المؤسس :

كان القديس مرقس الرسول من أصل إفريقى و هو كاتب أحد أول الأناجيل . بمجيئه إلى مصر بدأ بزوغ فجر المسيحية فيها. و رغم اختلاف الآراء على تحديد سنة وصوله إلى الإسكندرية ، عاصمة مصر الشهيرة آنذاك ، حيث ترجع بعض المصادر وصوله إلى مصر إلى عام 48م فى حين تقول مصادر أخرى أنه جاء سنة 55 أو 58

بل و هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك و أرجعها إلى عام 61م ، إلا أن كل الآراء قد اتفقت على أنه استشهد فى الإسكندرية سنة 68م . و قد استطاع القديس مرقس في هذه الفترة القصيرة أن يكسب نفوسا كثيرة اعتنقت المسيحية و أسس الكنيسة فى مصر و من ثم انتشرت المسيحية بسرعة فى كل أرجاء مصر. كان من أهم ما ساعد على ذلك هو أن المصرى كان بطبعه مهتما بالدين ، فعقول المصريين القدماء كانت دائمة البحث و التفكير فى مجال الأديان حتى توصلوا فى النهاية إلى عقائد و معتقدات كان من الممكن لاحقا مضاهاتها ببعض الأفكار و التعاليم السامية فى الديانة المسيحية.

هوية الكنيسة عبر عصور الاضطهاد

تحت حكم الرومان

لقد قبل المصريون أو الأقباط المسيحية بسرعة كبيرة مما دفع الرومان للقيام بسلسلة من الاضطهادات فى محاولة لقمع انتشار هذا الدين الذى كان يعارض علنا فكرة ألوهية الإمبراطور. ثم صدر مرسوم عام 202م بوجوب منع الناس من اعتناق المسيحية بأى ثمن . تلاه مرسوم آخر عام 250م يأمر كل المواطنين أن يحملوا معهم فى جميع الأوقات شهادة صادرة من السلطات المحلية تثبت أنهم قد قاموا بتقديم القرابين للآلهة . أما الذين رفضوا الانصياع لهذا الأمر فقد تعرضوا لصنوف من التعذيب الوحشى لم يسبق لها مثيل ، فمنهم من قطعت رأسه و منهم من ألقى للأسود و آخرين حرقوا أحياء بعد أن تعرضوا جميعا لأقسى أنواع العذاب بغض النظر عن السن أو الجنس . و أمرت السلطات بإغلاق مدرسة التعليم الديني بالإسكندرية و رغم ذلك استمر أعضائها يلتقون في أماكن سرية . و جاء وقت حددت فيه الدولة عدد الأساقفة بثلاثة فقط . و يعتبر الأقباط أن ذروة عصر الاضطهاد الدينى كانت أثناء حكم الإمبراطور دقلديانوس ( 284 - 305 م ) . فمن كثرة القتل الجماعى و وحشية التعذيب اعتبر الأقباط اليوم الذى اختير فيه دقلديانوس من قبل الجند ليصبح إمبراطورا بداية عصر الشهداء الأقباط، فاتخذوا من هذا اليوم بداية للتقويم القبطى و الذى يعرف فى العالم الغربى (Anno Martyrum) أو سنة الشهداء .

و بالرغم من كل هذا القتل و التعذيب نمت الكنيسة المصرية و ازدهرت حتى وصلت إلى شكلها النهائى فى خلال القرن الثانى. و بحلول القرن الثالث كان للكنيسة القبطية هيئة منظمة من رجال الكهنوت تتدرج بدءا من البطريرك فى الإسكندرية و حتى أبسط كاهن ومرورا بالرهبان الذين يعيشون فى الصحراء الشرقية و الغربية .

و كان لهذه النهضة الكهنوتية التى تزامنت مع الاضطهاد الرومانى أكبر الأثر فى تعميق انتماء و ترابط الشعب القبطى مع كنيسته فى الإسكندرية . و لقد استمر هذا الشعور بالانتماء بل و تزايد عندما أعادت الدولة البيزنطية اضطهاد الأقباط فى عهود لاحقة و لأسباب مختلفة .

الأقباط تحت الحكم العربى :

1- ما بين مجمع خلقيدونيا عام 451م و الفتح العربى فى 642م :

حدث أول انقسام فى الكنيسة الرسولية أثناء مجمع خلقيدونيا سنة 451م و ذلك بسبب اختلاف لاهوتي يتعلق بطبيعة المسيح بين الكنيسة الشرقية (الأرثوذكسية) و بين الكنائس الغربية ( الروم الكاثوليك) . ففى حين دعا الأقباط إلى الإيمان "بطبيعة واحدة للمسيح" ، نادت روما و القسطنطينية بفكرة أن له "طبيعتين و مشيئتين" . و الحقيقة أن الخلاف كان يعود أساسا لأسباب سياسية و ليس لأسباب تتعلق بدراسة اللاهوت . و كان السبب غير المعلن هو أن الكنائس الغربية كانت تريد نقل البابوية من الإسكندرية إلى روما . و مما يؤكد ذلك أن الحوار الحالى بين الروم الكاثوليك و الكنيسة الأرثوذكسية قد أدى إلى اتفاق الكنيستين فيما يتعلق بطبيعة المسيح ، و لكن بعض المسائل اللاهوتية الأخرى مثل موضوع المطهر و الحبل بلا دنس ما زالت قيد المناقشة.

و ما نتج عن مجمع خلقيدونيا هو مرحلة من أسوأ الفترات فى تاريخ المسيحية القبطية فى العصور القديمة . فلقد قامت السلطات المدنية و الكنسية الغربية بعزل و نفى بطريرك الإسكندرية الأرثوذكسى ثم قام البيزنطيين بتنصيب بطريرك تابع للإمبراطورية البيزنطية على إيبارشية الإسكندرية مما أثار غضب الأقباط الذين قاموا بدورهم ردا على هذا الإجراء بانتخاب بطريرك أرثوذكسى من أبناء وطنهم . و هكذا انقسمت أبرشية الإسكندرية بين بطريركين ، واحد يتبع الإمبراطورية و هو خلقيدونى من القسطنطينية و الثانى من أبناء الوطن و هو يعقوبى غير خلقيدونى أى يؤمن بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح . بعد ذلك قام البيزنطيين تساعدهم السلطات المدنية باضطهاد الأقباط و ارتكبوا المجازر الوحشية التى لم يمنعهم عنها حتى وجود الأقباط داخل الكنائس للصلاة . و إذ فشلت كل المحاولات للمصالحة بين الجانبين ، استمر الحال هكذا حتى جاء الفتح العربى إلى مصر معلنا بداية فصل جديد فى تاريخ قهر الأقباط .

2- الفتح العربى فى عام 642م.

بعد أن تمكن عمرو بن العاصى القائد العام للجيش العربى فى عهد الخليفة عمر بن الخطاب من فتح بلاد فارس و الاستيلاء على سوريا عام 636 م و من بعدها القدس فى عام 638م ، توجه إلى مصر لغزوها . و قد تمكن عمرو بن العاصى و معه جيش قوامه عشرين ألف فارس من السيطرة على المدن الشرقية و الحصون البيزنطية فى الدلتا حتى وصل إلى حصن بابليون . فى تلك الفترة كانت بيزنطة عينت رجلا يدعى سيروس ليكون الحاكم المدنى و الأسقف الملكى فأخذ البطريركية من البطريرك الأرثوذكسى الأنبا بنيامين الذى اضطر للهروب إلى الصحراء. و لما سمع سيروس هذا إن المسلمين قد استولوا على المدن الشرقية ثم وجد إن حصار حصن بابليون قد طال استسلم و سلمهم الحصن فى عام 641م . و بسرعة بدأ العرب بالتحرك باتجاه العاصمة فى الإسكندرية . و أعادت بيزنطة تعيين سيروس حاكما للإسكندرية فما لبث أن خان و سلمها أيضا إلى العرب طمعا فى أن يكافئوه بتنصيبه من قبلهم بطريركا للكنيسة القبطية المصرية و لكن حلمه هذا لم يتحقق.

و بحلول عام 642م كان حكم مصر قد انتقل من أيدى أباطرة القسطنطينية إلى يد العرب المسلمين - و لم يكن أى منهما مصريا .

ثم جاءت القوات البيزنطية عن طريق البحر المتوسط و استطاعت استرجاع مدينة الإسكندرية التى كان فيها فى ذلك الوقت أربعة آلاف قصر و أربعة آلاف حمام شعبى و أربعمائة مسرح و أربعين ألفا من المستوطنين اليهود الأغنياء . و لكن سيطرة القوات البيزنطية عليها لم تدم طويلا إذ أعاد العرب احتلالها بعد فترة وجيزة . و لتجنب حدوث ذلك مرة أخرى فى المستقبل ، قام عمرو بن العاصى بنقل العاصمة من الإسكندرية إلى الفسطاط (منطقة مصر القديمة) و أمر بإحراق الإسكندرية فقضت النيران على مكتبة اسكندرية العظيمة و كذلك على المتحف _ و يتحتم علينا هنا أن نذكر أن هذه الحادثة بالذات هى مسار جدل بين المؤرخين .

لقد عاش الأقباط تحت الحكم العربى لمدة ثلاثة عشرة قرنا تباينت فيها أحوالهم بين التعايش فى تسامح نسبى أحيانا و أحيانا أخرى قاسوا من اضطهادات شديدة تبعا لميول و أهواء الحاكم فى كل مرحلة.

منذ بداية الحكم الإسلامى لمصر و لعدة قرون تالية كان على الأقباط أن يختاروا ما بين اعتناق الإسلام أو الاستسلام صاغرين و دفع الجزية أو السيف أى القتل . لقد رأى الأقباط الكثيرين منهم و هم يستشهدون أو يضطرون لاعتناق الإسلام و لكن نعمة الله جعلتهم يجتازون هذه المحن بإيمان قوى و روحانية عالية و شغف بخدمة الله . ثم جاء القرن العشرين ليشهد نهضة قوية فى كل مجالات الخدمة فى الكنيسة .

الكنيسة القبطية عبر التاريخ

قامت الكنيسة القبطية عبر التاريخ و خاصة إبان العصر القبطى بدورا بارزا فى تشكيل و تعريف الأفكار و المعتقدات المسيحية. و يمكن تلخيص مساهمات الكنيسة القبطية فى المسيحية العالمية فى الأربع حركات التالية:

1. المدرسة الإكليركية و دراسة اللاهوت :

اشتهرت الإسكندرية حتى قبل المسيحية بأن بها أكبر مكتبة و متحف فى العالم و كان هذا المجمع الحضارى هو المقر الرئيسى لمدرسة الإسكندرية الشهيرة كما كان يضم بين جدرانه ملايين المخطوطات البردية و التى كان يقال أنها تحتوى كل علوم المعرفة القديمة . كان بطليموس سوتر قد أسسها فى سنة 323 قبل الميلاد . فى هذه المدرسة قام سبعين من أعظم علماء اليهود بترجمة العهد القديم من اللغة العبرية إلى اللغة اليونانية و كان ذلك فى سنة 270 قبل الميلاد . هذا الإنجاز الضخم هو ما يعرف الآن بالترجمة السبعينية التى تقف شامخة تتحدى الزمن . كما قام هؤلاء العلماء أيضا بوضع نظام ترتيب كتب العهد القديم و كذلك الأسفار المحذوفة .

بدأت هذه المدرسة أساسا كمعهد علمى و أدبى ثم تطورت حتى أصبحت جامعة فلسفية و لاهوتية . و يجىء بعدها مباشرة مدرسة الإكليركية بالإسكندرية و التى كانت أول مؤسسة هامة لتعليم اللاهوت فى تاريخ المسيحية القديم ، و قد تحمل عمداؤها و مدرسوها و خريجوها مسئولية ما نسميه بفلسفة العقيدة المسيحية و كتبوا الكثير من أعظم كتب التفاسير و حددوا الشكل النهائى للمسيحية لكل الأجيال التالية.

كان أول عميد لهذه المدرسة هو بانتينوس المتنيح فى سنة 190م . جاء بعده كليمندس السكندرى الذى بذل جهدا كبيرا و ناجحا فى تحويل الكثير من اليونانيين المتعلمين إلى المسيحية . ثم جاء أوريجانوس فى عام 215م و كان فيلسوفا و عالما متعمقا فى الكتاب المقدس فكتب شروحا و تعليقات مطولة على معظم كتب العهدين القديم و الجديد . و تعتبر عظاته الدينية من أقدم نماذج العظات الدينية المسيحية . ثم جاء خلفا لأوريجانوس ديونيسيوس السكندرى (العظيم) و الذى أصبح بعد ذلك بطريركا للكنيسة من 246م إلى 264م . و من العمداء المميزين أيضا لهذه المدرسة ديدموس الأعمى الذى فقد بصره عندما كان فى الرابعة من عمره و لكن هذا العجز فى البصر لم يمنع أن يكون لديه بصيرة العقل و القلب فتفوق فى علوم القواعد و البلاغة و الشعر و الفلسفة و الرياضيات و الموسيقى كما حفظ عن ظهر قلب العهدين القديم و الجديد . و كان من بين من تتلمذوا على يديه القديس غريغوريوس نازيانزن و القديس جيروم و بلاديوس و المؤرخ روفينوس . و إذ اهتم ديدموس بتعليم العميان كان هو أول من عرف فى التاريخ بأنه ابتكر طريقة الكتابة المحفورة .

و هكذا فإنه بحلول القرن الرابع كانت الإسكندرية القبطية هى بحق مركز التعليم المسيحى فى العلم كله

2- الحركة المسكونية :

فى بداية القرن الرابع ووسط عاصفة اضطهاد الأقباط على يد دقلديانوس تعرضت الكنيسة لعاصفة أخرى هبت من داخل الكنيسة ذاتها مما جعلها أكثر خطرا . كانت تلك العاصفة هى بدعة آريوس . و بالرغم من أن بطريرك الأقباط حرم آريوس و شلحه من رتبته الكهنوتية إلا أنه استمر فى نشر هرطقته ، و إذ كان متحدثا فصيحا فقد استطاع أن يجعل الكثيرين يتبعونه و منهم اثنين من الأساقفة الليبيين و كذلك أسقف نيقوميديا يوسابيوس . و انتشرت بدعة آريوس فى مصر و ليبيا و فلسطين و آسيا الصغرى حتى وصلت لأسماع قسطنطين . و فى ذلك الحين كان النزاع بين البطرك و آريوس قد احتدم حتى وصل إلى حد إراقة الدماء فى شوارع الإسكندرية و نيقوميديا . و استدعى الإمبراطور كل الأساقفة و كانوا حوالى 1800 إلى اجتماع فى نيقيا بآسيا الصغرى و ذلك للتشاور و حل النزاع بصورة نهائية ، و كان هذا هو أول مجمع كنسى يجتمع بأمر و تحت رعاية الإمبراطور . و بما أن الهرطقة لم تكن قد وصلت إلى أوربا فقد حضر ستة أساقفة فقط يمثلون الكنيسة الغربية . أما بقية ال 318 أسقفا فجاءوا من الشرق بما فى ذلك العواصم الهندية رغم أنها كانت خارج نطاق الإمبراطورية . و فى وجود كل هذا الجمع كان من الصعب عدم ملاحظة الضرر العظيم و البتر و التشوهات التى حدثت لكثير من هؤلاء الأساقفة الذين كانوا من ضحايا اضطهادات دقلديانوس الذى سبق قسطنطين على عرش الإمبراطورية . و كان الأساقفة فى المجمع يمثلون كافة الأعراف المسيحية .

كانت أول و أهم بنود العمل لهذا المجمع هو التوصل إلى قرار فى النزاع بين أنبا ألكسندروس و بين آريوس و لذلك طلب من آريوس أولا أن يقوم بشرح أفكاره ، و بما أنه كان قد جمعها فى أناشيد موسيقية فقد فاجأهم بأن بدأ بالغناء تصاحبه الموسيقى و فرق رقص من الإسكندرية . عندما جاء الدور على أثناسيوس الذى اختاره البطريرك القبطى للإجابة ، شرح أثناسيوس و جادل بحجة قوية و بلاغة كبيرة و فند خطوة خطوة كل الأخطاء و المغالطات الواردة فى أغنية آريوس التى جاء فيها " أنه كان هناك وقت لم يكن الابن موجودا " . و كسبت حجة أثناسيوس أعضاء المجمع إلى الجانب الأرثوذكسى بما فيهم الإمبراطور الذى أثنى على أسلوب أثناسيوس و كيف استجمع كل علمه للدفاع عن الإيمان الرسولى و دحض أفكار آريوس . بعد هذا الجدل الساخن دعا الجميع لوضع قانون للإيمان ، و مرة أخرى كان أثناسيوس هو الذى وضع صيغة هذا القانون التى وافق عليها المجمع بالإجماع.

كان مجمع نيقيا عام 325م هو بداية لحقبة جديدة فى تاريخ الكنيسة يمكن أن نطلق عليها عصر المجامع المسكونية. و كما ذكرنا آنفا فقد وضعت هذه المجامع أسس العقيدة المسيحية. و فى كل هذه المجامع كان للأقباط دورا هاما ، و كانت مساهماتهم الفلسفية و اللاهوتية فى إرساء أسس و مبادئ العقيدة المسيحية لا نظير لها . و انتهت الحركة المسكونية بمجمع خلقيدونيا فى عام 451م .

3-. الحركة الرهبانية :

سوف نتكلم بتفصيل أكثر عن هذه الحركة حيث أن الكثيرين ليس لديهم فكرة كبيرة عن جذور الرهبنة، بجانب إلى أنه يوجد إلى يومنا هذا بعض المفاهيم الخاطئة عن الرهبنة و خاصة فى الغرب . لقد نشأت الرهبنة المسيحية فى مصر ، و كما يقول المؤرخ الأستاذ عطية " كانت الرهبنة هى هبة مصر للمسيحية" . فقد ظهرت الرهبنة للوجود فى مصر بداية من النصف الثانى من القرن الثالث و فى خلال عقود قليلة انتشرت فى كل أنحاء العالم المسيحى . و كانت الصفات المميزة التى شكلت الرهبنة القبطية هى :

1. الرغبة فى الصلاة بلا توقف و لا كلل

2. الاشتياق للتأمل فى كلمة الله

3. تدريب الذات على الصوم و السهر للصلاة و حياة البتولية و إخضاع رغبات الجسد و الفقر الاختيارى و نبذ اهتمامات العالم .

و يعتبر معظم المؤرخين أن القديس أنطونيوس (251 - 356م ) هو أول من ترك العالم و توغل فى الصحراء الشرقية فى مصر. و الحقيقة إن الرهبنة كحركة دينية قد بدأها فعلا القديس أنطونيوس و لكن قبل ذلك بوقت طويل كان يحدث أن ينطلق بعض الأشخاص للحياة فى البرية . و يعطينا "أكتا سانكتورم" مثال على ذلك من القرن الثانى الميلادى حين قرر أحد أثرياء الإسكندرية المسيحيين و يدعى فرانتونيوس أن يترك العالم و استطاع اقناع سبعين آخرين على الذهاب معه إلى برية نيتريا حيث عاشوا حياة الصلاة و التأمل .

إن الدافع الأساسى وراء الرهبنة القبطية يمكن أن يلخص فى كلمة واحدة و هى "المحبة" . فعندما يحب الإنسان الله من كل قلبه يشتاق أن يتوحد معه فى كل الأوقات . و لن يشغله أحد أو شىء غير الله (كورنثوس الأولى 7 : 32 - 35) ، و فى هذا الحب فهو يسعد أن يضحى بكل شىء لينعم بالتوحد مع الله حتى يصل إلى طهارة القلب التى تقوده إلى الكمال فى الله .

و بالنسبة لآخرين قد يكون الدافع هو التألم مع المسيح و من أجله كما يعلمنا القديس بولس الرسول :" لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضا أن تتألموا لأجله" (فيلبى 1 : 29) . فيبدو الراهب بانزوائه فى البرية و كأنه يقول : " لأعرفه و قوة قيامته و شركة آلامه متشبها بموته" (فيلبى 3 : 10) .

و بذلك نرى أنه قبل دخول الإمبراطورية الرومانية فى المسيحية كان المسيحيون يتعرضون للحرب و التعذيب القاسى و القتل الجماعى من أجل إيمانهم ، ثم بعد صدور مرسوم ميلان فى 313م أخذ المسيحيون على عاتقهم جهاد أنفسهم فكان الرهبان يعذبون أجسادهم تحت شمس الصحراء الحارقة و يمارسون تدريبات قاسية على الزهد و التقشف فكانوا كخلفاء للشهداء و كأن المرء يسمعهم يقولون : "كما هو مكتوب أننا من أجلك نمات كل النهار" (رومية 8 :36) و فى ذلك يقول القديس يوحنا ذهبى الفم " أن الشهيد يعذب لأيام حتى ينال إكليل الشهادة و لكن الراهب يتحمل كل أيام حياته قسوة و عذابات عهود التقشف و الزهد التى فرضها على نفسه.

تطور الرهبنة القبطية :

يمكننا تقسيم تطور الرهبنة القبطية على ثلاث مراحل :

أ?. الرهبنة الأنطونية: هذه هى المرحلة الأولى و التى يتجه فيها إنسان مسيحى تقى إلى حياة التوحد و الزهد و التقشف لإخضاع الجسد و السمو بالروح . و من المؤكد أن كثير من النساك قد عاشوا فى صحراء مصر قبل القديس أنطونيوس و من أشهرهم الأنبا بولا البار و الذى انطلق إلى البرية سنة 218م تقريبا و كان الله يطعمه بطريقة إعجازية عن طريق غراب كان يأتيه يوميا بنصف رغيف من الخبز و كانت نياحته بصورة طبيعية عندما كان عمره 113 عاما و كان قد قابل القديس أنطونيوس قبل نياحته بوقت قصير و قصته معروفة فى تاريخ الرهبنة. و مع ذلك فإن الرهبنة قد عرفت و حددت معالمها بدقة على يد القديس أنطونيوس و الذى أرخ لحياته القديس أثناسيوس بنفسه. فعندما كان لا يزال شابا فى التاسعة عشرة من العمر لمست قلبه كلمات الرب للشاب الغنى : " إن أردت أن تكون كاملا فاذهب و بع أملاكك و اعط الفقراء فيكون لك كنز فى السماء و تعال اتبعنى" (متى 19 :21) فباع كل ميراثه و أعطى جزء لاخته و الباقى للفقراء ثم ذهب إلى الصحراء الشرقية ليعيش حياة زهد فى توحد تام لبلوغ الكمال و ظل يتوغل إلى عمق البريةو يحيا فى تقشف صارم و صيامات طويلة . و يحدثنا القديس أثناسيوس أن صراع القديس أنطونيوس ضد الشياطين كان يكبر و يتعاظم. و طوال حياته فى الصحراء لم يعد القديس أنطونيوس إلى وادى النيل إلا مرتين ، الأولى فى عام 311م حين كان ظهوره بلحيته الطويلة و وجهه الذى يشع نورا فى وسط المسيحيين المعذبين إبان الاضطهاد على يد مكسيمينوس كافيا لتقوية إيمانهم و إزالة خوفهم . و المرة الثانية فى عام 338م لمحاربة بقايا و آثار بدعة آريوس. و ذاع صيت القديس أنطونيوس فتبعه الكثيرين يطلبون إرشاده الروحي و هكذا بدأت المرحلة الثانية من تطور الحياة الرهبانية.

ب?. تجمعات النساك أو الشبه-توحد: استمر تلاميذ القديس أنطونيوس فى خلوتهم الانفرادية فى المناطق المجاورة لمغارته. و مع ازدياد أعدادهم ظهرت الحاجة لعمل مناطق تجمعات للنساك فى هذه المناطق من البرية . و كانت هذه التجمعات تلتف حول أحد الآباء القديسين العظام لأسباب تتعلق بالأمان الجسدى و الروحى . و استمرت أعداد هذه التجمعات فى التزايد لتغطى مساحات واسعة فى الصحراء الشرقية و حتى البحر الأحمر و امتدت أيضا جنوبا و غربا. و لكن بقيت أكبرهم هى تلك التى أحاطت بمغارة القديس أنطونيوس و الذى كان قد وصل لدرجات عالية من القداسة. و مع هذا التطور حدث توازن ما بين حياة التوحد و حياة التجمع فكان كل ناسك يقضى أيام الأسبوع بمفرده فى مغارة أو صومعة ثم يجتمعون جميعا فى أيام السبت و الأحد فى الكنيسة للصلاة و لتقديم صلاة عشية و شركة القداس و التناول و سماع بعض الدروس الروحية. و هكذا أعطى هذا النوع من النسك الفرصة للصلوات الفردية و التأمل و التدرب على الزهد و التقشف إلى جانب الصلوات و العبادة الجماعية .

ت?. الباخومية …???…. أو حياة الشركة : لم تكن المرحلة الثالثة من تطور الحياة الرهبانية هى التطور الطبيعى من بعد المرحلة الثانية. فبينما كانت المرحلة الثانية تزدهر و أعداد تجمعات النساك تتزايد كان القديس باخوميوس (290 - 346م) يكتب فصلا جديدا من تاريخ الرهبنة . و قصة حياة القديس باخوميوس قصة مذهلة ، فقد ولد وثنيا و خدم فى شبابه فى جيش قسطينطين. و فى أثناء المعارك التى خاضها تأثر كثيرا مما رآه من المسيحيين من محبة و تفانى فى خدمة الجنود وغسل أرجلهم و تقديم الطعام لهم بالرغم من فظاظة و قسوة هؤلاء الجنود فى معاملة المسيحيين ، فكان صلاح و طيبة هؤلاء المسيحيين هو ما كسبه للمسيحية. ثم أصبح هو نفسه من المتوحدين و تتلمذ لشيخ ناسك اسمه بلامون الذى درب باخوميوس تدريبا قويا على أساليب قمع و إخضاع الجسد للوصول إلى طهارة القلب . و كان هذا المزيج من التدريب على الحياة العسكرية ثم على الحياة الروحية و التقشف و الزهد بالإضافة إلى إيمانه أن هدف الناسك هو الصلاة باستمرار ، كانت كلها عوامل قادته مجتمعة إلى بدأ المرحلة الأخيرة من تطور الرهبنة القبطية أو ما يسمى بحياة الشركة الباخومية.

و عند نياحة القديس باخوميوس فى سنة 364م كانت الكثير من الأديرة قد تأسست و يعيش بها الكثير من الرهبان و انتشرت إلى مناطق أخرى من تمركز النساك و كانت كلها تتبع التقليد الباخومى. و يقدر المؤرخ هاردى عدد الرهبان فى البرية المصرية عند نهاية القرن الرابع ما بين مائة ألف و مائتى ألف راهب من بين تعداد السكان الذى لا يزيد عن سبعة و نصف مليون نسمة . و كانت القاعدة التى وضعها القديس باخوميوس هى بحق نقطة تحول فى تاريخ الرهبنة المسيحية.

و كما يذكر الأستاذ عطية المؤرخ المعروف فى كتابه "تاريخ المسيحية الشرقية" :

"إن الاتجاه العام فى النظام الباخومى يظهر امتزاج الشخصية العسكرية مع القداسة فى شخص واحد ، فقد حدد المشرع كل تفاصيل أنشطة الراهب بالنهار و بالليل من ملبس و مأكل و أسلوب و ساعات النوم و الترحال و ساعات العبادة و حدد أيضا قانون للعقوبات يطبق بصرامة على المقصرين. إلا أن باخوميوس لم يكن جبارا أو غير إنسانى فى فرض نظام لا يرحم على أتباعه. كان على الراهب أن يخضع جسده و يكبح جماح شهواته و لكن لم يكن مطلوبا أن يحطمه فى خلال سعيه للملكوت" .

عرفت الرهبنة القبطية حول العالم من خلال قصة حياة القديس أنطونيوس التى سجلها القديس أثناسيوس . فجاء الكثير من الرجال الأتقياء من أماكن متفرقة فى العالم و توجهوا إلى هذه الأديرة ليجلسوا عند أقدام آباء عمالقة فى الإيمان و يتعلموا منهم طرق النسك و الرهبنة فكان منهم اليونانيين و الرومان و الكبادوك و الليبيين و النوبيين و الأثيوبيين و غيرهم آخرين. و خصص لكل جنسية مكان خاص فى الدير و رئيس رهبان من جنسيتهم لإرشادهم . و لم تقم أى فواصل على أساس الجنس أو العلم أو اللون أو اللغة بل أصبحت البرية المصرية على اتساعها مدرسة واحدة لتعليم الروحانيات و التصوف القبطي للعالم أجمع. و قد إجتذبت البرية المصرية بعض أعظم شخصيات ذلك العصر جاءوا لرؤية هؤلاء القديسين و لتتبع خطاهم ، و كان من بين هؤلاء القديس يوحنا ذهبى الفم أسقف القسطنطينية و القديسين جيروم و روفينوس الإيطاليينو القديس باسيلى العظيم و الأب الكبادوكى الذى أدخل الرهبنة إلى بيزنطة و كذلك القديس يوحنا القسيسى الذى حمل الرهبنة القبطية إلى فرنسا و غيرهم كثيرين.

قيل إن الرهبنة للكنيسة هى مثل الأساس للبنيان كلما كان قويا و عميقا كلما ازداد البناء قوة و ارتفاعا. و التاريخ الكنسى يؤكد هذه الحقيقة عندما يحكى أنه فى الأيام التى كانت الرهبانية قوية فى مصر كانت الكنيسة كلها قوية . فالرهبان من خلال صلواتهم الدائمة و تكريسهم لأنفسهم و شفاعتهم يجعلون الأديرة مصادر قوة للكنيسة. فبالرغم من حقيقة المعاناة التى عاشتها الكنيسة القبطية عبر تاريخها الطويل على أيدى اليونانيين و الرومان و المسلمين ثم الإرساليات الغربية فإن نعمة الله و قوة الرهبانية القبطية قد أبقت الكنيسة صامدة كصرح للمسيحية الأرثوذكسية الرسولية الأصيلة .

الرسالة القبطية :

إن المسيحية هى ديانة تبشيرية .إن القدوة التى أعطانا إياها السيد المسيح و تعاليمه لنا و كذلك بشارة التلاميذ لليهود و الأمم و أيضا بشارة القديس مارمرقس لمصر كلها دلائل أكدت للأقباط الطابع الكرازى للكنيسة و بالتالى فإن حركة الكرازة بدأت فى مصر مع الخطوات الأولى للمسيحية و ذلك من خلال المؤمنين الأوائل و قد سارت هذه الحركة فى ثلاث قنوات متزامنة:

أ?. أفراد و جماعات من الشهود و الكارزين :

تفوق الأقباط فى نواحى الكرازة و سجل التاريخ الكثير من قصص الأفراد من أمثال القديس أثناسيوس الرسول و الممرضة البسيطة التى صاحبت الفيلق الرومانى و كلها تؤكد حماس الأقباط الشديد و تكريسهم الوقت و الجهد للكرازة بالإنجيل.

لقد تم نفى القديس أثناسيوس بابا الإسكندرية خمس مرات بسبب معارضته الصامدة فى وجه بدعة آريوس . و من بينها مرتين نفى إلى أوربا ، فى المرة الأولى بدأ فى القسطنطينية حتى وصل إلى مدينة ترييف و فى المرة الثانية نفى إلى روما. و كان فى كل منفى يكرز بالمسيحية الأرثوذكسية لكل من المسيحيين و الأمميين و قام بتعريف الغرب بروحانيات الآباء الأطهار و بنظم الرهبنة المزدهرة فى الصحراء المصرية.

إن قصة الفيلق الطيبى (نسبة إلى طيبة و هى الآن مدينة الأقصر فى جنوب مصر) هى مثال عظيم على الشهادة للإيمان المسيحى . كان مكسيميان و هو الرجل الثانى فى السلطة بعد الإمبراطور دقلديانوس قد أمر الفيلق فى عام 285م بالتمركز عند حدود جول (فرنسا) استعدادا لسحق التمرد هناك . و قد عسكر الفيلق فيما نسميه اليوم سويسرا . و فى الليلة التى تسبق الهجوم أمر مكسيميان الفيلق بأن يصاحبه للمعبد الوثنى للصلاة للآلهة و لكن الجنود الأقباط رفضوا جميعا الانصياع لهذا الأمر و أعلنوا أنهم مسيحيين مما أثار غضب مكسيميان فأمرهم بالوقوف فى صف واحد و أمر بقتل كل عاشر رجل فيهم أملا فى إخافة الباقين . فاجتمع من بقى منهم و كتبوا له رسالة عليها توقيعاتهم كلهم و قالوا فيها :

""أيها القيصر العظيم - نحن جنودك و لكننا فى نفس الوقت عبيد لله . نحن ندين لك بالخدمات العسكرية و لكن ولاءنا الأول هو لله . نحن نتلقى منك أجرنا اليومى و لكن من الله لنا المكافأة الأبدية . أيها القيصر العظيم نحن لا نستطيع أن نمتثل لأى أمر يتعارض مع ما أمرنا به الله و إذا كانت أوامرك تتفق مع ما أمرنا الله به فسوف نطيع بكل تأكيد و إذا لم تكن ف " ينبغى أن يطاع الله أكثر من الناس " (أعمال 5 :29) فولاءنا لله هو فوق كل ولاء . لسنا بمتمردين لأننا لو كنا كذلك لدافعنا عن أنفسنا و معنا أسلحتنا و لكننا نفضل الموت صامدين على أن نحيا و نحن ملوثين. كمسيحيين سوف نخدمك و لكننا نعلن للملأ اننا لن نتخلى عن إيماننا بإلهنا. ""

استشاط قيصر غضبا من هذا الثبات فى الإيمان و أمر الجنود الرومان بالقضاء على الفيلق كله فقتلوهم جميعا. و إذ يصف لنا المؤرخ الأب شينو هذا الحدث يقول :

"" لقد استشهدوا جميع .. كانت عملية إبادة بشعة و مذبحة ليس لها مثيل، فارتوت الوديان من الدماء حتى الثمالة و نثرت الأجساد فى الريح . و لكن باستعدادهم لتقديم هذه التضحية الفائقة أثبت رجال الفيلق الطيبى أن إخلاصهم لإلههم و ملكهم السماوى يفوق بسالتهم كجنود فى جيش حاكم زائل""

و كانت تصحب الفيلق ممرضة اسمها فيرينا شاهدت كل ما حدث فقضت عدة أيام فى الصلاة و التأمل حتى أيقنت أن الله بحكمته فى الإبقاء على حياتها أرادها أن تخدمه بالكرازة لهؤلاء الوثنيين و بذلك أمضت بقية حياتها تبشر الناس فى سويسرا . و إلى جانب ذلك كانت تعلمهم أسس النظافة الصحية و مازالت إلى يومنا هذا ترسم فى الأيقونات و هى تحمل إبريق الماء فى يد و مشط فى اليد الأخرى .

و قد وصل المبشرين الأقباط إلى الجزر البريطانية قبل وقت طويل من وصول القديس أوجستين الكانتربيرى فى 597م. و قد كتب المؤرخ المعروف ستانلى لين بوول يقول :

"لسنا نعرف بعد كم نحن هنا فى الجزر البريطانية مدينين لهؤلاء النساك البعيدين . و هناك احتمال كبير أن نكون مدينين لهم بالبشارة الأولى بالإنجيل فى إنجلترا حيث ساد قانون الرهبنة المصرية حتى مجىء القديس أوجستين. و أهم من ذلك هو الاعتقاد بأن المسيحية الأيرلندية و التى كانت أعظم عوامل التحضر فى بداية العصور الوسطى بين كل الأمم فى الشمال كانت فى الواقع وليدة الكنيسة المصرية . إن أجساد سبعة رهبان مصريين مدفونة فى برية يولديث و هناك الكثير من المراسم الدينية و الفنون المعمارية الأيرلندية القديمة التى تذكرنا بما سبقها من آثار مسيحية فى مصر . الكل يعلم أن الحرف اليدوية للرهبان الأيرلنديين فى القرنين التاسع و العاشر تفوقت على أى شىء آخر عثر عليه فى أماكن أخرى من أوربا ، و إذا تتبعنا تاريخ تطور الزخارف التى تشبه البيزنطية لوجدناها قد تأثرت بالمبشرين المصريين و لوجدنا إن لدينا أكثر مما تخيلنا لنشكر الأقباط عليه. "

تعيين الكارزين و البعثات الكرازية :

منذ نشأة الكنيسة فى مصر إختير عدد من الذين دخلوا الإيمان و كلفوا بمهام تبشيرية - و يقول لنا التقليد الكنسى أن القديس مارمرقس قد اصطحب معه بعض الأقباط فى رحلته التبشيرية من الأسكندرية إلى الخمس مدن الغربية فى شمال أفريقيا و ذلك لمساعدته فى الكرازة بالإنجيل لشعوب هذه البلاد .

و يتضح لنا من خلال كتابات المؤرخ الكنسى يوسابيوس أسقف قيصرية (260 - 340م ) أن العمل التبشيرى كان يشكل حركة منظمة داخل الكنيسة و مدرسة التعليم الدينى التابعة لها ، فاختير الكارزين و حددت لهم مناطق كرازتهم كما كتب يقول :

"فى ذلك الوقت كان هناك رجل اسمه بانتينوس له ولع شديد بالتعلم و أظهر محبة قوية و حماس شديد لكلمة الله فعين للبشارة بإنجيل السيد المسيح للأمم فى الشرق"

و خلال القرنين الثالث و الرابع و مع ازدهار الرهبنة توجه العديد من الرهبان الباخوميون من جنوب مصر إلى النوبة للكرازة فيها . و لقد استطاع هؤلاء و معهم بعض الأقباط المسيحيين الذين هربوا من الاضطهاد الرومانى إلى جنوب و ادى النيل أن يكسبوا نفوس كثيرة إلى المسيح . و من الجدير بالذكر أن مملكة النوبة قد تحولت كلها إلى الإيمان المسيحى الأرثوذكسى رسميا فى عام 559م .

و لعل من أهم أعمال الكرازة القبطية هو تحول الحبشة (أثيوبيا) إلى المسيحية على يد فرومنتيوس . و كان فرومنتيوس و أخوه إيديسيوس قبطيان مسيحيان يعيشان فى تيير و فى إحدى رحلاتهم التجارية إلى الهند تحطمت سفينتهم قرب أكسوم عاصمة الحبشة و اقتيدوا إلى الملك الذى عين إيديسيوس كحامل الكأس و عين فرومنتيوس كسكرتير خاص له و كذلك كمدرس خاص لولى العهد الأمير إيزاناس . و قام فرومنتيوس بتعليم إيزاناس القراءة و الكتابة و الرياضيات و الديانة المسيحية. و عندما أصبح إيزاناس ملكا و كان قد آمن بالمسيح فأعلن المسيحية دينا رسميا للبلاد . و من فوره سافر فرومنتيوس إلى الإسكندرية و طلب من البطريرك القديس أثناسيوس أن يرسل أسقفا لتأسيس الكنيسة هناك و لكن القديس أثناسيوس إختار فرومنتيوس نفسه و رشمه باسم الأسقف سلامة و منذ ذلك الحين و الكنيسة الأثيوبية تعتبر الكنيسة القبطية هى الكنيسة الأم .

التوافد لزيارة كنيسة الإسكندرية :

كما ذكرنا آنفا ، توافد المسيحيون من كل دول العالم المعروف فى ذلك الوقت إلى مصر إما للدراسة أو للجلوس عند أقدام عمالقة فى الإيمان من آباء البرية المصرية . و كان هؤلاء التلاميذ و الزائرين يعودون لبلادهم و هم يحملون روحانيات و أفكار و معتقدات و ممارسات القوانين الرهبانية التى لكنيسة الإسكندرية الأرثوذكسية . وكانوا يكتبون الكتب - مثل يوحنا

منقول من موقع قبطي