‏(37)‏ وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين




هذه الآية الكريمة جاءت في الخمس الأول من سورة فصلت‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها أربع وخمسون‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لوصفها القرآن الكريم في مطلعها بأنه كتاب فصلت آياته أي ميزت لفظا ومعني‏,‏ لتناولها كلام الله وهدايته إلي الثقلين بأسلوب معجز في بيانه‏,‏ ونظمه‏,‏ وبلاغته‏,‏ ومحتواه لتناوله قضايا الدين بركائزه الأربع الأساسية‏:‏ العقيدة‏,‏ والعبادة‏,‏ والأخلاق‏,‏ والمعاملات‏..‏ وهي إما من صميم الغيب المطلق الذي لا سبيل للإنسان في الوصول إليه إلا ببيان من الله تعالي‏,‏ بيانا ربانيا خالصا لا يداخله أدني قدر من التصورات البشرية كقضايا العقيدة‏,‏ أو هي أوامر ربانية خالصة كقضايا العبادة‏,‏ والله تعالي يحب أن يعبد بما أمر‏,‏ أو هي ضوابط للسلوك والمعاملات‏,‏ والإنسان كان عاجزا دوما عن أن يضع لنفسه بنفسه ضوابط لسلوكه وتشريعات لمعاملاته‏,‏ ومن هنا كان تميز القرآن الكريم‏.‏
وتبدأ سورة فصلت بالحرفين المقطعين حم ولذا تسمي أحيانا باسم حم السجدة لأن بها سجدة تلاوة واحدة‏;‏ والحروف المقطعة التي افتتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم‏,‏ والتي تضم نصف أسماء حروف الهجاء الثمانية والعشرين‏,‏ تعتبر سرا من أسرار القرآن الكريم التي لا يعلمها إلا الله‏(‏ تعالي‏).‏

وبعد هذا الاستفتاح تحدثت السورة عن الوحي بالقرآن الكريم ووصفته بأنه تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا‏....‏
وتؤكد السورة الكريمة هذه الحقيقة في مقام آخر منها يقول فيه الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته‏...‏ وتشير سورة فصلت إلي كتاب الله في عدد من آياتها‏,‏ مؤكدة أنه كلام الله الخالق‏,‏ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏,‏ وتشير إلي كتاب موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ واختلاف قومه فيه‏,‏ وتلفت النظر إلي أن القرآن الكريم هو للذين آمنوا هدي وشفاء‏,‏ وهو في آذان الذين لا يؤمنون به وقر وهو عليهم عمي‏...!!!‏

وتتحدث السورة عن مواقف المعرضين عن كتاب الله‏,‏ وعن انغلاق قلوبهم دون هدايته‏,‏ ورفض أسماعهم للحق الذي جاء به‏,‏ وعجز طبائعهم عن موافقة دعوته إلي توحيد الله الخالق‏,‏ والاستقامة علي أوامره‏,‏ واجتناب نواهيه‏,‏ والانصياع لتحذيره المتكرر من أخطار الوقوع في الكفر بالله‏(‏ تعالي‏),‏ أو الشرك به‏,‏ أو منع شرائعه‏,‏ وقارنت السورة الكريمة بين الموقف الجاحد لهؤلاء الكفار والمشركين وما سوف ينالهم يوم القيامة من الويل والثبور‏,‏ وبين موقف المؤمنين الذين سوف يعطيهم ربهم أجرا غير ممنون‏.‏
وفي محاجة ملجمة للكافرين استشهدت سورة فصلت علي وجود الله‏(‏ تعالي‏),‏ وعلي ألوهيته‏,‏ وربوبيته‏,‏ ووحدانيته‏,‏ وعلي طلاقة قدرته بخلق الأرض في يومين‏(‏ أي علي مرحلتين‏);‏ وبخلق الجبال‏,‏ ومباركة الأرض‏,‏ وتقدير أقواتها فيها في أربعة أيام‏(‏ أي أربع مراحل‏)‏ من أجل تهيئتها للعمران‏,‏ والمرحلتان الأوليان داخلتان في المراحل الأربع التالية‏;‏ ثم في مرحلتين تاليتين أتم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بناء الكون‏,‏ وجعل السماوات سبعا‏,‏ وزين السماء الدنيا منها بالنجوم وحفظها بها‏.‏

وبعد استعراض هذه الآيات الكونية المبهرة تنذر السورة جميع المعرضين عن دين الله‏,‏ والكافرين به بعقاب من مثل عقاب أقوام عاد وثمود‏,‏ وعقاب أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس‏,‏ وفصلت السورة شيئا مما حدث لكل منهم‏,‏ وكيف نجي الله المتقين من بينهم‏.‏
واستشهدت السورة الكريمة ببعض مشاهد العذاب في الآخرة‏,‏ ومن أخطرها أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف ينطق سمع‏,‏ وأبصار‏,‏ وجلود أعدائه ليشهدوا عليهم بما كانوا يعملون‏,‏ وتشير السورة إلي ما سوف يدور من حوار بين هؤلاء الخاطئين وجوارحهم التي تشهد علي جرائمهم‏...!!!‏

وتحذر السورة الكريمة الكافرين من الجحود بآيات الله‏,‏ والانصراف عن الاستماع إلي القرآن الكريم‏,‏ ومحاولة اللغو فيه إذا قرئ عليهم‏,‏ وتهددهم بعذاب شديد‏,‏ يوقفهم موقف الندم والاعتذار‏,‏ ساعة لا ينفع الندم ولا يجدي الاعتذار‏...!!!‏
وتتحدث سورة فصلت عن شيء من مبشرات المؤمنين الذين آمنوا بالله ربا‏,‏ وبالإسلام دينا‏,‏ وبسيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ نبيا ورسولا‏,‏ واستقاموا علي منهج الله بتنزل الملائكة عليهم في الدنيا وفي الآخرة‏,‏ وفي لحظات الموت وسكراته‏,‏ وحشرجة الصدر وضيقه‏,‏ مطمئنة إياهم برضا الله عنهم وغفرانه لهم‏,‏ ورحمته بهم‏,‏ وبالنعيم الذي ينتظرهم‏...!!!‏

وتقارن السورة بين حسن حال المؤمنين في الدنيا والآخرة‏,‏ وسوء حال الكافرين والمشركين في الدارين‏,‏ وتتحدث عن شيء من أخلاق الدعاة إلي الله‏,‏ وأساليبهم في الدعوة إليه‏,‏ وتمايز بين الخير والشر‏,‏ وبين الحسنة والسيئة‏.‏
وتثبت الآيات رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بحقيقة أن ما يقال له من الكافرين والمشركين قد قيل للرسل من قبله‏;‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ صاحب المغفرة هو في الوقت نفسه ذو عقاب أليم‏...!!!‏
وتؤكد السورة أن من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها‏...‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ ليس بظلام للعبيد‏,‏ فهو أحكم الحاكمين‏,‏ وأعدل العادلين‏,‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ يرد إليه علم الساعة‏,‏ وعلم كل شيء‏...!!!‏
وتنتهي السورة إلي الحديث عن شيء من طبائع النفس الإنسانية وتختتم بهذا الوعد الإلهي القاطع بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف يكشف للإنسان‏(‏ في مستقبل بعد زمن الوحي‏)‏ من الحقائق العلمية في آفاق الكون وفي دخائل النفس الإنسانية وفي داخل الجسد البشري ما يؤكد صدق كل ما جاء في كتاب الله من الإشارات إلي الكون ومكوناته وظواهره‏,‏ ـ وإلي كل ما يتعلق بالإنسان ومراحل خلقه‏,‏ وبناء جسده‏,‏ وحديث نفسه‏,‏ وإذا ثبت سبق القرآن بالإشارة إلي تلك الحقائق من قبل أن تصل إلي علم الإنسان بعدد متطاول من القرون‏,‏ وثبت صدق القرآن الكريم في الإشارة إليها بقدر من الدقة والشمول والإحاطة التي لم يصل إليها علم الإنسان بعد في زمن التقدم العلمي والتقني المذهل الذي نعيشه‏...‏ إذا ثبت كل ذلك أصبحت تلك الإشارات الكونية والإنسانية في كتاب الله من أعظم الآيات الدالة علي أنه الحق‏,‏ والدالة علي صدق حديثه عن الغيب‏,‏ وعن الدين بركائزه الأساسية‏,‏ وصدق إخباره عن الأمم السابقة‏,‏ وعن البعث والحساب والميزان والصراط والجنة والنار‏,‏ وكان الشك في إمكان البعث هو أحد الحجج الرئيسية لكفر الكافرين‏,‏ وإعراضهم عن الإيمان بدين الله القويم‏,‏ ولذلك تختتم السورة بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه علي كل شيء شهيد‏*‏ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط‏.(‏ فصلت‏:54,53).‏
ومن الآيات الكونية التي استشهدت بها السورة الكريمة علي طلاقة القدرة الإلهية‏:‏ خلق الأرض في يومين‏(‏ أي علي مرحلتين‏),‏ وخلق الجبال‏,‏ ومباركة الأرض بتهيئتها للعمران‏,‏ وتقدير أقواتها فيها في أربعة أيام‏(‏ أي أربع مراحل‏);‏ وإتمام بناء الكون‏,‏ وجعل السماوات سبعا‏,‏ والأرضين سبعا‏,‏ وتزيين السماء الدنيا بالنجوم‏,‏ وجعلها حفظا لها‏,‏ وتبادل كل من الليل والنهار‏,‏ وحركة كل من الشمس والقمر‏,‏ واهتزاز الأرض وربوها‏(‏ أي انتفاخها وارتفاعها إلي أعلي‏)‏ عند إنزال الماء عليها‏,‏ ودلالة ذلك الإحياء للأرض علي إمكان البعث وإحياء الموتي‏.‏ وكل واحدة من هذه القضايا لا يكفيها مقال منفصل‏,‏ ولذا فإنني سوف أقتصر هنا علي قضية واحدة منها ألا وهي قضية تقدير الأقوات في الأرض علي أربع مراحل متتالة‏,‏ وقبل الدخول في هذا الموضوع لابد من التعرض للدلالة اللغوية لألفاظ الآية ولأقوال المفسرين السابقين فيها‏.‏

الدلالة اللغوية لألفاظ الآية الكريمة‏:‏
‏(1)(‏ بارك‏):(‏ البركة‏)‏ هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء بنمائه وزيادته بغير أسباب مدركة‏;‏ و‏(‏المبارك‏)‏ هو ما فيه ذلك الخير الإلهي‏;‏ ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس‏,‏ وعلي وجه لا يحصي‏,‏ ولا يحصد قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة أنه‏(‏ مبارك‏),‏ وأن فيه‏(‏ بركة‏);‏ و‏(‏بارك‏)‏ الشيء أي أودع فيه الخير الإلهي‏;‏ ويقال‏:(‏ بارك‏)‏ الله لك‏,‏ وفيك‏,‏ وعليك‏,‏ و‏(‏باركك‏)‏ أي أودع خيره فيك‏;‏ و‏(‏تبارك‏)‏ الله أي اختص تعالي بكل خير‏;‏ ويقال‏:(‏ تبرك‏)‏ بالشيء أو بالفرد من البشر أي تيمن به‏.‏

‏(2)(‏ قدر‏):‏ يقال في العربية‏(‏ قدر‏)‏ أو‏(‏ قدر‏)‏ الشيء‏(‏ يقدره‏)(‏ تقديرا‏)‏ أي حدد كميته‏;‏ و‏(‏القدر‏)‏ كمية الشيء أو مبلغه‏,‏ و‏(‏مقدار‏)‏ الشيء للشيء المقدر له أو به وقتا كان أو زمنا أو كيلا هو كميته‏;‏ يقال‏:(‏ قدرته‏)‏ و‏(‏قدرته‏).‏ ويقال‏:(‏ قدره‏)‏ أي أعطاه‏(‏ القدرة‏)‏ وذلك من مثل قولك‏:(‏ قدرني‏)‏ الله علي كذا أي قواني عليه‏;‏ و‏(‏تقدير‏)‏ الله الأشياء علي وجهين‏:‏ أحدهما بإعطاء القدرة وذلك من مثل قوله‏(‏ تعالي‏):‏ فقدرنا فنعم القادرون‏(‏ المرسلات‏:23),‏ والثاني بأن يجعلها علي مقدار مخصوص‏,‏ ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة‏;‏ وذلك من مثل قوله‏(‏ تعالي‏):‏ قد جعل الله لكل شيء قدرا‏(‏ الطلاق‏:3).‏ وقوله‏:‏ إنا كل شيء خلقناه بقدر‏(‏ القمر‏:49),‏ وقوله‏:...‏ والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه‏...(‏ المزمل‏:20),‏ وقوله‏:‏ من نطفة خلقه فقدره‏(‏ عبس‏:19),‏ وقوله‏:‏ والذي قدر فهدي‏(‏ الأعلي‏:3).‏
و‏(‏التقدير‏)‏ من الإنسان علي وجهين أحدهما‏:‏ التفكير في الأمر بحسب نظر العقل وبناء الأمر عليه وذلك محمود‏;‏ والثاني أن يكون بحسب التمني والشهوة وذلك مذموم يقول فيه الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر
‏(‏المدثر‏:19,18).‏

‏(3)(‏ أقوات‏):(‏ القوت‏)‏ هو كل ما‏(‏ يقتات‏)‏ به أو ما يمسك الرمق أي ما يقوم به بدن الإنسان‏(‏ وغيره من الكائنات الحية‏)‏ من الطعام‏,‏ وجمعه‏(‏ أقوات‏);‏ وفعله‏(‏ قات‏)‏ أو‏(‏ قوت‏);‏ فيقال‏:(‏ قاته‏)(‏ يقوته‏)(‏ قوتا‏)‏ أي أطعمه قوته‏;‏ و‏(‏أقاته‏)(‏ يقيته‏)(‏ قوتا‏)‏ أي جعل له ما يقوته‏;‏ و‏(‏استقاته‏)(‏ يستقيته‏)(‏ استقاتة‏)‏ أي سأله‏(‏ القوت‏);‏ ويقال‏:(‏ قته‏)(‏ فاقتات‏);‏ وهو‏(‏ يتقوت‏)‏ بكذا أو‏(‏ يقتات‏)‏ علي كذا‏.‏
كذلك يقال‏:(‏ أقات‏)‏ علي الشيء اقتدر عليه‏;‏ و‏(‏المقيت‏)‏ هو القائم علي الشيء يحفظه ويقيته‏,‏ وقد يقصد به المقتدر والحافظ والشاهد‏,‏ و‏(‏المقيت‏)‏ من أسماء الله الحسني ومن معانيه خالق الأقوات وموزعها علي الخلائق‏.‏

‏(4)(‏ أيام‏):(‏ اليوم‏)‏ في العربية وجمعه‏(‏ أيام‏)‏ الفترة من طلوع الشمس إلي غروبها أو ما يعبر عنه بالنهار وهو فترة النور بين ليلين متتاليين‏;‏ وقد يعبر بلفظة‏(‏ اليوم‏)‏ عن فترتي النهار والليل معا وهو ما يعرف‏(‏ باليوم الكامل‏)‏ أو بيوم الأرض الشمسي ويمثل الفترة التي تتم فيها الأرض دورة كاملة حول محورها أمام الشمس‏,‏ ويعبر عنها بالفترة الزمنية بين شروقين متتاليين أو بين غروبين متتاليين للشمس ويساوي‏(‏ في زماننا‏)‏ أربعا وعشرين ساعة كاملة‏.‏
ويقال في العربية‏:(‏ من أول يوم‏)‏ أي من أول أيام تاريخ محدد وقد يعبر بلفظ‏(‏ اليوم‏)‏ عن يوم محدد في السنة أو في الشهر أو في الأسبوع‏,‏ وقد يعبر به عن الشدة التي يمر بها الفرد أو الجماعة من الناس وذلك مثل قولهم‏:(‏ يوم كيوم عاد‏)‏ أو‏(‏ يوم‏)‏ من‏(‏ أيام‏)‏ الدهر‏,‏ وقد يعبر به عن واقعة محددة في التاريخ‏(‏ كيوم الفتح‏),‏ أو أيام الآخرة‏,‏ أو أيام الله التي لا يعرف مداها إلا هو‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏ وقد يعبر‏(‏ باليوم‏)‏ عن مدة من الزمان أيا كان طولها‏,‏ أو عن فترة من الفترات أو مرحلة من المراحل بغض النظر عن الزمن الذي استغرقته‏.‏
وقد استخدمت لفظة‏(‏ يوم‏)‏ في القرآن الكريم بهذه المعاني كلها‏.‏

‏(5)‏ سواء‏.‏ أي يعدل في الحكم بين الفرقاء‏,(‏ فالسواء‏)‏ العدل‏,‏ وفعله‏(‏ سوا‏)(‏ يسوي‏)(‏ تسوية‏)‏ و‏(‏سواء‏)‏ أي عدل‏;‏ و‏(‏ساوي‏)(‏ يساوي‏)(‏ تسوية‏)‏ أي عادل وتسوية الشيء جعله سواء‏,‏ فالمساواة هي المعادلة المعتبرة في كل شيء‏;‏ ويقال‏:‏ قسم الشيء بينهما بالسوية أي بالعدل‏;‏ و‏(‏سوي‏)‏ و‏(‏سواء‏)‏ الشيء وسطه أو غيره‏,‏ وتأتي بمعني العدل‏,(‏ كما تأتي بالفتح والكسر والضم للسين‏;‏ فإذا ضممت السين أو كسرتها قصرت‏,‏ وإذا فتحتها مددت‏);‏ يقال‏:‏ مكانا‏(‏ سوي‏)‏ و‏(‏سوي‏)‏ و‏(‏سواء‏)‏ أي عدل ووسط‏;‏ و‏(‏سواك‏)‏ و‏(‏سواك‏)‏ و‏(‏سوائك‏)‏ أي غيرك‏.‏
يقال‏:‏ هما في الأمر‏(‏ سواء‏)‏ أو‏(‏ سواءان‏),‏ وهم‏(‏ سواء‏)‏ أو‏(‏ أسواء‏)‏ أو‏(‏ سواسية‏).‏

ويقال‏:(‏ استوي‏)‏ الشيء بمعني اعتدل والاسم‏(‏ السواء‏);‏ و‏(‏السي‏)‏ و‏(‏السوي‏)‏ صفة لكل ما يصان من الإفراط والتفريط من حيث القدر والكيفية وجمعه‏(‏ أسواء‏).‏
ومكان‏(‏ سوي‏)‏ و‏(‏سوي‏)‏ و‏(‏سواء‏)‏ بمعني وسط أي يستوي طرفاه‏.‏

أقوال المفسرين في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين
‏[‏ فصلت‏:10,9].‏

ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما نصه‏:‏ هذا إنكار من الله تعالي علي المشركين الذين عبدوا معه غيره‏,‏ وهو الخالق لكل شيء‏,‏ المقتدر علي كل شيء‏(‏ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا‏)..‏ أي نظراء وأمثالا تعبدونها معه‏,(‏ ذلك رب العالمين‏)‏ أي الخالق للأشياء هو رب العالمين كلهم‏,‏ وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالي‏:(‏ خلق السماوات والأرض في ستة أيام‏)‏ ففصل ههنا ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء‏,‏ فذكر أنه خلق الأرض أولا لأنها كالأساس‏,‏ والأصل أن يبدأ بالأساس‏,‏ ثم بعده بالسقف‏,‏ كما قال عز وجل‏:(‏ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوي إلي السماء فسواهن سبع سماوات‏)‏ الآية‏,‏ فأما قوله تعالي‏:(‏ أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها‏)‏ إلي قوله‏:(‏ والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها‏),‏ ففي هذه الآية أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء‏,‏ فالدحو مفسر بقوله‏:(‏ أخرج منها ماءها ومرعاها‏)‏ وكان هذا بعد خلق السماء‏,‏ فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص‏...,‏ وخلق الأرض في يومين‏,‏ ثم خلق السماء‏,‏ ثم استوي إلي السماء فسواهن في يومين آخرين‏,‏ ثم دحي الأرض‏;‏ ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعي‏,‏ وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام‏,‏ وما بينهما في يومين آخرين‏,‏ فذلك قوله تعالي‏:(‏ دحاها‏),‏ وقوله‏:(‏ خلق الأرض في يومين‏)‏ فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلق السماوات في يومين‏....‏

وذكر صاحبا تفسير الجلالين‏(‏ رحمهما الله‏)‏ ما نصه‏:(‏ قل أئنكم‏)‏ بتحقيق الهمزة الثانية‏,‏ وتسهيلها‏,‏ وإدخال ألف بينهما ـبوجهيهاـ وبين الأولي‏,‏ وتركه‏(‏ لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏)..(‏ وتجعلون له أندادا‏)‏ شركاء‏(‏ ذلك رب‏)‏ مالك‏(‏ العالمين‏)‏ جمع عالم وهو ما سوي الله‏,‏ وجمع لاختلاف أنواعه بالياء والنون وتغليبا للعقلاء‏.‏
‏(‏وجعل‏)‏ مستأنف ولايجوز عطفه علي صلة‏(‏ الذي‏)‏ للفاصل الأجنبي‏(‏ فيها رواسي‏)‏ جبالا ثوابت تثبتها‏(‏ من فوقها وبارك فيها‏)‏ بكثرةالمياه والزروع والضروع‏(‏ وقدر‏)‏ قسم‏(‏ فيها أقواتها‏)‏

للناس والبهائم‏(‏ في‏)‏ تمام‏(‏ أربعة أيام‏)‏ أي الجعل وما ذكر معه‏..(‏ سواء‏)‏ منصوب علي المصدر أي استوت الأيام الأربعة استواء لاتزيد ولاتنقص‏(‏ للسائلين‏)‏ عن خلق الأرض بما فيها‏..‏

وجاء في التعليق بالهامش مايلي‏:‏
قوله تعالي‏:(‏ في يومين‏),‏ ثم قوله بعد ذلك‏:(‏ في أربعة أيام‏,‏ ثم قوله‏:(‏ فقضاهن سبع سماوات في يومين‏),‏ هذا تفصيل لمثل قوله تعالي في سورة ق‏(‏ ولقد خلقنا السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام ومامسنا من لغوب‏)‏ أي‏:‏ تعب وإعياء‏,‏ فتم خلق الأرض وتقدير أقواتها في مقدار أربعة أيام‏,‏ وتم خلق السماوات في مقدار يومين‏,‏ كل ذلك بلا ترتيب زمني‏,‏ لأن‏(‏ ثم‏)‏ في مثل قوله تعالي‏:(‏ ثم استوي إلي السماء وهي دخان‏)‏ لاتفيد في حق الله تعالي ترتيبا زمنيا‏,‏ لأنه تعالي لايجري عليه زمان‏,‏ فكان خلق السماوات والأرض وما بينهما في مقدار ستة أيام من غير تحديد ولاتعيين علي الصحيح‏....‏
وذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ مانصه‏:...‏ إنه يذكر حقيقة خلق الأرض في يومين‏,‏ ثم يعقب عليها قبل عرض بقية قصة الأرض‏,‏ يعقب علي الحلقة الأولي من قصة الأرض‏,(‏ ذلك رب العالمين‏)..‏ وأنتم تكفرون به وتجعلون له اندادا‏,‏ وهو خلق هذه الأرض التي انتم عليها‏,‏ فأي تبجح وأي استهتار وأي فعل قبيح؟‏!‏

وما هذه الأيام‏:‏ الاثنان اللذان خلق فيهما الأرض‏,‏ والاثنان اللذان جعل فيهما الرواسي وقدر فيهما الأقوات‏,‏ وأحل فيها البركة‏,‏ فتمت بهما الأيام الأربعة؟
إنها بلا شك أيام من أيام الله التي يعلم هو مداها‏,‏ وليست من أيام هذه الأرض‏..‏ والأيام التي خلقت فيها الأرض أولا‏,‏ ثم تكونت فيها الجبال‏,‏ وقدرت فيها الأقوات‏,‏ هي أيام أخري‏,‏ مقيسة بمقياس آخر‏,‏ لانعلمه‏,‏ ولكننا نعرف أنه أطول بكثير من أيام الأرض المعروفة‏.‏

وأقرب مانستطيع تصوره وفق ما وصل إليه علمنا البشري أنها هي الأزمان التي مرت بها الأرض طورا بعد طور‏,‏ حتي استقرت وصلبت قشرتها وأصبحت صالحة للحياة التي نعلمها‏....‏
وبارك فيها وقدر فيها أقواتها‏..‏ وقد كانت هذه الفقرة تنقل الي أذهان اسالفنا صورة الزرع النامي في هذه الأرض وبعض ما خبأه الله في جوف الأرض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما إليها‏..‏ فأما اليوم بعد ماكشف الله للإنسان أشياء كثيرة من بركته في الأرض ومن أقواتها التي خزنها فيها علي أزمان طويلة‏,‏ فان مدلول هذه الفقرة يتضاعف في أذهاننا‏..‏

وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏(‏ علي كاتبه من الله الرضوان‏)‏ مانصه‏:‏
‏(‏قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏)‏ أي أوجدها في مقدار يومين من أيام الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ اليوم منهما كألف سنة من أيامنا‏.‏
والآية تنديد بالمشركين‏,‏ لتماديهم في الشرك مع ظهور الدلائل الموجبة للإيمان بوحدانيته تعالي وكمال قدرته‏.(‏ اندادا‏)‏ أمثالا من مخلوقاته تعبدونها‏.(‏ وجعل فيها رواسي‏)‏ جبالا ثوابت‏(‏ من فوقها‏)‏ لئلا تميد وتضطرب‏(‏ وبارك فيها‏)‏ جعلها مباركة قابلة للخير‏,‏ كالإنبات وإخراج ماينفع الناس‏.(‏ وقدر فيها أقواتها‏)‏ جعل أقوات أهلها التي يحتاجون إليها في معايشهم علي مقادير معينة‏,‏ بحيث جعل في كل قطر مايناسب أهله‏,‏ ليكون الناس محتاجا بعضهم الي بعض فيما يرتفقون به‏.‏ وهو سبب عمارة الأرض ونظام العالم‏.(‏ في أربعة أيام‏)‏ أي خلق ما في الأرض في تمام أربعة أيام‏(‏ سواء‏)‏ مستوية كاملة‏.‏ مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لـ أيام‏,‏ أي استوت سواء أي استواء‏,‏ وقيدت به لدفع توهم التجوز بإطلاقها علي ما دونها بقليل‏(‏ للسائلين‏)‏ أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها‏,‏ المحتاجين إليها من المقتاتين‏.‏ فمدة خلق كل من الأرض وما فيها مقدار يومين‏.‏ وتمام المدتين أربعة أيام كاملة‏.‏

وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم جزاهم الله خيرا‏.‏
مانصه قل ـ ايها الرسول ـ لهؤلاء المشركين‏:‏ عجبا لكم‏!‏ تكفرون بالله الذي خلق الارض في يومين‏,‏ وانتم ـ مع هذا ـ تجعلون له شركاء متساوين معه ذلك الخالق للأرض مالك العوالم كلها ومربيهم‏.‏ وجعل في الأرض جبالا ثابتة من فوقها لئلا تميد بكم‏,‏ وأكثر فيها الخير وقدر فيها أرزاق أهلها‏,‏ حسبما تقتضيه حكمته‏,‏ كل ذلك في يومين‏,‏ وأنتم ـ مع هذا ـ تجعلون له شركاء‏,‏ وقدر كل شئ لانقص فيه ولازيادة‏,‏ هذا التفصيل في خلق الأرض وما عليها بيان للسائلين‏.‏

وجاء في التعليق الهامشي مايلي‏:‏ وحدات الزمن التي يستخدمها الناس مرتبطة بالأرض ودورانها حول محورها وحول الشمس‏,‏ فإذا ما غادر أحد الأرض إلي جرم سماوي اختلفت هذه الوحدات طولا أو قصرا‏.‏ والآيات الكريمة تشير إلي هذه الحقيقة وإلي ان الزمن نسبي‏..‏
وذكر صاحب صفوة التفاسير‏(‏ جزاه الله خيرا‏)‏ مانصه‏:(‏ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏)‏ الاستفهام للتوبيخ والتعجب أي كيف تكفرون بالله وهو الإله العلي الشأن القادر علي كل شئ‏,‏ خالق الأرض في يومين؟‏(‏ وتجعلون له أندادا‏)‏ أي تجعلون له شركاء وأمثالا تعبدونها معه‏(‏ ذلك رب العاملين‏)‏ أي ذلك الخالق المبدع هو رب العالمين كلهم‏..(‏ وجعل فيها رواسي من فوقها‏)‏ أي جعل في الأرض جبالا ثوابت لئلا تميد بالبشر‏(‏ وبارك فيها‏)‏ أي أكثر خيرها بما جعل فيها من المياه والزرع والضروع‏(‏ وقدر فيها أقواتها‏)‏ أي قدر أرزاق أهلها ومعاشهم قال مجاهد‏:‏ خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها‏(‏ في أربعة أيام سواء للسائلين‏)‏ أي في تمام أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولانقصان للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها‏...‏

أيام الخلق الست في منظور العلوم الكونية
يري أهل العلوم المكتسبة مراحل خلق الكون الست حسب الترتيب التالي والله‏(‏ تعالي‏)‏ أعلم بخلقه‏:‏
‏(1)‏ مرحلة الرتق‏:‏ وهي مرحلة الجرم الأولي الذي بدأ منه خلق السماوات والأرض

‏(2)‏ مرحلة الفتق‏:‏ وهي مرحلة انفجار الجرم الأولي وتحوله الي سحابة من الدخان

‏(3)‏ مرحلة تخلق العناصر في السماء الدخانية عبر تكون نويات غازي الايدروجين والهيليوم وبعض نويات الليثيوم‏.‏

‏(4)‏ تخلق كل من الأرض وباقي أجرام السماء بانفصال دوامات من السحابة الدخانية الأولي وتكثفها علي ذاتها بفعل الجاذبية‏,‏ وانزال الحديد عليها‏.‏

‏(5)‏ مرحلة دحو الارض وتكوين أغلفتها الغازية والمائية والصخرية‏,‏ وتصدع الغلاف الصخري للارض‏,‏ وبدء تحرك الواحة‏,‏ وتكون كل من القارات وقيعان المحيطات‏,‏ والجبال‏,‏ وبدء دورات كل من الماء‏,‏ والصخور‏,‏ وتبادل القارات والمحيطات‏,‏ وشق الأودية والفجاج والسبل‏,‏ والتعرية‏,‏ وتسوية سطح الارض‏,‏ وتكون التربة‏,‏ وخزن المياه تحت السطحية‏.‏

‏(6)‏ مرحلة خلق الحياة من أبسط صورها الي خلق الانسان
ويقدر عمر الكون بما يتراوح بين‏10‏ و‏15‏ بليون سنة بينما يقدر عمر أقدم صخور الأرض بنحو‏4.6‏ بليون سنة وهو نفس العمر الذي تم التوصل اليه بتحليل صخور وتراب سطح القمر والعديد من النيازك التي سقطت علي الأرض والفارق الكبير بين العمرين المقدرين لكل من الأرض والسماء‏(‏ وقد خلقا في لحظة واحدة‏)‏ سببه أن صخور الأرض تدخل في دورات عديدة‏,‏ وأن العمر المقدر لها هو عمر لحظة تيبس قشرتها‏,‏ وليس عمر تكون ذرات عناصرها‏,‏ وعمر تيبس قشرة الأرض لا يشمل أيا من مراحل الأرض الابتدائية‏,‏ ولا مراحل تخلق العناصر التي كونت أرضنا الابتدائية وماتلا ذلك من أحداث‏.‏

وتشير الآيات القرانية‏(29)‏ من سورة البقرة‏,‏ و‏(9‏ ــ‏12)‏ من سورة فصلت الي سبق خلق الأرض لعملية تسوية السماء الدخانية الأولية الي سبع سماوات‏,‏ ويبدو أن المقصود هنا بالسبق هو خلق عناصر الأرض‏,‏ والذي تلاه تجميع تلك العناصر علي هيئة الارض الابتدائية والتي تم رجمها بوابل من النيازك الحديدية‏,‏ وتمايزها الي سبع أرضين‏,‏ ثم دحوها وتكوين أغلفتها الغازية والمائية والصخرية وتشكيلها الي صورتها الحالية وذلك لان خلق السماوات والارض عمليتان متلازمتان ولايمكن لاحداهما أن تنفصل عن الأخري‏.‏

تقدير أقوات الأرض في منظور العلوم الكونية
الارض هي ثالث الكواكب بعدا عن الشمس وهي تجري حول هذا النجم في فلك بيضاني قليل الاستطالة‏(‏ اهليلجي‏)‏ بسرعة تقدر بنحو‏30‏ كيلو مترا في الثانية لتتم دورتها هذه في سنة شمسية مقدارها‏365.25‏ يوم تقريبا‏,‏ وتدور حول نفسها بسرعة مقدارها نحو‏30‏ كيلومترا في الدقيقة‏,‏ لتتم دورتها هذه في يوم مقداره‏24‏ ساعة تقريبا‏,‏ يتقاسمه ليل ونهار بتفاوت يزيد وينقص حسب الفصول التي تتبادل بسبب ميل محور دوران الارض علي دائرة البروج بزاوية مقدارها‏66.5‏ درجة تقريبا‏,‏ ويعزي للسبب نفسه هبوب الرياح‏,‏ وهطول الأمطار‏,‏ وفيضان الأنهار‏,‏ وتتابع الدورات الزراعية‏.‏
ويقدر متوسط المسافة بين الأرض والشمس بنحو‏150‏ مليون كيلو متر وهذه المسافة التي حددتها كتلة الأرض بتقدير من الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ تلعب دورا مهما في تقدير الأقوات في الأرض وذلك لان كمية الطاقة التي تصل من الشمس الي كل كوكب في مجموعتها تتناسب تناسبا عكسيا مع بعد الكوكب عن الشمس‏,‏ وكذلك تتناسب سرعة جريه في مداره حولها‏,‏ والشمس هي المصدر الوحيد لجميع صور الطاقة الارضية ومن هنا تتضح الحكمة البالغة من تحديد كل من كتلة الأرض ومتوسط بعدها عن الشمس‏,‏ فقد قدرت الطاقة التي تشعها الشمس من كل سنتيمتر مربع علي سطحها بنحو عشرة أحصنة ميكانيكية يصل الي الارض منها جزء من بليوني جزء من هذه الطاقة الهائلة التي تشكل مصدرا مهما من مصادر أقوات الأرض بالقدر المناسب لنوعية الحياة الأرضية‏.‏

فلو كانت الأرض أقرب قليلا الي الشمس لكانت كمية الطاقة التي تصلها محرقة لجميع صور الحياة علي سطحها ومبخرة لمياهها ومخلخلة لغلافها الغازي‏,‏ ولو كانت أبعد قليلا لتجمدت مياهها ولتوقفت الحياة علي سطحها‏.‏ ويتربط ببعد الأرض عن الشمس بقية أبعاد هذا الكوكب‏,‏ ويقدر حجم الأرض بنحو مليون كيلو متر مكعب‏,‏ ومتوسط كثافتها بنحو‏5.52‏ جم‏/‏سم‏3,‏ وعلي ذلك تقدر كتلتها بنحو ستة آلاف مليون مليون مليون طن‏,‏ وهذه الأبعاد قد حددها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بدقة بالغة‏,‏ فلو كانت أكبر قليلا أو أصغر قليلا ما كانت صالحة للحياة الأرضية‏.‏
وللأرض مجال جاذبية مكنها من الاحتفاظ بغلافها الغازي‏,‏ ولو فقدته ولو جزئيا لاستحالت الحياة علي الأرض‏,‏ وقد بدأت الأرض بكومة من الرماد ثم رجمت بوابل من النيازك الحديدية‏(‏ والتي تحتوي العناصر من الحديد إلي أعلي العناصر وزنا ذريا‏)‏ والنيازك الحديدية الصخرية والصخرية‏,‏ والتي لاتزال تصل إلي الأرض بملايين الأطنان سنويا‏,‏ وهذه العناصر وإنزالها إلي الأرض بأقدار معلومة من تقدير الأقوات فيها‏.‏

ثم مرت الأرض بمرحلة الدحو وهو إخراج كل من أغلفتها المائية والهوائية والصخرية‏,‏ وغمرتها المياه بالكامل‏.‏
وبدأت عملية الدحو بتصدع الغلاف الصخري للأرض واندفاع الصهارة الصخرية بملايين الأطنان عبر تلك الصدوع‏,‏ وعبر فوهات البراكين‏,‏ ومن ثم بدأت عملية تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض والتي نتج عنها تكون الجزر البركانية في وسط ذلك المحيط الغامر‏,‏ ثم أخذت تلك الجزر البركانية في التدافع تجاه بعضها البعض لتكون اليابسة بسلاسلها الجبلية الناتجة عن تصادم تلك الالواح الصخرية وبدأت دورة التعرية تفتت صخور الأرض لتكون التربة‏,‏ وبدأت دورات الصخور‏,‏ والمياه‏,‏ وتكون القارات وتفتتها حتي أصبحت الأرض مهيأة لاستقبال الحياة‏.‏

وبما أن عمر أقدم صخور الأرض يقدر بنحو‏4.600‏ مليون سنة‏,‏ وأن أقدم أثر للحياة الأرضية يقدر عمره بنحو‏3.800‏ مليون سنة‏,‏ فإن إعداد الأرض لاستقبال الحياة قد استغرق مالايقل عن ثمانمائة مليون سنة‏.‏
وقد خلق الله تعالي الحياة الباكرة في مياه البحار والمحيطات لأنها كانت الوسط المليء بالأملاح المذابة التي حملتها الأمطار والسيول والأنهار من اليابسة إلي قيعان البحار والمحيطات‏,‏ وفي هذه الأثناء كانت صخور الأرض تفتت لتكوين التربة‏,‏ وكانت مياه الأمطار تختزن فيها في تهيئة حكيمة لاستقبال الحياة الأرضية‏.‏

ومن حكمة الله البالغة في الخلق ان النبات كان سابقا في وجوده علي الحيوان لأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أعطاه القدرة علي صناعة غذائه بعملية التمثيل الضوئي مستفيدا من طاقة الشمس وغازات الجو ومياه ومعادن الأرض‏,‏ أما الحيوان فيعتمد في غذائه علي النبات أو علي افتراس غيره من الحيوان إذا كانت له القدرة علي ذلك‏.‏
وأقدم أثر للحياة علي اليابسة لايتعدي عمره‏450‏ مليون سنة وقد بدأ بالنباتات الأرضية التي عمرت الأرض وسادت سيادة هائلة مما ساعد علي تكوين راقات الفحم من بقاياها في عصر سمي باسم عصر الفحم وامتد إلي نحو‏300‏ مليون سنة مضت‏,‏ واستمرت الحياة الأرضية في الازدهار حتي اكتملت بخلق الملايين من أنواع الحياة النباتية والحيوانية‏,‏ ولعب كل نوع منها دورا مهما في استقبال المراحل التالية عليه‏,‏ كما لعبت بقاياها دورا أهم في تكوين النفط والغاز‏,‏ ولعبت عوامل التعرية والحركات البانية للجبال دورها في تمهيد الأرض وتهيئتها لاستقبال هذا المخلوق المكرم المعروف باسم الانسان‏,‏ والذي لا يكاد أقدم أثر له علي الأرض يتعدي المائة ألف من السنين‏.‏

فسبحان الذي خلق الأكوان‏,‏ ومنها الأرض‏,‏ وهيأها لاستقبال هذا المخلوق المكرم بهذه المراحل المتطاولة وهو القادر علي أن يقول للشيء كن فيكون‏.‏
وسبحان الذي بارك الأرض‏,‏ وقدر فيها أقواتها في أربع مراحل متتالية‏:‏ هي الرتق‏,‏ الفتق‏,‏ الدحو‏,‏ وإرساء الجبال فقال‏(‏ عز من قائل‏)‏ معاتبا الكافرين والمشركين من عباده‏:‏ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين‏*‏ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين‏*.‏
‏(‏فصلت‏:10,9)‏