الفصل السادس
بولس و العهد الجديد

ذكرنا فيما مضي أن بولس كان من أهم الإنجيليين و أشهرهم على الإطلاق ، إذ كتب أربعة عشر رسالة من كتاب العهد الجديد ، و تذهب دائرة المعارف الفرنسية إلى أبعد من ذلك و تنسب إليه إنجيلي متى و مرقس و إن كان هذا ليس ذو دليل ، لأن الثابت بالأدلة أن هذه الأناجيل قد كتبت بعد وفاة بولس بأكثر من عشرين عاما ، و إن كانت قد كتبت بأفكاره على يد تلامذته لوقا و مرقس ، ثم نقل عنهم بعض الإنجيليين الأخرين كمتى ، و الذي كتب إنجيله بالعبرية أولا ثم ترجم فيما بعد إلى اليونانية ، ثم فقد الأصل العبري و عرفت النسخة اليونانية كأصل له .
تأثر الأناجيل الأربعة بتعاليم بولس :
و لكن الثابت بالدليل أن الأناجيل الأربعة ، أو أية أناجيل عرفناها قد تم تدوينها في فترة ما بعد بولس . إذ أن كتابات بولس و الكتابات المماثلة لها كرسالة بطرس و رسالة يعقوب و غيرها تخلو من الإقتباس من هذه الأناجيل و لا يوجد إشارة إليها لا من قريب و لا من بعيد و لا يذكر إلا ( إنجيل المسيح ) و هو الذي فسره القس منيس عبد النور بأنه ليس بكتاب و لكنه البشارة أو الخبر السار الذي جاء به المسيح u ، ألا و هو الخلاص و اقتراب ملكوت السماوات و الأرض .
و بغض النظر عن هذا التعريف فإننا نجد أن كتابات الإنجيليين الأربعة قد جاءت مواكبه لتعاليم بولس كلما تأخر بها تاريخ التدوين ، فعلى الرغم من أن أناجيل متى و مرقس و لوقا – و تنحصر فترة تدوينهم بين عام 60 إلى 75 م - قد اعتمدت على ذكر السيرة الذاتية للمسيح بينما جاءت فيهم إشارات الألوهية مبهمة ، نجد أن انجيل يوحنا – و قد كتب عام 95 م – يعتمد اعتمادا كليا على ذكر تلك الألوهية بل و يسقط من السيرة ما يتعارض معها كنسب المسيح و الذي ينسبه إلى البشر ، و كذا ولادته ، و تجربته من إبليس ، و موعظته الشهيرة على الجبل ( التطويبات ) لخلوها من اشارات الألوهية و مباركته u للأطفال و جلوسه معهم و صلاته الأخيرة في البستان لله أن يزيح عنه الكأس فهي أكبر دليل ينافي الألوهية . في حين أنه انفرد عن سائر الأناجيل بذكر بعض الأحداث كذكره أن المسيح u هو الطريق و الحق و الحياة ، و الوعد بالروح القدس ، و اعادته بطرس لمكانته الإولى .
و الخلاصة أن انجيل يوحنا قد كتب في إفسس بدعوى من قساوسة كنيسة انطاكية لإثبات ألوهية المسيح طبقا لتعاليم بولس بعد أن انتشرت هناك تعاليم تضاد تعالم الألوهية التي نادى بها بولس و تلاميذه ، و لم يكن ما ورد برسائله كافيا لإثبات تلك التعاليم .
مبلغ الوحي من رسائل بولس :
يجمع أغلب النصارى أن كل أسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم و الجديد و بما في ذلك رسائل بولس قد كتبت بإلهام من الروح القدس ، و يختلف البعض في كيفية الوحي فمنهم من يذكر أن الروح القدس يلهمهم المعنى ثم يكتب الكاتب بأسلوبه الشخصي ، و منهم من يقول أنها وحيا مباشرا .
و عند دراسة مبلغ الوحي من أي كتاب سماوي نجد أن هناك عدة شروط يجب أن تتوافر فيه لأجل أن يكون حجه تؤخذ كشريعة لله تعالى و تجتنب نواهيه ، ألا و هي :-
أن يكون رجل الله الذي كتب هذا الكتاب مثال للصدق و الأمانة سواءا في الأقوال أو في الأفعال حتى يحتذى به كقدوة ، و هذا ما لا نراه في بولس : إذ أننا رأينا لجوئة للكذب أحيانا للخروج من المآزق كما فعل أمام الرومان لينجد نفسه من عقوبة الجلد ، كذلك تبريره التلون على كل لون و أيضا مراءاة الحكام الرومان كما سبق و أوردنا من قبل أمثلة عديدة عن ذلك .
ألا يكون الكتاب متناقضا مضطربا يهدم بعضه بعضا ، بل يكون كل جزء منه مكملا للأخر ؛ لأنه إن كان عن الله U لما وجدنا فيه اختلافا و لا يفترق و لا يتضاد ، حتى أن العقلاء و المفكرين يجتهدون ألا يتناقض كلامهم ليكون مثابة للناس . و هذا أيضا ما لا نراه في رسائل بولس : فلعل القاريء الكريم يذكر تضارب أقواله حول ألوهية المسيح و وحدانية و ربوبية الله U و أن المسيح u ما هو إلا بشرا رسولا .
أن ينص صاحب هذا الكتاب صراحةً بالقول بأن هذا الكتاب من عند الله و يؤيد قوله بالأيات البينات ، و أن يثبت ذلك الإدعاء بالخبر المتواتر بين الناس . و هذا أيضا لا نراه في رسائل بولس : فقد رأينا أن أغلب ما كتب في هذه الرسائل قد نص بولس صراحةً أنها رأيه الخاص التي أتى به من عندياته لا من المسيح و لا من الله ، بل و كانت أغلب تعاليمه مثار شك و ريبة بين التلاميذ وصل إلى حد الإفتراق مع رفيق شركته برنابا لتعارض الأراء .
أن يثبت نسبها إلى من كتبها بالطريق القطعي و تتواتر عنه جيلا بعد جيل من غير مظنه للإنتحال و هذا أيضا ما لا نراه على رسائل بولس : فعلى سبيل المثال الرسالة إلى العبرانيين ينسبها بعض الباحثين إلى بولس و البعض الأخر إلى بطرس و منهم من يقبلها مجهولة النسب بدليل كتابنها دون نسب في الكتاب المقدس !.. و نتساءل كيف يعتقد النصارى في وحي كلام لا يعرف كاتبه ؟.. أو بمعنى أخر : كيف كانت معلومية وحي هذا الكلام إذا كان مؤلفه مجهول ؟!!..
و إضافة إلى ما سبق فإننا نرى في رسائل بولس العديد و العديد من العبارات التي لا يمكن أن تكون وحيا من الله U بأي حال من الأحوال ؛ كالملاحظات الشخصية له كما نقرأ في رسالته الثانية إلى تيموثاوس : ( 9بَادِرْ أَنْ تَجِيءَ إِلَيَّ سَرِيعاً، 10لأَنَّ دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ وَذَهَبَ إِلَى تَسَالُونِيكِي، وَكِرِيسْكِيسَ إِلَى غَلاَطِيَّةَ، وَتِيطُسَ إِلَى دَلْمَاطِيَّةَ. 11لُوقَا وَحْدَهُ مَعِي. خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ. 12أَمَّا تِيخِيكُسُ فَقَدْ أَرْسَلْتُهُ إِلَى أَفَسُسَ ) .
أو الطلبات الشخصية : ( 13اَلرِّدَاءَ الَّذِي تَرَكْتُهُ فِي تَرُواسَ عِنْدَ كَارْبُسَ أَحْضِرْهُ مَتَى جِئْتَ، وَالْكُتُبَ أَيْضاً وَلاَ سِيَّمَا الرُّقُوقَ ) .
أو المشاعر الشخصية : ( 14إِسْكَنْدَرُ النَّحَّاسُ أَظْهَرَ لِي شُرُوراً كَثِيرَةً. لِيُجَازِهِ الرَّبُّ حَسَبَ أَعْمَالِهِ. 15فَاحْتَفِظْ مِنْهُ أَنْتَ أَيْضاً لأَنَّهُ قَاوَمَ أَقْوَالَنَا جِدّاً. 16فِي احْتِجَاجِي الأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، بَلِ الْجَمِيعُ تَرَكُونِي. لاَ يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ ) .
أو التحيات الشخصية : ( 19سَلِّمْ عَلَى فِرِسْكَا وَأَكِيلاَ وَبَيْتِ أُنِيسِيفُورُسَ. 20أَرَاسْتُسُ بَقِيَ فِي كُورِنْثُوسَ. وَأَمَّا تُرُوفِيمُسُ فَتَرَكْتُهُ فِي مِيلِيتُسَ مَرِيضاً. 21بَادِرْ أَنْ تَجِيءَ قَبْلَ الشِّتَاءِ. يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَفْبُولُسُ وَبُودِيسُ وَلِينُسُ وَكَلاَفَِدِيَّةُ وَالإِخْوَةُ جَمِيعاً ) .
فكل ما سبق – على سبيل المثال – لو ورد في رسائل شخصية فهو أمر معهود ، و إلا فما هو الداعي أو القصد من وروده في كتابات للوعظ و الإرشاد ، أو كيف نستدل منه على أنه وحي من الله U ؟!...
و نكرر قولا سابقا لحبيب سعيد في كتابه ( سيرة رسول الجهاد ) عن بولس أنه : ( لم يدر بخلده عند كتابتها - أو على الأصح عند إملائها - أنه يسطر ألفاظاً ستبقى ذخراً ثميناً تعتز به الأجيال القادمة ) أ. هـ. ، و يا للعجب !.. بولس لا يعلم بقدسية كلماته ، في حين يقول النصارى أن رسائله بإلهام من الروح القدس و من ثم فهي مقدسة ..
* * *