هذه المقالة منشورة في مجلة الأزهر عام 1938 أهديها لأخواتي المسلمات ومن حق المسلمة أن تفتخر بأن الإسلام أعطاكي الحرية الكاملة والإستقلال التام في الذمه المالية فلا أحد يتحكم فيما تملكية



الحرية الديمقراطية للمرأة الأوربية

تحت هذا العنوان قرأت اليوم (21 فبراير سنة 1938م) في جريدة ألمانية Zeitung am Mittag Hamburgerهذا الخبر:
" نشرت الجريدة الرسمية الفرنسية للقوانين في يوم الأحد 20 فبراير سنة 1938 بإلغاء القانون الخاص بمنع المرأة المتزوجة :
(ا)من توقيع أذونات الصرف المالية (الشيكات)
(ب) من فتحها حسابا جاريا في أي بنك من البنوك
(ج) من توقيع أي عقد مالي
(د) من استيلائها على الإرث مباشرة بدون إذن القاضي في ذلك كله
لم يدهشني هذا الخبر دهشتي لو بقيت بمصر ولم تسنح لي الفرصة لتعرف أحوال البلاد الغربية ودراسة الحالة الاجتماعية للمرأة الأوربية على الخصوص ، لأن الصورة التي في ذهن الشرق عن أوربا صورة مبالغ فيها نحو ناحية الكمال والرقي الإنساني ، بفضل الدعاية الثقافية والأدبية التي تقوم بها الأفلام السينمائية ، ومدارس الإرساليات الأجنبية ، والنشرات والكتب التي تحمل طابع البحث العلمي .
عن هذا التصوير المبالغ فيه يود كل شرقي أن يكون أوربيا ، أو على الأقل يحاول أن يظهر بمظهر أوربي كما ترغب المرأة الشرقية وخصوصا المصرية في أن تحمل طابع المرأة الغربية مهما كلفها ذلك من مجافاة لعادات وطنها ، وإسراف في تقليد " مثالها " Ideai
عن هذا التصور يتجلى الخضوع الأعمى في الشرق لسيادة الأوربي ، وتبين بوضوح تكلف العناء والتضحية بالقومية في إتباع مشورة الوصي الغربي
إن منية أوربا مرتكزة على المادة وثقافتها ، للوصول إلى المادة . فمدنيتها تتمثل في المخترعات الهندسية والكمياوية ، وثقافتها في تعلم بسطة السلطان وسياسة الاستعمار .
مدنيتها القوة الحربية ، وثقافتها التبشير الروحي ، وأبحاثها العلمية تصوير الأمم الضعيفة بصورة مشوهة كي يكون هناك محل للنداء " بوجوب تمدين الشعوب غير الناضجة في السياسة والإدارة ".
وهذه المدنية المادية من أكبر عوامل انتشار المذهب الخلقي النفعي ، وتربية الشعور الأناني (Egoism) ليس فقط تجاه الشعوب غير الأوربية ، وإنما فيما بين أمم الغرب أنفسها ، بل فيما بين أفراد الأمة الواحدة منها وكلما تمكنت المادية من هذه المدنية وقوي هذا الشعور الأناني ، ضعفت القضايا الخلقية الروحية ، وقلت قيمتها العلمية ، وأصبحت فقط أداة للدعاية بين الشعوب الضعيفة أو الفطرية باسم " الإنسانية" وحملها على الاستسلام باسم " الأخوة في الإنسانية" ولذلك كان أضعف الشعوب وأزهدها في السلطان ، كالشعوب الهندية ، هو المعتنق لهذه المذاهب الروحية بأمانة وإخلاص .
عن هذا الشعور الأناني تأسست علاقة الرجل بالمرأة في أوربا ، وهي أقرب إلى علاقة مادية منها إلى علاقة نفسية روحية . ففي انكلترا إلى الآن ، وفي فرنسا لغاية تاريخ 20 فبراير سنة 1938 تمنع المرأة المتزوجة من التصرف في شئونها المالية الخاصة بها ، ويمتد سلطان الرجل وقوامته عليها إلى ناحيتها الاقتصادية المادية، بينما لا يحرم القانون ، بل قد تمنعه العادة حسبما يكون منشأ المرأة في الحياة الاجتماعية ، أن تتخذ الزوجة صديقا لها ، كما يتخذ الزوج صديقة له.
لا تمنع المرأة فقط من التصرف في أمورها الاقتصادية ، بل عليها بحكم العرف ، والعرف قانون ، أن تؤسس لخطيبها بيت الأسرة المقبلة التي ستتكون منها مبدئيا . ولهذا لا يفهم الأوربي المادي ما فرضه الإسلام على الرجل من صداق لزوجته ، ويحاول أن يصور المرأة المسلمة بالسلعة القابلة للبيع والشراء ، ولا يستحي حتى فيما يسميه أبحاثا علمية ، أو فيما تطلع به الجرائد اليومية على الرأي العام ، من تسمية المهر في الإسلام " ثمن شراء" (Kaufpreis)
لا يود أن يفهم الأوربي أن المهر هو نصيب الرجل في بناء الحياة البيتية ، وأن هذا الالتزام من جانبه وحده ، لما فرض له من قوامته على المرأة ، ولما فرض فيه بحكم الطبيعية من أنه المكافح في الحياة . فكون المرأة في أوربا هي التي تتحمل تأسيس الأسرة وحدها، قلب للوضع الطبيعي ، وأشبه شيء بوسيلة مغرية للرجل على زواجها ، كأن طبيعة الأنوثة فيها غير كافية للإغراء ، وكأن الرجل لا يشعر في طبيعته بالحاجة الملحة إلى المرأة لسد هذا النقص فيه حتى تستمر سنة الكون في البناء والتجديد في حياة البشر الاجتماعية ولكنه المذهب المادي الذي قارب أن يحول ما بقى في نفوسهم من شعور إلى غرائز لا يكون للإرادة عليها سبيل .
الإسلام حجر على المرأة ولكن في التصرف في عفتها وخلقها ، وأباح لها في جانب ذلك التصرف في مالها .
هو لم يحجر عليها في الواقع وإنما ألزمها برعاية حقوق قرينها فيما كان سبب الزواج ، وفيما المحافظة عليه سبب سعادة الحياة الزوجية .
لم يبح لها وإنما اعتد باستقلالها ، وأكد لها هذا الاستقلال فيما بعد اقترانها ، في الوقت الذي هو مظنة التبعية ، والذي هو في الواقع مبدأ التبعية في حياة المرأة الزوجية في الأمم التي تدعي أنها منبع الديمقراطية ، وأنها رسل الحرية في الشعوب التي تبيح الاتجار بالرقيق ، أو تبيح الأسر والرق باعتبار أنه تدبير من تدبير الحرب المشروعة .
إذا كان إطلاق التصرف المالي للمرأة هو الحرية الديمقراطية النسوية في القرن العشرين ، فللمرأة المسلمة أن تعتز بتمتعها بهذه الديمقراطية منذ القرن السابع الميلادي وإذا كانت قوامة الرجل الأوربي على المرأة ، في شئونها المالية ، فليفخر الرجل المسلم بأن قوامته على زوجته فيما يصون عليها شرفها وكرامتها . وإذا عدت أوربا مبدأ التبعية والحجر على المرأة في تصرفها المالي ظاهرة من ظواهر المدنية ، فليعتز الشرق الإسلامي بجعل مبدأ الأسر في الحرب من أسباب ضمان الظفر والنصر الذي لا يلبث أن يتبعه الترغيب في العتق ثانية ، وجعله غاية أنواع للكفارة عن ارتكاب أشد أنواع الإجرام مقتا عند الله وعند الناس .
المادية والروحية مذهبان متقابلان، وكلما غلت أوربا في المادية تراءى لها الحق في القوة وتمثل لها الظلم عدلا . كذلك كلما غلا الشرق في الروحية تراءت له الحياة الحقة في الزهد والتواكل والاستسلام .
أما المذهب الخيار فهو مذهب الاعتداد بالنفس ، والمحافظة على السلطان وأتباع العدل فيه ، هو المذهب القائل
(أ?) " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ....." والقائل أيضا
(ب?) " ولا يظلم ربك أحدا....."
محمد البهي
مجله الأزهر المجلد 9 ص135