معالم انحراف الفكر الغربي
بسم الله الرحمن الرحيم

خالد الدويك - القدس
الفكر الغربي هو الفكر الأوروبي الذي نشأ نتيجة الصراع بين مفكري أوروبا والكنيسة على مدى سنوات طويلة، بداياته كانت تتجلى بسيطرة النظام الإقطاعي والملوك والأمراء -بالإضافة إلى الكنيسة- على حياة البشر، فتحولت الحياة في أوروبا إلى قهر وظلم وجهل وتخلف وإصرار على محاربة العلم والعلماء وكلّ فكر جديد حتى سميت تلك الفترة عصر الظلمات.
غير أنّ ظلام التخلف عندهم أخذ ينقشع مع ظهور المفكرين الذين عملوا على النهضة والتغيير، والذين وجدوا أنّ عدو التغيير هو الدين ممثلا بالكنيسة، وأنّ الملوك والإقطاعيين الذين يخضعون لرغبة الكنيسة هم مظهر من مظاهر سيطرتها، فدخلوا في صراع فكري سِمته الرئيسة ردّ الفعل على الكنيسة والدين، وقد أنتجوا أبحاثاً كثيرة تتعلق بالإنسان والمجتمع والدولة والاقتصاد والملكيات والحريات، وكان يمكن للمفكرين الغربيين أن يحققوا نهضة صحيحة تخدم البشرية لولا انحرافهم عن المسار الصحيح في الفكر والبحث.
وسيتم هنا توضيح بعض معالم انحراف الفكر الغربي عن الصواب أثناء بحثه عن نظام بديل للكنيسة والإقطاع، من غير خوض في فروع الفكر الغربي وإنّما التعرض لأمور أساسية جوهرية. كما أنه لن يتم التحدّث عن الفكر الاشتراكي/ الشيوعي لأنّه سقط ولم يعد له وجود لا سياسي ولا اقتصادي ولا حتى فكري.

إن الحديث إذاً سيكون عن العلمانية عقيدة المبدأ الرأسمالي الذي يسيطر على العالم بقوة السلاح وبالدجل الفكري والإعلامي، والذي حوّل الدول التي تعتنقه إلى دول مستعمرة تمتص دماء الشعوب وتدجّل عليهم، ولا تُستثنى هنا الشعوب الأوروبية ولا الشعب الأميركي من زمرة الشعوب التي تتعرّض للتضليل والتي تعيش في شقاء وظلم، وإن كان هذا الظلم وهذا الشقاء متفاوتاً بين الشعوب ويأخذ أشكالاً مختلفة.
وأمّا معالم انحراف الفكر الغربي فهي:
- عدم حل العقدة الكبرى في الفكر الإنساني.
- سيطرة الطريقة العلمية في التفكير (المنهج العلمي في البحث) على المفكرين الغربيين وإهمالهم الطريقة العقلية في التفكير (المنهج العقلي في التفكير) وخطأ فكرة التناقض بين العلم والدين.
- وأخيراً انحراف الغربيين في فهم واقع الإنسان ويظهر ذلك في نقطتين:
- سعيهم للتشريع ووضع القوانين (الديمقراطية).
- عدم تنظيم الفكر الغربي لسلوك الإنسان في إشباعه للغرائز والحاجات العضوية مع حرصهم على التنظيم.
1- عدم حل العقدة الكبرى في الفكر الإنساني:
والعقدة الكبرى هي مجموعة التساؤلات حول الكون والإنسان والحياة، هل هي أزلية أم مخلوقة؟ ومن هو الخالق؟ وماذا قبل الخلق؟ وهل يوجد حياة بعد الموت؟ لماذا أنا موجود؟ إلى غير ذلك من تساؤلات تصحب الإنسان طوال حياته وتقلقه وتسبب له الضياع الفكري حتى يحلها. وحاجة البشرية إلى حلّ هذه التساؤلات حاجة ملحة، ولا يستطيع الإنسان إلا أن يحصل على حلٍّ لها ولو كان حلاً سطحياً أو منحرفاً أو خاطئاً.
والذي حصل أنّ الغربيين لم يبحثوا في هذه العقدة الفكرية الإنسانية ولم يعملوا على حلّها وإنّما تجاوزوها، ويتمثّل هذا التجاوز في اتّفاق الغربيين اتّفاقاً ضمنياً - سببه ردة الفعل السلبية تجاه الدين المسيحي- على فصل الدين عن الحياة أو فصل الدين عن السياسة، وهذه هي (العلمانية) التي أصبحت عقيدة المبدأ الرأسمالي.
هذه العقيدة ليست فكراً يراد منه حلّ تساؤلات العقدة الكبرى في الفكر الإنساني، وإنّما هي قفزة على هذه التساؤلات وهروب منها، وهذا هو أساس انحراف الفكر الغربي الرأسمالي؛ لأنّ أي مبدأ أو عقيدة أو فكر أساسي يجب أن يبنى على حل هذه التساؤلات.
فالعلمانيون لم يبحثوا أثناء صراعهم مع الدين المسيحي كون الإنسان مخلوقاً أم لا، ولم يبحثوا إن كان هناك خالق أم لا، وإذا كان هناك خالق فهل التشريع له أم للإنسان؟ لم يبحثوا هذا والسبب في ذلك العبءُ العقلي والنفسي والاجتماعي والاقتصادي الذي كان على عاتق الناس والذي كان سببه الدين المسيحي، فكان هاجسُ المفكرين التخلصَ من هذا الدين وأعبائه وليس الدخولَ معه في مجادلات فكرية، خاصة وأنّ المفكرين أنفسَهم من ميكافيللي (ت1527م) حتى نيتشه (ت 1900م) وسارتر( ت 1980م) اختلفوا في نظرتهم إلى الدين ولكنهم لم يختلفوا في ضرورة استبعاده من حياتهم:
فميكافيللي والذي كان له دور هام في تطور الفكر السياسي الغربي، إذ إنه أسس منهجاً جديداً في السياسة، يتمثّل بتجاوز الفكر الديني، كان يرى الدين وسيلة يمكن استغلالها سياسياً وليس شيئاً يجب أن نؤمن به ولا أن نتخلّص منه، فهو يقول في كتاب الأمير: «إن الدين ضروري للحكومة لا لخدمة الفضيلة ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس». ويقول: «من واجب الأمير أحياناً أن يساند ديناً ما ولو كان يعتقد بفساده». وبينما اعتبر المفكرون الملحدون الدين وباء يجب استئصاله، فقد قال جون لوك ( ت1745م) في كتابه رسالتان للحكومة: «فنّ الحكم لا ينبغي أن يحمل في طياته أية معرفة عن الدين الحق» وهو يقصد بذلك اعتبار جميع الأديان سواء، وأن الحكم يجب أن يتجاوزها جميعاً. وطالب مونتسيكيو (ت1755م) «بوضع السياسة والتاريخ كعَلَمين بعيداً عن التصورات الأخلاقية والميتافيزيقية» وهو يعني ترك التفسير الديني للكون. واعتبر فولتير ( ت1778م) «إنّ فلسفة التاريخ تقوم على أساس فكرة التطور التقدمي للمجتمع في استقلال عن إرادة الله» وهذه دعوة إلى فصل الدين عن السياسة، وأما نيتشه فقد تميز بنقده الحاد للدين وباعتراضه على فكر القطيع الذي يسيطر على البشر وأنّ على الإنسان أن يحرر عقله من أوهام الدين حسب رأيه. ويوافقه ماكس فيبر (ت1920م) على هذا حين تكلم عن عقلنة العالم وإن كان يحترم الاتجاه البروتستانتي الذي ساهم في العقلنة ونشوء الرأسمالية كما ذكر في كتابه الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية بينما يُعلي سارتر (ت1980م) في فلسفته الوجودية من قيمة الإنسان ويؤكد على تفرده، وأنه صاحبُ تفكير وحرية وإرادة واختيار ولا يحتاج إلى موجه.
وبالرغم من هذا الاختلاف من الإلحاد إلى الاستغلال إلى الإبعاد والإهمال، فقد اجتمعوا على القاسم المشترك بينهم جميعاً وهو ضرورة فصل الدين عن الحياة والدولة وترك أمر الإيمان والكفر إلى الأفراد بصفتهم الفردية، وأنّ هذا الإيمان ما دام تعبدياً كنسياً فردياً لا يحدد العلاقات مع الآخرين فلا ضرر منه مع اعتبار تصوراته عن الكون والإنسان والحياة (الميتافيزيقية) غير علمية وغير مسلّم بها، كما لا ضرر من الإلحاد إذا كان على النمط نفسه، وهذا ليس فكراً وإنّما حل وسط بين مجموعة من الآراء المتناقضة حول الدين المسيحي.
وهكذا نرى أنّ العلمانيين لم يُعملوا عقلَهم في البحث في أصل الدين ولا في وجود الخالق أو عدم وجوده أو في كون الإنسان مخلوقاً أم لا، ويمكن الحكم على العلمانية من خلال ما سبق بما يلي:
- العلمانية ليست فكراً بقدر ما هي ردة فعل سلبية على دين باطل كان ينغّص على الناس حياتهم.
- العلمانية لم تجب على تساؤلات العقدة الكبرى في فكر البشر وإنّما قفزت عنها تاركة أتباعها في حيرة وقلق.
- العلمانية فكرة متناقضة قائمة على الحل الوسط بين آراء فكرية مختلفة ومناهج متناقضة.
- العلمانية تعتمد التعميم في الحكم على الأديان مع أنّ الحكم القائم على التعميم لا يكون صحيحاً.
2- سيطرةُ الطريقة العلمية في التفكير (المنهج العلمي في البحث) على المفكرين الغربيين وإهمالُهم الطريقة العقلية في التفكير (المنهج العقلي في البحث) وفكرة التناقض بين العلم والدين.
أما الطريقة العلمية أو المنهج العلمي في البحث فهو منهج يهدف إلى معرفة حقيقة المادة وخصائصها الكيميائية والفيزيائية عن طريق الملاحظة والتجربة بعد إخضاع المادة لظروف وأحوال غير ظروفها الطبيعية وذلك في المختبر، و لهذا يلزم التخلي عن الآراء السابقة لاحتمال وجود قابلية الخطأ فيها. فهي تختص في البحث في خصائص المادة في المختبر، ولا تبحث في وجود المادة أو عدم وجودها، ولذلك فمن شروط البحث العلمي وجود المادة المراد معرفة حقيقتها الفيزيائية أوالكيميائية، وأن يكون هناك امكانية لإخضاع هذه المادة للبحث المخبري.
وهذا المنهج العلمي هو منهج مهم وضروري ولكن يجب حصره في مجاله وهو المادة من حيث خصائصها الفيزيائية والكيميائية والوصول إلى حقائق علمية والتطبيق لها فيما يسمى بالتكنولوجيا.
أما الطريقة العقلية أو المنهج العقلي في البحث فهو يقوم على أساس نقل الإحساس بالواقع (معلومات عن المادة) إلى الدماغ مع وجود معلومات سابقة عن الواقع نفسه والحكم عليه.
فيلزم للطريقة العقلية حتى تتم وجود المادة، ووجود إحساس بها، ووجود معلومات عنها، ثم عملية التحليل والتفكير التي تكون في الدماغ والخروج بالحكم أو النتيجة.
وهذه الطريقة العقلية يمكن أن يكون لها أكثر من اتجاه في التعامل مع الواقع:
الأول: البحث في أصل المادة (الكون، الإنسان، الحياة) من حيث كونها مخلوقة أم لا، فإننا نستجمع معلوماتنا عن هذه المادة بالإضافة إلى المعلومات السابقة، ومن خلال الإحساس الذي ينقل المعلومات إلى الدماغ الذي يعمل على الربط والتحليل فيقرر احتياج المادة ومحدوديتها وعجزها، وهذا تفكير مستنير يربط المادة بما حولها أي بما يتعلّق بها بعد التعمق في فهمها فيتوصل في بحث عقلي بعيد عن التعقيد إلى وجود الخالق. وهذا البحث لا يمكن أن يكون بحثاً علمياً لأنّه ليس بحثاً في خصائص المادة، وإنّما هو بحث في كونها أزلية أم لا، في كونها مستندة في وجودها إلى غيرها أم لا، أي مخلوقة أم لا. وهنا انحرف الغربيون عن الصواب عندما أقحموا العلم في هذا البحث العقلي المجرّد فقالوا: ما الدليل العلمي على وجود الخالق؟ وكان الأصل أن يقولوا: ما الدليل العقلي على وجود الخالق؟ لأنّ هذا البحث ليس مخبرياً وليس بحثاً في خصائص المادة، فتصوروا أنّ هناك تناقضاً بين العلم والدين من هذه الناحية، كما أنّ فهم الغرب العميق للمادة لم يُربط بما يحيط بها أي لم يتحوّل إلى فكر مستنير وبالتالي إلى فهم حقيقتها من ناحية الخلق.
الثاني: البحث في الفكر من حيث كونه صحيحاً أي مطابقاً للواقع أم لا وذلك مثل:
واقع الإنسان من حيث إنه عقل وغرائز وحاجات عضوية، وإنه يحتاج إلى العقائد والتعريفات مثل: المجتمع، العقل، اللغة، الفقه والقانون، التاريخ، النهضة... إلخ، أي كل ما لا يمكن إخضاعه للتجربة المخبرية.
وهنا انحرف الغربيون أيضاً فعندما قاموا بدراسة الإنسان (الفرد والمجتمع) درسوه دراسة علمية بما يسمى علم النفس وعلم الاجتماع، وبالرغم من أنّ هذه الأبحاث ليست علمية بل هي قائمة على أساس الملاحظة وجمع المعلومات والمقارنة -وهذا جزء من الطريقة العقلية في التفكير- فقد خلطوا العلم بالعقل عندما أقحموا الطب الذي هو علم في أبحاث النفس واعتبروا بعض الأمراض نفسية مع أنها داخلة في الطب كالصرع وانفصام الشخصية الناتج عن خلل في الدماغ، وفي المقابل فقد اعتبروا سبب الشذوذ مثلاً في إشباع غريزة النوع (اللواط) طبياً نتيجة خلايا معينة في الدماغ مع أنّ إشباع الغرائز مردّه إلى الفكر، والشذوذ الذي يحصل فيه سببه انحراف في الفكر. فبدل أن يكون البحث سلوكياً فكرياً جعلوه طبياً جسمياً (تشريحياً) وقس على هذا الكثير من القضايا.
وأمّا علم الاجتماع فقد خلطوا فيه علم الآثار والأبحاث الميدانية لإصباغ صفة العلمية عليه، وقد فشلوا في ذلك، فالأبحاث الميدانية هي عبارة عن جمع معلومات ثم تحليلها ودراستها، أمّا جمع المعلومات فلا خلاف عليه، وأمّا التحليل والدراسة واستخلاص النتائج فقد انحرفوا فيها بشكل كبير بسبب إدخال النظريات (العلمية) فيها كنظرية التطور لداروين، والفرضيات غير المثبتة والتي يمكن اعتبارها آراء خاصة بأصحابها، وكنظريات أبحاث (علم) النفس.
وقد فسروا بعض الحقائق التي أظهرها علم الآثار بشكل منحرف وذلك بسبب الإصرار على فكرة التطور والإلحاد العلمي فمثلاً: أثبتت الآثار أنّ البشر في جميع المجتمعات القديمة التي وجدت آثار لها وفي جميع أنحاء الأرض كانت تعبد إلهاً وكان لها دور عبادة، فبدل أن يقولوا إنّ التدين أمر غريزي في الإنسان وجزء من تكوينه بغض النظر عن الزمان أو المكان وإنّ هذا يشير إلى احتياج الإنسان إلى الخالق الذي خلقه, قالوا هذه سمة من سمات المجتمعات البدائية ومرحلة من مراحل تطور الفكر البشري.
وبعدما وجدوا بعض العظام التي تعود إلى ملايين السنين أو مئات آلاف السنين والتي لا تطابق البنية البشرية، فبدل أن يقرّوا بأنّ الإنسان لم يتطوّر وأنّ هناك مخلوقات كانت قبله، وبسبب هيمنة نظرية دارون الأثيمة عليهم اعتبروا أنّ الإنسان الحالي تطور عن مخلوقات مغايرة مع أنّ العلم الحديث (التشريحي والجيني) يثبت أنّها ليست من الجنس البشري. وهكذا نجد أنّ الانحراف في الفكر والحكم على الأشياء سمة أساسية للفكر الغربي.
وهنا يجب الانتباه إلى الاختلاف بين (البحث العلمي) و(البحث العقلي) بالرغم من وجود التشابه من حيث الملاحظة والتجربة والاستنباط، وهذا يدل على أمرين:
الأول: إنّ الطريقة العقلية هي أساس التفكير وإنّ الطريقة العلمية متفرّعة عنها.
الثاني: إنّ الملاحظة والتجربة والاستنباط للمادة وخصائصها إن لم يكن مخبرياً لا يعتبر البحث حينئذ علمياً.
أمّا التناقض بين العلم والدين: فإنّه وإن كان الحديث السابق عن طريقة التفكير العقلية وطريقة التفكير العلمية كافياً لبيان أن لا تناقض بين العلم والدين الصحيح، إلاّ أنه يزاد عليه قليلاً فيقال:
1- إنّ تناقض الدين المسيحي مع العلم لا يجوز أن يُحمل على الدين الإسلامي.
2- إنّ العلم له مجاله الذي يجب حصره فيه، فمجاله البحث في المادة من حيث خصائصها الكيميائية والفيزيائية، وليس البحث في كون المادة مخلوقة أم لا.
3- إنّ الدين الصحيح وهو الإسلام يقوم على العقل، والعقل لا يمكن أن يتناقض مع العلم، فالعقل يبحث في أصل وجود المادة، ولذلك فإنّ الإسلام وقد بيّن أنّ المادة مخلوقة فقد بيّن أيضا أنّها مسخّرة للإنسان، والتسخير والاستفادة من المادة يقتضي وجود البحث العلمي الصحيح وتاريخ المسلمين يدل على هذا.
4- إنّ النظريات التي تتناقض مع الإسلام كنظرية دارون مثلاً ليست علماً، وإنّما هي افتراض مسبق ونظري وغير مثبت، وحيث إنّ العقل أثبت كون الإنسان مخلوقاً فهذا يعني تناقض نظرية دارون وأمثالها مع العقل، وبالتالي يستحيل أن يثبت العلم في يوم من الأيام صحة هذه النظرية.
3- انحراف الغربيين في فهم واقع الإنسان.
ويظهر ذلك في نقطتين:
1- سعيهم للتشريع ووضع القوانين (الديمقراطية).
2- عدم تنظيم الفكر الغربي لسلوك الإنسان في إشباعه للغرائز والحاجات العضوية مع حرصهم على التنظيم.
النقطة الأولى: سعيهم للتشريع ووضع القوانين (الديمقراطية): إنّ الخطأ الجذري في الفكر الغربي وهو تجاهل حل العقدة الكبرى أي عدم البحث في وجود الخالق وبالتالي نفي علاقة الخالق بالمخلوق من حيث التشريع، وقد جرّهم هذا إلى وضع التشريعات وسنّ القوانين، وهنا انحرف الغربيون انحرافاً كبيراً آخر عندما لم يبحثوا صلاحية الإنسان للتشريع وقدرته على سنّ القوانين أو عدم صلاحيته لذلك. بل أخذوا يشرّعون ويضعون الأنظمة، مع أنّهم لم يفهموا واقع الإنسان بشكل صحيح من أنّه جسم مادي وعقل وغرائز وحاجات عضوية يحتاج إلى إشباعها وقيم يحتاج إلى تحقيقها، وصحيح أنّهم يقرون بوجود العقل والغرائز إلاّ أنّهم لا يفهمون واقع ذلك بشكل صحيح وبالتالي فقد بنيت تشريعاتهم على أساس عدم فهم الإنسان، ولو فرضنا جدلاً أنهم يفهمون واقع الإنسان فهذا لا يعني أنّهم قادرون على سنّ القوانين والتشريع لتفاوت البشر في نظرتهم للأمور مما يعني الاختلاف في الفهم والتناقض في الحكم على الأشياء والأفعال ويساعد على هذا تأثر الإنسان الحتمي بالبيئة، فبعض المجتمعات ترى الزنا جريمة وأخرى تحث عليه، وكان الفراعنة يقدّسون النيل لحاجتهم لمياهه، بينما قدّس بعض الآسيويين جبال البراكين العظيمة خوفاً منها، وفيما فرضت قسوة الصحراء على العرب قيماً معينة من كرم وإغاثة ملهوف ورابطة قبلية وصراع على موارد نادرة رسم هيكل العلاقات الجاهلية، لم يكن لهذه القيم اعتبار يذكر في المجتمع اليوناني مثلاً، وبينما يعتبر كشف الرجال وجوههم في البيئة المعتدلة أمراً طبيعياً، يعتبر عيباً عند رجال الصحراء الحارقة في أفريقيا (الطوراق)، وإذن لا يستطيع البشر أن يضعوا لأنفسهم نظاماً ينظم إشباع غرائزهم وحاجاتهم العضوية.
النقطة الثانية: ما وضعه الغرب من تشريع لا يعتبر تنظيماً لإشباع الغرائز والحاجات العضوية:
وذلك لأنّ التشريع حتى يعتبر تنظيماً للغرائز والحاجات العضوية لا بدّ أن تتوفر فيه ثلاثة أمور:
1- فهم واقع الغريزة المراد تنظيمها، وهذا أمر لم يصل إليه الفكر الغربي، والدليل على ذلك اختلافهم في تعريف الغريزة وفي عدد الغرائز وفي تكوين الشخصية، والأبحاث التي تتجدد كلّ يوم ينقض آخرُها أوّلَها؛ حتى صار لما يسمى بعلم النفس أكثر من خمسين فرعاً مملوءة بنظريات ينقض بعضها بعضاً.
2- تحقيق الإشباع الصحيح، وهذا يعني حصول الإشباع بكيفية صحيحة مثل: الزواج، وشرب الماء.
3- منع الإشباع غير الصحيح مثل: منع الزنا واللواط، ومنع شرب الخمرة.
والناظر في التشريع الغربي لا يرى هذا، لأنّ التشريع الغربي الذي بني على الحريات يتناقض مع فكرة التنظيم، فالتنظيم معناه آمِن واكفر: آمن بوجود الله ولا تؤمن بتعدد الآلهة، افعل ولا تفعل: بع واشترِ ولا تتملك بالربا، ويجب أن تفعل ولا يجوز أن تفعل: يجب أن تصلي لله بكيفية معينة ولا يجوز أن تزني، ويجب أن تقول الحقّ ولا يجوز أن تكفر بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وهكذا، وهذا يتناقض مع حرية الاعتقاد والتعبير والتصرف والتملك، وبالتالي فإنّ التشريع الغربي قد أطلق الحبل على الغارب في هذا الموضوع حتى صارت فوضى الإشباع هي السمة الغالبة على المجتمع الغربي وهذا ليس تنظيماً.
وأما إشباع جميع الغرائز فإنّ حالة فوضى الإشباع الناتجة عن غياب التنظيم ووجود الحريات قد حققت الإشباع الزائد لبعض المظاهر الغريزية مع تحقيق أقلّ للإشباع لمظاهر أخرى إن لم يكن حرمانها، مما أنتج حالة طغيان مظهر غريزي على آخر وسبب الضياع للإنسان الغربي الذي يحقق إشباعاً زائداً لغريزة الجنس مثلاً، حتى وصل إلى الشذوذ، بينما يعاني من الحرمان فيما يتعلّق بغريزة التدين مما دفع ويدفع بالكثير من الناس في المجتمع الغربي إلى محاولة الإشباع من خلال الأديان والعقائد الوثنية مثل البوذية والهندوسية، وهذا يمثل انحطاطاً في المجتمع الغربي ورجعية غير مسبوقة في الفكر الإنساني. وهذا يؤكد خطأ قيام البشر بوضع تشريعات لعدم قدرتهم على ذلك؛ لأنّهم، وهم يضعون التشريعات، لا ينظمون الغرائز ولا الحاجات العضوية.
الخلاصة: إنّ عقيدة الفكر الغربي عقيدة باطلة لأنها تقوم على أساس غريزي هو ردّ الفعل ولا تقوم على الفكر، وإنّ القفز عن إعطاء الرأي حول وجود الخالق لم يكن سوى تغيير لطبيعة المشكلة الفكرية في أوروبا وليس حلاً لمشكلة اعتقاد أوروبا لدين باطل، كما أنّ تعميم رؤية أوروبا نظرتها للدين المسيحي قد حرمها من رؤية الإسلام الرؤية الواضحة والصادقة فحملت العداء له. إنّ ما تعانيه شعوب أوروبا اليوم (والعالم من خلفها) من فراغ روحي، وشعور بالضياع، وغياب للقيم، وإشباع بهيمي للغرائز والحاجات العضوية وبحثها عن عقيدة غير العقيدة المسيحية، ومشاكلهم في الاقتصاد والاجتماع... كلّ ذلك وغيره يوجب على المسلمين أن يسارعوا إلى حمل رسالتهم رسالة الإسلام إلى هذه الشعوب الضائعة، وذلك بعد أن يقيموا دولة الخلافة التي تؤهلهم لحمل هذه الرسالة العظيمة.