التعريف بالطاعنين في القرن الرابع عشر الهجري
الطاعنون في كتاب الله هم المشككون فيه ، الذين يوردون عليه الشبه والإشكالات والاضطرابات ، يريدن بهذا إسقاط قدسية القرآن من قلوب المسلمين ؛ لأن القرآن هو قطب رحى المسلمين الذي عليه يدورون ، وهو العروة الوثقى التي بها يتمسكون ، وهو المورد العذب الذي إليه يردون ومنه يصدرون . وهو أساس الإسلام وركن الشريعة الركين ، الذي إذا سقط سقط كل البناء ، وتهدم الصرح ، وقوض الإسلام ، ولم تبق للمسلمين باقية ولا قوة .
وقد كثر الطاعنون في كل قرن ، ولكن هذا القرن تميز بنوعين من الطاعنين ، وهم :
الصنف الأول : المستشرقون .
الصنف الثاني : العلمانيون ، أو تلاميذ المستشرقين ، أو العقلانيون ... وفيما يلى نبذة مختصرة عن كل منهما :
أولا : المستشرقون :
الاستشراق(Orientalism) : تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق ، ويطلق على كل ما يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم ، ويقصد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق ، والتي تشمل حضارته ، وآدابه ، ولغاته ، وثقافته(44) .
واستُغل في أكثر مراحله لخدمة الاستعمار ، وتشويه تعاليم الدين .
ونشأ هذا الفكر لما عجز النصارى عن مواجهة المسلمين بالسيف ، فرأوا أن أفضل طريقة لمحاربة المسلمين هو الغزو الفكري .
ولهم طرق كثيرة للوصول إلى أهدافهم منها : تأليف الكتب ، وإصدار المجلات ، وإلقاء المحاضرات في المنتديات عن الإسلام ، والقرآن ، والسنة ، وتاريخ المسلمين ، وإنشاء الجمعيات والمراكز التي تخدم أغراضهم ، وعقد المؤتمرات السرية والعلنية ، وإنشاء موسوعة دائرة المعارف الإسلامية وغيرها ، وإرسال البعثات ، وإنشاء جامعات وكليات غربية في بلاد الشرق ، وغير ذلك من الوسائل ، ولها آثار أكثرها سلبي وبعضها إيجابي .
فمن الآثار السلبية :
1 - الطعن في القرآن والسنة ، وهما مصدر التشريع في الدين .
2 - محاولة إحياء الفرق المنحرفة الميتة ، أو أفكار بعض المنحرفين كالحلاج وغيره .
3 - صد الناس عن الإسلام بتشويه تعاليمه كما فعلت الموسوعة البريطانية .
4 - إخراج جيل من أبناء المسلمين منسلخ عن دينه بل محارب له .
5 - التشكيك في الثوابت ؛ كالجهاد ، والحجاب ، والميراث ، والعقوبات الشرعية ؛ كرجم الزاني ، وقطع يد السارق ، وقتل المرتد ، وغير ذلك من الثوابت .
6 - إخراج المرأة من جلبابها بتصوير الحجاب بأنه خرقة لا قيمة لها ، ومحاولة مساواة المرأة للرجل في كل شيء ، حتى في جواز تعدد الأزواج .
وأما الآثار الإيجابية فمنها :
1 -شهادة المنصفين منهم لصدق الإسلام وإعجاز القرآن ، حتى دفع الكثير منهم لإعلان إسلامه .
2 - إخراج بعض الكنوز الإسلامية التي كانت مخطوطة بتحقيقها وطبعها .
3 - عمل المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي .
ودوافع الاستشراق كثيرة ترجع إلى ثلاثة دوافع : استعماري ، وديني ، وعلمي(45).

ثانيا : العلمانيون : ونقصد بهم تلاميذ أولئك المستشرقين ؛ الذين رضعوا منهم أفكارهم ، وطعونهم في كتاب الله ، ومع هذا يدّعون الإسلام ، ويتكلمون باسمه ، ويزعمون أنهم بهذا ما يريدون إلا الإصلاح (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ( [البقرة :11، 12]. وينسبون أنفسهم للعلم ، فيقولون : نحن علمانيون . تلبيسا على عامة الناس .
وخطر هؤلاء أشد(46) ؛ لأنهم باسم الإسلام يطعنون في الإسلام ، وبزعم الدفاع عنه يحاربونه ، وأسماؤهم كأسمائنا ، وهم أبناء جلدتنا ، فتلبيسهم على عامة الناس ، بل على بعض الخاصة شديد ، لذلك كان الرد على هؤلاء ، وكشف أباطيلهم وتلبيساتهم من أعظم الواجبات ، وآكد الفرائض ، حتى تحذر الأمة منهم ، وتسلم من شرهم ؛ ففي الصحيحين عن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قال : كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ( عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي ، فَقُلْتُ :يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ قَالَ : « نعَمْ . » قُلْتُ : وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ ؟ قَالَ :« نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ . » قُلْتُ : وَمَا دَخَنُهُ ؟ قَالَ : « قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي ، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ » . قُلْتُ : فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ قَالَ : « نَعَمْ ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا » . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا . فَقَالَ : « هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا » . قُلْتُ : فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ ؟ قَالَ : « تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ » ، قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ . قَالَ :« فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا ، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ »(47).
وهناك نوع ثالث ولكن لا نستطيع أن نعدهم من الطاعنين ، وإن كانوا قد عملوا أعمالا-سواء عن قصد أو عن غير قصد- فتحت الباب للطاعنين في القرآن (48) ؛ من تأويل غير مقبول في تفسير القرآن ، أو جواب عن إشكال فيه تنازل وتسليم مبطن به ، أو تحريف معاني كثير من الثوابت إلى معانٍ تساير العصر –بزعمهم- أو إلغائها بالكلية ، أو تكلف الاستدلال بآية على ما لا تدل عليه من قريب أو بعيد (49).
وهم بعض من ينتسب للمدرسة العقلية الحديثة التي تقدم العقل على النقل كالمعتزلة القديمة ؛ يقول أستاذنا الدكتور محمد بلتاجي في مقدمة " كتابه مدخل إلى علم التفسير " : وأنه يتضمن عدة ( مباحث في عرض وتقويم بعض الدراسات المعاصرة التي تتناول النص القرآني من منطلقات ومناهج باطلة تحاول أن ترتدي ثوب التجديد والتنوير ، وإنما هي – في حقيقتها وجوهرها وأهدافها-نفس المزاعم التي طُعن بها في القرآن الكريم منذ أوحى الله تعالى به )(50).
وقال حفظه الله : وقد ظهر في عصرنا الحاضر أفراد استخدموا بعض مصطلحات المعتزلة ومقولاتهم ، وتمسحوا بهم لكنهم أمعنوا السير في الطريق ، ولم يقفوا عند الحد الذي توقف عنده قدماء المعتزلة ، بل تجاوزوه تجاوزا خطيرا ، زعموا فيه أن الفهم الحرفي للعرش والكرسي والملائكة والجن والقلم واللوح والسحر وغيرها ، يقدم تصورات ذات طابع أسطوري –تجاوزه التاريخ- نبع من الواقع الثقافي للجماعة في عصر نزول هذه الآيات المتضمنة لهذه النصوص ، كما زعموا أن كثيرا من الأحكام القرآنية أصبحت تاريخية ، حيث تجاوزتها أوضاع العصر وثقافته ، وظروفه ولم تعد صالحة للتطبيق فيه ، وتمسحوا في ذلك ببعض اجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه(51).