الطعن في قصة سليمان عليه السلام مع بلقيس والهدهد:
قال الإمام الرازي: ( أن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجود :
أحدها : أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء ، وذلك يجر إلي السفسطة ، فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس وبالنحو من سيبويه ، وكذلك القول في القملة والصئبان ، ويجوز أن يكون فيهم الأنبياء والتكاليف والمعجزات .
ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب .
وثانيها : أن سليمان عليه السلام كان بالشام ، فكيف طار الهدد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ، ثم رجع إليه .
وثالثها : كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك المملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان ، وأنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية ، وكان تحت راية بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام ؟.
ورابعها : من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالي ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافة إلي الشيطان وتزينه ؟) (815).
-الجواب:
قال الرازي في الجواب على ذلك:
(والجواب على الأول : أن ذلك الاحتمال قائم في أول العقل ، وإنما يدفع ذلك بالإجماع .

وعن البواقي : أن الإيمان بافتقار العالم إلي المختار يزيل هذه الشكوك)(816).
(هذا ما رد به الرازي على هذه الطعون ، وهو رد مجمل قاصر يكاد يسلم – بعد هذه الطعون الفصلة – بالعجز على الرد المفصل القوي ، مما يذكرنا بما قيل عن الرازي أنه – مع علمه وفضله – كان يذكر الطعون مفصلة ولا يورد معها – أحيانا – ما يكافئها من الجواب ، مما فتح مجالا أمام متبعي الشبهات للاستدلال على طعونهم بما أورده الرازي ولم يفلح – مع كبير علمه – في الرد المقنع عليه .
والحقيقة أن هذه الطعون – التي عرض لها خلف الله في سياق نظريته السابقة – لا تقوم في مجموعها أو تفصيلاتها كمستند للطعن في شيء من القرآن الكريم ، وسيكون ردنا عليها نقضاً لكل من يستدل بها وذلك على النحو التالي :
(أ) فيما يتصل بكلام الهدهد والنملة – فقد أصبح من المقطوع به الآن عند العلماء الذين يدرسون سلوك أنواع الطير والحيوان والحشرات ، أن لكل منها لغة تقوم مقام اللغة المعهودة عند البشر ، في التعبير ونقل الأحاسيس والمعارف ، على نحو ما ماتزال تفاصيله مجهولة من البشر ، لكن المقطوع به من شواهد كثيرة جداً أن لكل منها نوعاً من اللغة يتم به الأتصال بين أفراده ، وقد سجل بعض العلماء تسجيلات صوتية لأنواع من الطيور في حالة الفزع نقلت إليهم – في غاية من الوضوح – هذه المشاعر والمعاني (817) .
فلم يعد يشك الآن في أن كل نوع من الأحياء له لغة خاصة بأفراده ، وهذا أمر واضح لكل من يراقب سلوك الطيور والحشرات ،بل إن بعض العلماء يذهبون إلى أن أنواع النبات هي الأخرى تملك لغة واتصالاً فيما بينها ، على نحو ما – مما لا يتسع المجال لتقرير القول فيه ، ولا يتطلبه.
فما العجب بعد هذا من أن تتكلم النملة ، ويتكلم الهدهد ، بكلام يفهمه سليمان عليه السلام لأنه – كما ورد في القرآن الكريم – علم منطق الطير وأوتي من كل شيء (النمل 16) (818) ؟ أما أنهم تكلموا بكلام يدل على شيء من العقل فإن من يراقب سلوك الطير والحشرات فسوف يدرك بغاية من الوضوح أن سلوكهم يجرى على نظم من الوعى والتدبير والعمل من أجل غايات تهديهم إليها غرائزهم وفطرهم ، وعلى المعاند في هذا أن يقراء شيء عن سلوك الحشرات والطيور في كتب العلم التجريبي ، وسوف يذهله ما يقرأ ، وعليه أن يراقب العمل والنطام في (مملكة النحل) أو في (عالم النمل وقراه التي ينشئها ) .. وليس ذلك كله إلا مصدقاً لقوله تعالي ( ربنا الذي أعطي كل شيء خلقه ثم هدى ( [طه : 50] وقوله : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ( [ الأنعام : 38 ] ، وهو الذي تدل عليه بحق كافة مشاهدات العلماء المحققين . والمتشكك في ذلك إنما هو المستحق لسخرية الساخرين ! فما العجب إذن في أن تتكلم نملة ويتكلم هدهد ؟ وما العجب في أن يفهم عنهما من عرف لغة كل منهما ؟
ولا يجر ذلك – كما زعم الملاحدة الطاعنون – إلي شيء من السفسطة التي ذكروها ، فلم يقل القرآن الكريم بشيء من ذلك ، إنما قال بما تدل عليه ملاحظة هذه الأنواع ، وهو أن لها منطقاً ، أما علم الهندسة ، والنحو ، والتكاليف ، والمعجزات؛ فإنما هو من قول الملاحدة الذي يرد عليهم ، لأننا لا نحمل القرآن الكريم إلا ما نطق به لا ما قام في أوهام الملاحدة.
(ب) فيما يتصل بطيران الهدهد من الشام إلي اليمن ، ثم الرجوع إلى الشام ، فالذي ورد في القرآن الكريم عنه قوله تعالى :( فمكث غير بعيد .. ( [ النمل : 22 ] ، وليس في القرآن الكريم تحديد أن الهدهد مكث " لحظة " كما يقول هؤلاء ، ولا يفهم من " غير بعيد " في سياقها إلا مدة تكفي للطيران ، وقد قرئت على صفحاء العرب من المشركين في عصر الرسالة – وهم أعلم باللغة ، وكانوا يعرفون اليمن والشام – فما أثاروا – فيما علمنا – هذا الاعتراض ، فعلم منه أن التعبير القرآني يخلوا عن دواعي اعتراض هؤلاء الملاحدة .
(ج) أنا كيف خفي على سليمان حال مملكة سبأ – فإن القرآن الكريم لم يصفه بأنه كان يعرف الغيب ، وقد كان هذا غيبا بالنسبة إليه ، وليس فيما وصف القرآن الكريم به سليمان عليه السلام إلا تسخير الرياح والشياطين وتعليم منطق الطير وإيتاء الملك الذي لا ينبغي لأحد بعده ، لكن ليس فيه شيء من وصفه بعلم غير ما علمه الله له ، فما العجب في أن تكون في الأرض أشياء وممالك كان سليمان – مع عظمة ما أعطاه الله له – يجهلها ؟ إن القرآن الكريم لا يذكر شيئا عن أن سليمان - عليه السلام – كان ملك الدنيا كلها بأكملها – كما يزعم هؤلاء الطاعنون – ولعل مستندهم في هذا إنما هو بعض المبالغات الإسرائيلية التي لم يرد لها ذكر في الوحي القرآني .
أما إذا كان واحد منهم قد فهم ذلك من قوله تعالى :( وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ( [النمل : 16] ، فهو لا يعرف شيئاً عن أساليب البيان العربية ، لأن (من) هنا للتبعيض ، وليس المعني أن كل الأنس – دون استثناء – كانوا تحت ملكه .
ولعل الذي جر الطاعنين إلي طعنهم ما ذكروه هم من أنه كان تحت راية ملكة سبأ اثنا عشر الف ملك تحت راية كل منهم مائة ألف !
وليس في نصوص القرآن الكريم شيء من هذا مطلقاً ، والعدد الذي ذكروه يجاوز بكثير جداً ما يمكن أن يكون موجوداً عندئذ من عدد السكان ، وهو يذكرنا بما نقده ابن خلدون من مبالغات المؤرخين القدماء ، وما حذر منه ( فيكو) من غرور الأمم حين تكتب تارخها – فكيف تحمل هذه المبالغات على نصوص القرآن الكريم التي لم تعرض لها إطلاقاً ؟
فلا عجب إذن أن يجهل سليمان - عليه السلام – أمر ملكة سباً مع كل ما أعطاه الله له ، لأنه لم يعطه علم كل ما في الأرض ، ولم تكن هناك اتصالات منتظمة بين المالك بحيث تعرف كل منها الأخرى ، وتتصل بها على النحو الذي نعهده في عصرنا والذي حدث بعد ذلك بحكم التطور العمراني ، ولم تكن الجن التي سخرت لسليمان – عليه السلام – أيضاً تعرف الغيب كما ورد في قوله تعالي : ( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ( [سبأ : 14] .
(د) أما من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلي الشيطان وتزيينه؟ فإنما كان الهدهد من جند سليمان عليه السلام ، والآيات تتكلم عن أمر ( غيبي ) لا يقاس على معرفة البشر الآن بأحوال الطير ، وما المانع من أن تكون فطرة كافة المخلوقات عارفة بوجوب السجود لله تعالى وحده ، وقد جاء في القرآن الكريم شاهداً بذلك قوله تعالى : ( اولم يروا إلي ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ( [ النحل : 48-49] وقوله : ( والنجم والشجر يسجدان ( [الرحمن : 6] وقوله : ( الم تر ان الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ( [النور : 41] وقوله ( تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهم وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً ( [الإسراء : 44] ... فما العجب بعد هذا كله أن بكون الهدهد من جند سليمان – عليه السلام – عارفاً لوجوب السجود لله تعالى وحده منكراً السجود لغيره ؟
إن القضية – فيما نري قضية إخبار عن الغيب لا تصل معرفة البشر التجريبية أو العقلية إلى شيء يستند إليه إنكار هذا الإخبار الذي يجاوز حدود هذه المعرفة ، فالمؤمنون بالغيب وبصدق الوحي القرآني يؤمنون به ، والمكذبون ينكرون بكل ما لا يقع منهم تحت حس مباشر أو تجربة مادية ، لكنهم في مثل هذه القضايا الغيبية لا مستند لهم في إنكارهم إلا محض الشك والتكذيب وقياس الغائب على الشاهد وتحكيم عقولهم القاصرة فيما هو من علم الغيب ،... ولسنا نملك لهؤلاء وسيلة تحملهم على الإيمان بالغيب وعدم قياس الأمور فيه على علم الشهادة البشرية . ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا اولئك الذين لم يرد الله ان يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الأخرة عذاب عظيم ( [المائدة : 41] .
.... وبهذا يتبين لنا أنه ليس فيما ورد من قصة سليمان في سورة النمل ما يطعن في صحة شيء مما ورد في القرآن الكريم)(819).
وقد ذكر خلف الله طعونا أخرى لكنها لا تدخل في موضوع (دعوى معارضة القرآن للحقائق التاريخية) ، لذلك لم أذكرها ،وإن كان من رد على خلف الله ذكرها ؛ لأني لا أرد على كتاب خلف الله، بل أرد على من زعم هذه الدعوى، وأغلب إشكالاته من باب تعارض الآيات بعضها مع بعض , وقد أجبنا على أكثرها في المطلب السابق.