الفصل الأول
الشوائب في تفاسير
القرن الرابع عشر الهجري
المبحث الأول: الدعوة للعقل الحر، والتفسير بالنظريات العلمية.
المبحث الثاني: الإكثار من الإسرائيليات، والاستشهاد بالتوراة والإنجيل، والتقريب بين الأديان.
المبحث الثالث: رد الأحاديث الصحيحة، والاستشهاد بالضعيف وما لا أصل له
المبحث الأول
الدعوة للعقل الحر والتفسير بالنظريات العلمية
أ- الدعوة للعقل الحر:
بادئ ذي بدء لا بد من استعراض موقف وأقوال بعض المفسرين في القرن الرابع عشر الهجري في هذه القضية ثم الحكم عليها.
1- موقف الشيخ محمد عبده من العقل:
قال الشيخ محمد عبده: "الأصل الثاني للإسلام: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض. وقال تحت هذا الأصل: "اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل"(1 ).
وقال في السنة النبوية: "وعلى أي حال فلنا بل علينا أن نفوض الأمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل"(2 ).
يذهب الشيخ محمد عبده أبعد من هذا فيرى أن النبوات انتهت بسيدنا محمد حيث بلغت البشرية سن الرشد ثم يتولى العقل شؤون نفسه ولا وصاية من الدين عليه. وقد انتهت مهمة الدين بكمال الرسالات،
فقال: "بهذا وما سبق تمّ للإنسان بمقتضى دينه أمران عظيمان طالما حرم منهما وهما: استقلال الإرادة، واستقلال الرأي والفكر، وبهما كملت له إنسانيته واستعدّ لأن يبلغ من السعادة ما هيأه الله له بحكم الفطرة التي فطر عليها"(3 ).
وقال مؤكداً على هذا المفهوم: " لم يدع الإسلام، بعدما قررنا، أصلاً من أصول الفضائل إلا أتى عليه، ولا أمّاً من أمهات الصالحات إلا أحياها، ولا قاعدة من قواعد النظام إلا قررها، فاستجمع للإنسان عند بلوغ رشده –كما ذكرنا- حرية الفكر واستقلال العقل في النظر، وما به صلاح السجايا وما فيه إنهاض العزائم إلى العمل وسوقها في سبيل السعي".
ثم قال: "هل بعد الرشد وصاية؟ وبعد اكتمال العقل ولاية؟ .. كلا .. قد تبين الرشد من الغي، ولم يبق إلا اتباع الهدى والانتفاع بما ساقته أيدي الرحمة لبلوغ الغاية من السعادتين، لهذا اختتمت النبوات بنبوة محمد وانتهت الرسالات برسالته"( 4).
2- موقف الشيخ محمد رشيد رضا القلموني من العقل:
قال: ".. والثانية طريقة الخلف وهي التأويل: يقولون: إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها من المعقول. فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره، ولا بد له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل"( 5).
فيكون القرينان الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا متوافقين كل الموافقة في موقفيهما من العقل.
3- موقف طنطاوي جوهري من العقل:
قال عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾(6)
: وأنا أرجو أن يكون خلفنا خيراً من سلفنا الأقربين فيقرؤون حكم الأمم وعلومها وسياساتها وصناعتها وهم يعتقدون أن ذلك من الدين".
ثم قال: "إذن لا حاجة إلى أنبياء بعد نبيّنا، ولماذا؟ لأن الأنبياء يأتون لتذكير الناس بما نسوا. والله سبحانه أخبر أنه اختص أناساً بالحكمة يخلقهم حيث يشاء. والحكمة الملقاة على الناس في الأزمان المختلفة قد أصبحت جزءاً من علوم الإسلام. إذن كل حكمة صدرت من حكيم أياً كان هي إسلامية. إذن إرسال الرسول بعد هذه الآية عبث. ولا جرم أن هذا هو كمال الإنسانية لأنها إذا كان تعليمها بواسطة حكمائها المتبعين لوصية نبي كان ذلك أرقى وأشرف من إرسال الرسول. لأن الرسول إنما يرسل لقوم ناقصين جهلوا الحكمة، أما هذه الأمم فإنها تعترف بالحكمة وتعمل بها وتقول هي من وصايا كتابنا وديننا"(7 ).
وقال: "فهكذا هنا في الحكمة فإنها قد أصبحت جزءاً من ديننا وليس ينقصنا إلا المجالس العامة"(8 ). وهذا القول يفضي إلى القول بإلغاء القرآن الكريم ونسيانه وتركه. وأجاب الشيخ عن هذا التساؤل؟ فقال: "ولعلك تقول إذا كل مسلم له الحق أن يتبع أي حكمة وينسى القرآن؟ أقول لك: أنسيت قوله تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾(9 ).
ليكن هناك مجلس عام في مكة وغيرها. وهذا المجلس لا يصح التئامه إلا بعد شيوع العلوم العامة في بلاد الإسلام. وهذا المجلس ينظر في الأمور العامّة لأمم الإسلام، ولا يصلح لهذا المجلس إلا من قرأ فوق علوم الإسلام علوم الأمم والرياضيات والطبيعيات لا غير، لأن الذين لا يقرؤون تلك العلوم يجهلون نظام الله ونظام الأمم. والجاهلون بذلك لا يصلحون للقيادة في هذه الشعوب. وهؤلاء الأعضاء ينتخبون من المجالس العلمية الخاصة في كل إقليم من أقاليم الإسلام، فهؤلاء هم الذين لهم الرأي الحق: وهم هم الحكماء الذين قال الله فيهم: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾(10 ). وهذا الخير الكثير يفيض منهم على الناس"( 11).
4- موقف الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير من العقل:
استعرض الشيخ مصطفى رد عمر بن الخطاب لقول فاطمة بنت قيس: إن رسول الله نفى أن تكون للمطلقة ثلاثاً نفقة وسكنى . فقال: "لا ندع قول ربنا وسنة نبيّنا بقول امرأة. لعلها نسيت أو شبِّه لها. سمعت النبي يقول: (لها السكنى والنفقة). ومراده من قول ربنا: قوله تعالى: ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ ﴾( 12). فإن ضمير أَسْكِنُوهُنَّ راجع إلى النساء في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾( 13
).
والنص شامل لكل المطلقات، رجعيات أو مبتوتات" ا.هـ. ورتب الشيخ مصطفى على هذا النتيجة الآتية: "فإذا كان عمر :radia-icon: على جلالة قدره، وحفاظه على مرويات السنة الشريفة، ردّ قولها لمخالفته للكتاب والسنة، فما بالنا لا نصنع مثله فيما يخالف النص القرآني والدليل العقلي فنقول: لعل الراوي قد نسي أو شبّه له"(14 ).
5- موقف الشيخ أحمد مصطفى المراغي من العقل:قال عند تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ ( 15). أي وأنزل العقل الذي يفرق بين الحق والباطل . وجاء في آية أخرى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾16 ). والميزان هو العدل، فالله سبحانه قرن بالكتاب أمرين: الفرقان الذي نفرق به الحق في العقائد ونميزه عن الباطل، والميزان، وهو ما نعرف به الحقوق في الأحكام ونعدل بين الناس. قصارى ذلك – إن ما يقوم عليه البرهان العقلي من عقائد وغيرها فهو حق منزل من عند الله. وما قام به العدل فهو حكم منزل من عند الله وإن لم ينص عليه في الكتاب، فالله هو المنزل والمعطي للعقل والعدل – الفرقان والميزان – كما أنه سبحانه هو المنزل للكتاب ولا غنى لأحدهما عن الآخر"(17 ).
فيرى المراغي أن حكم العقل والقرآن من الله – تعالى- سواء بسواء تماماً كمواجيد وخواطر الصوفية.
.................................................... الهامش .......................................................
( 1) عبده، محمد، الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، تقديم وتعليق الشيخ محمد رشيد رضا، ص 45، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1988م.
( 2) عبده، محمد، تفسير جزء عمّ، ص181، وانظر الطير، الشيخ مصطفى محمد الحديدي، اتجاهات التفسير في العصر الحديث منذ الإمام محمد عبده إلى مشروع التفسير الوسيط، سلسلة البحوث الإسلامية، السنة السابعة، العدد 80، 1395هـ - 1975م.
( 3) عبده، محمد، رسالة التوحيد، جمع وتعليق محمد عمارة، ص 152، المركز الحضاري المصري الإعلامي، القاهرة، 1989م. قال الشيخ محمد عبده هذه الفقرة تحت عنوان: حرية الفكر والتجديد.
( 4) ص 171، المصدر السابق نفسه.
( 5) رضا، محمد رشيد، تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، 1/252، مطبعة محمد علي صبيح، القاهرة، ط3، 1367هـ - 1948م.
( 6) سورة مريم، الآية: 59.
( 7) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن، م8، 15/153.
( 8) المصدر السابق نفسه.
( 9) سورة الشورى، من الآية 38.
(10 ) سورة البقرة، من الآية 269.
(11 ) جوهري، طنطاوي، الجواهر في تفسير القرآن الكريم، 8/15، 153، وقال تحت عنوان "مجلس عام في الإسلام: على المسلمين جميعاً في أقطار المسكونة أن يكون لهم مجلس عام يجمع أكابر القوم من سائر المذاهب والشيع والطوائف. ويعرض عليه كل ما فيه خلاف من معاملات أو عبادات. ويكون هذا المجلس له القول الفصل. وهذا المجلس دائماً تعرض عليه المسائل كل حين، ويبقى مع الدهر ما دامت السموات والأرض ودين الإسلام. وهناك نكون حقاً قد عملنا بقوله تعالى: ﴿ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 64)، انظر م1، 2/136، المصدر السابق نفسه.
(12 ) سورة الطلاق، من الآية 6.
(13 ) سورة الطلاق، من الآية 1.
(14 ) الطير، محمد مصطفى الحديدي، اتجاهات التفسير في العصر الحديث، ص 45.
(15 ) سورة آل عمران، من الآية 4.
(16 ) سورة الشورى، الآية 17.
(17 ) المراغي، أحمد مصطفى، تفسير المراغي، 3/97، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
......................................... هذا البحث منقول من: ................................................
شوائــــب التفسيـــر فـي القرن الرابع عشر الهجري
عبد الرحيم فارس أبو علبة
......................52................................. يتبع إن شاء الله .................57.............................
يتبع >>>>>>>>>>>>>>>>>> شوائب القرن الرابع عشر الهجري - 2 -
المفضلات