النقاب عادة أم عبادة؟
المجيب/
د. يوسف بن عبدالله الأحمد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الثلاثاء 24 شوال 1430
الموافق 13 أكتوبر 2009



السؤال
فضيلة الشيخ: هل صحيح أنَّ النقاب مجرد عادة لا علاقة له بالدين الإسلامي من قريب أو بعيد، وما وجه الإنكار لمن يرتدين النقاب؟
الجواب /الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

تغطية المرأة لوجهها -بالنقاب أو السدل أمام الرجال الأجانب- مشروع في الإسلام، وإنما الخلاف بين العلماء في درجة المشروعية هل هو الوجوب أو الاستحباب والإباحة؟ والصحيح الوجوب. أما الإنكار على من فعله من النساء فلم يقل به أحد من العلماء.



ولبس الطالبة للنقاب وما رباها عليه والداها هو الصواب الموافق للشرع.

أما ما نُقِل عن البعض، أن النقاب عادة وليس له علاقة بالدين، والإنكار على من يردتين ذلك فهو متضمن لإنكار النصوص الصحيحة الصريحة، وردِ كلام العلماء، وانتهاكِ حقوق المرأة التي حفظها الشرع لها. والمشروع في حقه وغيره: الإنكار على السافرات المتبرجات لا المنتقبات العفيفات.
ومن النصوص الصريحة الدالة على مشروعية غطاء الوجه للمرأة: حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك وهم راجعون من غزوة بني المصطلق، وقد نزلوا في الطريق، فذهبت عائشة لقضاء حاجتها، ثم عادت إليهم وقد آذنوا بالرحيل فلم تجد عقدها، فرجعت تتلمسه في المكان الذي ذهبت إليه، فلما عادت لم تجد أحداً فجلست. وقد حملوا هودجها على البعير ظناً منهم أنها فيه ولم يستنكروا خفة الهودج ؛ لأنها كانت خفيفة حديثة السن.
وكان من فطنتها أن جلست في مكانها الذي كانت فيه، فإنهم إن فقدوها رجعوا إليها.
قالت رضي الله عنها: فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت "وفي رواية: فسترت" وجهي عنه بجلبابي...) متفق عليه.
فصفوان بن المعطل رأى سواد إنسان فأقبل إليه. وهذا السواد هو عائشة رضي الله عنها وكانت نائمة، كاشفة عن وجهها، فعرفها صفوان، فاستيقظتْ باسترجاعه؛ أي بقوله: "إنا لله وإنا إليه راجعون" فعائشة رضي الله عنها لما قالت: "فعرفني حين رآني" بررت سبب معرفته لها ولم تسكت، فكأن في ذهن السامع إشكال: كيف يعرفها وتغطية الوجه واجب؟!. فقالت: "وكان رآني قبل الحجاب"، وهو دليل على أن تغطية الوجه هو المأمور به في آية الحجاب.
ثم قالت عائشة رضي الله عنها "فخمرت (وفي رواية: (فسترت) جهي عنه بجلبابي ) وقولها هذا في غاية الصراحة".
وثبت عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام" أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. والأدلة في هذا الباب كثيرة.
وهذه أقوال بعض العلماء في وجوب تغطية المرأة وجهها أمام الرجال الأجانب:
قال أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (ت370هـ) في تفسيره لقوله تعالى: "يدنين عليهن من جلابيبهن": (في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن). (أحكام القرآن 3/371).
قال النووي رحمه الله (ت676هـ) في المنهاج (وهو عمدة في مذهب الشافعية): "ويحرم نظر فحل بالغ إلى عورة حرة كبيرة أجنبية وكذا وجهها وكفها عند خوف الفتنة (قال الرملي في شرحه: إجماعاً) وكذا عند الأمن على الصحيح". قال ابن شهاب الدين الرملي رحمه الله (ت1004هـ) في شرحه لكلام النووي السابق: "ووجهه الإمام: باتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، وبأن النظر مظنة الفتنة، و محرك للشهوة.."اهـ (نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج في الفقه على مذهب الشافعي 6/187ـ188).
قال النسفي الحنفي رحمه الله (ت701هـ) في تفسيره لقوله تعالى: "يدنين عليهن من جلابيبهن" يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن (مدارك التنزيل 3/79).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ت728هـ): "وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز. وعلى ولي الأمرِ الأمرُ بالمعروف والنهى عن هذا المنكر وغيره، ومن لم يرتدع فإنه يعاقب على ذلك بما يزجره" (مجموع الفتاوى 24 / 382).
قال ابن جزي الكلبي المالكي رحمه الله (ت741هـ) في تفسيره لقوله تعالى: "يدنين عليهن من جلابيبهن" كان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء، وكان ذلك داعياً إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليستر بذلك وجوههن (التسهيل لعلوم التنزيل 3/144).
قال ابن القيم رحمه الله (ت751هـ) في إعلام الموقعين ( 2/80): "العورة عورتان: عورة النظر، وعورة في الصلاة ؛ فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق و مجامع الناس كذلك" والله أعلم.
وقال تقي الدين السبكي الشافعي رحمه الله (ت756هـ): "الأقرب إلى صنيع الأصحاب أن وجهها و كفيها عورة في النظر" (نهاية المحتاج 6/187).
وقال ابن حجر في شرح حديث عائشة رضي الله عنها، وهو في صحيح البخاري أنها قالت: "لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) أَخَذْنَ أُزْرَهُنَّ فَشَقَّقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا". قال ابن حجر (ت852هـ) في الفتح (8/347): "قوله (فاختمرن) أي غطين وجوههن".
وقال السيوطي الشافعي (ت911هـ) عند قوله تعالى: "يدنين عليهن من جلابيبهن": (هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن) (عون المعبود 11/158 ).
قال البهوتي الحنبلي رحمه الله (ت1046هـ) في كشاف القناع (1/266): (الكفان والوجه من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها).
وغيرهم كثير، ولولا خشية الإطالة لنقلت أقوالهم.
وقد قال بوجوب تغطية المرأة لوجهها وكفيها جمع كبير من العلماء المعاصرين، منهم أصحاب الفضيلة: عبد الرحمن بن سعدي، ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ، ومحمد الأمين الشنقيطي، وعبد العزيز بن عبد الله بن باز، وأبو بكر جابر الجزائري، ومحمد بن عثيمين، وعبد الله بن جبرين، وصالح الفوزان، وبكر بن عبد الله أبو زيد، ومحمد أحمد إسماعيل المقدم، وأبو إسحاق الحويني، ومصطفى العدوي، ومحمد حسان رحمهم الله، وحفظ الأحياء منهم، وغيرهم كثير.
وأنقل هنا كلام شيخنا العلامة محمد بن عثيمين. قال رحمه الله بعد أن قرر وجوب تغطية المرأة وجهها وكفيها: (أنا أعتقد أن أي إنسان يعرف مواضع الفتن ورغبات الرجال لا يمكنه إطلاقاً أن يبيح كشف الوجه مع وجوب ستر القدمين، وينسب ذلك إلى شريعة هي أكمل الشرائع وأحكمها).
ولهذا رأيت لبعض المتأخرين القول بأن علماء المسلمين اتفقوا على وجوب ستر الوجه لعظم الفتنة ؛ كما ذكره صاحب نيل الأوطار عن ابن رسلان.. (فتاوى المرأة المسلمة 1/404)والحمد لله رب العالمين.