والمتجانسة تارة ثالثة .... إلخ

    *****










    ثامناً : وجه البلاغة في طول الآية
    لا يشك أحد في أن تحديد فواصل الآيات , ورؤوسها توقيف من الله تعالى ( حيث تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن رب العزة جل وعلا )(12)
    والسؤال الذي يطرح نفسه :
    ما وجه جمع كل هذه المعاني والأغراض في آية واحدة , وقد كان من الممكن _ عقلاً _ أن تُجزّأ هذه الآية إلى عدة آيات ؟
    لكن هذا لم يحدث ؛ حيث احتلت الآية صفحة كاملة من المصحف الشريف , وضم بعضها إلى بعض , حتى صارت آية واحدة .
    والذي أراه أن هذا الطول لون من ألوان التحذير ؛ لأن طريق الديون طريق طويل , مليء بالعقبات , كما أن آثار الديون لا تزول سريعا , بل تبقى عالقة بالنفوس ,مثل الألم الذي لا يزول حتى بعد العلاج , وكأن طول الآية يوحي بأفضلية عدم التداين ؛ لأنه بابُ خطرٍ ؛ فالصبر أولى منه لمن يريد الاقتراض .
    وهكذا تحاول الآية أن تصرف الناس عن دروب التداين إلى طريق آخر ؛ فطالت ؛ ليشق عليهم جمعها وقراءتها .
    وأمر آخر :
    وهو أن الآية جمعت شروطا وضوابط لضمان الحقوق , فموضوعها واحد , فلما اتحد موضوعها جُمعت في آية واحدة .
    فإن قيل : فإن الآية التي بعدها موصولة بها , قلت : إن الآية التي بعدها في شأن الرهن , وهو باب آخر , حتى وإن كان فيه تداين , لكنه خاص بما يكون أثناء السفر حالة عدم توفر الكاتب , وآية الدين في أثناء الإقامة , فلما كان هناك نوع اختلاف فصلت هذه عن تلك .
    ووجه ثالث :
    وهو أن الآية بطولها هذا أصبحت من الشهرة بمكان , مما جعلها موطن حضور في حديث المسلمين , وتدارسهم للقرآن الكريم , وهذا يستتبعه استحضار ما فيها من قيود دائما .
    فإذا ضم هذا المعنى إلى ما بين الناس من تعاملات مالية , وأغلبها في ميدان الديون لعرفنا أن هناك علاقة وثيقة بين طول الآية وما شاع بين الناس من تعاملات ؛ حيث وضع القرآن الكريم أشهر آية لتكون علاجاً لأشهر المعاملات .
    فالمشهور الشائع في القرآن علاج للمشهور الشائع في المعاملات , وهذا توافق عجيب .
    ووجه رابع :
    وهو أن هذه الآية ذكرت في أطول سورة في القرآن الكريم , فهناك مناسبة بين طول الآية وطول السورة , وبخاصة أنها من آيات الأحكام , ومن سمات هذا الضرب من الآيات التفصيل والإسهاب ؛ حتى لا تكون المعاملات موضع اجتهاد أو أخذ ورد وبخاصة أن الآية تتحدث عن المعاوضات المالية التي هي أصل كثير من النزاعات بين الناس , ولما كانت هذه المعاوضات متنوعة إلى ديون وتجارات , استلزم ذلك الإسهاب ؛ استقصاءً لهذه الحالات المشار إليها .
    وزاد من ذلك : أن الآية سلكت في معالجتها سبيل درء الشبهات , وسد الذرائع المؤدية إلى المنازعات , وأخذ الحيطة , وذلك كله يستلزم الإسهاب والإطناب في العرض ؛ ليواكب زخم هذه الأساليب العلاجية التي حوتها الآية .

    ***



















    تاسعاً: آية المداينة بين التثقيف والتكليف

    إن القرآن الكريم - والذي تمثل آية المداينة لبنة من لبناته- معنيٌ بتثبيت الحكم , كما أنه معنيٌ في الوقت نفسه بتهيئة القلوب لتقبّل هذا الحكم ؛ ولتقتنع به , وتقبل عليه إقبال الشغوف , وليس من البلاغة بيان الحكم دون تهيئة النفوس لاستقباله , كما أنه ليس من البلاغة أيضاً الكشف عن المعاني الوجدانية الآسرة للقلوب الباعثة على الأريحية دون تحديد المراد .
    والمقصود من الكلام أن البلاغة العالية هي التي تمزج بين الرافدين : بين أحكام الشريعة الضابطة لحركة الحياة , والمعاني الروحية الباعثة على النشاط للتمسك بهذه الأحكام .
    ( من هنا كان المعنى القرآني مزيجا متفاعلاً من عنصرين : التشريعي – وينطوي فيه العَقَدي – والروحي ؛ الماثل في غرس القناعة الفكرية , والطمأنينة الوجدانية بهذا العنصر التشريعي في قلب المكلَّف .
    ولا تكاد تجد معنى قرآنيا إلا وهو وليد التفاعل بين هذين العنصرين , على اختلاف في مقادير هذين العنصرين ودرجات ظهورها .
    وقد يظن أن ثم ما هو مشغلة الفقهاء وحدهم , وهو المسمى بآيات الأحكام , ولا سبيل للبلاغي إلى تدبره إذ إن مشغلة البلاغي عندهم المعاني الروحية , وأن ثمة ما هو مشغلة البلاغيين دون الفقهاء كالقصص القرآني .
    وذلك نهج خاطئ , إن لم يكن آثما ؛ فما من آية إلا قد تَشكَّل معناها من الشرع والروح معاً , ومنزلها من السياق الكلي للسورة هو الذي يبرز عنصرا على آخر , وبناؤها اللغوي هو الذي يمنح عنصرا جلاءً وقرباً إلى الإدراك دون الآخر . ( 13 )
    وفي جميع الأحوال يظل ارتباط الحكم بالمحرضات على قبوله , وارتباط الشرع بالدوافع المؤثرة في قبوله ,يظل هذا الارتباط قائماً لا ينفك في جميع آي القرآن ؛ يقول المرحوم سيد قطب في قيام هذا الرابط في آية المداينة : ارتباط التشريع بالوجدان الديني في الآية ارتباط لطيف المدخل , عميق الإيحاء , قوي التأثير , دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية , وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد , وموقف الشهود والكتاب , فينفي هذه المؤثرات كلها , ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها .
    إن الإعجاز هو صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة آيات الإيحاء , والتوجيه , بل هو أوضح وأقوى ؛ لأن الغرض هنا دقيق يُحرِّفه لفظ واحد , ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ ) ( 14)
    وعلى سبيل المثال : لقد صُدّرت الآية بذلك النداء : ( يا أيها الذين آمنوا ) وفي خصائص نظمه واصطفاء عناصره على هذا النحو دلالة على إلزامهم بما دخلوا فيه طوعاً من إيمان وتسليم , وإشارة إلى أن إيمانهم لا يزال فعلاً , وأنهم ما يزال فيهم بقية من غفلة , لكن أيضا فيهم تشريف لهم بتعريفهم بخير صفاتهم , وتشريفهم بمباشرة الحق _ عز وجل _ نداءهم دون قوله : - قل يا أيها الذين آمنوا - , وهذا التكليف والتذكير والتشريف المحتضن في رحم النظم , متناسق أيما تناسق مع ما هو آت من بعد ) (15)
    هذا نمط واحد يحمل التشريف والتكريم , كما يحمل التذكير بالغفلة , والحث على نقضها , وهكذا تفاعلَ في العنصر الواحد عاملان من عوامل الحض والتهيئة لاستقبال الأوامر والنواهي القادمة في : ( فاكتبوه _ وليكتب _ واستشهدوا ..إلخ )
    ثم تعاود الآية ذكر ما يهيج النفوس وُيزجي أوارها , فيقال للكُتّاب : ( كما علمه الله ) , هذا عنصر من عناصر التثقيف المحرضة على قبول الأمر ...
    ثم يؤتى بالتكليف فيقال : ( فليكتب وليملل الذي عليه الحق ) ثم يأتي تثقيف آخر , أو محرض آخر فيقال : ( وليتق الله ربه ) فيتبعه تكليف وهو ( ولا يبخس منه شيئا ) .... وهكذا تظل الآية تراوح وتمازج بين التكليف والتثقيف على نحو بارز ؛ لتُقبل النفوس على التكاليف إقبال رغبةٍ وشغف , وتلذذ , فترى فيما كلفت به من شرائع لذة ومتعة واسترواح ...
    بل إن هذا المزج لا تحس معه أي نفس مرهفة بأي شيء من التباين والتفاضل , على الرغم مما قد يظن أن البيان التكليفي يقتضي غير ما يقتضيه البيان التثقيفي , ألفاظاً وتوقيعاً صوتياً ...إلخ ( 16 )
    وهذا المزج ( الذي لا يكاد يفصل بعضه عن بعض ) بين الخطاب التكليفي والخطاب التثقيفي يشير إلى حرص القرآن الكريم على إحاطة التكاليف بالبواعث التي تضعها موضع التنفيذ السريع , وذلك ضرب من ضروب علاقات المعاني , وهي لب البلاغة ومعدنها , والذهب الإبريز الذي يتطلب البحث عنه والتعب من أجله ؛ يقول الإمام عبد القاهر : ( واعلم أن غرضي من هذا الكلام الذي
    ابتدأته , والأساس الذي وضعته , أن أتوصل إلى بيان أمر المعاني , كيف تختلف وتتفق , ومن أين تجتمع وتفترق , وأفصل أجناسها وأنواعها , وأتتبع خاصها و مشاعها ...إلخ ) (17 )
    أضف إلى ذلك أن قمة الجمال اللغوي أن يأتي الكلام موافقاً لطبيعة النفس البشرية , ومنسجماً مع مداخلها , ومخارجها .
    ولاشك أن النفس البشرية تنفر من التكاليف المجردة , وتتأبى على الأوامر العارية من النصح , ومن المثيرات والمحرضات , لكنها في الوقت نفسه تحب المقدمات وتُثار للمحرضات , وتسرع إلى كل شيء كانت قد هُيئت له , وكما قال عبد القاهر : ( إن إعلامك الشيء بغتة ليس كإعلامك له بعد توطئة ) ( 18)
    تلك فطرة النفس البشرية التي لم يغفلها القرآن الكريم , حيث وضع المحرضات قبل , أو بعد , أو في أثناء التكاليف حتى ترغب في أدائها النفوس .
    والعجيب أن آية الدين جمعت بين الأصناف الثلاثة ؛ حيث سُبقت بأبلغ آية_ وآخر الآيات نزولاً _ وأكثرها دفعاً وتحريضا ً إلى الامتثال , وهي قول الله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة:281)
    ثم جاءت بعد آية المداينة عدة آيات أخرى باعثة ومحرضة , وذلك قوله تعالى : ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:284)
    كما اختلطت الآية بالبواعث والمحرضات من مثل : ( وليتق الله ربه ) ومثل ( ذلكم أقسط عند الله ) ومثل ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) .
    وهذا يعني : أن الدَّين حمل ثقيل على كلا الطرفين , بل على جميع الأطراف : الدائن والمدين والشهود والكاتب , بل على الأمة كلها , وهذا يفسر وجه استعاذة النبي _ صلى الله عليه وسلم _ منه , حيث يقول ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن , وأعوذ بك من العجز والكسل , وأعوذ بك من الجبن والبخل , وأعوذ بك من غلبة الدين , وقهر الرجال ) ( 19 )


    ***











    عاشراً : مصطلحات وحدود


    الواقع أن هذه الآية لها اتصال وثيق ببعض المصطلحات الفقهية , منها ما هو قديم مثل [ السَلَم ], ومنها ماهو حديث مثل [ البيع بالتقسيط ] , ولقد رأيت من المناسب أن أشير إلى هذه المصطلحات , وأُعرِّف بها تعريفاً موجزاً يكشف النقاب عنها , وبالقدر الذي يتناسب مع طبيعة هذه الدراسة البلاغية , مع الإشارة إلى أن جميع هذه المصطلحات متصل بدائرة الديون من قريب أو من بعيد .
    ( قال الشافعي – رحمه الله - : قول الله تعالى : " إذا تداينتم بدين " يحتمل كل دين , ويحتمل السلف خاصة , وقد ذهب فيه ابن عباس إلى أنه في السلف .....وإن كان كما قال ابن عباس في السلف قلنا به في كل دين قياساً عليه لأنه في معناه ) ( 20)
    ويقول القرطبي : ( قال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السلم خاصة , معناه : أن سَلَم أهل المدينة كان سبب الآية , ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعاً ) ( 21)

    وأول ما ينبغي الوقوف عنده هو مصطلح :

    الدَّيْن
    ( وحقيقته : عبارة عن معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً , والآخر في الذمة نسيئة , فإن العين عند العرب ما كان حاضراً , والدين ما كان غائباً , قال الشاعر :

    لترمِ بي المنايا حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحُفرتين
    إذا ما أوقدوا حطبا ًوناراً فذاك الموت نقدا غير دَيْن

    وقد بيّن الله تعالى هذا المعنى في قوله سبحانه ( إلى أجل مسمى ) (22)
    ويستعمل الفقهاء كلمة الدَّيْن بمعنيين : أحدهما أعمّ من الآخر .
    أما بالمعنى الأعم فيريدون به مطلق الحق اللازم في الذمة ؛ بحيث يشمل كل ما يثبت في الذمة من أموال, أياً كان سبب وجوبها , أو حقوق محضة كسائر الطّاعات : من صلاة , وصوم , وحج ...إلخ .
    وأما بالمعنى الأخص – أي في الأموال – فهو ما يثبت في الذمة من مال في معاوضة , أو إتلاف , أو قرض (23)
    ومن صفات الله تعالى الديان , وقيل من أسمائه , وفي معناه يقول ابن منظور : ( هو القهار , وقيل : هو الحاكم , والقاضي , وهو فَعَّال من : دان الناس ؛ أي : قهرهم على الطاعة , يقال : دنتهم فدانوا ؛ أي قهرتهم فأطاعوا .. ومنه : الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت , أي : أذلها واستعبدها , وقيل : حاسبها , وفيه : ثلاثة حق على الله عونهم _ منهم : المدين الذي يريد الأداء , والمديان : الكثير الدين , الذي علته الديون , وهو مفعال من الدَّين للمبالغة ) ( 24)

    القرض:
    ( وهو نوع من السلف , وهو جائز بالسنُّة والإجماع وقيل : هو كل ما يضمن بالمثل عند الاستهلاك , وقيل : هو في اللغة : ما تعطيه لتتقاضاه , وقيل : هو دفع المال لمن ينتفع به على أن يرد بدله )(25)
    ويصح القرض بلفظ السلف , والقرض ؛ لورود الشرع بهما .
    أما الفرق بين القرض والدين : فهو أن القرض أكثر ما يستعمل في العين والورق , وهو أن نأخذ من مال الرجل درهماً لترد عليه بدله درهماً , فيبقى ديناً عليك إلى أن ترده ؛ فكل قرض دين , وليس العكس , وذلك أن أثمان ما يشترى بالنسئ ديون وليست بقروض , فالقرض يكون من جنس ما اقترض وليس كذلك الدين ) (26 )
    ويجوز أن نفرق بينهما فنقول : قولنا : يداينه , يفيد أنه يعطيه ذلك ليأخذ منه بدله , ولهذا يقال : قضيت قرضه , وأديت دينه , وواجبه , ومن أجل ذلك أيضاً يقال: أديت صلاة الوقت , وقضيت ما نسيت من الصلاة ؛ لأنه منزلة القرض . (27)



    السلم :
    بالتحريك : السلف , وأسلم في الشيء , وسلم , وأسلف , بمعنى واحد , والاسم : السلم وهو أن يعطي ذهبا وفضة في سلعة معلومة إلى أمد معلوم , فكأنك قد أسلمت الثمن , بمعنى السلف , ويقول : الإسلام لله عز وجل , كأنه ضن بالاسم الذي هو موضع الطاعة , والانقياد لله عز وجل عن أن يسمى به غيره , وأن يستعمل في غير طاعة الله , ويذهب به إلى معنى السلف . ( 28 )
    وعند القرطبي : ( حدّ علماؤنا السلم فقالوا : هو بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة , بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم . فتقييده بـ ( معلوم في الذمة ) يفيد التحرُّز من المجهول , ومن السلم في الأعيان المعيَّنة مثل الذي كانوا يستلفون في المدينة حين قدم عليهم النبي _ صلى الله عليه وسلم _ فإنهم كانوا يستلفون في ثمار نخيل بأعينها , فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر ؛ إذ قد تخلف تلك الأشجار فلا تثمر شيئا .
    وقولهم : ( محصور في الصفة ) تحرز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل كما لو أسلم في تمر أو ثياب أو حيتان ولم يبين نوعها ولا صفتها المعينة .
    وقولهم : ( بعين حاضرة ) تحرز من الدين بالدين .
    وقولهم : ( أو ما هو في حكمها ) تحرز من اليومين , أو الثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السلم إليه ؛ فإنه يجوز تأخيره عندنا , ذلك القدر , بشرط , وبغير شرط لقرب ذلك ....
    وقولهم : ( إلى أجل مسمى ) تحرز من السلم الحال ؛ فإنه لا يجوز على المشهور ....
    ووصف الأجل ( بالمعلوم ): تحرز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه(29)
    وقيل في السلم : ( أن يسلم عوضا حاضراً في عوض موصوف في الذمة إلى أجل مسمى , ويسمى سلماً وسلفاً , يقال : أسلم , وسلّف , وهو نوع من البيع ينعقد بما ينعقد به البيع , ... ويعتبر فيه من الشروط ما يعتبر في البيع , وهو جائز بالكتاب والسنة , أما الكتاب , فقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ.... )
    وروى سعيد بإسناده عن ابن عباس أنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه , ثم قرأهذه الآية .
    ولأن هذا اللفظ – أي الدين –يصلح للسلم , ويشمله بعمومه .
    وأما السنة , فروى ابن عباس عن الرسول _صلى الله عليه وسلم _ أنه قدم المدينة , وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث , فقال ( من أسلف في شيء , فليسلف في كيل معلوم , ووزن معلوم , إلى أجل معلوم ) متفق عليه .
    وروى البخاري عن محمد بن أبي مجاهد قال : أرسلني أبو بردة وعبد الله بن أبي شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى , وعبد الله بن أبي أوفى فسألتهما عن السلف فقالا : كنا نصيب المغانم مع رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ فكان يأتينا أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب , فقلت : أكان لهم زرع , أم لم يكن لهم زرع ؟
    قال : ما كنا نسألهم عن ذلك .
    وأما الإجماع : فقال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنهم من أهل العلم على أن السلم جائز ؛ ولأن الثمن في البيع أحد عوضي العقد ,فجاز أن يثبت في الذمة , ولأن بالناس حاجة إليه ؛ لأن أرباب الزروع , والثمار , والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم , وعليها لتكمل , وقد تعوزهم النفقة , فجوّز لهم السلم ليرتفقوا , ويرتفق المسلم بالاسترخاص ( 30)


    السلف :
    (سلف يسلُف سلفاً وسلوفا ً, يجيء على معان :
    السلف : القرض , والسلم , والسلف أيضا كل عمل قدمه العبد ...
    وأسلف في الشيء : سلم , والاسم منها : السلف , وهو نوع من البيوع يعجل فيه الثمن , وتضبط السلعة بالوصف إلى أجل معلوم .
    والسلف : القرض , يقال : أسلفته مالاً ؛ أي : أقرضته .
    قال الأزهري : كل مال قدمته في سلعة مضمونة اشتريتها بصفة فهو سلف وسلم , وروي عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أنه قال : ( من سلّف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) .
    أراد : من قدم مالاً , ودفعه إلى أجل في سلعة مضمونة ....
    والسلف في المعاملات له معنيان :
    أحدهما : القرض الذي لامنفعة للمقرض فيه غير الأجر والشكر , وعلى المقترض رده كما أخذه
    والعرب تسمي القرض سلفاً كما ذكره الليث .
    والمعنى الثاني : هو أن يعطي مالاً في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلف ؛ وذلك منفعة للمسلف , ويقال له سلم دون الأول ؛ وفي الحديث ( أنه استسلف من أعرابي بَكْراً ؛ أي : استقرض )( 31) .
    وقيل : السَلَف بفتحتين هو : السلم وزناً ومعنىً , قيل هو لغة أهل العراق , والسلف لغة أهل الحجاز .
    وعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّ الله عنه , ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى ) ( 32)
    والتعبير بأخذ أموال الناس يشمل أخذها بالاستدانة , وأخذها لحفظها , والمراد من إرادته التأدية : قضاؤها في الدنيا , وتأدية الله تعالى عنه يشمل تيسيره لقضائها في الدنيا , بأن يسوق إلى المستدين ما يقضي به دينه , وقضاؤها في الآخرة : بإرضائه غريمه بما شاء الله تعالى ....
    وقوله : ( يريد إتلافها ) : الظاهر أنه من يأخذها بالاستدانة فعلاً , لا لحاجة , ولا لتجارة , بل لا يريد إلا إتلاف ما أخذ على صاحبه ولا ينوي قضاءها .
    وقوله ( أتلفه الله ) : الظاهر إتلاف الشخص نفسه في الدنيا بإهلاكه , وهو يشمل ذلك ويشمل إتلاف طيب عيشه , وتضييق أموره , وتعسر مطالبه , ومحق بركته , ويحتمل إتلافه في الآخرة _ بتعذيبه : (33) .
    وقد يلحظ فرق آخر بين السلف والسلم ؛ ذاك أن ( السلف أعم , فالسلف : تقديم رأس المال , والسلم : تسليمه في المجلس ) ( 34) .


    العينة :
    هي في اللغة السلف , يقال : تعيَّن فلان من فلان عينه ؛ أي : تسلف , وقد فسر الفقهاء العينة بأن يبيع المرء شيئا من غيره بثمن مؤجل , ويسلمه إلى المشتري , ثم يشتريه بائعه قبل قبض الثمن بنقد حالٍ أقل من ذلك القدر .
    وحقيقة العينة : قرض في صورة بيع لاستحلال الفضل مقابل الأجَل ؛ إذ تؤول العملية إلى قرض عشرة لرد خمسة عشر , والبيع وسيلة صورية إلى تلك الزيادة , وقد قيل لهذا البيع : عينة ؛ لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها من البائع عيناً ؛ أي نقدا حاضراً , واستحسن الدسوقي أن يقال : ( إنما سُميت عينة لإعانة أهلها للمضطر على تحصيله مطلوبه التحليل بدفع قليل في كثير ) (35 ) .


    وهكذا تتشابك هذه المعاملات وتدخل في زمرة الديون , وهذا يعني أن كل معاملة بين اثنين يبقى شيء منها في ذمة الآخر تنطبق عليها الآية ؛ فالآية من إعجازها أنها شملت الكثير من أوجه التعامل , ولعل ذلك من أسباب طولها وكثرة التفصيل فيها .




    البيع بالتقسيط :
    (وهو لون من ألوان بيع النسيئة , فهو : بيع يُتفق فيه على تعجيل السلعة , وتأجيل الثمن كله , أو بعضه , على أقساط معلومة لآجال معلومة , وهذه الآجال قد تكون منتظمة المدة في كل شهر , أو في كل سنة , أو غير ذلك .
    كما أنها قد تكون متساوية المقدار , أو متزايدة , أو متناقصة (36)
    _ وهذا كله يجوز متى كان ثمة تراهن بين المتبايعين ، وإذا كان الثمن مؤجلا , وزاد البائع فيه من أجل االتأجيل جاز ؛ لأن للأجل حصة من الثمن ) (37)

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    ------------------------------------------

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    الفصل الثاني
    المعجم اللُّغوي للآية ثم رؤية بيانية لهُ














    تعددت الأساليب داخل الآية وتفاعلت عناصرها لتكوِّن في النهاية هذه اللوحة الكاملة , ولكي تقرأ اللوحة كاملة , ويستشف مقصودها الأعظم , وهدفها الأعلى , كان لابد من تتبع هذه الخيوط المتشابكة , ومعرفة أعدادها , وتفاعلاتها , وعلاقاتها المتداخلة ؛ ليُتوصل في الختام إلى رؤية واضحة يمكن من خلالها القول بأن هذه الصورة يقصد بها كذا ... أو كذا .
    ولذلك كان من فريضة البيان الأولى إحصاء عدد الخيوط , وأنواعها في الآية , وهاهي تي :

    أسلوب الشرط :
    بلغ عدد أساليب الشرط في الآية ستة ؛ وهي على التوالي كما يلى :
    1 - ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ )
    2 – ( فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْل )
    3 - ِ ( فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ )
    4 - ( وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا )
    5 – ( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ )
    6 – ( وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ )

    هذا , وهناك أساليب شرط مفهومة من سياق الآية ؛ لكنها ليست محكومة بأدواته المعروفة , ومن هذه الأساليب _ على سبيل المثال قوله تعالى ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) ؛ حيث يفهم منه : ( إذا ضلت إحداهما فلتذكرها الأخرى ) , وهذا النوع سيكشف عنه التحليل في حينه .

    أساليب الأمر :
    لأسلوب الأمر صورتان صريحتان وهما : ( افعل ) و ( لتفعل ) , وقد ورد في الآية منها تسعة أساليب هي على الترتيب كما يلي :
    1 – ( فاكتبوه )
    2 – ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل )
    3 – ( فليكتب )
    4 – ( وليملل الذي عليه الحق )
    5 – ( وليتق الله ربه )
    6 – ( فليملل وليه بالعدل )
    7 – ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم )
    8 – ( وأشهدوا إذا تبايعتم )
    9 – ( واتقوا الله ) .
    ولا يعني هذا انحصار الأمر في هاتين الصورتين , بل قد يفهم الأمر في صور أخرى , لكنها ليست نصاً في الأمر ؛ لأن الأمر فيها مأخوذ من السياق والمقام والغرض العام ...إلى آخر ذلك من العوامل المساعدة على فهم الأمر .


    ***


    أساليب النهي :
    ليس لأساليب النهي في لغة الضاد إلا صيغة واحدة صريحة , وهي ( لا تفعل ) , أو ( لا ) الداخلة عل المضارع , لكن قد يفهم النهي أيضاً من إدخال مادة ( نهى ) وما في معناها على الكلام , وقد جاء ذلك في القرآن الكريم ؛ نحو قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90) ,
    ونحو : ( وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) (النساء:171)
    ونحو : ( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9),
    ونحو : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) (المائدة:3) .
    وما سوى ذلك من النهي قد يفهم من مضمون الكلام .
    وقد جاء في الآية خمسة أساليب نهي صريحة , وهي كما يلي :
    1 – (وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ )
    2- ( وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً
    3- وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا )
    4- ( وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ )
    5- (ْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ) (البقرة:282) .

    هذا , بالإضافة إلى أساليب أخرى فاعلة , لكنها تخدم ما سبق من أمر ونهي وشرط , ومن تلك الأساليب _ مثلاً _ :
    أسلوب النداء في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ... آية ) .
    وأسلوب التفضيل في قوله تعالى : ( ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا )
    وأسلوب الاستثناء في نحو : ( إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم ) .
    وأساليب بلاغية :
    كالتشبيه , كما في قوله تعالى : ( ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ) .
    ووضع الظاهر موضع المضمر , كما في قوله تعالى : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما
    الأخرى ) , وقوله : ( واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ) .
    وأسلوب الحذف , نحو : ( وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ) .

    وهكذا تتعدد الأساليب , لكنها جميعاً محكومة بهذه الثلاثة , وداخلة في إطارها , وخادمة لمضمونها ؛ فالشرط والأمر والنهي أساليب تفرض هيمنتها على الآية , من أولها إلى آخرها , وسوف يتبين وجه ذلك لاحقاً , _ إن شاء الله تعالى _ .










    الأدوات:
    أولا : حروف الجر:
    تعددت حروف الجر في الآية ؛ حيث ورد فيها :
    ( الباء _ إلى _ الكاف _ من _ اللام ) .
    وهي على النحو التالى :
    الباء : خمس مرات.
    إلى : مرتان .
    الكاف : مرة واحدة .
    من : أربع مرات .
    اللام : مرة واحدة .
    والمجموع ثلاثة عشر حرف جر .
    ***
    أدوات النصب :
    وهي إما ناصبة للمضارع , وقد وردت سبع مرات ( أنْ ) .
    أو حرفاً ناسخا , وقد جاء مرة واحدة ( إنَّ) .

    الأفعال الناسخة :
    وقد ورد منها أربعة أفعال , جاءت على هذا الترتيب :
    1 – ( فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً ....)
    2 – ( فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ..)
    3 - ( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ ...)
    4 – ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ...) أدوات الشرط :
    وقد ورد منها أداتان فقط , وهما ( إنْ _ إذا ) , وكل منهما كرر ثلاث مرات .
    أما ( إذا ) ففي :
    1 – ( إذا تداينتم )
    2- ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا )
    3 – وأشهدوا إذا تبايعتم )
    وأما ( إنْ ) ففي :
    1 – ( فإن كان الذي عليه الحق سفيها ) .
    2- ( فإن لم يكونا رجلين )
    3 – وإن لم تفعلوا فإنه فسوق بكم ) .
    ***
    حروف العطف :
    وقد ورد منها ثلاثة أنواع :
    الواو : وجاءت سبع عشرة مرة .
    الفاء : وجاءت ست مرات .
    أو : وجاءت ثلاث مرات
    ***
    الأفعال :
    وقد ورد منها تسعة وعشرون فعلاً, منها اثنان وعشرون فعلاً معرباً , وستة أفعال مبنية , منها ثلاثة مبنية , وثلاثة أفعال أمر .

    ***
    الأسماء الموصولة :
    وقد ورد منها : ( الذين _ الذي _ مَنْ ) .



    ********



    رؤية بيانية لهذا المعجم
    بعد حصر هذه اللبنات تبين بجلاء شيوع بعضها , وقلة البعض الآخر , والفريضة التي أراها في الدرس البلاغي التحليلي هي النظر في وجه البيان خلف ما أشيع , وقلة ما ندر ؛ ذاك لأن اليقين _ الذي لا محيد عنه _ أن الخالق الكريم أحكم هذا الكتاب الكريم , وقد قال سبحانه : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود:1)
    فكل حرف مضبوط بضوابط تسير في فلك المراد , وتتواءم مع المقصود .
    ومن هنا يلحظ ما يلي :
    • كثرة الأمر , والنهي , والشرط , حتى كادت الآية تُحصر بينهم , وهذه الأساليب - بلا شك - قيود وعوائق تقف في وجه هذا النوع من التعامل بين المؤمنين , وكأن الآية تقول لا ينبغي إتمام هذا الأمر إلا بعد تحقيق هذه الضوابط , فإن اختل منها شيء خرجت _ حينئذٍ _ تلك المعاملة عن منهج الله المرسوم , وأدى ذلك إلى خلاف وشقاق لانهاية له .
    وإذا كان الأصل في المعاملات الإباحة مالم يرد الدليل بخلاف ذلك , فإن التعامل بالدين , وهو مباح شرعاً أحيط بسياج من المحاذير ( أوامر , ونواهٍ , وشروط ) التي تحدُّ من شيوع هذا التعامل ؛ لأن طريق الدين وعر , صعب , والزلل فيه كثير , فقد يؤدي إلى الربا , وقد يؤدي إلى الخلاف والشقاق بين الناس .
    إن القيود لا توضع إلا عند استشعار الخطر , كما توضع علامات المرور في الطريق لتشير إلى الحذر , ولما كانت الديون تترك في النفوس حرجاً , وتؤدي إلى ما يغضب الله تعالى _ من رباً ونحوه _ أحيط بالشرط , والأمر , والنهي .
    وكثرة هذه القيود إعلاء من شأن التحذير ؛ لتضييق هذه المعاملة من جهة , ولأخذ الحذر عند التعامل بها من جهة أخرى , حتى الأساليب المساعدة في الآية مثل أسلوب النداء _ مثلاً _ يتواءم مع هذا التحذير ؛ لأن النداء ضرب من التنبيه .
    وأسلوب الاستثناء : إنما هو انتقاء جزء من كل ؛ إذ ليس كل المعاملات سواء .
    وأسلوب التفضيل : يصرِّح بهذا المعنى أيضاً ؛ لأن هناك معاملات بديلة للديون أولى بالاتباع , كالبيع الناجز ونحو ذلك .


    فإذا جئنا إلى الأدوات نلحظ ما يلي :
    في حروف الجر شاع حرف الباء ؛ حيث ذكر خمس مرات , ثم ( من ) حيث ذكر أربع مرات . وحرف الباء يدور بين معاني الإلصاق , والاستعانة , والزيادة , وهي معانٍ لا تبعد كثيرا عن الديون ؛ فالمَدِين ملصق بالدائن , مستعين به ؛ لأخذ بعض الزيادة من ماله , أو هو ملصق بالأرض من الفقر , مستعين بغيره رغبة في زيادة ماله , والإلصاق هو أشهر معاني الباء , ( وقيل : إنه لا يفارقها , ويعني تعلق أحد المعنيين بالآخر ) ( 38 ) .
    فالتعلق هو أبرز ما يميز الباء , والتعلق أيضاً هو أبرز ما يميز الديون .
    أما ( مِنْ ) : فمن معانيها التبعيض , وابتداء الغاية , والتقليل , والبدل , بل إنها تأتي أيضا بمعنى الباء , كما في قوله تعالى : " ينظرون من طرف خفي " أي : به ) ( 39 )
    وعلى هذا , فإن ما أشيع من حروف جر في الآية لا يخرج معناه عن حمى الديون , بل يرتع فيه , حتى تكتمل اللوحة التي تصور أطراف المعاملة , وضوابطها .
    أما ( أن ) فإنها وردت في الآية مصدرية فقط , وإن كانت تأتي لمعانٍ كثيرة , لكن تأويلها مع ما بعدها بمصدر يشير إلى دخولها في الفعل بعدها , وانضمامها إليه والتصاقها به , وهذا أيضا لا يخرج عن الإطار الذي تدور في فلكه الآية .

    أما الأفعال الناسخة , فقد استعمل منها ( كان _ ليس ) .
    ( والأصل في معنى _ كان _ المضيّ , والانقطاع ) ( 40 ) .وكأنها تشير إلى أن مصير كثير من الديون الانقطاع , بل والضياع , إلا المضبوطه , وهنا تبرز ( ليس ) التي ذكرت مرة واحدة ؛ لتفيد استثناء الديون المأخوذة بحق , والمحفوظة بالشرع .

    وهكذا كلما تتبعتَ اللبنات الصغرى داخل الآية وحصَرتَ الشائع منها , وجدت أن الكل يدور في فلك واحد , وتتشابك خيوطه في نسيج واحد ؛ لتكوّن صورة واحدة لمضمون واحد , وهو التحذير من الديون , وأخذ الحذر عند التعامل بها .

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    الفصل الثالث
    التحليل البلاغي للآية


















    التحليل البلاغي لأسلوب النداء في : }يا أيها الذين آمنوا {

    ( الخطاب هنا موجه للمؤمنين ؛ أي لمجموعهم , والمقصود منه : خصوص المتداينين , والأخص بالخطاب هو المدين ؛ لأنه من الحق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله , فعلى المستقرض أن يطلب الكتابة , وإن لم يسألها الدائن .
    ويؤخذ هذا مما حكاه الله تعالى في سورة القصص عن موسى وشعيب _ عليهما السلام _ ؛ إذ استأجر شعيب موسى , فلما تراوضا على الإجارة وتعيين أجلها , قال موسى : ( والله على ما نقول وكيل ) فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجرِه دون أن يسأله شعيب ذلك ) . ( 41)
    وحرف النداء ( يا ) له من الخصائص ما ليس لغيره , فهو ( أصل حروف النداء , وأكثر حروف النداء استعمالا , ولا يُقدَّر عند الحذف سواه , ولا ينادى اسم الله _ عز وجل _ واسم المستغاث , وأيها , وأيتها , إلا به .
    قال النحاة : ( يا ) أم الباب , ولها خمسة أوجه من التصرف :
    أولها : نداء القريب والبعيد . وثانيها : وقوعها في باب الاستغاثة دون غيرها .
    ثالثها : وقوعها في باب الندبة ورابعها : دخولها على أي .
    وخامسها : أن القرآن المجيد مع كثرة النداء فيه لم يات فيه غيرها ) ( 42 )
    ومن دلالة هذا النداء ( وخصائص نظمه , واصطفاء عناصره على هذا النحو يبدو فيه ما يدل على إلزامهم بما دخلوا فيه طوعا من إيمان وتسليم ) ( 34 )
    فهم الذين ارتضوا هذا الدين وآمنوا به وسلموا لأوامره ونواهيه , وكأن النداء تذكير لهم بما التزموا به , وارتضوا ؛ فقيل لهم : ( يا أيها الذين آمنوا ) ( 44 )
    كما أن في اصطفاء لفظ ( آمنوا ) على هذا النمط _ حيث جاء فعلاً _ إشارة أخرى إلى ( أن إيمانهم لا يزال فعلاً , وأنه ما يزال فيهم بقية من غفلة ) (45 ) وليدخل فيه عموم من دخلوا في الإيمان , وليس خصوص المؤمنين ؛ لأنه مما لا شك فيه أن هناك فرقاً بين أن يقال : ( يا أيها المؤمنون ) و ( يا أيها الذين آمنوا ) ؛ فالمؤمنون أعلى منزلة , وأكثر إيماناً من الذين آمنوا ؛ ذلك لأن الإيمان في المؤمنين صار اسمًا لهم , وصفة ثابتة , أما الذين آمنوا ؛ فالإيمان لديهم لا يزال فعلاً , ولم يرق إلى مرحلة الثبوت , وفرق بين هذا وذاك .
    وعلى كلٍّ , فإن النداء عليهم ( تشريف لهم بتعريفهم بخير صفاتهم )( 46)
    وزد على ذلك أن النداء عليهم صادر عن الحق _ سبحانه وتعالى _ وليس هناك وسيط بينه وبينهم , وفي ذلك أيضا من التشريف ما فيه ( وهذا التكليف والتذكير , والتشريف المحتَضَن في رحم النظم متناسق أيما تناسق مع ما هو آت من بعد ) ( 47 )
    ونخلص من كل ذلك أن هذا النداء يحمل عدة معانٍ :
    1 – عموميته ؛ حيث يدخل فيه القريب والبعيد .
    2 – تذكير المنادى بما التزم به من إيمان ؛ ليكون دافعاً له إلى التسليم والطاعة .
    3 – الإلماح إلى نقص إيمانهم ؛ فما زالوا يُؤمرون ويُنهون ؛ ففي التزامهم إكمال لهذا الإيمان
    , وإتمام لهذا البناء .
    4 – إرفاق كل ذلك بالتشريف , والتقدير , فهم موصولون بالله تعالى ,لمباشرته ندائهم .

    تلك بعض المعاني الملحوظة من خلال هذا النداء .


    ******

















    فقه دلالة أداة الشرط في قوله تعالى ( إذا تداينتم بدين )

    يرى النحاة أن هذه الأداة ليست نصا في الشرط , ( والسبب الذي من أجله لا يستخدمونها في الشرط أنها تجيء وقتاٍ معلوماً , ومعنى ذلك أنها إنما تعيّن نقطة التقاء حدثين في المستقبل , دون أن تجعل حدوث أحدهما مشروطاً بحدوث الآخر , ولكنها في الشعر تضطلع بتلك الوظيفة الشرطية , فتجمع إلى تعيينها نقطة التقاء الحدثين في المستقبل ترتب حدوث أحدهما على الآخر . ( 48 )
    ( والنحاة يشعرون بأن الأصل في الأدوات الشرطية العمل , وأن الجزم سمة من سمات الأداة الشرطية , لذلك وصفوا الأدوات العوامل بأن ّ فيها معنى الشرط )( 49 ) .
    وعلى هذا فإن ( إذا الشرطية تختص بالدخول على الجملة الفعلية , وما جاء على غير ذلك فمؤول ؛ محافظة على قاعدة الاختصاص (50) ( وفعل الشرط لا يكون إلا مستقبل المعنى , فإن جاء ماضياً كما هو الحال في الآية _ أُوِّل بالمستقبل ) ( 51 ) , كما أن من لوازم ( إذا ) الشرطية ( أنها تختص بدخولها على المتيقن , والمظنون , والكثير الوقوع , بخلاف ( إن ) فإنها تستعمل في المشكوك , والموهوم النادر ؛ ولهذا قال تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ثم قال:( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (المائدة:6) فأتى بـ ( إذا ) في الوضوء لتكراره وكثرة أسبابه , و بـ ( إن )في الجنابة , , لقلة وقوعها , بالنسبة إلى الحدث .
    وقيل( فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ) (لأعراف:131
    وقيل : ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) (الروم:36) .
    أتى في جانب الحسنة بـ (إذا ) ؛ لأن نعم الله على العباد كثيرة , ومقطوع بها , و بـ ( إن ) في جانب السيئة ؛ لأنها نادرة الوقوع , ومشكوك فيها .
    ولعل ( إذا هنا تصف واقعاً يعيشه المسلمون الآن , مع أن الأصل في الدَّين أن يكون استثناءً , واضطراراً , أو على الأقل يكون في منزلة أقل من البيع الناجز , لكن شيوع ( إذا ) في الآية يثبت العكس , وكأن القرآن الكريم يقول : إن الناس سيتخذون التداين أساساً للبيع والشراء , وهذا واقع
    نحياه الآن ؛ فالمعاملات التجارية جلها الآن تقوم على الديون , حتى أصبح البيع الناجز هو الاستثناء , وهنا تكمن الخطورة .
    البيان بالفعل: " تداينتم "

    وهو فعل ماضٍ مبني على السكون ؛ لاتصاله بضمير رفع متحرك , مع وجود الميم الدالة على الجمع , والفعل على وزن ( تفاعلتم ) , وهو بمعنى : " اداينتم " وكل منهما يأتي بمعنى الآخر , مثل : ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:72) .
    قال الزركشي : ( هو تفاعلتم , وأصله : تدارأتم , فأريد منه الإدغام تخفيفاً , وأُبدل من التاء دالٌ فسكن للإدغام , فاجتُلبت لها ألف الوصل , فحصل على " افّاعلتم " ) ( 52 ) .
    والأصل في الصيغتين , أعني ( افّاعلتم , وتفاعلتم ) هي الثانية , وهي التي معنا في ( تداينتم ) ؛ لأن الأولى حدث فيها إدغام , وهو لاحق على عدم الإدغام , كما أن في ألف الوصل , وهي مجلوبة للنطق بالساكن ؛ ولذلك اوِّل المفسرون صيغة ( افاعلتم ) بـ ( تفاعلتم ) .
    ومن ذلك قول الطبري في قول الله تعالى : ( حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً َ) (لأعراف:38) .
    : إنما هو تداركوا ) ( 53 ) .
    وفي نحو: ( اثّاقلتُم ) يقول القرطبي : ( أصله : تثاقلتم ) أُدغمت الثاء في التاء لقربها منها , واحتاجت إلى ألف الوصل لتصل إلى النطق بالساكن , ومثله : ( اداركوا , وادّارأتم , واطّيرنا , وازّينت ) ( 54 ) .
    وعند العكبري في التبيان يقول : ( قوله " فادّرأتم " أصل الكلمة تدارأتم , ووزنه : " تفاعلتم " , ثم أرادوا التخفيف , فقلبوا التاء دالاً ؛ لتصير من جنس الدال , التي هي فاء الكلمة ؛ لتمكن الإدغام , ثم سكّنوا الدال ؛ إذ شرط الإدغام أن يكون الأول ساكناً , فلم يمكن الابتدء بالساكن , فاجتلبت له همزة الوصل , فوزنه الآن " افاّعلتم " بتشديد الفاء , مقلوب من " تفاعلتم " , والفاء الأولى زائدة , ولكنها صارت من جنس الأصل ؛ فيُنطق بها مشددة ,لا لأنهما أصلان , بل لأن الزائد من جنس الأصل ) ( 55 ) .


    ومع كل هذا يبقى السؤال :
    ما وجه اصطفاء " تداينتم " دون " اداينتم " ؟
    إن صيغة " اداينتم " تشعر بأنهم الغُرماء , وأن المؤمنين جميعاً مدينون لغيرهم , وهذا غير مقصود ؛ لأن الدائن , والمدين في الآية من المؤمنين , وهذا مفهوم من الفعل " تداينتم " ؛ ولذلك قال ابن جريج : " من ادَّان فليكتب , ومن باع فليُشهد , ) ( 56 )
    فاختيار صيغة " افتعل " لأن المقصود : مَنْ أخذ ديناً , أو اشترى بدين , فعليه الكتابة .
    أما لو قيل : ( من تداين ) لفُهِم منه : من تعامل بدين , سواء أكان دائناً أم مديناً , وعليه فالصيغة الواردة في الآية توحِي بأن الأصل في المجتمع المسلم أن تكون حركة بيعه وشرائه وتعاملاته بينه وبين بعضه , وأنّ تعامله مع الآخرين يخرج عن الأصل إلى الضرورة .
    كما أن وضع الفعل " تداينتم " في إطار الشرط يفيد هذا النوع من التعامل , فالديون والتعامل بها لابد أن يكون في إطار الضرورات , وليس العكس , مما يترتب عليه التضييق على هذا النوع من التعامل .
    فإذا أضيف إلى كل ذلك معنى الدّين , وأنه يفيد الخضوع , والذل , لعلمنا أن الآية من بدايتها تحذر المؤمنين حتى يحُدُّوا من هذه المعاملات القائمة على الديون .

    ******

    يـــــــــــــــــــــــتــــــــــــــــــــبــــــــــــــ ـــــــــع

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    دلالات البيان في قوله : " بدين "
    يرى البعض أن الجار والمجرور ( بدين ) تأكيد لقوله : ( تداينتم ) , مثل قول الله تعالى ( ولا طائر يطير بجناحيه) , وقوله : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) .
    ( فإن قال قائل : وما وجه قوله : " بدين " وقد دل بقوله " تداينتم " عليه ؟
    وهل تكون مداينة بغير دين , فاحتيج إلى أن يقال ( دَيْن ) ؟
    قيل : إن العرب لمَّا كان مقولا ًعندهم ( تداينا ) بمعنى : تجازينا , وبمعنى: تعاطينا الأخذ والإعطاء بِدَيْن , أبان الله تعالى بقوله ( بدين ) المعنى الذى قصد تعريفه من قوله : ( تداينتم ) حكمته , وأعلمهم أن حكم الدين دون حكم المجازاة .
    وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) .
    ولا معنى لما قالوا في هذا الموضع( 57 ) .
    يقول العلامة أبو السعود : ( إن فائدة قوله _ بدين _ هي : تخليص المشتَرك , ودفع الإيهام قصدا ؛ لأن تداينتم يجيء بمعنى : تعاملتم بدين , وبمعنى : تجازيتم , ولا يُرَدُّ عليه بأن السياق يرفع الإيهام ؛ لأن السياق قد لا ينتبه إليه الفَطِن ,وقد ذُكر ليرجع الضمير إليه ؛ إذ لولاه لقيل : ( فاكتبوا الدين ) , فلم يكن النظم بذلك الحسن عند ذوي الذوق بأساليب الكلام .
    واعتُرض بأن التداين يدل عليه فيكون من باب : ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) .
    وأجيب بأن الدين لا يراد به المصدر , بل هو أحد العوضين , ولا دلالة للتداين عليه إلا من حيث السياق , ولا يُكتفى به في معرض البيان , لاسيما وهو مُلبس .
    وقيل : ذكر ؛ لأنه أبين ؛ لتنويع الدين إلى مؤجل , وحال ؛ لما في التنكير من الشيوع , والتبعيض , لما خص بالغاية , ولو لم يذكر لاحتُمل أن الدين لا يكون إلا كذلك ( 58) .
    وقد يكون استعمال لفظ ( بدين ) دفعاً لتوهم المجاز ؛ ذلك لأن التداين قد يفهم منه معنى الوعد , كما قال رؤبة :
    داينت أروى والديون تقضى *** فمطلت بعضاً وأدت بعضاً.
    فذكر قوله : (بدين ) دفعاً لتوهم المجاز ) ( 59)
    أي : دفعاً لفهم الوعد ؛ أي : واعدت أروى , والوعود تقضى .
    فلما كان المجاز غير مراد في الآية , ذكر لفظ ( بدين ) .
    ويلمح الزركشى في ذكر ( بدين ) مَلْمَحاً آخر يقول فيه : ( أما قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين " فإنما ذكر قوله : (بدين ) مع ( تداينتم ) لوجوه :
    أحدها : ليعود الضمير في ( فاكتبوه ) عليه ؛ إذ لو لم يذكره لقال : فاكتبوا الدين .
    والثاني : أن تداينتم , مفاعلة من الدَّين بتشديد وفتح الدال , ومن الدِّين بتشديد وكسر الدال , فاحتيج إلى قوله : (بدَين ) ؛ ليبين أنه من ( الدَّين ) لا من ( الدِّين ).
    وهذا أيضا فيه نظر ؛ لأن السياق يرشد إلى التداين .
    الثالث : أن قوله ( بدين ) إشارة إلى امتناع بيع الدين , بالدين كما فسره قوله _ صلى الله عليه وسلم _ ( هو بيع الكالئ بالكالئ ) , وبيانه : أن قوله تعالى : ( تداينتم ) مفاعلة من الطرفين يقتضي وجود الدين من الجهتين , فلما قال ( بدين) عُلم أنه دين واحد من الجهتين .
    الرابع : أنه أتى به ليفيد أن الإشهاد مطلوب سواء كان الدين صغيراً أو كبيراً , كما سبق نظيره في قوله تعالى : ( فإن كانتا اثنتين ) , ويدل على هذا ههنا قوله بعد ذلك : ( ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ) .
    الخامس : أن ( تداينتم ) مشترك بين الاقتراض والمبايعة والمجازاة , وذكر الدين لتمييز المراد (60 ) .
    وهذا الجار والمجرور ( بدين ) يعدُّ قيداً آخر , وعقبة أخرى أمام انتشار هذا الضرب من المعاملات ؛ لأنه يفيد العموم , ومعنى أن كل دين ينبغي فيه الكتابة ؛ فإنه تضييق لهذا الباب , وإلجاء إلى البيع الناجز الذي لا يتبقى فيه شيء في ذمة أحد , والإسلام حريص على صفاء النفوس من كل شاغل .
    بلاغة وصف الأجل بـ ( مسمى)
    في قوله تعالى : ( إلى أجل مسمى ) جاء الجار والمجرور ليكون وصفاً لقوله مسبقاً ( بدين ) , وكأن المعنى : _ إذا تداينتم بدين مؤجل _ ثم وصف الأجل أيضا بقوله ( مسمى ) .
    وسيأتي حديث عن وصف آخر , وهو وصف الكاتب بأنه ( عَدْل ) في قوله : وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) ؛ أي : عادل , وكثرة هذه الأوصاف تشير إلى عدة أمور :
    منها : ضبط وتحديد الشروط اللازمة في عملية الديون , حتى لا يترك الأمر لاجتهاد أحد ,
    فتختلف الرؤى ,’ فيحدث الشقاق .
    ومنها : أن هذه الأوصاف إنما تضيِّق التعامل ولا توسعه .
    وهذا معنًى يسري في جنبات الآية ؛ أعني : وضع القيود والعقبات
    التي تقلل من هذه المعاملة , وفي ذات الوقت تضبط ما يتم منها .
    ومنها : أن المفهوم من هذه الضوابط , والشروط أن من خالف شيئا منها كان آثما , أو على الأقل متهاوناً فيما أقره القرآن الكريم .
    وقد يكون قوله : ( إلى أجل ) متعلقاً بالفعل ( تداينتم ) , والأجل هو : الوقت , أو هو : ( مدة من الزمان محدودة النهاية , مجعولة ظرفاً لعمل غير مطلوب فيه المبادرة ؛ لرغبة ِتمام ذلك العمل عند انتهاء تلك المدة , أو في أثنائها .
    والأجل : اسم وليس بمصدر ؛ لأن المصدر : التأجيل , وهو إعطاء الأجل , ولما كان فيه من معنى التوسعة في العمل أطلق الأجل على التأخير ( 61 ) , ولما نكّر الأجل وصف بقوله :
    ( مسمى ) ؛ أي : معلوم بالأيام والأشهر , ونحو ذلك ., و( إلى ) هنا هي الغائية , ومن معاني الغاية فيها : تحديد الوقت المخصوص للسداد بأن يكون عصراً أو ظهراً أو صباحاً أو في ساعة كذا , وهذا مفهوم من معنى الغائية الكامن في ( إلى ) .
    بلاغة الاستعارة في قوله ( مسمى )
    يرى الطاهر بن عاشور –رحمه الله – أن في كلمة ( مسمى ) استعارة تصريحية ؛ حيث يقول : ( المسمى : حقيقته المميز باسم – يميزه عما يشابهه في جنسه أو نوعه ...والمسمى هنا مستعار للمُعَيَّن المحدود , وإنما يقصد تحديده بنهاية من الأزمان المعلومة عند الناس , فشبه ذلك بالتحديد بوضع الاسم , بجامع التعيين ؛ إذ لا يمكن تمييزه عن أمثاله إلا بذلك , فأطلق عليه لفظ التسمية , ومنه قول الفقهاء : المهر المسمى ؛ فالمعنى : أجل معين بنهايته ) ( 62 ) .
    ولعل هذه الاستعارة تعيدنا إلى بيان النبي –صلى الله عليه وسلم – في تحديد الأجل ؛ حيث استعمل لفظاً آخر , ففي الحديث الصحيح : ( من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم , ووزن معلوم , إلى أجل معلوم ) .
    ولا شك أن كلمة ( معلوم ) مع موافقتها لما سبق في تحديد الأجل , إلا أن لفظ ( مسمى ) أكثر إيضاحاً ؛ لأن العلم قد يتحصل عن غير نطق وتصريح , لكن الأجل المسمى لا يقال له ( مسمى) إلا إذا صُرِّح به لفظاً وكتابة أيضاً ؛ فتسمية الأجل أكثر جلاءً من مجرد العلم به , وهذا يشير إلى أن هذه المعاملات ينبغي أن تقوم على الشفافية والتصريح ؛ حتى لا يتلاعب الشيطان بالعقول والقلوب .
    أضف إلى هذا : أن ( المعلوم ) قد يكون على العموم , كما في نحو البيع بالأجل إلى الحصاد , أو دخول الشتاء , أو انتهاء الصيف .
    أما المسمى , فإنه معلوم باليوم , والشهر , والساعة , وهذا يتناغم مع دلالة ( إلى ) السابقة , ثم إن الأجل في القرآن الكريم لم يوصف قط بلفظ ( معلوم ) , لكنه وصف بكلمة ( مسمى ) وذلك كما في قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (الأنعام:2
    وقوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام:60) .
    وقوله تعالى : ( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (الرعد:2) وقوله تعالى : ( وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ...) (الحج:5).
    أما لفظ ( معلوم ) فإنه جاء وصفا ًفي القرآن الكريم لألفاظ مثل ( الكتاب - القدر - يوم – رزق - مقام - حق - وقت ....إلخ ) (62 ) .
    وهذا يشير إلى الاتساع في معنى اللفظة .
    لكن يبقى سؤال :
    ما وجه استخدام النبي –صلى الله عليه وسلم – لهذا اللفظ ( معلوم ) مع الأجل , مع أن السياق سياق تحديد ؟ .
    لعله من باب المشاكلة ؛ أعني أنه لما قال : ( فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم ) قال ( إلى أجل معلوم ) ليشاكل ما سبق من الكلام .
    كما أن في قوله تعالى : ( إلى أجل مسمى ) إدماج , والإدماج : ( أن يضمَّّن كلام سيق لمعنى معنى آخر ) ( 63 ) .
    وفي الآية أدمج تشريع الأجل في تشريع التسجيل , وكتابة الديون , وهذا ضرب من الإيجاز الموحِي إلى مكانة الأجل في البناء الحاكم , والضابط للدَّين ؛ فالأجل جزء ولبنة من هذا البناء .
    وأمر آخر , وهو أنه لو قيل : فاكتبوه , وأجلوا أجلاً , لَظُنَّ أن كتابة الدين مقصود بها المقدار فقط , ولظُن أيضاً إمكانية خلوّ العقد من تحديد الأجل , وهذا غير مراد – كما أفهم – لأن القصد إلى تضمين العقد موعد السداد , فهو جزء من العقد , وبند من بنوده , رتبت الكتابة عليه , وجاءت بعده لتشمله .
    بلاغة التعبير عن كتابة الديون
    جاء الأمر بكتابة الدين في صورتين :
    الأولى : في قوله تعالى : ( إذا تدينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) .
    والأخرى في قوله تعالى : ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) .
    وهذان الجزآن قد جاءا بصيغة الأمر , وأول ما يلفت الانتباه هو اختلاف الصيغة , فالأمر بالكتابة عامة اصطُفي له صيغة " افعل " , وتعيين الكاتب اصطُفي له صيغة "ليفعل" .
    ( وإذا تأملنا صورة الأمر " ليفعل " , وصورته " افعل " ألفينا أن دلالة " ليفعل " على حقيقة معنى الأمر أكثر من دلالتها على غيرها , بينما دلالة " افعل " على غير حقيقة معنى الأمر كثيرة جداً , بل متنوعة الدلالة , وفي هذا ما قد يُعرب عن أن صيغة " ليفعل " لمَّا كانت هي الأصل في الوضع الأول وأقلّ استعمالاً كانت أليط بحقيقة معنى الأمر , بينما صيغة " افعل " أقدر على أن تتسع لدلالات عديدة على لاحب مساقات متباينة – مثل : الإباحة أو الندب , أو نحو ذلك .( 64 )
    فكان فقه الدلالة البيانية لصيغة " افعل " أصعب مراساً , وأدعى إلى طول مراجعة , ونفاذ بصيرة في أغوار السياق المقالي والمقامي , فإن هذه المعاني السياقية لتلك الصيغة كثيراً ما تتداخل , أو يستدعي بعضها بعضاً , مما يُدخل المرء في إشكالية الوعي بدقائق الوجوه الدلالية للصيغة . ( 65)
    ومن هنا يقف البحث أمام الأمر الأول :
    (فاكتبوه)
    وأول ما يلفت الانتباه في هذا التركيب ضمير المفرد ( الهاء ) الغائبة , فهل تعود إلى الدين , أم إلى الأجل ؟
    كلا الأمرين يجوز , وقد تكون الكتابة للدين والأجل معاً , وهنا يطرح سؤال آخر .
    لِمَ أفرد الضمير ؟
    إن الأولى بالفهم – عندي- هو عود الضمير إلى الدَيْن , وسبب إفراد الضمير هو دخول الأجل في بنود العقد المكتوب , فلا يقال : كتب الدين إلا وهو يريد كُتِب مقداره وأجله , ونحو ذلك .
    يقول القرطبي : " وفي قوله : "فاكتبوه " إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفته المبينة له , المُعرِبة عنه ؛ للاختلاف المتوهم بين المتعاملين , المُعرِّفة للحاكم ما يحكم به عند ارتفاعهما إليه " (66)
    وعليه يكون في الكلام إيجاز ؛ حيث كتابة قيمة الدين وصاحبة , وموعد السداد , ومكان السداد ....إلى آخر هذه الأمور التي يُنصُّ عليها في العقد المكتوب ؛ ولذلك يقول القرطبي أيضاً: " فاكتبوه " : يعني الدين والأجل ... ويقال : أُمر بالكتابة , ولكن المراد : الكتابة والإشهاد ؛ لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة " (67)
    أثر السياق في تحديد حكم الكتابة :
    ذهب البعض إلى أن كتب الديون واجب على أربابها فرضٌ بهذه الآية – بيعاً كان أو قرضاً ؛ لئلا يقع فيه نسيان أو جحود .
    قال ابن جُريج : " من ادَّان فليكتب , ومن باع فليُشهد " .
    وقال الشعبي : " كانوا يرون أن قوله : " فإن أمن بعضكم بعضاً " ناسخ لأمره بالكتب ...."
    وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ , ثم خففه الله تعالى بقوله : " فإن أمن بعضكم بعضاً .
    وقال الجمهور : " الأمر بالكتب ندبٌ إلى حفظ الأموال , وإزالة الريب , وإذا كان الغريم تقياً فلا يضره الكتب ..."
    وقال بعضهم : " إن أشهدتَ فحزمٌ , وإن ائتمنت ففي حلٍ وسعة ؛ فالندب : إنما هو على جهة الحيطة للناس ..." ) ( 68 )
    وقال الشافعي – رحمه الله - : ( لما أمر الله تعالى بالكتاب , ثم رخص في الإشهاد إن كانوا على سفر ولم يجدوا كاتباً , احتمل أن يكون فرضاً , وأن يكون دلالة .. , فلما قال جل ثناؤه : : " فرهان مقبوضة ..." والرهن غير الكتاب والشهادة .. ثم قال : " فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه " , دل كتابُ الله عز وجل على أن أمره بالكتاب ثم الشهود ثم الرهن إرشاد لا فرض عليهم ؛ لأن قوله : " فليؤد الذي اؤتمن أمانته " إباحة لأن يأمن بعضهم بعضاً , فيدعَ الكتاب والشهود والرهن.
    قال : وأحب الكتاب والشهود ؛ لأنه إرشاد من الله تعالى , ونظرٌ للبائع والمشتري , وذلك أنهما إن كانا أمينين فقد يموتان , أو أحدهما فلا يُعرف حق البائع على المشتري فيتلف على البائع , أو ورثته حقه .
    وقد يتغير عقل المشتري .. وقد يغلط فلا يقر ؛ فيدخل في الظلم من حيث لا يعلم ويصيب ذلك البائع فيدي ما ليس له , فيكون الكتَّاب والشهادة قاطعاً عنهما وعن ورثتهما ) ( 69)
    وكل ما سبق يبين أن القضية مثار خلاف , وأن الرؤى فيها لم تتحد , ولكل وجهة هو موليها , لكن السياق الذي وضعت فيه الآية , وهو سياق تهديد ووعيد وزجر , حيث سبقها قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة:281) , ولحقها قوله تعالى : ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) (البقرة:284) .
    هذا السياق يميل بالكفة تجاه الوجوب والفرض , حتى لو افترض جدلاً أنه إرشاد وندب ..
    فالسؤال الذي يطرح نفسه :
    هل إذا أرشدنا الله تعالى وندبنا إلى كتابة الدين نستحسن نحن غير ذلك ؟!!!!
    لقد أحسن الشافعي – رحمه الله – حين قال : إني أحب الكتاب والشهود وذكر مبررات وعللاً لا تجعل من الكتابة أمراً مندوباً , بل تجعله مفروضاً , وبخاصة أن هذا الندب والإرشاد جاء في تراكيب صارمة من الأمر والنهي والشرط .
    فالسياق الداخلي للآية , وبناء العبارة , واصطفاء الألفاظ , يحمل من الصرامة , والشدة ما يميل بالكفة تجاه الوجوب , ولذلك أرى أن الرأي رأي الطبري ؛ حيث يقول :
    ( الصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله عز وجل أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم , وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل ., و أَمْرُ الله فرضٌ لازم إلا أن تقوم الحجة بأنه إرشاد وندب , ولا دلالة تدل على أن أمره – جل ثناؤه – باكتتاب الكتب في ذلك ندب وإرشاد .
    فذلك فرض ٌعليهم لا يسعهم تضييعه , ومن ضيعه منهم كان حرجاً بتضييعه .
    ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله : ( فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته ) ؛ لأن ذلك إنما أذن الله به حيث لا سبيل إلى الكتاب أو إلى الكاتب ؛ فأما والكتاب , والكاتب موجودان ؛ فالفرض إذا كان الدين إلى أجل مسمى ما أمر الله تعالى ذكره – في قوله : ( فاكتبوه ) .
    وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه , وحكم المنسوخ في حالٍ واحدة ؛ فأما ما كان أحدهما غير نافٍ حكمَ الآخر , فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء .
    ولو وجب أن يكون قوله : ( وإن كنتم على سفر ) ناسخاً قوله : ( إذا تداينتم ) لوجب أن يكون قوله : ( وإن كنتم مرضى ) ناسخاٍ الوضوء بالماء في الحضر عند وجود الماء فيه , وفي السفر الذي فرضه الله عز وجل , لقوله ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) ,وأن يكون قوله في كفارة الظهار : ( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) , ناسخاً قوله : ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) .
    فيسأل القائل : إن قول الله عز وجل : ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) ناسخٌ قوله : ( إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) ما الفرق بينه وبين القائل في التيمم وما ذكرنا قوله , فزعم أن ثمَّ ما أبيح في حال الضرورة لعلة الضرورة ناسخ حكمه في حال الضرورة حكمه في كل أحواله , نظير قوله في أن الأمر باكتتاب كتْب الديون , والحقوق منسوخ بقوله : ( وإن كنتم على سفر .. ) ؟
    فإن قال : الفرق بيني وبينه أن قوله : ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) كلام منقطع عن قوله : ( وإن كنتم على سفر ) , وقد انتهى الحكم في السفر إذا عدم فيه الكاتب بقوله : ( فرهان مقبوضة ) , وإنما عنى بقوله : ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) ( إذا تداينتم بدين ) , قيل له : وما البرهان على ذلك من أصل ٍ أو قياس , وقد انقضى الحكم في الدين الذي فيه إلى الكاتب , والكتاب بقوله : ( ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ) ؟ !!!!
    وأما الذين زعموا أن قوله : ( فاكتبوه ) , وقوله : ( ولا يأب كاتب ) على وجه الندب , والإرشاد , فإنهم يُسألون البرهان على دعواهم في ذلك , ثم يُعارضون بسائر أمر الله عز وجل الذي أمر في كتابه , ويُسألون الفرق بين ما ادعوا في ذلك وأنكروه في غيره , فلم يقولوا في شيء من ذلك قولاً إلا ألزموا في الآخر مثله ) (70 ) .
    وكلام الطبري- رحمه الله - هو الأقرب إلى السياق لعدة أسباب :
    منها : ( أن القصد من الأمر بالكتابة التوثق للحقوق , وقطع أسباب الخصومات , وتنظيم معاملات الأمة , وإمكان الاطلاع على العقود الفاسدة , وهذا يجعل الأرجح أن الأمر للوجوب ؛ لأنه الأصل في الأمر , وقد تأكد بهذه المؤكدات .
    وأما قوله : ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) , فهي رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين , وحالة الائتمان حالة سالمة من تطرق التناكر والخصام ؛ لأن الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى , فأوجب عليهم التوثق في مقامات المشاحنة ؛ لئلا يتساهلوا ابتداءً , ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة , ويظهر لي أن في الوجوب نفياً للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب ؛ حتى لا يعدُّ المدين هذا من سوء الظن به ؛ فإنّ في القوانين معذرةً للمتعاملين أما قول ابن عطية بأن الصحيح عدم الوجوب ؛ لأن للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه بإجماع , فكيف يجب عليه أن يكتبه ؟ وإنما هو ندب للاحتياط .
    فهذا كلام قد يروج في بادئ الرأي , ولكنه مردود بأن مقام التوثق غير مقام التورع .
    ومقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق ؛ حتى لا يتساهلوا ثم يندموا , وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضاً . كما أن من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثق دائنه إذا علم أنه بأمر من الله تعالى , ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام ) ( 71 )
    ( إن المبدأ العام الذي يريد القرآن الكريم تقريره أن الكتابة أمر مفروض بالنص غير متروك للاختيار ) ( 72 )
    ومن الأسباب أيضًا أن قوله : ( فإن أمن بعضكم بعضا ) لمْ تُرتَّبْ على التداين , وإنما رتبت على الرهن , وعطفت عليه بالفاء , والفاء دليل الترتيب على السابق وليس على الأسبق ؛ إذ لا
    دليل على نقله إلى العموم .
    ومنها أيضا : أن كتابة الدين أصل في التداين حتى أثناء السفر ؛ لأن الآية تقول : ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً ) ؛ فالأصل أن يُبحث عن كاتب , وهذا يؤكد أن قوله تعالى : ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) ليس مرتبطاً بالتداين العام , وإنما هو مرتبط بعدم وجود الكاتب , وكأن المعنى , : وإن كنتم على سفر فابحثوا عن كاتب واكتبوا الدين , فإن عُدم الكاتب لضيق الوقت فرهان مقبوضة
    ومنها: أن الأمن لو كان مرتبطاً بالتداين العام لوُضع أولاً ؛ إذ هو الأصل بين المسلمين , ولكان قيل : إذا تداينتم بدين وأمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته, وإلا فاكتبوا الدين....
    وهكذا .. لكن سياق الآية وبناء جملها يميل بالمعنى إلى ارتباط الكتابة بالدين ارتباط تلازم , في الوقت الذي يشير فيه صراحةً إلى ارتباط جملة الأمن , وأداء الأمانة بحالة السفر , وخلط الأمرين دعوى بلا بينة واضحة .
    ومنها : أن تصدير جملة ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) بأداة الشرط ( إن ) , وهي تفيد الندرة والشك , ولو ارتبط هذا بالتداين العام ؛ بمعنى : أن المسلمين يقل الأمن بينهم عند التداين , لكان – ذمّا وهجاءً .
    أما ربط جملة : ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) بالسفر , وهو مظنة ضياع المال , وحدوث المخاطر يجعل المعنى متساوقاً مع سياق الآية , ولو ربطنا هذا المعنى بالمفهوم العام من الآية لحدث خلاف وتناقض .
    كيف ؟
    إن الآية نفسها تشير إلى أمن المؤمنين بعضهم بعضاً ؛ إذ إنها تتحدث عن البيع بالأجل أو بالتقسيط أو القرض , وفي كل ذلك يعطي المؤمن أخاه السلعة أو المال ولا يأخذ شيئا , ...نعم : لا يأخذ إلا وعداً مكتوباً بالسداد , وهذا دليل الأمن , فإذا كان جوهر الآية يدفع القارئ دفعاً إلى وجود الأمن بين المسلمين , فكيف ينسجم هذا مع جملة ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) ؟ !!
    إذاً فلا بد أن يتعين الأمر حالة السفر , والآية تنطق بهذا ؛ حيث تقول : ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) (البقرة:283)
    فلِمَ نعمم والآية تنطق بالتخصيص , والمنطوق مقدم على المفهوم عند العلماء , والسفر مظنة ضياع المال , وهكذا ضياع السلعة, ومن هنا كان الإلحاح على الكتابة أشد , لكن أن عدم الكاتب , وضاق الوقت فواحدة من أمرين : إما عدم التداين , وإما الرهن.
    نعم ؛ لأن هذا هو المفهوم من ربط التداين أثناء السفر بهاتين الحالتين ؛ إما الأمن , وإما الرهن , حيث يطرح العقل سؤالاً عفوياً : فإن عدم الأمن والرهن ؟
    فالجواب : لا تداين .
    وهذا يعيدنا إلى القضية التي نحن بصددها , وهي أن الأمر في قوله : ( فاكتبوه ) للوجوب , وأن قوله ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) لا علاقة له بهذا الوجوب , فالوجوب من دلالة الأمر , ومن نسق التركيب , ومن عوامل أخرى ذكرتها , كما أن واقع الناس الآن يميل إلى هذا الوجوب , فالمخاطر التي تحيط بعلاقات المسلمين عند عدم الكتابة ظاهرة وواضحة , مما يعنى أن كتابة الدين مصلحةٌ للجميع , وغلقٌ لأبواب الشياطين .
    وكلام الإمام الشافعي _ رحمه الله تعالى – من أن موت البائع أو المشتري أو نسيانهما أو فساد عقيدة أحدهما , أو جنونه , أو غير ذلك من الأمور التي يمكن أن تعتور الإنسان , كل ذلك يبرهن بجلاء حكمة الوجوب .
    وهذا لا يطعن في ذمة أو أمانة أحد , إنما هو للاحتراز والضمان وحفظ الأموال من الضياع .
    كما أنه لا يخفى أن المعاملات المادية هي المحك الشديد , وهي الخطر الأكيد على علاقة الأخوة الإسلامية ؛ لذلك كان التأكيد على أخذ الضمانات الحافظة لها ...
    ****
    يـــــــــــــــتــــــــــــــــــتبــــــــــــع

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    بلاغة الإدماج في قوله –سبحانه- :
    (وليكتب بينكم كاتب بالعدل )
    وهذه الجملة تفجر عدة أسئلة بلاغية , من أهمها :
    1 – ما الإدماج ؟ ,وما موطنه في الآية ؟ , وما وجه جماله ؟
    2 – لَمن الأمر في الجملة ؟ وما وجه العطف بينها وبين سابقتها ؟
    3 – لِم تأخرت هذه الجملة عن سابقتها ؟
    4 – أين مفعول الفعل " ليكتب " ؟ وما وجه تقييد الفعل بقوله : " بينكم " ؟ وبِم تعلق الجار والمجرور " بالعدل " ؟
    5 – هل في الكلام كناية ؟

    أما الإدماج : ففي اللغة يدل على " الانطواء والستر , يقال : أدمجت الحبل : إذا أدرجته وأحكمت فتله ..." ( 73 )
    وفي الاصطلاح : " أن يُضَمَّن كلام سيق لمعنى معنى آخر لم يصرح به " ( 74 )
    " والمعنى الآخر وهو المضمن المدموج يجب ألا يكون مصرحاً به ولا يكون في الكلام إشعار بأنه مسوق لأجله , وإلا لم يكن ذلك من الإدماج " ( 75 )
    أما موطنه في الجملة القرآنية فيشير إليها الطيبي فيقول :
    " الكلام هنا – يعني في قوله : " وليكتب بينك كاتب بالعدل " مسوق لمعنى , ومدمج فيه آخر بإشارة النص , وهو اشتراط الفقاهة في الكاتب ؛ لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور الخطرة , إلا من كان فقيهاً " ( 76 )
    والناظر في الجملة يستطيع أن يلحظ بسهولة أنها جاءت لتحديد وتخصيص نوع خاص من الكُتَّاب ليقوم بهذه المهمة , أو إن شئت فقل : لتشترط أداءً خاصاً لهذه الكتابة المأمور بها سابقاً وهي أن تكون كتابةً عادلةً ضامنةً للحقوق , مانعة من التحايل ؛ ذلك لأن الأمر كما قال الطيبي : " خطير " , ولذلك جاز تعلق الجار والمجرور " بالعدل " بكلٍ من الفعل والفاعل , أعني : يجوز تعلقه بالفعل
    " يكتب " , ويجوز تعلقه بالفاعل " كاتب " .
    فإذا قدرنا تعلقه بالفعل " يكتب " يكون المعنى المدمج هو : وليكتب بينكم كاتب كتابة عادلة , تكون محل ثقة من أهل الاختصاص عند التنازع ؛ بحيث تخلو من الثغرات التي تمكن أحدهما من المراوغة , أو الانفكاك مما في ذمته ؛ فالعدل هنا ناتج عن موافقة الكتابة للشروط الواجب توافرها لضمان الحقوق ؛ فهي صفة للكتابة .
    وقد يكون الجار والمجرور متعلقاً بالفاعل " كاتب " فيكون المعنى المدمج هو : وليكتب بينكم كاتب مشهور بالفقه والعدل وعدم الميل إلى هذا أو ذاك , وهذا يعرف من خلال كتاباته السابقة بين الناس ؛ " فالأصل ألا يكتب الوثيقة إلا العدل في نفسه , وقد يكتبها الصبي والعبد ... إذا أقاموا فقهها , أما المنتصبون لكتبها ؛ فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولاً مرضيين , قال مالك –رحمه الله تعالى - : " لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها , عدلٌ في نفسه , مأمون ؛ لقوله تعالى : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " .
    وعلى هذا فالجار والمجرور في موضع الصفة للكاتب " ) ( 77)
    "ففقه الكاتب , ومعرفته بأنواع الوثائق معنى مدمج في الجملة ، مقصود منها في النهاية .
    أما الأمر في الجملة فمتوجه إلى المتداينين , والسر في ذلك : " المبالغة في أمر المتعاقدين بالاستكتاب " ( 78 )
    ولا أرى أن الأمر هنا للكاتب لأنه ليس منوطاً بالحكم , كما أنه إما أن يكون أجيراً أو متفضلاً , وفي كلتا الحالتين لا يمكن أمره وإرغامه على الكتابة , لكن الأقرب إلى الفهم هو توجيه الأمر إلى المتداينين أن يبحثا عن كاتب فقيه عدل ليقوم بكتابة الدين , وهذا ما جعل الألوسي – رحمه الله – يقول : " والمراد أمر المتداينين على طريق الكناية , بكتابة عدلٍ , فقيهٍ , ديِّن ؛ حتى يكون ما يكتبه موثقوقاً به , متفقاً عليه بين أهل العلم " ( 79 )
    وهو لا يعني هنا الكناية الاصطلاحية , وإنما أراد – كما أفهم – مخاطبة الكاتب وأمره بالكتابة عن طريق المتداينين .

    ومن بلاغة ذلك إشعار الكاتب بأهمية الأمر , حتى يرفع الحرج عن المتداينين , ويلبي دعوتهما , ويكتب ؛ لأن رفضه قد يوقعهما في الحرج , لكنه على جميع الأحوال في حل من الأمر , وإن كان الأولى تلبية الطلب ؛ إذ ليس كل من كتب صالحاً لهذه المهمة ؛ لأن الجملة جاءت لتحديد الفقيه , وهذا بلا شك قيد آخر من القيود التي تكاد تعرقل إتمام مثل هذه المعاملات , وهو أمر مقصود , فوضع العقبات في هذا النوع من التعامل قُصد به التضييق عليه ؛ حتى لا يشيع , لما يترتب عليه من أضرار عند التساهل في ضوابطه .

    ولقد جمعت الواو بين جملة " فاكتبوه " وجملة " وليكتب بينك كاتب بالعدل " ؛ لأنهما من باب التوسط بين الكمالين ؛ فكل منهما أمر لفظاً ومعنى , وهذا الربط بالواو يشير إلى أن كل جملة من الجملتين تمثل خيطا من خيوط هذا النسيج الواحد , وهي خيوط متشابهة , متشاكلة ترسم في النهاية صورة وغرضاً واحدا تتشابك ملامحه , وتتعانق جوانبه .
    وأخرت جملة " وليكتب بينكم " عن جملة " فاكتبوه " ؛ لأنه لم يكن ثمة هاجس في تحديد الكاتب , إنما الهاجس الذي النفوس , ولا يزال هو :
    هل نكتب الدين أم لا ؟
    وهل إذا أمن بعضنا بعضاً في الحضر يكتب أيضاً أم لا ؟
    هذا هو ما يشغل النفوس , ولا يزال يتردد في الأفئدة حتى صار محل خلاف ؛ لذا , كان تقديمه والتنصيص عليه أولاً قبل تعيين الكاتب .
    وإن كنتُ أرى أن تعيين الكاتب ما هو إلا تأكيد للكتابة وفرضيتها , ولو كان الأمر في " فاكتبوه " للإرشاد لتُرك تعيين الكاتب للمتعاقدين ليختاروا مَن يرونه مناسباً ؛ إذ كيف يكون الأمر للإرشاد ثم يؤمرون بتعيين كاتب فقيه عدل ؟‍
    وفي حذف المفعول من الجملة شمول وإحاطة لكل ما يتعلق بالدين من قيمة , وموعد سداد ..
    وفي ذكر المفعول تضييق على هذه المعاني , وضياع لكثير من الضوابط , وفتح باب الخلاف في المقصود من الدين , هل هو قيمته أم ماذا ؟
    فالحذف هنا وسّع المعنى , وتساوق مع الروح المهيمنة على الآية الداعية إلى أخذ كافة الضمانات .
    وفي الوقت الذي حذف فيه المفعول من جملة "وليكتب بينكم كاتب " نجد في الجملة قيداً مذكوراً , وهو : " بينكم " , وجيء به " حتى لا ينفرد بالكاتب أحد المتعاملين , دفعاً للتهمة " ( 80 ) , ويقول الألوسي في علته : " إنما قال " بينكم " ولم يقل " أحدكم " ؛ لأنه لما كان الذي له الدين يتهم في الكتابة الذي عليه الدين , وكذلك بالعكس شرع الله كاتباً غيرهما يكتب بالعدل , لا يكون في قلبه , ولا قلمه موادّة لأحدهما على حساب الأخر .."( 81 )
    كما أن في هذا اللفظ " بينكم " ما يشير إلى اجتماع الأطراف : الدائن والمدين , وكذلك الشهود ؛ولو
    اقتصر الاجتماع على الدائن والمدين والكاتب لقيل : وليكتب بينكما , لكن في صيغة الجمع ما يفيد حضور جميع الأطراف حتى الشهود , وفي ذلك إبلاغ في التوثيق والحيطة .
    وفي مجيء لفظ " كاتب " نكرةً , ثم تعريفه بالصفة , وهي شبه الجملة " بالعدل " قصد إلى المعنيين ؛ أعني : النكرة والمعرفة المخصوصة , فمجيء لفظ " كاتب " نكرة قصد به عدم تحديد كاتب بعينه , أو باسمه , أو بقرابته , وهذا قد يُفهم إن عرِّف اللفظ بغير الصفة ؛ كأن يقال " وليكتب بينك كاتبكم , أو كاتب المسلمين , أو الكاتب , أو نحو ذلك ؛ فمجيء اللفظ – في ذاته – نكرة قُصد به البحث عن الوصف , وليس عن الشخص ؛ ولذلك جاء بعد اللفظ النكرة تعريف لها بالوصف , وهو قوله : " بالعدل " .

    وفي هذا الوصف مجاز مرسل علاقته المسببية ؛ لأن المقصود هنا : " وليكتب بينكم كاتب فقيه , عالم بضوابط العقود , وهذا الفقه - بلا شك – سبب في حدوث العدل بين المتداينين .
    لكن يبقى السؤال :
    لمَ عبّر بالمسبب عن السبب ؟
    الذي أراه أن وجه ذلك هو أن الفقه وسيلة للوصول إلى العدل , والعدل غاية , ولما كان الفقه لا يقتصر على معرفة الضوابط الشرعية , بل يشمل معرفة الزمان والمكان والأحوال , وكل ما يوصل إلى العدل عبر بـ " العدل " ليراعي الكاتب كل ذلك , وهذا إيجاز بديع يلفت النظر إلى الغاية من الكتابة , وهي ضمان الحقوق , فيدفع الكاتب إلى الأخذ بها ما دامت في إطار الشرع .

    أوجه البيان في قوله تعالى :
    " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله "

    وهذا حكم جديد متوجه إلى الكاتب , وليس إلى المتداينين , وحمله البعض على الوجوب والفريضة : فرضية عين على الوجوب, وآخرون على أنه فرض عين إذا لم يكن في البلدة غيره , فإذا كان فهو واجب على الكفاية , وحمله البعض على الوجوب حال فراغه .( 82 )
    والسؤال الذي يلح على العقل هنا هو :
    ما وجه توجيه النهي إلى الكاتب , وإشراكه في زمرة المتعاملين ؟
    إن الجملة تجعل الكاتب فرداً من أفراد هذه المعاملة , حيث تشرط عليه , وتلزمه , وتأمره بالكتابة الحقّة , والكاتب في الواقع أجير يُستدعى لكتابة جميع المعاملات التي يُطلب فيها التوثق بالكتابة والإشهاد , ولا أرى أن هناك خلافاً في أخذ الأجر ؛ لأن الكتابة عمل وحرفة يجوز أخذ الأجرة عليها , وهذا ما نص عليه القرطبي ؛ حيث يقول : " لو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار بها ؛ لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة , ولم يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على كتب الوثيقة "( 83)
    وكلام العلماء في الوجوب والندب والإرشاد بعيد - كما أرى – عن سياق الآية ؛ لأن المطلوب من الكاتب ليس الكتابة العامة , وإنما كتابة خاصة , موصوفة بقوله : " كما علمه الله " , وعلى هذا فالنهي ليس متوجهاً إلى عموم الكتابة , وإنما النهي متوجه إلى هذا القيد ؛ فالكاتب ليس منهياً عن الإباء عموماً , ولكن النهي توجه إليه عند كتابته , ومباشرته الفعل ؛ بمعنى : أن الكاتب إذا أخذ في الكتابة قيل له : لا تأب أن تكتب كما علمك الله ؛ لأن الخطر ليس متوقَعاً إن أبى الكاتب مباشرة الكتابة , بل العكس هو الصحيح ؛ لأنه سيوقف هذه المعاملة , ويرد المال إلى صاحبه , ويعيد السلعة إلى صاحبها , ولكن الخطر يُتوقع إن كتب الكاتب كتابةً تضيع معها الحقوق , تلك هي الخطورة , وهو ما حذرت منه الآية فنهت الكاتب – ليس الإباء عن الكتابة – بل عن عدم الكتابة الحقّة الموصوفة بقوله : " كما علمه الله " , وفرق كبير بين الأمرين .
    ولعل أفعال الكثير من المحامين , وهم الذين يكتبون العقود في زمانناً غالباً , لعل أفعال الكثير منهم في بنود تلك العقود , وتغيير بعض الصيغ في العقد , وإضافة أو حذف بعض الكلمات مما يفوت الفرصة على صاحب الحق عند مطالبته بحقه , لعل كل ذلك يشرح لنا المقصود من النهي .
    وكم من حقوق ضاعت بسبب هذه الثغرات التي تضمنتها تلك العقود ‍؛ لذا أدخلت الآية الكاتب في
    زمرة هذه المجموعة _ مجموعة الدين _ حيث ناله قسط وفير من الزجر والتهديد ؛ لتوقُّف ثبوت أو ضياع الحقوق على كتابته ,.......
    أدخلته لأن عليه عبئاً كبيراً مادام قد رضي الكتابة .
    وعليه ؛ فالأمر المفهوم من قوله : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " لا يحتمل إلا وجهاً واحداً وهو أنه فرض عين ؛ لأن ضد ذلك يعني أنه خان الأمانة , وكتب ليس كما علمه الله , وتلك جريمة تضيع بسببها الحقوق , ويشيع بسببها الفساد .
    وقد توجه النهي إلى صيغة الغائب " لا يأب " , والأصل في النهي أن يكون لمخاطب , لكن لما كان الكاتب حاضراً في السياق من خلال قوله تعالى : " فاكتبوه " , وقوله تعالى " وليكتب بينكم كاتب " صح أن يُسند النهي إليه بعد حضوره البارز من قبل .


    الصورة التشبيهية في هذه الجملة :
    يرى بعض العلماء أن الكاف هنا للتعليل , ويقول : " كما علمه الله " ؛ أي : لأجل ما علمه الله تعالى من كتابة الوثائق , وتفضل به عليه , وهو متعلق بـ
    " يكتب " , والكلام على حد قوله : " وأحسن كما أحسن الله إليك " , أي : لا يأب أن يتفضل على الناس بكتابته , لأجل أن الله تعالى تفضل عليه وميَّزه " ( 84 ) .
    " والقول بدلالة الكاف عموماً على التعليل قليل عند النحاة وقيده جماعة بأن تكون الكاف مكفوفة بـ " ما " نحو : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ ) (البقرة:151)
    ونحو : ( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) (البقرة:198)
    وهؤلاء لم يقولوا بأنها للتعليل في –كما علمه الله - : لأن " ما " مصدرية ( 85 )
    والذي أميل إليه : أن الكاف هنا ليست للتعليل , حتى وإن توقف ما قبلها على وجود ما بعدها ؛ لأن السياق ليس سياق منٍّ وتفضُّل على الكاتب , بل سياق أمر ونهي , بأن يكتب كتابةً موثقة ضامنة للحقوق , خالية من الثغرات ؛ فالأولى في هذا السياق تذكيره بهذه الضوابط , وتلك الشروط التي تعلَّمها ؛ حتى يجعلها في ذهنه عند الكتابة , ثم يجعل ما يكتبه مطابقاً ومشابهاً لما تعلمه .
    وعلى هذا , ففي الجملة تشبيه , وهذه أركانه :
    المشبه : الكتابة المأمور بها .
    المشبه به : الكتابة التي علمه الله إياها .
    والأداة : الكاف .
    ووجه الشبه : الدقة والعدل , وذكرُ اسم الذي عليه الحق دون غيره , وتحديدُ قيمة الدين , وموعد أخذه ومكانه وزمانه , ثم تحديد صاحب الحق , وموعد السداد , وزمانه ومكانه , وغير ذلك مما تعلمه من أمور تحفظ الحقوق لأصحابها .
    وجمال هذه الصورة ينبع من عدة أشياء :
    منها : التذكير بنعمة الله تعالى على الكاتب ؛ حيث جعل ذلك جزءاً من الصورة , ومن
    خطوطها الأساسية , ليكون ذلك دافعاً له , ومحرضاً , وحاجزاً عن الميل إلى شهوات
    الدنيا , بالميل إلى طرف على حساب طرفٍ آخر .
    ومنها :الإشارة إلى الدقة العالية , والالتزام الشديد بضوابط الكتابة ؛ لأنها منسوبة إلى الله تعالى
    ( كما علمه الله ) .
    ومنها : حثُّ الكاتب على إخراج هذه الوثيقة في أبهى صورة ؛ لأن الله تعالى كتب الإحسان
    على كل شيء .
    ومنها : الترهيب من مخالفة الأصول , والقواعد الضابطة للحقوق , وذلك من خلال استعمال
    اسم ( الله ) تعالى , الباعث على الرهبة ؛ ولذلك لم يقل : كما علمه ربه .
    ومنها : الإشارة إلى أن ضبط هذه المعاملات لا يكون إلا بما شرعه الله تعالى وحدده , وأن
    العدول عما أنزله الله تعالى يحمل الفساد , والإفساد للبشرية جميعاً .
    كما أن من خيوط هذه الصورة التشبيهية تنكير كلمة " كاتب " لتعميم الحكم على كل
    من تصدى لهذا الأمر , حتى وإن دان بغير الإسلام .
    يقول أبو حيان : " و – كاتب – نكرة في سياق النهي فتعمّ ( 86 )
    كما أن في اصطفاء هذا اللفظ [ كاتب ] تذكيراً للكاتب بأن منفعته , وسمعته , ومصداقيته في هذا العمل مرتبط بالعدل , والإنصاف ؛ ولذلك لم يقل : ولا يأب مؤمن , أو مسلم , وإنما قال : كاتب , وكأنه معروف بين الناس بمهنته , فإذا جار أو ظلم , أو مال إلى واحدٍ دون الآخر , فإن مهنته سوف تكون محل تهمة من الناس , فلن يكون كاتباً , بل سيصبح مخادعاً , وسيشتهر بين الناس بقلة ضبطه , أو فساد عمله ؛ فكأن كلمة [ كاتب ] تحذير له بأن مهنته وعمله , ودوام ذلك مرهون بعدله , وضبطه للكتابة , وهذا واضح .
    أما اصطفاء المصدر المؤول _ ولا يأب كاتب أن يكتب _ دون الصريح , -كتابته – فلأن الكاتب يراعِي مقام كل حالة , ويعرف الشروط الضابطة لكل نوع , ولمَّا كانت أنواع المداينات ذات
    أوصاف مختلفة كان الإلمام بكل حالة , وضوابطها على حدة من لزوميات الكاتب , وهذا يتواءم مع المصدر المؤول الدال على التغير , والتجدد والحدوث ,وكل ذلك مفهوم من المضارع " يكتب " , أما لو قيل : ولا يأب كاتب كتابة ما علمه الله , لظُنّ أن هناك صيغة واحدة لجميع العقود , ولَحفظها الجميع , ولاستُغني عن الكاتب , وهذا بعيد .
    إذ إن لكل نوع ما يناسبه من صيغ , كما أن لكل حالة ما يتوافق معها من شروط , وضوابط , وأحوال تخالف غيرها .
    ومع أن الفعل _ يكتب _ متعدّ إلا أن مفعوله حذف لدلالة السياق عليه .
    وختام الجملة يحمل من التفضّل والتشريف للكاتب الكثير ؛ ذاك لأن الجملة جعلت عملية التعليم مباشرة من الله تعالى , فهو كالأنبياء من حيث دوره في الإصلاح , فإذا كان الأنبياء يصلحون عقائد الناس وعبادتهم , فإن الكُتّاب يصلحون أنواع المعاملات بين الناس , والتي قد ينشأ عنها خلاف أو نزاع .
    أضف إلى ذلك : أن اسم الله تعالى في قوله : " كما علمه الله " يحمل من الرهبة والزجر ما يجعل الكاتب يلتزم , كما أنها تشير إلى أن العدول عن هذه الضوابط إساءة إلى هذا العلم , ومن بعد ذلك إساءة إلى المعلم – سبحانه وتعالى - .
    وبعد ُ :
    فإن هذه الجملة تسير في الطريق نفسه الذي بدأ بوضع القيود , والعوائق أمام هذا النوع من المعاملات , حتى لا يلجأ إليها إلا المضطرون , لما يترتب عليه من حرج , ومن خلاف متوقع بين الناس , فلا توجد نفس سوية تحب أن يكون لها أو عليها حق لأحد , وبخاصة الحقوق المالية , لذلك كثرت الأوامر والنواهي والشروط المعرقلة لهذه المعاملات , ليكون سبيلها سبيلاً حَزَنَاً ينبغي ويحسُن تجنبه , وهذا هو الأقرب إلى الفهم .
    ***

    يـــــــــــــــتـــــــــــــــــــــــــبـــــــــــــــع

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    الكناية في جملة " كما علمه الله "

    إن جملة – كما علمه الله – تعني أن " يكتب ما يعتقده , ولا يحجب , ولا يواري ؛ لأن الله تعالى ماعلَّم إلا الحق , وهو المستقرّ في فطرة الإنسان , وإنما ينصرف الناس عنه بالهوى , فيبدلون , ويغيرون , وليس ذلك التبديل بالذي علمهم الله تعالى , وهذا يشير إليه قول النبي – صلى الله عليه وسلم : " استفت نفسك , وإن أفتاك الناس " ( 87 )
    وهذا يفيد أن جملة " كما علمه الله " جملة كنائية , فهي كناية عن موصوف , وهو الحق الذي ودعه الله تعالى في فطرة كل إنسان , لكنه عبّر عن هذا الحق بتاليه , ورادفه , وهو : ما علمه الله ؛ لأن الله تعالى حين خلق الحق أودعه في نفوس البشر ؛ ليكون مرجعاً , وملاذاً يلوذ به الناس حين تختلط المعايير .
    ودمج الصورة التشبيهية بالصورة الكنائية تشعر الكاتب بفضل الله تعالى عليه , ورفع قدره بهذا العلم الذي لا يجيده كل أحد ؛ مما يستوجب عليه شكر هذه النعمة بإعطاء الحقوق والمواثيق كل العناية ؛ حتى تخرج في صورةٍ يرضى عنها الله تعالى .

    *****
















    اجتماع الأمر والنهي على الكتابة

    جاء بعد قوله تعالى : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " قوله تعالى : " فليكتب " .
    وفي المصحف الشريف وضعت علامة الوقف الجائز دون ترجيح , بعد قوله " كما علمه الله "
    وهي ( ج )
    والنظم يحتمل صورةً أخرى , وأداءً آخر , ويكون بقراءة الجملتين هكذا :
    ولا يأب كاتب أن يكتب , كما علمه الله فليكتب
    ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله , فليكتب .
    ففي الصورة الأولى : الجملتان محمولتان على شبه كمال الاتصال , فلما قيل : ولا يأب كاتب أن يكتب .
    قيل : كيف ؟
    فأجيب : كما علمه الله فليكتب .
    و الصورة الثانية تشير إلى أن جملة " فليكتب " تفريع لتوكيد الأمر المفهوم من قوله " ولا يأب كاتب .. .
    والمعنى العام لا يرفض أياً من الصورتين , لكن الذي يلفت الانتباه أن جملة " كما علمه الله " وقعت واسطة بين الأمر , والنهي , ولنرجع النظر مرة أخرى :
    ولا يأب كاتب أن يكتب " كما علمه الله " فليكتب ؛ فالأمر والنهي متعلقان بجملة التشبيه ؛ إذ هي محط النظر , ولب القصد , والغاية من الأمر والنهي .
    فالكاتب مأمور بالكتابة , ليست أي كتابة , بل مأمور بالكتابة كما علمه الله .
    والكاتب منهي عن الإباء عن الكتابة , ليست أي كتابة , بل هو منهيٌ عن عدم الكتابة التي علمه الله إياها .
    وهذا يعني : أن الجملتين _ جملة الأمر وجملة النهي _ تتوجهان إلى شيء واحد , وهو إلزام الكاتب بنوع خاص من الكتابة , وموصوف بأنه على وفق ما أنزله الله وبينه .
    ويبقى سؤال هنا , وهو : لم تقدم النهي على الأمر ؟
    والذي يظهر لي أن " النهي عن الشيء أقوى في الدعوة إلى الاعتصام منه , وإلى مجانبته , من الأمر بنقيضه( 88 ) .
    ولذلك جاء في الحديث :
    " إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه , وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ( 89 )
    والقاعدة الأصولية تقول :
    " إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح "
    , فلما كان الضرر الواقع من الكتابة الباطلة ضرراً بالغاً نُهِىَ عنه أولاً , كما أن تقديم النهي آنس بالسياق المفعم بالقيود , والعراقيل الزاجرة عن التساهل في توثيق تلك العقود .

    ****























    التفريع في قوله تعالى : "فليكتب "

    " وهذا التفريع تأكيد للأمر , وتأكيد للنهي أيضاً؛ وإنما أعيد ليرتب عليه قوله : " وليملل الذي عليه الحق " ؛ لبعد الأمر الأول عما وَليَه , ومثله قوله تعالى : " اتخذوه وكانوا ظالمين " بعد قوله تعالى " واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم " ( الأعراف 148 ) . (90 )
    والتفريع عند البلاغيين " أن يُثبت حكم لمتعلق أمر بعد إثباته لمتعلق آخر ؛ كقول الكميت :
    أحلامكم لسنام الجهل شافية **** كما دماؤكم تشفي من الكلِب
    فرّع من وصفهم بشفاء أحلامهم لسقام الجهل وصفهم بشفاء دمائهم من داء الكلِب ...
    والحاصل أن المراد بتفرع الثاني على الأول كونه ناشئاً ذكره عن ذكر الأول ؛ حيث جعل الأول وسيلة للثاني ؛ أي كالتقدمة , والتوطئة له ؛ حتى أن الثاني في قصد المتكلم لا يستقل عن ذكر الأول , " ( 91) .
    وهذا التفريع – يحمل إيحاءً بتشعب دروب الدين , وكثرة التبعات فيه , ووحشة الطرق المؤدية إليه مما يؤدي إلى تنفير الناس منه .
    لكن التفريع هنا – كما أرى – ليس على جملة : " ولا يأب كاتب " , بل على قوله : " فاكتبوه " ؛ حيث فرَّع عن الأمر العام بالكتابة أمراً آخر خاصاً للكاتب بأن يتحرى الكتابة الشرعية التي يعتقدها
    أما ذكر قوله : " فليكتب " بعد قوله : " ولا يأب كاتبي " , فهو ضرب من التأكيد اللفظي لمضمون النهي , فمضمون النهي هو " فليكتب " ... ثم قيل صراحة " فليكتب " , وهذا يعني أن أمر الكاتب بالكتابة ذكر مرتين : مرةً في جوف النهي , حين قيل : " ولا يأب كاتب أن يكتب " , ومرة صريحا ً في قوله : " فليكتب " .
    وهذا التلوين والتنوع – في أداء المعنى وترسيخه يوضح مدى أهميتة, مما حدا بهم إلى أن قالوا : إن الأمر للوجوب " ولا ينبغي أن يعدل عن الوجوب ......
    ويلحق بالتداين جميع التعاملات التي يطلب فيها التوثق بالكتابة والإشهاد " ( 92)






    أثر السياق في دلالة قوله تعالى : " وليملل الذي عليه الحق "
    على القصر

    إن جملة " وليملل الذي عليه الحق " نوع ثالث من الخطاب بعد النوعين السابقين :
    فالخطاب الأول : متوجه إلى الأمة عامة ؛ فقيل لها : "إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " .والخطاب الثاني : متوجه إلى الكاتب خاصة ؛ لما له من دور بارز في حفظ الحقوق , فقيل له :
    " يكتب كما علمه الله " .
    والخطاب الثالث : توجه إلى آخذ الدين , أو الذي عليه الحق .
    والأنواع الثلاثة جاءت بصيغة الأمر لأن المنظومة واحدة , والسياق واحد , والغاية المنشودة من الآية غاية واحدة , ومسؤولية الأطراف الثلاثة في حفظ هذه الأموال على درجة واحدة , ومن أجل كل ذلك عم الأمر كل الأطراف .
    والسبب في أن الذي عليه الحق هو المعنيُ بإملاء الدين :
    أن الغبن قد يقع عليه لو أملى الدائن فزاد في الدين أو قرب الأجل, أو ذكر شروطا ً معينةً في مصلحته , وبخاصةٍ أن المدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة ؛ رغبة في إتمام الصفقة لحاجته إليها , فيقع عليه الغبن .
    فإذا كان المدين هو الذي يُملي , لم يملِ إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر , ثم ليكون إقراره بالدين أقوى , وأثبت , فهو الذي يُملي . ( 93)
    وقد علّق الألوسي على هذه الجملة فقال : " لابد أن يكون هو المُقِر لا غيره " ( 94) .
    ثم قال : " وانفهام الحصر من تعلق الحكم بالوصف ؛ فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعليّة , والأصل عدم علة أخرى " ( 95) .
    ولا شك أن قوله : " لا بد أن يكون هو المقر لا غيره " يشير إلى أن الأسلوب أسلوب قصر , لكن طريقه غير اصطلاحي ؛ فللقصر طرقه الاصطلاحية التي ارتضاها أهل هذا الفن , وليس من بينها تعليق الحكم بالوصف ؛ أعني : تعليق قوله : " وليملل " بقوله : " الذي عليه الحق " .
    وهذا الفهم ناشئ من وجود عدة أطراف في عملية التداين , وهم :
    الذي عليه الحق .
    والذي له الحق .
    والكاتب .
    والشاهدان .
    وهذه الأطراف لا بد أن تجتمع عند الكتابة ليتحقق الأمر كما يقتضيه النص القرآني , وعند هذا الاجتماع تأتي جملة " وليملل الذي عليه الحق " ؛ لتحدد واحداً بعينه ليقوم بالإملال , وهو الذي عليه الحق .
    وهذا التعيين والتحديد مع وجود كل هذا العدد مشعر بقصر الإملال عليه دون غيره .
    وهذا , وإن لم يكن منصوصاً عليه لفظاً لكنه مفهوم من النظم , وإيحاءات المعنى ؛ لأن " مفهوم القصر يقوم على أمرين لا كيان له بغيرهما :
    1 – تخصيص شيء بشيء .
    2 – أن يكون التخصيص بطريق معهود .
    فليس كل تخصيص داخلاً في القصر , وإنما المراد هنا تخصيصٌ ذو سمات محددة .
    * أن يكون جامعاً بين إثبات ونفي .
    • أن يكون جمعها في جملة واحدة .
    • أن يكون القصد الأول إلى الإثبات , والنفي تأكيد للإثبات .
    • ذلك التخصيص ذو السمات الآنفة لا يعتد به البلاغيون إلا إذا انداح في تضاعيف تراكيب معينة سميت بطرق القصر .
    والكلام في تحقيق أنواع الحصر محرر في علم البيان , وله صور كثيرة تزيد على خمس عشرة نوعاً ( 96 ) ,وليس منها تعليق الحكم بالوصف وهذا يفيد أن معنى الحصر في الجملة مفهوم من السياق , وليس مدلولاً عليه باللفظ ؛ فدلالته غير اصطلاحية , وهذا كثير في لغة العرب .

    يـــــــــــــــــــــتــــــــــــــــــــبــــــــــــــــ ــــــــع

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    وجه البلاغة في تعريف الدَّين بجملة الصلة
    أعني : ما الفرق بين أن يقال " وليملل المدين " وأن يقال : " وليملل الذي عليه الحق .؟
    الذي يبدو أن كلمة " المدين " لن تفيد معنى جديداً في هذا السياق لكن لما أريد التأكيد على المدين بأن يعترف بما عليه أمام الشهود , والكاتب , ولما أريد تذكيره بأن ما أخذه ليس حقه , بل هو حق الدائن , والحقوق لابد أن ترجع إلى أصحابها , عرّف المدين بجملة الصلة ؛ كي تجمع كل هذه المعاني في وسيلة واحدة للتعريف .
    يقول الإمام عبد القاهر : " إن اسم الموصول ( الذي ) اجتلب ليكون وصلة إلى وصف المعارف بالجمل , وإنما اجتلب حتى إذا كان قد عرف رجل بقصة , وأمرٍ جَرَى له , فتخصص بتلك القصة , وبذلك الأمر عند السامع , ثم أريد القصد إليه ذكر ( الذي ) { ( 97 ) .
    وكأن من مقاصد جملة الصلة هنا إشهار المدين , وتعريفه للناس بأنه ( الذي عليه الحق ) .

    أترى إلى أي مدى يكون هذا مؤثراً في المدين بين الناس ؟
    حيث يشتهر بهذا الوصف العجيب , وكأنه لا يعرف باسمه , ولكن يعرف بأنه ( الذي عليه الحق ) , وفي ذلك ما فيه من التنفير لهذا النوع من المعاملات .
    كما أن في اصطفاء اسم ( الحق ) تذكيراً للجميع , وعلى رأسهم المدين بوجوب عودته إلى صاحبه , ووجوب إحقاقه , والحرص على عدم تضييعه .
    كما أنه متوجه أيضاً إلى الدائن ؛ طمأنة له , وتسكيناً لفؤاده من أن ماله لن يضيع .
    كما أنه متوجه إلى الشاهدَين , بأن ما يشهدان عليه ليس إلا الحق , فعليهما الإقدام , وعدم التخاذل , كما أن عليهما الشهادة الصادقة التي تحفظ الحقوق .
    كما أنه متوجه إلى الكاتب بأن ما سيكتبه ليس إلا الحق ؛ فلا ينبغي أن يحيد عنه , وإلا فقد ضيعه ؛ فالكلمة جرس إنذار للجميع ؛ ( ويحق الله الحق بكلماته ) .








    البناء التركيبي لجملتي : " وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً "

    والجملتان معطوفتان على ما سبق , من قوله " وليملل الذي عليه الحق " وهما أمر ونهي , والجملة المعطوف عليها هي الأخرى أمر .
    وكل هذه الأوامر موجهة إلى " الذي عليه الحق " ؛ فقيل له :
    " أملل – واتق الله – ولا تبخس منه شيئاً " .
    وهذه الدقَّات الثلاث إنما هي إنذار وتحذير من أن يوسوس له شيطانه , بأن يتملص من بعض الحق , أو أن يأكل بعض الأموال , أو أن يفعل شيئاً يضيّع به الحق على صاحبه .
    كل هذا استلزم تتابع هذه الأوامر على نحو خاص , ووضعت فيه التقوى بين الأمر بالإملال , والنهي عن البخس , لتأخذ التقوى بحُجز هذين الأمرين , فتكون كالقلب الذي يغذوهما .
    فوضع التقوى في الوسط هكذا " وليملل الذي عليه الحق – وليتق الله ربه – ولا يبخس منه شيئاً .
    هذا النسق يشير إلى أن الأمر بالإملال يحتاج إلى شيء من التقوى .
    والنهي عن البخس يحتاج إلى شيء من التقوى ؛ فوضعت التقوى بينهما ؛ لتمدهما بحاجتهما ؛ كي يتم الأمر , والنهي على وفق مراد الشارع .
    ولو قدمت التقوى , أو أخرت لزاد التشديد في جانب على حساب جانب آخر .
    وتقديم الأمر بالتقوى على النهي عن البخس يفيد تهيئة النفوس التي عليها الحق لتلقي الأوامر والنواهي , بالامتثال , والطاعة .
    وأسند الفعل " يتقي " إلى ضمير الغائب ؛ لأن الذي عليه الحق في مقام ضعف , ولا يرقى ليكون محل تشريف , وإعزاز ؛ حتى يباشره الله تعالى بالخطاب , وفي ذلك ما فيه من التنفير الخفي من الديون , وفي الحديث الشريف أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يقول :
    " اللهم إني أعوذ بك من الكفر والدين .
    فقال رجل : يا رسول الله أيعدل الدين الكفر ؟
    قال : نعم .
    وفي الجملة الأولى جمع ٌ بين اسم " الله " واسم " الرب " ؛ حيث قيل : " وليتق الله ربه " لحكمة بليغة , وهي كما يقول أبو حيان : " أن الله تعالى مربياً له مصلحاً لأمره , باسطاً عليه نعمه .
    وقدم اسم " الله " لأن مراقبته من جهة العبودية والألوهية أسبق من جهة النعم " ( 98 )
    كما أن مقام الذي عليه الحق يحتاج إلى صفات الجلال الكامنة في اسم " الله .
    وكذا إلى صفات الجمال الشاخصة في اسم " الرب " .
    أما صفة الجمال , فمن حيث تذكيره بأن سداد الدين يحتاج إلى عون الله تعالى , وفتح أبواب الرزق
    وأما صفة الجلال فمن حيث زجره وتهديده حتى لا يبخس أو يماطل , أو ينكر الدين .
    إذاً الذي عليه الحق ينبغي أن يتذكر أمرين :
    الأول : يتذكر قوة الله وسلطانه وانتقامه , فلا يأكل أموال الناس .
    والآخر : يتذكر رحمة الله تعالى وعطفه وامتنانه عليه , حيث أحل هذا الضرب من المعاملات والتي استطاع بسببها أن يأخذ من أموال الناس إلى حين .

    أما اصطفاء لفظ البخس هنا دون غيره :
    فلأن من دلالته النقص والإخفاء , وأقرب الألفاظ إلى معناه هو : الغبن .
    والبخس في لسان العرب هو النقص بالتعييب , والتزهيد , أو المخادعة عن القيمة , أو الاحتيال في التزيد في الكيل , أو النقصان منه , أي : عن غفلة من صاحب الحق .
    وتعدي الفعل إلى كلمة " شيئاً " وهي نكرة لإفادة العموم والإحاطة , أي : أي شيء , ولو كان حقيراً , ولذلك كله , أسند لفظ " رب " إلى الضمير العائد على المدين , فقيل : " ربه " , ولم يقل : ربكم , أو ربهم , بل " ربه " أي : الذي أنعم عليه , وأحل له أخذ هذه الأموال لينتفع بها إلى حين , ووعده
    بأن يسد عنه إن هو أخلص النية في السداد .
    وقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّ الله عنه , ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى " ( 99 )
    وكأنه رقيب عليه وحده , كما أن فيها معنى التحذير ؛ لأن ربه رقيب عليه .
    وفي ذكر الجار والمجرور " منه " حيث قيل : " ولا يبخس منه شيئاً " تذكير بالحق مرة أخرى , حتى تكون الأذهان على ذكر منه دائماً , إما صراحة , وإما تقديراً فتكون العقول والقلوب مرتبطة به , فتراعي الوفاء , والضبط عند كتابته , لأنه حق .







    الاستثناء بالشرط في قوله تعالى :
    " فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع"
    للاستثناء أدوات كثيرة , منها : [ إلا , وغير , وسوى ] , وقد يستثنى بجملة الشرط , كما هو حال الجملة هنا ؛ ولذلك لما قيل : " وليملل الذي عليه الحق " , تبين أن هذا الحق قد يكون على أناس لا يستطيعون القيام بعملية الإعلام , وهم : السفيه , والضعيف , ومن به سبب عارض يمنعه من الكتابة , فاستُثنوا – ليس من الكتابة – وإنما من الإملال ؛ إذ الكتابة واجبة على الجميع , ولعل إدخال هؤلاء في دائرة الكتابة يزيد من معنى الوجوب الذي مال البحث إليه .
    إلا أن الاستثناء هنا سلك طريق الشرط ؛ وذلك لأن الشرط في الأصل قيدٌ , والقيود والعقبات تتواءم مع سياق الآية , الذي يسير في فلك التشديد والتضييق .
    ولكن : إذا كانت الديون تنشأ من قرض , أو بيع , أو شراء بأجل , وهؤلاء لايمكن لهم مباشرة هذه المعاملات بأنفسهم , فكيف يقع عليهم دين ثم يكتب عنهم وليُّه ؟ !
    ولعل أولياءهم هم الذين يبيعون لهم بأجل , أو يشترون بأجل , أو يقترضون لهم , أو أن لبعضهم رخصة من ولي الأمر , بأن يبيع أو يشتري , كما رخص النبي صلى الله عليه وسلم لمنقذ بن عمرو , حيث قال يا رسول الله إني لا أصبر على البيع , فقال له صلى الله عليه وسلم : قل : لا خلابة "
    ( 100) أي : لا خداع .

    ترتيب الأصناف الثلاثة :
    الوقوف أمام بلاغة ترتيب هذه الأصناف الثلاثة يأتي بعد معرفة المقصود بكل صنف , " فالسفيه : من السفه , " والسين , والفاء , والهاء , أصل واحد يدل على خفة , وسخافة , وهو قياس مضطرد , فالسفه ضد الحلم " ( 101)
    ولذلك قيل : " السفيه هو : الجاهل بالصواب في الذي عليه أن يُمله على الكاتب , أو هو الجاهل بالإملاء , والأمور .... ويدخل في ذلك كل جاهل بصواب ما يُمل , من صغير وكبير , وذكر وأنثى .
    وقيل إن السفيه : هو مختل العقل ...
    والضعيف هو : الصغير ؛ لقوله تعالى " وله ذرية ضعفاء " ( البقرة 266) ,
    أما الذي لا يستطيع أن يمل : فهو العاجز , كمن به بكم , وعمى , وصمم جميعاً..." ( 102 )
    ومما سبق يتضح وجه الترتيب بين هذه الأصناف ؛ فأشد الناس حاجة إلى وليّ ليقوم عنه بالإملاء هو السفيه ؛ لأنه مختل العقل , لا يُحكم الأشياء .
    ثم يأتي الضعيف , وهو الذي يملك قوة لكنها ضعيفة ؛ إما لصغر سن , أو لكبر سن , أو لقلة تجربة في الحياة , وهذا يلي السفيه في حاجته إلى من يملي عنه , .
    أما الأخير فهو : " الذي لا يستطيع أن يُمل هو ..." ؛ ويقصد به الذي لا يملك الصيغة المثلى , أو الأسلوب الأمثل في العقود , مع امتلاكه لمقومات العقل والقوة .
    فترتيب هذه الأصناف ترتيب أولوية في حاجة كل صنف إلى من يقوم عنه بالإملاء ؛ فالسفيه أشدهم احتياجاً , ثم الضعيف , ثم الذي لا يستطيع الإملاء .
    وقد صيغ الصنف الأخير في جملة فعلية , مع أن الصنفين الأولين جاءا في صورة الاسم –" السفيه , والضعيف " , أما الأخير فقيل : " أو لا يستطيع أن يمل هو " , وكان يمكن أن يقال : " أو غير مستطيع " .
    ووجه ذلك , الإشارة إلى أن عدم استطاعته ليست على الدوام ؛ لأنها عارضة , وطارئة , فلما كانت غير ثابتة , عُدل بها عن الاسم إلى الفعل .
    أما الضمير " هو " في قوله : " أن يمل هو " , فإنه" توكيد للضمير المستتر في " أن يمل " , وفائدة التوكيد به : رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير , فيقال : أو لا يستطيع أن يمل ؛ فالضمير " هو " أفاد التنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه " ( 103 ) .
    وجاء الفعل هنا " يُمل " بإدغام اللام في اللام , في حين أنه جاء قبل ذلك مفكوك الإدغام , في قوله تعالى : " وليملل الذي عليه الحق , وجاء أيضاً بعد ذلك مفكوك الإدغام , في قوله : " فليملل وليه بالعدل " , فما الحكمة في ذلك ؟
    لابد أولاً أن أشير إلى أن الإدغام والفك لهجتان فصيحتان للعرب ؛ فالحجازيون لهجتهم الفك , والتميميون لهجتهم الإدغام .
    وهذا لا يكفي لمعرفة وجه اصطفاء الإدغام في قوله : " أو لا يستطيع أن يملّ هو " , واصطفاء الفك في الباقي .
    وبالنظر يتضح أن الإدغام جاء مع الإنسان العاجز عن الإملاء , وهو الذي لا يستطيع الإملاء , كأن في لسانه حُبسة , أو نحو ذلك , وهو لا يستطيع التوضيح والتفصيل ؛ ولذلك استخدم معه " يُملّ " بالإدغام ؛ ليرسم صورةً له ؛ حيث تتداخل ألفاظه , أو تنبهم معانيه ؛ ولذلك يوكل عنه من يقوم بالإملاء .
    أما الآخران اللذان يستطيعان الإملاء ويباشران ذلك بأنفسهما فجاء الفعل معهما مفكوكاً ليصور قدرتهما على التوضيح والبيان .
    وعلى هذا : كانت كل صورة من صور الفعل متناغية مع حالة المتكلم , وهذا توافق عجيب معجز , بين الفعل وفاعله .
    فإن كان الفاعل فصيحاً , صريحاً يؤتى معه بالفعل صريحاً , وإن كان الفاعل في لسانه , أو عقله خلل من: احتباس , أو همهمة , أو غمغمة , أو سوء فهم , أو نحو ذلك , يؤتى معه بالفعل المدغم .


    ******






















    أثر التكرار في بناء جملة : " فليملل وليه بالعدل :

    وهذه الجملة هي جواب الشرط السابق ؛ أعني قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً , أو ضعيفاً , أو لا يستطيع أن يُملّ هو " .
    والذي يتبادر إلى الذهن من هذا الشرط هو التخفيف عنهم ؛ بأن يقال مثلاً : فلا حرج عليهم ألا يكتبوا ....أو نحو ذلك .
    لكن جواب الشرط جاء بالإملال , وبصيغة المضارع المقترن بلام الأمر , وهي ألزم وأشد في الوجوب , وهذا يشير إلى أن وجوب الكتابة ليس مقصوراً على أحد دون أحد فلا تسامح في هذا الأمر , حتى وإن كان الذي عليه الحق سفيهاً , أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل .
    وهذه الفاء هي الواقعة في جواب الشرط ؛ لأنه فعل أمر , والمجيء بالمضارع المقترن بلام الأمر يدل على أن الوجوب الكامن في الإملال الأول على الذي عليه الحق لم يُنقض , ولم يتسامح فيه , بل هو ما عليه من الإلزام , والفرضية .
    ويلحظ هنا تكرار لفظ الإملال ؛ حيث ذكر ثلاث مرات , وكأنه ركن من أركان العقد ؛ لما فيه من رفع الصوت , وسماع الجميع لقيمة الدين , وموعد سداده , فالأمر أمر إعلان , وإشاعة لمن له الحق , ومن عليه الحق , ليعلم الناسُ ذلك , وفي هذا ما فيه من إشراك للمجتمع في الشهادة ؛ ليكون ألزم للمدين بالسداد .
    واللفظ الآخر في هذه الجملة هو " بالعدل " ؛ حيث ذكر قبل ذلك في قوله : " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " .
    وليس العدل هنا أو هناك بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد ؛ فيقال : " رجل عدل , لأن وجود الباء يصرف عن ذلك " ( 104 )
    فكلمة العدل هنا تعني الحق ؛ أي : بما يعتقده , وليس غيره , فإن إملاء ما يعتقده هو إملاء الحق .
    فإذا رجعنا إلى معنى التكرار لهذا الحق , فإننا نجد أن هذا الحق ذكر عدة مرات :
    1 - في قوله تعالى : "ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " فإنها تصب في معنى الحق
    2 – ثم التصريح بها في قوله : " وليملل الذي عليه الحق " .
    3 - ثم التعبير عنه بالضمير في قوله : " ولا يبخس منه شيئاً " أي من الحق .
    4 – ثم التصريح به مرة رابعة , في قوله : " فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً " .
    فصرح به مرة أخرى .
    5 –ثم التعبير عنه بالكناية في قوله : " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا " ؛ فالضمير
    في " تكتبوه " يمكن حمله أيضا على الحق .
    فهذه المواضع تشير إلى أن "الحق " كلمة سارية في أوصال الآية ومقررة بعدة صور ؛ لتملأ على الجميع حواسهم , فلا تغيب عنهم , وفي ذلك ما فيه من إثارة النفوس إلى حفظ هذا الحق , وضمانه , والاجتهاد في إيصاله إلى أصحابه .
    فإذا أضفنا إلى كل ذلك أن كلمة " العدل " يمكن حملها على معنى الحق ؛ أي يملل بالحق ؛ لظهر جلياً قيمة هذه اللفظة , وحرص الآية على إشاعتها في النفوس .
    ******






















    عوامل التوكيد في جملة : " واستشهدوا شهيدين "

    هذا هو الطرف الثالث في الآية , بعد الحديث عن المتداينين , والكاتب ؛ ليكتمل بذلك توثيق العقد .
    وتأخرت جملة الإشهاد عن جملة الكتابة ؛ لأنها مؤخرة عنها في الواقع , فالشاهدان يشهدان بعد تحرير الوثيقة , وليس قبلها وشهادتهما ليس مقصودا بها رؤية الأخذ والعطاء فقط , بل مقصود بها أيضاً توقيعهما على تلك الوثيقة , وإقرارهما عليها كتابة ً ؛ وذلك مستفاد من قوله تعالى : " وليكتب بينكم " , فصيغة الجمع في " بينكم " تدل على حضور الشهود , وإقرارهما بما في العقد كتابةً .
    والجملة معطوفة على جملة " فاكتبوه " .
    وحقيقية الشهادة : الحضور , والمشاهدة , لكن المراد بها هنا حضور خاص , وهو حضور لأجل الاطلاع على التداين " ( 105 )
    و قد جاء في هذه الجملة عدة مؤكدات تبين أهميَّة الشهادة , وأثرها في حفظ الحقوق .
    وأول هذه المؤكدات :
    اصطفاء لفظ الشهادة دون العلم , فقال : " واستشهدوا " ولم يُقل : وأعلموا ؛ لأن الشهادة أخص من العلم ؛ وذلك أنها : علم بوجود الأشياء , لا من قبل غيرها .
    والشاهد نقيض الغائب في المعنى ؛ ولهذا سمي ما يدرك بالحواس , ويعلم ضرورةً شاهداً .
    فالشهادة : علم يتناول الموجود , أما العلم فيتناول الموجود والمعدوم .
    كما أن الشاهد للشيء يقتضي أنه عالم به , ولهذا قيل : الشهادة على الحقوق ؛ لأنها لا تصح إلا مع العلم بها ,وذلك أن أصل الشهادة الرؤية , وقد شاهدت الشي: رأيته رؤية وسمعاً "( 106 )

    ومن المؤكدات في الجملة : السين والتاء :
    يقول ابن حجر : " والاستفعال بمعنى الإفعال , كالاستجابة بمعنى الإجابة " وقال الطيبي " السين للطلب وهو المبالغة " ( 107 )
    وقال ابن عاشور : " إن السين والتاء لمجرد التوكيد ...ولك أن تجعلهما للطلب ؛ أي : اطلبوا شهادة شاهدين , فيكون تكليفا بالسعي للإشهاد , وهو التكليف المتعلق بصاحب الحق " ( 108 )
    وعلى هذا :
    فإن الألف والسين والتاء مع دلالة الطلب ,تفيد: التوكيد والتحقيق,وهو من معانيها النحوية .
    ومن المؤكدات في الجملة أيضاً : تعدية الفعل إلى المفعول المطلق :
    والأصل في المفعول المطلق التوكيد , أو البيان للنوع , أو للعدد , وفي بيان النوع والعدد ضرب من التوكيد أيضاً , فلما قيل : " واستشهدوا شهيدين " فُهم وجوب الإشهاد من طريقين :
    الأول : من الأمر المسبوق بالسين والتاء .
    والآخر: من تعدية الفعل إلى المفعول المطلق .
    واشترط العدد في الشاهد , ولم يكتف بشهادة عدل واحد , لأن الشهادة لما تعلقت بحق معين لمعين
    اتُهم الشاهد باحتمال أن يتوسل إليه الظالمُ , الطالب لحق مزعوم ,فيحمله على تحريف الشهادة , فاحتيج إلى حيطة تدفع التهمة , فاشترط فيه الإسلام- وكفى به وازعاً - والعدالة ؛ لأنها تزع من حيث الدين والمروءة, وزيد انضمام ثان إليه ؛ لاستبعاد أن يتواطأ كلا الشاهدين على الزور"( 109)
    وفي صيغة " شهيد " نغم له مردود عظيم في قلوب المسلمين , فالصيغة تحمل معنى التضحية , والإقدام على المخاطر, ولعل في السين والتاء أيضا من المعاني ما يشعر بالجهد المبذول في السعي الجاد في طلب الشهيدين ؛ لأنهما عزيزان بين الناس , لأنه طلب وبحث " عمن تكررت منه الشهادة فهو عالم بموقعها , مقتدر على أدائها , وكأن فيها رمزاً إلى العدالة ؛ لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم , ولعله لم يقل رجلين لذلك " ( 110 )
    وإنما قال : " من رجالكم " ليضيف إلى العدل معنى الذكورة القادرة على تحمل تبعات الشهادة , ولأوائها , ثم أضيف لفظ " الرجال " إلى ضمير الخطاب , ليشير إلى شهرتهم بين الناس , فهم المعروفون المعدودون من الرجال ؛ وذلك لأن القصد من الإشهاد إحقاق الحق عند الخصومة , وهذا يتطلب معرفة الشاهدين , وسهولة إحضارهما , كما أن في هذه الإضافة معنى آخر أشار إليه ابن عاشور بقوله : " والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام " ( 111) , وعليه فلا يجوز شهادة الكافر على المسلم ؛ لأنه ليس من رجالنا .
    وبعدُ : فما زلت ألمح هذا الخيط الساري بين جنبات الآية , والذي يصل أولها بآخرها , ويربط بين تراكيبها , ويبرز مع كل جملة , بل كل كلمة , هذا الخيط الذي تحدثت عنه آنفاً , والذي يضع العقبات والعراقيل أمام إشاعة الديون , فهناك الآن في بعض الدول رغبة جامحة لجعل الشعب كله مديون , وانظر قليلاً إلى هذا الطوفان الذي يهجم على الناس من خلال وسائل الإعلام , بل انظر أيضا إلى الوعود المقدمة للشباب العاطل عن العمل , فبدلا من تحريره من البطالة , وتوفير فرص للعمل يريدون تقييده بالديون , ليزداد الخناق عليه , فلا يرى , ولا يسمع , ولا يهتم بعد استدانته إلا بدينه , أو العقوبة !!!!
    بلاغة التعريف بالوصف في جملة :
    ( فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ )

    وهذه الجملة الشرطية مترتبة على سابقتها , ومكونات الشرط هنا كما يلي:
    أداة الشرط : " إن " الدالة على ندرة الوقوع , فكأن الحديث هنا عن حالة نادرة .
    وفعل الشرط : " يكونا رجلين " وفي دلالته ما يشير إلى أن الأصل هو البحث عن شهود
    عدول , رجالاً كانوا أم نساءً , ولو كان البحث عن الرجال خاصة لقيل : فإن لم
    يوجد رجلان " ...
    أما جواب الشرط فهو " فرجل وامرأتان "
    وهما إما فاعل لفعل محذوف , تقديره:فإن يشهد رجل وامرأتان , أو فليستشهد رجل وامرأتان
    وإما مبتدأ , والخبر محذوف تقديره - يشهدان - .
    وإما خبر لمبتدأ محذوف , تقديره : فالشاهد رجل وامرأتان .
    وأولى هذه التقديرات – في رأيي – أن يكون قوله : " فرجل وامرأتان " فاعلاً لفعل محذوف تقديره : فليستشهد , ليوافق قوله من قبل : " فاستشهدوا " , ولأن طلب هؤلاء الثلاثة يكون أصعب , وبخاصة إذا ضم إلى هذا المعنى قوله : " ممن ترضون " .
    والسياق العام للآية يضيِّق الخناق على التعامل بالدين , فكان البحث عن رجل وامرأتين يرضى عنهم المتداينين من الصعوبة بمكان ؛ لذلك كان أقرب رحماً بالغرض العام للآية .
    " وجيء في الآية بـ " كان " الناقصة , مع إمكان القول – فإن لم يكن رجلان ؛ لئلا يتوهم منه أن شهادة المرأتين لا تقبل إلا عند تعذر الرجلين . .
    وفيه مرمى آخر , وهو تعويدهم على إدخال المرأة في شؤون الحياة ؛ فإذا كانت في الجاهلية لا تشترك في مثل هذه الشؤون , فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحد " ( 112) .
    وهذا وإن كان فيه توسعة – إلا أن في إشراك النساء في الشهادة على مثل هذه المعاملات هدفاً آخر , وهو إحراج المدين , والتضييق عليه .
    فالرجل إذا استدان وشهد عليه الرجل يكون في حالة من الذل والضعف , ولذلك يستعيذ بالله تعالى من غلبة الدين , فهو يخجل أن يعرف عنه الناس أنه مدين , فما بالك إذا كان الشاهد عليه رجلاً وامرأتين . ؟‍!!!
    إن في إشهاد النساء على الديون ضرباً آخر من التنفير ؛ فطبيعة المرأة لا تقوى على كتم الأسرار , وهذا يعني أن إشهادها على الديون فيه إشاعة لذلك الأمر بين الناس , وهو ما يخشاه المدين , مما يترتب عليه العزوف عن هذه الديون قدر الطاقة .
    والذي يظهر في هذه الجملة من الأساليب هو أسلوب تعريف الشهود بالوصف ؛ حيث قيل : " فرجل وامرأتان ممن ترضون " , وهذا التعريف يشير إلى أن كل واحد منهم مُختَبر في مثل هذه المواقف ؛ حيث ثبت عدلُه , وصدقهُ , وهذا يقارب معنى " شهيدين من رجالكم " .
    لكن قوله : " شهيدين " فيه من الشهرة ما لا يوجد في " فرجل وامرأتان " ؛ إذ الأصل في المرأة عدم الشهرة , وإن كان لا يمنع تجربة الشهادة عليها ؛ ولذلك زيد بعد الوصف قوله : " من الشهداء " , ولم يقل – من المسلمين , أو من الناس - .
    فهذا يعني أن الرضا هنا رضا شهادة سابقه ، كما أن تمام الوصف قوله من الشهداء ـوقيل اللفظ المذكر إما تغليباً كما هي عادة العربية ، أو إشارة إلي أن الأصل في الشهود أن يكونوا رجالاً.
    ويلحظ هنا أن الكلام جاء بالأسلوب الصريح المكشوف الخالي من الصور البلاغية ، أو اللون البديعي ؛ وذلك لأن السياق يحتاج إلي هذا الوضوح والصراحة في هذه المعاملة ؛ فالأخذ والعطاء والكتابة والشهادة كلها أمور تحتاج إلي هذه الشفافية .
    لكن الزمخشري عدّ هذا اللفظ من قبيل المجاز المرسل ؛حيث قال : " وقيل لهم :شهداء قبل التحمل تنزيلاً لما يشارف منزلة الكائن"(113)
    يعني: أن العلاقة هنا اعتبار ما سيكون , كما في قوله تعالى : " إني أراني أعصر خمراً " .
    فلما كانوا قبل الشهادة ليسوا شهوداً أطلق اللفظ عليهم , باعتبار أنهم سيكونون شهودا ً .
    وهذا وإن كان مقبولاً شكلاً إلا أنه لا يتناغم مع السياق الرامي إلى البحث عن رجل وامرأتين , ذات صفات مخصوصة .
    منها : قبولهما عند كلٍّ من الدائن , والمدين .
    ومنها : تجريب الشهادة عليهما من قبل .
    وكل من الأمرين متعلق بالآخر كما لا يخفى .
    ******

    أثر القراءات في تصوير المعنى في جملة :
    " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى "

    " اختلف القراء في قراءة هذه الجملة ؛ فقرأ عامة أهل الحجاز , والمدينة , وبعض أهل العراق : " أن تضل إحداهما فتذكرَ إحداهما الأخرى " , بفتح الألف من " أن " ونصب " تضل " و " تذكرَ " ؛ بمعنى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت .
    فهو عندهم من المقدم الذي معناه التأخير؛لأن التذكير عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان" تضل "
    وقالوا : إنما نصبنا " تذكر " ؛ لأن الجزاء لما تقدم اتصل بما قبله , فصار جوابه مردودا عليه , كما تقول في الكلام : " إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطي " , بمعنى إنه ليعجبني أن يعطى السائل إن سأل , أو إذا سأل , فالذي يعجبك هو الإعطاء , دون المسألة .
    ولكن قوله " أن يسأل " لما تقدم اتصل بما قبله , وهو قوله : " ليعجبني " .
    وقرأ ذلك آخرون كذلك , غير أنهم كانوا يقرؤونه بتسكين الذال من " تُذْكِر : وتخفيف كافها .
    ... وكان بعضهم يوجهه إلى أن معناه : فتصيِّر إحداهما الأخرى ذكَراً باجتماعهما , بمعنى أن شهادتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها : جازت , كما تجوز شهادة الواحد من الذكور في الدين ؛ لأن شهادة كل واحدة منهما منفردة غير جائزة فيما جازت فيه من الديون , إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحدة , فتصير شهادتهما حينئذٍ بمنزلة شهادة واحد من الذكور .
    فكأن كل واحدة منهما _ في قول متأولي ذلك بهذا المعنى- صيَّرت صاحبتها معها ذكراً , وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى الذِكرِ بعد النسيان .
    وقرأ آخرون : " إن تضل إحداهما فتُذكَّرُ إحداهما الأخرى "بكسر " إن " , ورفع " فتذكر " وتشديده , كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان إن نسيت إحداهما شهادتها تذكرها الأخرى , من تثبيت الذاكرة الناسية , وتذكيرها ذلك ....
    ومعنى الكلام : واستشهدوا شهيدين من رجالكم , فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ؛ فإنْ إحداهما ضلت ذكرتها الأخرى , ...
    يقول قتادة : " علِم اللهُ تعالى أن ستكون حقوق فأخذ لبعضهم من بعض الثقة , فخذوا ثقة الله تعالى , فإنه أطوع لربكم , وأدرك لأموالكم , ولعمري لئن كان تقياً لا يزيده الكتاب إلا خيراً , وإن كان فاجراً فبالأحرى أن يؤدي إذا علم أن عليه شهوداً ( 114 )
    والضلال هنا : النسيان – كما قال أبوعبيدة – معنى " تضل " : تنسى , والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها , وذكر جزء , ويبقى المرء حيران بين ذلك , ضالاً , ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال : " ضلَّ " ( 115) .
    وقد جعل الزمخشري هذا اللفظ من قبيل المجاز المرسل ؛ حيث قال " أن تضل ... أي : إرادة أن تضل , فإن قلت : كيف يكون ضلالهما مرادا لله تعالى " ؟
    قلت : لما كان الضلال سبباً للإذكار , والإذكار مسبباً عنه , وهم ينزلون كل و احد من السبب , والمسبب منزلة الآخر ؛ لالتباسهما , واتصالهما كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار , فكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت , ونظيره : - أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه - , وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه " ( 116).
    والسؤال الذي يعنُّ من خلال السورة المجازية هو :
    ما وجه البلاغة في إيثار " أن تضل " بدلاً من " أن تنسى " إذا كانا بمعنى واحد ؟
    الذي أراه أن في الضلال معنى زائداً وهو ترتب الهلاك على النسيان ؛ ولذلك " قيل : ضلت الناقة : إذا هلكت بضياعها , وفي القرآن الكريم ( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ) (السجدة:10) أي : هلكنا بتقطع أوصالنا ... كما أن من معانيها : الضياع , يقال : هو ضال في قومه ؛ أي : ضائع , ومنه قوله تعالى : "( وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) (الضحى:7)؛ أي : ضائعاً في قومك , لا يعرفون منزلتك ...
    وقيل : الضلال بمعنى القصد إلى الشيء ؛ ( أن تضل ) ؛ أي تقصد إلى الشهادة فتذكرها الأخرى عوناً لها , وهذا من المقلوب المستفيض في كلامهم ... ( 117 )

    -----
    وكل ذلك يصب في نهر واحد , وهو بيان الحكمة من وضع المرأتين موضع الرجل الواحد ؛ إذ أن الغالب على عقول النساء الانشغال بأمور المنزل , والأولاد , والقيام بأمر التربية ؛ فصلتها بالحياة العامة ضعيفة بالنسبة للرجل , لذلك كانت في حاجة إلى تذكير ....
    وصياغة الجملة كان من الممكن أن يقال فيها : لتذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ... لكن قدم الضلال إيماءً إلى شدة الاهتمام بشأن الإنكار عليه .
    ولما كان " أن تضل " في معنى " لضلال إحداهما " صارت العلة في الظاهر هي الضلال , وليس كذلك , بل العلة هي ما يترتب على الضلال من إضاعة المشهود به , فتفرع عليه : " فتذكر إحداهما الأخرى " لأن - فتذكر – معطوف على – تضل – بفاء التعقيب , فهو من تكملته , والعبرة بآخر الكلام ...
    ومن شأن العرب في لغتهم إذا ذكروا علة , وكان للعلة علة قدَّموا ذكر علة العلة , وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء ؛ لتحصل الدلالتان معاً بعبارة واحدة ... " ( 118 )
    ولا شك أن هناك " ظروفاً معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمراً ميسوراً , فهنا يسَّر التشريع , فيستدعي النساء للشهادة , وهو إنما دعا الرجال ؛ لأنهم هم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السويّ الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش , فتجور بذلك على أمومتها , وأنوثتها , وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية , وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل , في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل , كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد , المنحرف الذي نعيش فيه اليوم .
    فإذا لم يوجد رجلان , فليكن رجل واحد وامرأتان .
    ولكن لماذا امرأتان ؟
    إن النص لا يدعنا نحدس , ففي مجال التشريع يكون كل شيء محدداً , وواضحاً ومعللاً فيقول
    " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " , والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة ..
    فقد ينشا من قلة خبرة المرأة , بموضوع التعاقد ؛ مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه , وملابساته , ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها ؛ بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء , فتذكرها الأخرى بالتعاون معاً على تذكر ملابسات الموضوع كله .
    وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية ؛ فإن وظيفة الأمومة العضوية البيلوجية تستدعي مقابلاً نفسيا في المرأة يجعلها شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية , لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية , لا ترجع فيها إلى التفكير البطيء , وذلك من فضل الله تعالى على المرأة , وعلى الطفولة , وهذه الطبيعة لا تتجزأ فالمرأة شخصية موحدة , هذا طابعها حيث تكون امرأة سوية , بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال , ووقوف عند الوقائع , بلا تأثر ولا إيحاء , ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى إذا انحرفت مع أي انفعال ؛ فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة " ( 119 ) .
    ومن الإضافات التي يمكن الاستئناس بها هنا ما ذكره الشيخ عبد المجيد الزنداني في برنامجه التلفزيوني " معجزة القرآن المتجددة " في قناة ( إقرأ ) قال :
    " إن عقل الرجل يوجد به مركز للنطق , ومركز للتذكر , في حين أن الموضعين نفسيهما في عقل المرأة يعملان في الكلام , وهما هما يعملان في التذكر أو الذاكرة : فالرجل إذا شهد تكلم بجزء , وتذكر بجزء آخر , أما المرأة إذا شهدت فهي تحتاج إلى عمليتين : عملية الكلام , وعملية التذكر .
    ولما كان الموضعان لا يستطيعان العمل بالمهمتين في وقت واحد , كان لا بد من وجود امرأتين , إحداهما تتكلم , والأخرى تتذكر ؛ لأن الفصين في العقل يعملان نفس الوظيفة – وظيفة الكلام ووظيفة التذكر – فالمرأة الواحدة إذا تكلمت غطت المنطقة التي تتكلم على الذاكرة ؛ لذا كان لا بد من وجود امرأتين " ( 120 )
























    الإظهار في موضع الإضمار في قوله تعالى :
    " فتذكر إحداهما الأخرى "

    " إن مقتضى الظاهر أن يقال : أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى ؛ وذلك أن – إحدى والأخرى – وصفان مبهمان , لا يتعين شخص المقصود بهما , فكيفما وضعتهما في موضع الفاعل والمفعول كان المعنى واحدا ...
    والنكتة من إعادة لفظ " إحداهما " وكان يمكن التعبير عنه بالضمير هي : الإيهام .
    لأن كل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير , فدخل الكلام في معنى العموم ؛ لئلا يتوهم أن إحدى المرأتين لا تكون إلا مذكرة , ولا تكون شاهدة بالأصالة .
    وأصل هذا الجواب لشهاب الدين الغزنوي , عصري الخفاجي عن سؤال وجهه إليه الخفاجي , وهذا السؤال هو :
    يا رأس أهل العلوم السادة البررة ومن نداه على كل الورى نشره
    ما سر تكرار إحدى دون تُذكرها فآية لذوي الأشهاد في البقرة
    وظاهر الحال إيجاز الضمير على تكرار إحداهما لو أنه ذكره
    وحملُ إحدى على نفس الشهادة في أولاهما ليس مرضياً لدى المهرة
    فغص بفكرك لاستخراج جوهره من بحر علمك ثم ابعث لنا درره
    فأجاب الغزنوي بقوله :
    يا من فوائده بالعلم منتشرة ومَنْ فضائله في الكون مشتهرة
    ( تضل إحداهما ) فالقول محتمل كليهما فهي للإظهار مفتقرة
    ولو أتى بضمير كان مقتضياً تعيين واحدة للحكم معتبرة
    ومن رددتم عليه الحال فهو كما أشرتم ليس مرضياً لمن سبره
    هذا الذي سمح الذهن الكليل به والله أعلم بالفحوى بما ذكره

    وكأن المراد هنا الإيماء إلى أن كلتا الجملتين علة لمشروعية تعدد المرأة في الشهادة ؛ فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها , وقلة ضبط ما يهم ضبطه , والتعدد مظنةٌ لاختلاف مواد النقص والخلل , فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى .
    فقوله " أن تضل إحداهما " تعليل لعدم الاكتفاء بالواحدة ,, وقوله " فتذكر إحداهما الأخرى " تعليل لإشهاد امرأة ثانية ؛ حتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها ( 121 )
    وعلى هذا فكل من المرأتين مُذكرة لصاحبتها , كما أن كلاً منهما ناسية لبعض التفصيلات ؛ فقوله : " إحداهما " لا يقصد به واحدة بعينها , بل على العموم , وكذلك " الأخرى " .
    هذا , وقد قرئ : " فتذاكر إحداهما الأخرى " , وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن : " فتُذْكِر " بسكون الذال وكسر الكاف .
    فأما قراءة " فتذاكر " فإشارة إلى المفاعلة القائمة بين المرأتين , واستعانة كل منهما بالأخرى , في استرجاع الضوابط الحافظة للحقوق , والعودة إلى تفاصيل ما تم بين الدائن والمدين , حتى تكون الشهادة بالعدل , وفي هذا تناغم واضح مع سياق الآية .
    كما أن هناك هدفاً آخر : وهو سكوت الآية عن تحديد وقت التذكير ؛ فالتذكير قد يكون وقت الاستدعاء لإحقاق الحق , وقد يكون قبل ذلك ؛ بمعنى أن كلاً من المرأتين تُداوِم على تذكير الأخرى قبل حلول موعد السداد , فإذا حان موعده كانت شهادتهما كاملة , وهذا بلا شك يوافق طبائع النساء , من حيث مداومة سرد هذه الأحاديث , ولا يُتصوَّر هنا ما ذكره القرطبي من أن إحداهما تجعل الأخرى ذكراً , ( 122 ) .
    أما قراءة " فتُذْكر " فهي هي" فتذكِّر ", لكن التشديد , وعدم التشديد يشير إلى كمية المعلومات التي تنساها كل منهما , فإن كانت قليلة ناسبِ التعبير بالفعل " تُذكِر" بعدم التشديد , وإن كانت كثيرة ناسَبَ التعبير بالفعل " تذكَّر " بالتشديد ؛ فلكل من القراءتين وجه معتبر في المراد .
    ويتوافق مع هذين الفعلين قراءة : " إن تضل " وقراءة " أن تضل " .
    فالأولى توافق " تُذكِر " من حيث ندرة حدوث النسيان المدلول عليه بـ " إن " الشرطية .
    والثانية توافق " تذكِّر " بالتشديد من حيث كثرة حدوث النسيان ؛ لأن النساء لسن على درجة واحدة في النسيان ؛ فمنهن من تنسى الكثير , ومنهن من هي حاضرة الذهن قليلة النسيان .

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    المشاركات
    175
    آخر نشاط
    07-03-2016
    على الساعة
    01:43 AM

    افتراضي

    يـــــــــــــــــــتـــــــــــــــــــبـــــــــــــــــــ ــــــــع

صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة

البلاغة العالية في آية المداينة .....دكتور سعيد جمعة الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. كيف نجعل قلوبنا بحراً من العطاء والأخلاق العالية
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى منتدى الأسرة والمجتمع
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 30-12-2008, 03:23 PM
  2. دكتور علم مقارنة الاديان في جامعة فلوريدا ستيت يعتنق الاسلام
    بواسطة فاضح النصارى في المنتدى منتدى قصص المسلمين الجدد
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 20-08-2008, 06:52 AM
  3. مناظرة وسام مع الأنبا رفائيل الاسقف المساعد لوسط القاهرة هليوبوليس المساعد للبابا
    بواسطة دفاع في المنتدى منتديات محبي الشيخ وسام عبد الله
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 16-04-2008, 03:16 AM
  4. اسمعوا نهج البلاغة !
    بواسطة ismael-y في المنتدى منتدى نصرانيات
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 27-01-2007, 03:05 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

البلاغة العالية في آية المداينة .....دكتور سعيد جمعة الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر

البلاغة العالية في آية المداينة .....دكتور سعيد جمعة  الأستاذ المساعد في جامعة الأزهر