أبو عبيده كتب في : Jul 11 2005, 07:04 PM
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .

سأل سائل ما نصه :

اقتباس
لماذا لم يقتل نبى الاسلام من سحره من اليهود اذا كان بالفعل اليهودى هو الذى سحره , فى حين أن هناك أحاديث تشير الى قتل الساحر , فلقد صح عن عمر رضى الله عنه أنه أمر بقتل الساحر , و صح عن حفصة رضى الله عنها أنها قتلت مدبرة سحرتها , و روى عن عائشة رضى الله عنها أيضا أنها قتلت مدبرة سحرتها ؟!!

:
وللأجابة نقول
ان الله تبارك و تعالى أنزل الدين القيم و لم يفرق فى الحكم بين مسلم و كتابي أو بين مسلم ووثني بل اقام مبدء العدل المبني على الأدلة و البراهين لكى لا يظن أحد أن الاسلام دين عنصرى يحابي اتباعه و يظلم من لم يتبعه , و لهذا أقام الاسلام منهج ( اقامة البينة ) على من اقترف جريمة معينة .

فالاسلام دين الرحمة , و لا يمكن أن يحكم على أحد أى كانت ملته بلا بينة مقامة على هذا الشخص الذى اقترف ذلك الجرم , و هذا من رحمة الاسلام .

و لهذا جعل الاسلام الأحكام مقترنة بالبينة و بالأدلة و بالشهود , و بهذا كان منهج الاسلام فى الحكم على المجرم المذنب منهجا متفردا لم نره فى أى من الأديان الأخرى .
منهج يدل على التسامح و الرحمة بغير محابة و لا ظلم لأحد , منهج يحض على التثبت و التأكد قبل الحكم على الأشخاص و الأفراد , و هذا هو قمة العدل اللامتناهى !!

يقول ابن القيم رحمه الله ( و قد صح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقتل من سحره من اليهود , فأخذ بهذا الشافعى , و أبو حنيفة رحمهما الله و أما مالك و أحمد رحمهما الله , فانهما يقتلانه , و لكن منصوص أحمد رحمه الله ,أن ساحر أهل الذمة لا يقتل , و أحتج بأن النبى صلى الله عليه و سلم لم يقتل لبيد بن الأعصم اليهودى حين سحره , و من قال بقتل ساحرهم يجيب عن هذا بأنه لم يقر , و لم يقم عليه بينة , و بأنه خشى أن يثير على الناس شرا بترك اخراج السحر من البئر , فكيف لو قتله ) ( زاد المعاد 4/ 25 )

ففى حالة سحر النبى عليه الصلاة و السلام لم تقم البينة على لبيد اليهودى كما قال ابن القيم بعكس حالات أمهات المؤمنين , بمعنى أنه لم يكن هناك شهود على ذلك الا الوحى من الله , و لهذا لم يقتله النبى عليه الصلاة و السلام حتى لا يقول قائل أن رسول الاسلام قتل لبيد بدون شهود و أدلة فى حين أن الاسلام ينص على منهج ( البينة ) , فالنبى عليه الصلاة و السلام لم يترك لهم مجالا للادعاء بأنه خالف منهج الاسلام فى الحكم على المجرم المذنب .

و القاعدة الشرعية تقول ( القاضى لا يحكم بعلمه ) أى أن القاضى لا يجوز له الحكم على الأشخاص بعلمه فقط بل يجب أن يقام منهج البينة ( ألا و هو وجود الشهود على وقوع الجرم ) .

و هناك قصة ماتعة تبين روعة الاسلام و تفرده بهذا المنهج ( منهج البينة ) الذى يضع الأساس الراسخ لبناء العدل و الحكم بين الناس .


على بن أبى طالب يضرب لنا مثلا


سرقت من علي بن أبى طالب درع , فوجدها عند رجل من أهل الكتاب , فقاضاه أمير المؤمنين ( علي) الى قاضيه ( شريح ) , و هنا ما يستوقف النظر , ان ( عليا ) رضى الله عنه يومئذ كان أمير المؤمنين و هو على يقين من درعه ومن حقه و رغم ذلك لم يلجأ الى سلطان الخلافة الذى أعطاه الله ايه ليأخذ درعه بالقوة من الكتابي , فضلا عن أن يأمر باعتقال السارق الأثيم رهن التحقيق , انما لجأ أمير المؤمنين الى القضاء و يطلب حقه عن طريقه و ذلك لخلو حادثة السرقة من البينة ( أى الشهود ) كما أن ( أمير المؤمنين لا يحكم بعلمه فقط ) كما علمه من رباه على العدل و الرحمة العدنان .

و ذلك فى ذاته مستوى رفيع من التطبيق للعدل الربانى , نادر المثال , و لكن الحادثة كسابقتها- أى حادثة عدم قتل النبى من سحره - أروع آفاقا و أبعد مدى و أعمق دلالة .
ثم سأل ( شريح ) أمير المؤمنين عن قضيته , فقال ( علي ) : الدرع درعى , و لم أبع و لم أهب , فسأل ( شريح ) اليهودى : ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ؟ فرد هذا متلاعبا : الدرع درى ! و ما أمير المؤمنين عندى بكاذب ! , يريد الكتابي بذلك أن يمسك العصا من منتصفها نفاقا على طريقتهم , فيلتفت ( شريح ) الى أمير المؤمنين فيقول : يا أمير المؤمنين هل من بينة ؟ !!

ياالله , انه هكذا العدل الربانى , فالبينة على من ادعى .. و هذة دعوى مرفوعة الى القضاء و لابد فيها من البينة , و ان تكن مرفوعة من أمير المؤمنين , و ان تكن من ( علي ) الذى لم يعرف عنه كذب قط , و الذى لا يعقل أن يكذب على الله جل و علا من أجل درع و هو المستعلي على كل متاع الأرض , يراه الناس يرتجف من شدة البرد فى الشتاء و تحت يده بيت المال , يحق له كسوة شرعية تقيه البرد : فيقول : و الله ما أرزؤكم شيئا ! ان هى الا قطيفة خرجت بها من المدينة ! و لكن جواب ( علي ) كان أروع من قول القاضى !
قال ( علي ) : صدق شريح ! مالى بينة ! .

هكذا فى بساطة المتجرد .. ( ما لى بينة ) ! لم يغضب ! لم يقل المقاضي : منى تطلب البينة و أنا أمير المؤمنين ؟! و كان موقف ( شريح ) رائعا كموقف أمير المؤمنين .. فلقد حكم بالدرع للكتابي لعدم وجود البينة كما فعل النبى عليه الصلاة و السلام مع الكتابي الذى سحره فلم يقتله !!

و العجيب فى الأمر أن ذلك الكتابى أخذ الدرع و هو لا يكاد يصدق نفسه ! ثم عاد بعد خطوات ليقول : أمير المؤمنين يقاضيني الى قاضيه قيقضي عليه ؟!! ان هذه أخلاق أنبياء ! أشهد أن لا اله الا الله و أن محمدا الذى جاء بهذة الرحمة و منهج البينة رسول الله , ثم قال : الدرع درعك يا أمير المؤمنين , خرجت من بعيرك الأورق , فاتبعتها و أخذتها , فقال ( علي ) : أما اذا أسلمت فهى لك !! .( البداية و النهاية 8/ 5 , 6 )

أى دين هذا ؟ و أى نبى كان ؟ و أى منهج جاء به الاسلام ؟!!!

فهل يجرء أحد بعد هذة الرحمة من نبى الرحمة أن يتسأل : لماذا لم يقتل رسول الاسلام من سحره ؟!!

سبحانك ربى هذا بهتان عظيم !!


المراجع و المصادر .

زاد المعاد لابن القيم .
سماحة الاسلام - د / عمر بن عبد العزيز .