عباس عبد النور: محنته مع القرآن أم مع عقله؟

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

الرد على مقطع خالد بلكين : الوحي المكتوم المنهج و النظرية ج 29 (اشاعة حول النبي محمد) » آخر مشاركة: محمد سني 1989 | == == | الإعجاز في القول بطلوع الشمس من مغربها » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == | الكاردينال روبيرت سارا يغبط المسلمين على إلتزامهم بأوقات الصلوات » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == | لمسات بيانية الجديد 8 لسور القرآن الكريم كتاب الكتروني رائع » آخر مشاركة: عادل محمد | == == | الرد على شبهة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنهما بعمر السادسة و دخوله عليها في التاسعة » آخر مشاركة: محمد سني 1989 | == == | المصلوب بذرة ( الله ) ! » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == | كاهن يعلنها بصدق من داخل الكنيسة : الإسلام أكثر منطقية من المسيحيّة ! » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == | إجابة عن سؤال : من نسب لله الصّاحبة و الولد ؟؟ » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == | Moses PBUH in the river » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == | قـُــرّة العُــيون : حلقة 01 » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == |

مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

    

 

 

    

 

عباس عبد النور: محنته مع القرآن أم مع عقله؟

النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: عباس عبد النور: محنته مع القرآن أم مع عقله؟

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    2,584
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    18-08-2023
    على الساعة
    04:23 PM

    عباس عبد النور: محنته مع القرآن أم مع عقله؟

    عباس عبد النور: محنته مع القرآن أم مع عقله؟


    د. إبراهيم عوض

    Ibrahim_awad9@yahoo.com
    http://awad.phpnet.us/

    بغتة وعلى غير انتظار اصطدمتُ فى المواقع والمنتديات النصرانية المهجرية بكتاب اسمه: "محنتى مع القرآن" مطبوع على غلافه أنه منشور فى دمنهور سنة 2004م وأن مؤلفه دكتور مصرى اسمه عباس عبد النور وأنه من الكتب الممنوعة من التداول. وكانت نبرة الفرح والشماتة واضحة بل صارخة فى تلك المنتديات والمواقع على اعتبار أن صاحب الكتاب عالم دينى مسلم انقلب على الإسلام وأعلن تبرؤه منه وكُفْرَه به، وأخذ يهاجمه ويهاجم الكتاب الذى نزل على نبيه مؤكدا أنه لم ينزل من السماء، وليس ثمة إله ولا يحزنون. ولقد نزّلتُ الكتاب فى التو واللحظة على جهازى وشرعت أقرأ فيه قليلا قليلا فى بعض أيام رمضان المبارك رغم انشغالى ببعض الأعمال الشديدة الأهمية. وكنت أدوّن ما يعنّ لى من ملاحظات على ما فى الكتاب كلما قرأت شيئا يستدعى ذلك.
    وأول ما عن لى من تلك الملاحظات هو: هل هناك شخص حقيقى باسم عباس عبد النور؟ فأين هو؟ وما الذى يعرفه الناس عنه فى مصر، وفى دمنهور على وجه الخصوص بوصفها المدينة التى كان يعيش فيها وتعيش فيها أسرته من قبل جيلا وراء جيل، تُخَرِّج كبار علماء الدين ومشايخ الطرق؟ لقد جَشَّمْتُ صديقا لى أن يتقصى هذا الأمر فاتصل ببعض معارفه فى دمنهور فنَفَوْا أن يكون فى مدينتهم أسرة بهذا اللقب أو شخص بهذه الصفات. بل إن الإنسان ليتساءل حائرا: ترى هل لقب "عبد النور" شائع بين المسلمين المصريين؟ لقد رحت أكد ذهنى وأعصر ذاكرتى لعلى أستطيع أن أتذكر شخصا أعرفه أو سمعت به أو قرأت عنه يحمل هذا اللقب فلم يتيسر لى رغم ما بذلت من جهد جهيد. ونفس الإجابة سمعتها من كل من استطلعت رأيهم فى ذلك الموضوع. كل ما استطعنا أن نستحضره فى بالنا هو لقب "أبو النور"، أما "عبد النور" فكلا وألف كلا.
    ثم إن المروجين للكتاب، ومعهم كاتب مقدمته، يذكرون للمؤلف دواوين شعرية وكتبا فى الفلسفة والدين وتفسير القرآن، ويصفونه بما يفيد أنه كان خطيبًا مِصْقَعًا، وهو ما يعنى أنه كان مشهورا بعيد الصيت، فكيف غاب عنا عالم وشاعر وخطيب ومؤلف على هذه الشاكلة؟ إننا لا نتذكر من المعروفين أرباب الكلمة من أهل دمنهور سوى د. عبد الوهاب المسيرى، وكذلك عبد المعطى المسيرى، الذى كان صاحب مقهى هناك، والذى لم أقرأ له إلا كتابا واحدا. فإذا كان عباس عبد النور له كل تلك الكتب والأشعار، وكان من الخطباء المفوهين الكبار، وكان فوق ذلك حاصلا على الدكتوراه فى الفلسفة من باريس، فكيف جهلناه وجهله غيرنا فى طول البلاد وعرضها على هذا النحو المخزى؟ أولو كان عبد النور شخصا حقيقيا، وليس شخصا مزيفا كما يقول كل شىء كتبه عنه واضع مقدمة الكتاب وكتبه هو عن نفسه فى دَرْجه، أكنا نجهله ويجهله الناس جميعا إلى هذه الدرجة؟ ترى أين تلك الكتب والدواوين التى ألفها عباس الهلاس؟ ولماذا لم نسمع بشىء منها؟
    وعلى ذكر التكية التى يقول كاتب المقدمة إن عباس المحتاس كان مديرا لإحداها فى دمنهور، هل توجد حقا تكية فى دمنهور؟ فأين هى إذن؟ لقد كانت توجد تكية أو أكثر فى القاهرة، لكننا لم نسمع من قبل بوجود تكايا فى عاصمة البحيرة. ولقد قرأت للفنان المصرى التشكيلى عصمت داوستاشى عن تكية فى القاهرة فكر ذات مرة فى اللجوء إلى شيخها (الذى كانت له علاقة بأبيه) ليعيش بعيدا عن بيت الأسرة فى الإسكندرية فرارا من والدته، التى كانت تضيق برسومه وما تسببه لها من إرهاق فى تنظيف ما توسخه من أثاث البيت، وكيف استقل المواصلات حتى بلغ مدينة دمنهور حيث انتابه الخوف من تكملة المشروع، فعاد أدراجه بالقروش القليلة التى تبقت معه إلى الإسكندرية دون أن يشير إلى تلك التكية المزعومة وهو يكتب تلك الذكريات، بل دون أن تخطر فى باله مجرد خطور.
    وهذا نص ما كتبه الرسام المعروف عن هذا الموضوع فى كتابه: "ذكريات الأحلام القديمة":"قبل ذلك بثلاث سنوات تقريبا (أى فى عام 1959م) قد حزمت حقيبة الكشافة بمتعلقاتي، وأخذت طريق مصر الاسكندرية الزراعي هدفا لي علي قدمي، حيث قررت أن أهجر أسرتي ومدينتي والدنيا كلها وأن أنعزل في التكية البكتاشية بجبل الجيوشي وأن أمشي بملابس الكشافة التي تحميني من فضول الآخرين لأنه لم يكن معي ما يكفي لركوب القطار، أمشي حتى القاهرة متوجها إلى التكية في جبل المقطم لأعيش هناك مع الدراويش بعيدا عن مشاكل أسرتي وخناقات أمي المتكررة معي لأني أرسم في المنزل، فيتسخ الأثاث وهي لا تتحمل مثل هذه الأمور. أتذكر أني مشيت بضعة كيلومترات حتى توقفت سيارة نقل لأستقلها حتي مدخل مدينة دمنهور فأدخلها مع الليل وينتابني الخوف فأقطع تذكرة رجوع للإسكندرية بما معي من نقود قليلة مؤجلا مشروع دروشتي المبكر إلى وقت آخر لم يأت بعد".
    ليس ذلك فحسب، بل لو كانت هناك مثل تلك التكية المزعومة فى دمنهور ما مرت هذه المسألة مرور الكرام ولكان لتلك التكية شأن فى الحياة العامة يشبه، ولو إلى حد ما، شأن التكية التى كانت بالقاهرة على ما يصوره لنا قلم داوستاشى نفسه حين زارها فى بدايات ستينات القرن المنصرم برفقة والده: "كان زي الدراويش مكونا من جلباب يتوسطه حزام عريض كان يوضع فيه فيما مضى بعض الأشياء، وربما أسلحة وعصا البكتاشية. وفوق هذا الجلباب والحزام القماش الملفوف على الوسط ارتديت عباءة خفيفة من القطن صيفا، وثقيلة من الصوف شتاء، ثم ارتديت طربوشا أو عمامة البكتاشية، وهي ذات 12 ضلعا بعدد الأئمة الاثني عشر في المذهب الشيعي، ثم وضعت حول رقبتي قلادة من حجر لامع أشبه بحجر التلك علي شكل نجمة اثنتي عشرية هي الأخرى على ما أتذكر. ولعل التفاصيل بالصور أكثر وضوحا، تبدو فيها الملابس كلها فاتحة من اللون الأبيض الي الرمادي. لم تكن الصور الملونة قد ظهرت بعد ولا أعرف الألوان بدقة. وعليَّ أن أعثر على صور ملونة لبابا سري في تكية المغاوري بملابسه. وأتذكر أن مجلة "آخر ساعة" كانت قد صورته في حياته اليومية بالتكية وهو يتجول في سوق الخضار أو مع ضيوفه. كان شخصية مشهورة في ذلك الوقت، وكانت التكية ملتقي شخصيات عالمية مختلفة: بعضهم ملوك وأمراء، وآخرون سياح ومستشرقون، ونجوم السينما والسياسة والمجتمع في مصر. في ذلك الوقت من عام 1962 كنت أبلغ من العمر تسعة عشر عاما مفعما بالحياة والحركة. لم يكن اهتمامي الديني قد نضج، ولم أكن أصلي الا صلاة الجمعة مع أبي في مسجد أبي العباس، ولم يخطر ببالي أن أصبح درويشا، وإن كنت مبهورا بحياتهم خاصة في تكية المغاوري الأسطورية".
    ويذكر كاتب مادة "دمنهور" فى موسوعة "الويكيبيديا" المعالم الأثرية التى تتميز بها مدينة دمنهور فيوردها على النحو التالى: "مسجد التوبة ثانى مسجد في أفريقيا بعد مسجد عمرو بن العاص، ومسجد الحبشي بُنِيَ في اوائل القرن العشرين، وهو تحفة معمارية رائعة، وأوبرا دمنهور: بُنيت في عهد الملك فؤاد. تم تجديد دار الاوبرا وترميمها لتعود لشكلها الأول الجميل، ومبنى مكتبة البلدية: بني في عهد الملك فؤاد، ومبنى مدرسة دمنهور الثانوية العسكرية: تحفة معمارية رائعة بنيت في عهد الملك فؤاد، ومبنى دار الاسعاف: بُنِيَ في عهد الملك فؤاد، وبها مستشفى تعليمي، وكوبري فلاقه المتحرك". وكما يرى القارئ ليس هناك أدنى إشارة إلى أية تكية فى تلك المدينة المظلومة مع عباس الهلاس. كذلك لم أجد أدنى إشارة إلى التكية فى موقع مدينة دمنهور أو فى أى موضع آخر على المشباك.
    ولقد كتب نجيب محفوظ عن التكية فى أكثر من عمل قصصى له، فكيف لم يحدث أن تحدث عن تكية دمنهور أحد من تناولوا تلك المدينة فى أعمالهم أو كانوا من أبنائها أو كانت لهم بها علاقة قوية، كتوفيق الحكيم، الذى يقال إنه كتب روايته الشهيرة: "يوميات نائب في الأرياف" على مقهى الأديب عبد المعطى المسيرى فيها، ومحمد فريد أبو حديد فى "أنا الشعب" أو عبد المعطى المسيرى فى أى من كتبه أو أقاصيصه، أو يس الفيل (الذى عمل كاتبا بمنطقة دمنهور التعليمية، وأحد مؤسسي جمعية الأدباء بدمنهور) فى أى من قصائده أومسرحياته أو قصصه، أو د. عبد الوهاب المسيرى فى سيرته الذاتية، أو محمد صدقى الأديب الماركسى فى أى من قصصه، أو خيرى شلبى فى "وكالة عطية" مثلا؟
    والداهية الدهياء هو أن يقول كاتب المقدمة إن عباس الهلاس كان يعمل "مديرا" للتكية. بالله متى كان المشرف على التكية يسمى: "مديرا"؟ أنحن فى جمعية استهلاكية؟ إن مثل ذلك المشرف إنما يلقب بــ"شيخ التكية". وبالمناسبة فهناك رواية مشهورة صدرت أوائل الخمسينات من القرن البائد فى سلسلة "اقرأ" المصرية بعنوان "شيخ التكية" لمحمد عبده عزام. " شيخ" لا "مدير"! لكن شاء الله الذى لا تُرَدّ له مشيئة رغم أنف مؤلف الكتاب الكافر الذى يحادّ الله ورسوله أن يفضح اللصوص مخرجى هذا الفلم الهندى الردىء فأوقعهم فى شر أعمالهم ليرتكبوا هذا الخطأ الفاضح ويعرف الناس أنه لا مكان فى الدنيا لما يسمى بــ"الجريمة الكاملة".
    كذلك وقع كاتب المقدمة فى مصيبة أخرى فاضحة، إذ استخدم للتعبير عن "وزارة الأوقاف" عبارة "دائرة الأوقاف الإسلامية" (ص5)، مما لا يعرفه المصريون، إذ يقولون: "وزارة الأوقاف" لا "إدارة الأوقاف"، فضلا عن أننا فى مصر لا نصفها بــ"الإسلامية" لأنه لا يوجد عندنا فى الحكومة إلا أوقاف إسلامية. ومعروف أن العرب غير المصريين يستعملون مصطلح "دائرة" للدلالة على المصالح الحكومية. ومعنى هذا أن كاتب المقدمة ليس مصريا. وهذا يذكرنى بما ثار فى ستينات القرن الماضى بخصوص وثيقة سياسية ورد فيها اسم "الاتحاد السوفييتى" بألف بعد الياء (هكذا: السوفياتى)، فكان هذا دليلا على أنها مفبركة فى بيروت وليست صادرة عن مصر لأننا فى مصر نكتبها بياءين على عكسهم فى لبنان، إذ يكتبونها بألف بعد الياء. فانظر أيها القارئ كيف تكون مثل هذه الدقائق الصغيرة فيصلا فى تلك القضايا الخطيرة. وهو ما يشبه ما نحن فيه الآن. ليس هذا فحسب، إذ يسمِّى عباس ابن نسناس العرقسوس: "ماء السوس" (ص262) كما يقول إخواننا فى الشام مثلا، وهو ما لا تجده فى مصر أبدا. وعلى ذكر السوس فإن لى صديقًا من علماء سورية كان يعمل معنا فى جامعة أم القرى بالسعودية، وكان كلما زرته فى بيته قال لى: ما رأيك فى أن أُحْضِر لك "السوس"؟ ذلك أنه يعرف مدى حبى للعرقسوس!
    بل إنى لا أتصور أن يكون الكتاب قد طُبِع فى مصر أصلا، ناهيك بدمنهور تلك المدينة الصغيرة التى لو كان الكتاب قد تم طبعه فيها لعُرِف الطابع على الفور وكانت فضيحة. بل إننى لأتصور أن الكاتب ليس مصريا، وربما ليس مسلما رغم كل الآيات والأحاديث التى يناقشها ويستشهد بها. ذلك أن مثل تلك الاستشهادات ليست من الصعوبة بمكان. ولعل من الضرورى، لدلالته ذات المغزى، أن أنبه إلى الطريقة التى يحيل بها الكاتب إلى مواضع الآيات القرآنية، إذ تعتمد فى معظم الحالات على ذكر رقم السورة كعادة المستشرقين والمبشرين لا على اسمها، وفى المرات النادرة التى يذكر فيها اسم السورة نراه يعقبه بذكر رقمها. وغير بعيد كتاب "الفرقان الحق"، الذى أكثر فيه ملفقه النصرانى الفلسطينى من إيراد العبارات القرآنية وتقليدها والنسج على منوالها. وهناك عبد الله العربى، مترجم المقدمة التى مهد بها المحامى البريطانى المولود فى نهاية القرن السابع عشر: جورج سيل (أو جرجيس صال) لترجمته الإنجليزية للقرآن الكريم. لقد صاغها المدعوّ: عبد الله العربى بعربية متينة ولا عربية أجعص شيخ أزهرى من الأزاهرة المودَّكين، وهو مع ذلك نصرانىٌّ قُحٌّ من نصارى الشام فيما أتصور.
    كذلك هل يمكن التصديق بأن رجلا يذهب إلى باريس ويحصل على دكتوراه فى الفلسفة ثم يعود فيشتغل خطيبا فى مسجد، مثله مثل أى شخص عادى ليس معه دكتوراه؟ والمضحك أن يزعم كاتب المقدمة بأن وزارة الأوقاف المصرية هى التى أرسلته إلى عاصمة الفرنسيس فى بعثة دراسية للحصول على دكتوراه فى الفلسفة. ترى ما علاقة الأوقاف بالفلسفة؟ بل ما علاقتها بعباس المحتاس، وهو لم يكن خريج أزهر، بل كان حاصلا على ليسانس كلية الآداب من جامعة فؤاد؟ ومما يبعث على القهقهة أن يقول الكاتب إنه ترك كلية أصول الدين وهو فى السنة الثالثة إلى كلية الآداب. ترى هل هذا ممكن؟
    إن الكلتين غير متناظرتين حتى يجوز أن يحوّل الطالب أوراقه من الواحدة إلى الأخرى، فضلا عن أن أصول الدين تابعة للأزهر، على حين أن الآداب تابعة لجامعة الملك فؤاد، فالتحويل بينهما إذن غير ممكن. إلا أن الكاتب لا يميز بين كوعه وبوعه، ويظن أن قراءه "كاوِيرْكَات" مختومون على قفاهم مثله! خيبة الله عليك يا أبا العبابيس، يا سليل النسانيس والخنانيص! بل هل هناك رجل يمكن أن يلحد وهو شيخ قد جاوز الثمانين، وبعد أن كان مؤمنا تقيا طول عمره؟ كذلك نراه يقول إنه بعد وفاة والده صار من "هيئة علماء المدينة". ترى هل هناك فى المدن المصرية شىء اسمه: "هيئة علماء المدينة"؟ نعم كانت هناك فى القاهرة "هيئة كبار العلماء"، لكن لم نسمع بــ"هيئة علماء المدينة" هذه إلا الآن.
    ثم انظروا إلى تشكيل كل حرف فى عنوان الكتاب وفى اسم المؤلف! فمنذ متى يشكل المصريون عناوين كتبهم بهذه الطريقة، وبخاصة أن العنوان يخلو تماما من أية كلمة تحتاج إلى تشكيل؟ ومما له مغزاه فى هذا السياق أن مروجى الكتاب وناشريه فى مواقعهم هم مجرمو نصارى المهجر الذين نرجو أن يفيقوا من غيهم وقلة أدبهم قبل أن يأتى يوم لا تنفع فيه أوربا ولا أمريكا ويقول الكافر حين يرى الشيطان يتبرأ منه ويتركه يواجه مصيره الأسود وحده ويُضْرَب بالحذاء دون أن يخف لنجدته مخلوق: "يا ليتنى كنت ترابا"، فضلا عن أنهم هم الوحيدون الذين كانوا يعرفون بصدور الكتاب، إلى أن وضعوه فى مواقعهم ومنتدياتهم، فعندئذ عرفه المسلمون.
    ومعروف أن من عادتهم تأليف كتب تهاجم الإسلام بأسماء مجهولة (ككتاب "تيس عزازيل" للأب يوتا ابن العبيطة، وهو اسم لا وجود له، وكتاب "حوار صريح حول الإسلام" للشيخ المزعوم الحمار محمد النجار، و"مقارنة الإسلام والمسيحية" للشيخ المقدسى الذى لا يوجد إلا فى أوهام المتاعيس المتخلفين من نصارى المهجر، وكتاب "هل القرآن معصوم؟" للمدعوّ: عبد الله عبد الفادى، وهو كذلك اسم مختلق، وكتابَىِ "الفرقان الحق" و"القرآن الشعبى"، اللذين صدرا دون أن يكون على غلاف أى منهما اسم مؤلفه). وقد يسندون تلك الكتب إلى أسماء مسلمة لا حقيقة لها (كالكتاب الذى يشتمل على الترجمة العربية للمقدمة التى صدّر بها جورج سيل ترجمته القرآنية إلى اللغة الإنجليزية والذى نسبوه إلى عبد الله العربى نزيل الديار الإفرنجية كما قالوا على الغلاف)، ودائما ما يزعمون أن الشيخ الفلانى أو زعيم الجماعة الإسلامية العلانية قد أسلم. ومن هذه الشاكلة أيضا ما هو معروف من أن كثيرا من المتظاهرين بالإلحاد فى موقع "اللادينيين العرب" هم فى حقيقة الأمر نصارى سخفاء يتخذون من ذلك التظاهر فرصة للنيل من الإسلام بطريقتهم الملتوية المفضوحة رغم هذا. كذلك من اللافت للنظر أن زكريا بطرس يستشهد فى برنامجه كثيرا بهذا الكتاب حتى فيما يمكن، بل فيما يجب، أن يرجع فيه إلى غيره، وذلك حين يستخدمه مرجعا وسيطا بدلا من الرجوع إلى المصدر أو المرجع الذى نقل عنه عباس عبد النور. وهذه معلومة هامة من شأنها أن تساعد فى كشف الجهة التى أصدرت الكتاب، وإن كان الأمر لا يحتاج إلى المزيد بعد كل ما أوردناه هنا من معلومات وأدلة.
    وأخيرا فمن عادة بعض الكفار من قديمٍ تأليفُ الكتب وعَزْوُها إلى غيرهم حتى يخلصوا من التبعة ويتفرجوا على ما يحدثونه من فتنة وهم يفركون أيديهم ابتهاجا بما يَرَوْن دون أن يتعرضوا للوم أو أذى ودون أن يعرف الناس من حولهم أنهم هم أصحاب كل هذه الضجة المثارة. وفى هذا من اللذة ما فيه. وفى الفصل الذى عقده د. عبد الرحمن بدوى لمحمد بن زكريا الرازى (الطبيب المسلم المشهور والمتهم بالإلحاد صدقًا أو بُطْلاً) فى كتابه: "من تاريخ الإلحاد فى الإسلام" إشارة إلى بعض الملاحدة العرب فى العصر العباسى ممن ألفوا الكتب الكفرية ونسبوها إلى علماءَ إغريقٍ (ص256 من ط2/ دار سينا للنشر/ 1993م).
    هذا، وحين أوشكت أن أنتهى من الرد الذى بين يدى القارئ وجدت دعاية لكتاب عباس فى بعض المواقع تقول إنه كان أستاذاجامعيا. وهذه كذبة أخرى أضرط من الأكاذيب السابقة، وإلا ففى أية جامعة يا ترى كان أستاذا ذلك الكذاب المفضوح الذى أخراه الله؟ كذلك تقول الدعاية إن النسخة الموجودة فى الموقع هى طبعة أخرى من الكتاب الممنوع من التداول فى البلاد العربية والإسلامية. والسؤال الآن هو: إذا كان الكتاب ممنوعا من التداول والتوزيع فى البلاد الإسلامية كلها فلم طبعتم منه طبعة جديدة، وأنتم لن تستطيعوا توزيعه، وبخاصة أن لديكم الإنترنت تنشرونه فيه على أوسع نطاق مما لا يمكنكم أن تحصلوا على عشر معشاره لو طبعتموه طباعة ورقية؟ إن هذا دليل آخر على أن كل ما يتعلق بهذا الكتاب هو كذب فى كذب.
    وإلى القارئ الآن الكلمة المذكورة أنقلها بتمامها كما وجدتها فى الموقع المشار إليه: "كتاب محنتي مع القرآن ومع الله في القرآن- الطبعة الثانية، وهي نسخة محسنة جدا. عباس عبد النور من مواليد دمنهور، سني المذهب. فقيه. مدير تكية. قضى ستين عاما من عمره مسلما تقيا، وإمام مسجد، وخطيبا رائعا، وكاتبا وشاعرا ومفسرا للقرآن الكريم، ثم نشر كتابه: "محنتي مع القرآن"، وكفر عندما بلغ الثمانين من عمره. وكتابه هو أخطر كتب الالحاد. ألتحق بكلية اصول الدين في الأزهر. ومنح مساعدة من دائرة الأوقاف الإسلامية ، فانتقل إلى جامعة السوربون في باريس ليحضر دكتوراه في فلسفة العلم، وتمكن من الفلسفة والعلم معا. ولما عاد إلى مدينته أصبح إماما وخطيبا في أحد مساجدها، وكان له فيها مريدون، نشأهم على الإيمان وحسن العبادة، كما كان أستاذا جامعيا، ومؤلفاً لكتب فلسفية وعلمية عديدة. إلا أن حياته الفكرية لم تكن من دون قلق ولا حياته الدينية من دون شكوك. لقد كان عقله يثير موضوعات شائكة، وكان إيمانه يكفيه الجواب على كل معضلة. صراع العلم والإيمان ابتدأ عند عباس باكرا، صراع لم تتح له الفرصة ليطرح علنا. ولو خرج من الخفاء منذ نشأته، لما وصل إلى هذا الحد من العنف المعبر عنه في هذا الكتاب الذي قل نظيره".
    وبالمناسبة لم يذكر لنا كاتب المقدمة الفطاس كيف وصلت إليه مخطوطة الكتاب ما دام عباس عبد الديجور قد نفق. وهذه ثغرة أخرى من الثغرات الكثيرة الفاضحة. وكيف يا ترى تم تحسين الطبعة الجديدة، وقد هلك المؤلف وراح فى ستين داهية؟ هل من حق أحد أن يتصرف فى كتاب مات صاحبه فيحسّن فيه ويضيف إليه أو يحذف منه؟ فمن أعطاه هذا الحق؟ إن هذه فلتة من فلتات اللسان التى تكشف أن مؤلف الكتاب ما زال حيا، ومن ثم نظر فى كتابه ففكر فى تحسينه وتنقيجه على عادة المؤلفين مع الطبعات الجديدة لكتابهم. ثم ماذا كان موقف زوجته وأولاده منه بعدما كفر وكتب كتابه هذا؟ والمفروض أنهم معروفون، على الأقل: تبعا لمعرفة الناس عباس ابن نسناس بوصفه شيخ طريقة وإمام مسجد وخطيبا مفوها ومؤلفا مرموقا وأستاذا جامعيا وشاعرا وقصاصا، وبياع دبابيس وأمشاط وفلاّيات وسكر نبات، ومن يقول: هات؟ فلماذا سكت كاتب المقدمة البكاش عنهم ولم يأت على ذكرهم ولو بكلمة واحدة؟ إن هناك تعتيما على هذه المسألة، وهى ثغرة خطيرة تضاف إلى الثغرات الكثيرة الماضية واللاحقة.
    فإذا ولجنا من باب الكتاب إلى الداخل فأول شىء نلاحظه أن عباس يذكر كرسىّ الاعتراف قائلا إنه سوف يجلس الآن على كرسى الاعتراف ويفض مغاليق قلبه لنا بصراحة تامة، وهذه زلة لسان فاضحة، إذ ليس عند المسلمين كراسىّ اعتراف، ومثل ذلك الرجل "التقى الورع سابقا!" لا يمكن أن تخطر له فكرة كرسى الاعتراف أبدا. ومثل ذلك قوله: "طوبى للبُلْه، فإن لهم ملكوت السماوات" (ص32)، ففيه تأثير إنجيلى واضح. ومثله أيضا تأكيده أن "الدين لله، والوطن للجميع" (ص50)، فهى عبارة كان النصارى الأقباط يغرمون بها ويرددونها دائما لإلهاء المسلمين عن الإسلام، أما الآن فإنهم يعلنون بكل صراحة ووقاحة أن المسلمين ليسوا مصريين، بل عربا وَفَدُوا على أرض الكنانة من شبه الجزيرة العربية وينبغى أن يعودوا من حيث جاؤوا ويتركوا الجمل بما حمل لهم ينعمون به هنيئا مريئا، إذ هم وحدهم المصريون حقا وصدقا. ومن هذا الوادى كذلك ما نقرؤه بهامش الصفحة التاسعة والخمسين من وصف عِبْس لمبشر غبى مثله اتخذ من ضمير الجمع العائد على الله فى القرآن دليلا على صحة التثليث بأنه "أحد أذكياء المبشرين". وهذه زلة لسان خطيرة لها دلالتها. ومنه كذلك قوله (ص124): "لكن على من تقرأ مزاميرك يا داود؟"، وهى عبارة كتابية بامتياز.
    وهناك أيضا تأكيده (ص207) أن القرآن ليس فى مستوى واحد من الجودة والأناقة والإتقان، بل "فيه القمح، وفيه الزُّوَان"، أى الجيد والردىء. والزوان هو ما يسميه العامة: "الدحريج"، وينقونه من القمح ويرمونه. وهذا المثل موجود فى الإصحاح الثانى عشر من إنجيل متى، ففيه نقرأ: "24قَدَّمَ لَهُمْ (أى عيسى عليه السلام) مَثَلاً آخَرَ قِائِلاً:«يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا زَرَعَ زَرْعًا جَيِّدًا فِي حَقْلِهِ. 25وَفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَانًا فِي وَسْطِ الْحِنْطَةِ وَمَضَى. 26فَلَمَّا طَلَعَ النَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَرًا، حِينَئِذٍ ظَهَرَ الزَّوَانُ أَيْضًا. 27فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ الْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ:يَا سَيِّدُ، أَلَيْسَ زَرْعًا جَيِّدًا زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟. 28فَقَالَ لَهُمْ: إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هذَا. فَقَالَ لَهُ الْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ وَنَجْمَعَهُ؟ 29فَقَالَ: لاَ! لِئَلاَّ تَقْلَعُوا الْحِنْطَةَ مَعَ الزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ. 30دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاَهُمَا مَعًا إِلَى الْحَصَادِ، وَفِي وَقْتِ الْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: اجْمَعُوا أَوَّلاً الزَّوَانَ وَاحْزِمُوهُ حُزَمًا لِيُحْرَقَ، وَأَمَّا الْحِنْطَةَ فَاجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَني»... 36حِينَئِذٍ صَرَفَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَجَاءَ إِلَى الْبَيْتِ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«فَسِّرْ لَنَا مَثَلَ زَوَانِ الْحَقْلِ». 37فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«اَلزَّارِعُ الزَّرْعَ الْجَيِّدَ هُوَ ابْنُ الإِنْسَانِ. 38وَالْحَقْلُ هُوَ الْعَالَمُ. وَالزَّرْعُ الْجَيِّدُ هُوَ بَنُو الْمَلَكُوتِ. وَالزَّوَانُ هُوَ بَنُو الشِّرِّيرِ. 39وَالْعَدُوُّ الَّذِي زَرَعَهُ هُوَ إِبْلِيسُ. وَالْحَصَادُ هُوَ انْقِضَاءُ الْعَالَمِ. وَالْحَصَّادُونَ هُمُ الْمَلاَئِكَةُ. 40فَكَمَا يُجْمَعُ الزَّوَانُ وَيُحْرَقُ بِالنَّارِ، هكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ هذَا الْعَالَمِ: 41يُرْسِلُ ابْنُ الإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ، 42وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. 43حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ".
    إلا أن الكاتب يسخر بعد ذلك من المسيح والنصرانية سخرية مرة، وإن كان غريبا قوله إنه، بعدما تيقن من عدم وجود إله أصلا، فكر فى اللجوء إلى يسوع ودينه (ص36 وما بعدها). فما دام قد توصل إلى أنه لا يوجد إله أصلا، فكيف يخطر له أن يلجأ إلى المسيح؟ إن المسيح بشر مثله هو تماما، فكيف تواتيه نفسه على التفكير فى اللجوء إليه، وهو الذى كفر بالله ذاته؟ أليس هذا أمرا غريبا ومريبا؟ والمضحك أن النصارى يحتفون بالكتاب رغم ذلك مثلما احتفَوْا بكتب القمنى رغم ما فيها من إنكار المعجزات ومن الافتراء على مريم والقول بأنها كانت بَغِيًّا من بغايا المعبد المقدسات، ومثل انتشائهم باختراع القرآن الشعبى، الذى يسىء إلى مريم وعيسى عليهما السلام حسبما وضحت فى مقالى الطويل حول هذا الوضوع.
    ومن الثغرات الفاضحة فى الكتاب قوله (ص33): "بل لقد بلغ بى الترحيبُ بالمصيبة وشكرُ الله عليها مبلغ الصوفية، فكنت أذهب مذهبهم وأقول على طريقتهم بأن المصيبة معصية عُجِّلَتْ فى الدنيا حتى نلقى الله فى الآخرة وليس علينا شاهدٌ بذنب! لقد نسيتُ، ولعلى قد تناسيتُ، ولى مصلحة فى هذا التناسى، أن المصيبة إذا كانت تعيد الإنسان إلى الله أحيانا فإنها فى أحيان أخرى تُبْعِده عنه أيضا. المصيبة طريق إلى الله، وهى اأيضا طريق إلى الشيطان". فهذا يعنى أنه فى الأصل لم يكن صوفيا من الصوفية، وإنما ذهب فى تلك المحنة فقط مذهبهم، مع أنه يقول عن نفسه فى مقدمة الكتاب إنه كان واحدا منهم، إذ كان يحضر حلقات ذكرهم. بل لقد ذكر صوفيته صراحة أكثر من مرة كما فى ص41 مثلا.
    ثم إن الأسلوب الذى صيغ به الكتاب ليس أسلوب شيخ بلغ أرذل العمر كما يريد أن يوهمنا الكاتب والذين يقفون من ورائه يوسوسون فى أذنه ويلقنونه ما ينبغى أن يقوله، بل هو أسلوب شخص ما زال يتوثب عُرَامًا وحيوية، فهو يتهكم ويسخر ويداور ويناور ويسجع ويجانس ويوازن ويرادف وينفث قلمه لهب الحقد والتشكيك مندفعا فائرا منثالا. وليس هذا من سمات كتابات الشيوخ الفانين ولا من الأساليب التى تبرز فى مثل ذلك السياق الذى لا يكون الإنسان فيه على مزاجه الرائق كى يفكر فى البديعيات والمترادفات وما إلى هذا. كذلك فمصطلحاتٌ مثل "التنوير" و"قوى الظلام" و"الخطاب القرآنى" و"النص" (ص7 مثلا) و"مجتمع متخلف آسن لاعمل له إلا إنتاج ذاته وتكرار ذاته" و"الأُطُر الاجتماعية" و"صدمة الحداثة" و"الأيديولوحيا" و"الأسطرة" (أى تحويل الموضوعات إلى أساطير ص143) و"الذائقة اللغوية" (ص152) هى مصطلحات غريبة على رجل عاش كما يقول فى حلقات الذكر وبين أهله من علماء الدين ممن لا تجرى هذه المصطلحات على ألسنتهم، فضلا عن الاعتزاز بها كما هو واضح فى الكتاب، وبخاصة أنه كتب كتابه وقد تخطى الثمانين كما ذكر (ص44). بل إن الرقم 80 ليؤكد أن المسألة ليست سوى كذبة بلقاء تدل على أن الأمر كله بكش فى بكش، إذ ذكر عباس ا لمحتاس فى بداية الكتاب أنه من مواليد 1927م. فإذا كان الكتاب قد صدر عام 2004م كما هو مطبوع على الغلاف، فكيف يمكن أن يكون المؤلف الموهوم قد تخطى الثمانين مع أنه قد مات قبل صدور الكتاب؟ إنها داهية أخرى من الدواهى المتلتلة التى أراد الله أن يفضحهم بها.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Aug 2009
    المشاركات
    47
    آخر نشاط
    22-06-2013
    على الساعة
    03:43 PM

    افتراضي

    بالفعل انا سمعت بهذا الكتاب في المنتديات النصرانية ... تعرفون لم يفعلون ذلك ليزداد مجد الرب !!.... لكن شاء الله أن يفضحهم على أيديكم ..
    جزاكم الله خيرا إخوتي ..
    ( وباطلا يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس)Mt:15:9

    http://www.55a.net/firas/arabic/

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    2,584
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    18-08-2023
    على الساعة
    04:23 PM

    افتراضي

    وبالمثل فإن السيناريو الذى تصور الكاتب وقوعه بعد صدور الكتاب وانقسام الناس بشأنه ومصادرة الحكومة له ودخول الإعلام الغربى و"الدوائر السوداء" (حسب تعبيره) على الخط متهمة المسلمين بالتخلف وقمع الحريات وما إلى ذلك هو سيناريو لا يمكن أن يخطر لرجل عجوز فى الثمانين قضى حياته كلها بين حلقات الذكر والصلوات والصيامات وقمع الشهوات... إلخ. هذا كلام مجرم قرارى لم يتخط سن الحيوية بعد كما قلنا. ومع ذلك فها هو ذا الكتاب قد صدر، ولم يقع شىء مما تخيله عباس الهلاس. والسبب هو أن كل هذا كذب وتزييف، وليس هناك شخص اسمه عباس عبد النور ولا حاجة، ولا الكتاب صدر من دمنهور ولا حاجة، بل هو من صنع شخص متخفٍّ ما زال حيا، وتسنده قوى قوية تريد إحداث ضجة ولغط بين المسلمين وتعمل على نشر التشكيك فى دينهم.

    ويصور الكاتب محنته مع القرآن تصويرا دراميا مثل فلم "أشرف خاطئة" وأشباهه حيث تنسد تماما كل الأبواب فى وجه المومس المتحرقة شوقا وغراما وهياما وانتقاما إلى ممارسة الرذيلة فيعاملها القدر بما تستحق وتنسد فى وجهها كل الأبواب بلا أدنى أمل فى معونة من إنسان كريم أو قريب رحيم أو جار شهيم بحيث لا يكون أمام نجوى فؤاد الراقصة اللولبية ربة الشرف والصون والعفاف والفضيلة (أقصد الرقاص الهجاص المدعوّ: عباس الخناس) التى ليس معها شىء من تكلفة عملية جراحية خطيرة لا بد من إجرائها لأمها بغية إنقاذ حياتها إلا الزنا والعهر كما يريد مؤلف الفلم ومخرجه ومنتجه أن يزرعوا فى رُوعنا، تسويغا للخطيئة وترويجا لها وابتهاجا بمقارفيها وإعلاء لشأنهم وتقديما لهم فى صورة الأبطال المغاوير.
    وهو كلام لا يدخل عقل عاقل. ذلك أنه يزعم أنه، بعد عشرات السنين من التقوى والعبادة الخالصة لله، قد ألفى نفسه على حين بغتة مريضا يعانى من انفصال فى الشبكية، فضلا عن عرج فى قدمه كان قد عالجه فى فرنسا، إلا أن آثاره بقيت ظاهرة فى مشيته، وهو مع هذا فقير لا يستطيع أن يعالج نفسه، فجعل يدعو الله ويبتهل إليه أن يقف معه ويهتم به ويسارع إلى معونته، لكنه فوجئ بأنه لم يأبه به ولا استجاب لشى مما طلبه منه على الإطلاق، فانتهى أمره معه إلى أن طلق الإيمان طلاقا بائنا لا مثنوية فيه وانكب على القرآن بنفس التحمس القديم، ولكن لينتقده لا ليتعبَّد بقراءته، فكان هذا الكتاب الذى أكد فيه أن القرآن ليس من عند الله، إن كان ثم إله أصلا، وأنه مفعم بالأخطاء اللغوية والفكرية والعلمية وأنه صار يمثل عبئا على كاهل المسلمين، الذين إذا كانوا جادين فى رغبة الدخول إلى عالم الحضارة فليس أمامهم من سبيل سوى اطراحه وإهماله.
    ولأنه رجل كذاب نراه يقول فى موضع آخر (ص188) إنه قد انجاب عن عقله تأثير الأساطير القرآنية عن الكون والسماء وما إلى ذلك وتخلى عن الإيمان بها وترديدها "منذ عقود طويلة" (بنص كلامه)، وهو ما يعنى أن كفره بالقرآن لم ينتظر حتى أصيب فى عينيه بالانفصام الشبكى، وأخذ يبتهل إلى الله فلم يستجب الله لابتهالاته فكَفَر. وهذا يرينا أن الرجل قد كتب الكتاب منذ البداية قصدا للتشكيك فى القرآن وصرفا للمسلمين عن الإيمان به حتى تخلو المنطقة للأمريكان والغربيين فيصنعوا بها وبأهلها ما يشاؤون دون أية مقاومة، إذ المقاومة الآن هى من صنع الشبان والرجال المسلمين الذين يؤمنون بأن دينهم هو أصح الأديان وأن هذا الدين يأبى عليهم الاستكانة إلى ما ينزله المجرمون الغربيون بأمتهم من عسف وظلم وطغيان وسرقة وقتل ودمار، فأراد أولئك المجرمون أن يقضوا على تلك المقاومة الشرسة الباسلة الرجولية الفدائية التى تعكر عليهم صفو إجرامهم فتخيروا هذا الكاتب وأمثاله وكلفوه أن يكتب مشككا وناشرا الكفر بالقرآن وبمحمد بين المسلمين حتى يخلو الجو لمجرمى الغرب الصليبى ليفعلوا بنا وببلادنا ما يحلو لهم ويبرطعوا على راحتهم دون أن يخسروا مالا أو أرواحا.
    وفى الصفحات 78- 79، 138- 139 يعود ابن عبد الديجور فيقول إن القرآن كان ثورة فى حينه، ناسيا ما كان قد قاله قبلا من أن فيه سخفا كثيرا. ثم يضيف قائلا إن القرآن قد تحول مع الأيام من ثورة إلى رتابة وسقوط وإملال. والحق أن هذا ليس عيب القرآن، فالنصوص القرآنية التى هاجمت تحجر العقول وغباء البشر وعنادهم فى وجه الحق ما زالت موجودة، وكل ما فى الأمر أن الناس هى التى ركنت إلى البلادة، وإلا فالقرآن يدينهم قبل غيره. والملاحظ أن الكاتب النتاش هنا يهاجم العرب ناعيا عليهم الغباء وتحجر العقول والتمسك السخيف بما ثبت أنه فاسد، وكان قبل قليل يمدحهم ويزعم أنهم مخلصون للحقيقة ذوو أنفة وكبرياء، لا لشىء إلا لما كانوا يبدونه، أيام وثنيتهم من عناد وكراهية للتفكير ومطالبة للرسول بالمعجزة، وهى المعجزة التى سخر منها عِبْس وهاجمها عند كلامه عن رفع الطُّور فوق رؤوس قوم موسى تهديدا لهم. واضح أنه يتخبط ولا يستقيم على طريق واحد!
    وفى (ص78 وما بعدها) يتكلم عن وجوب أخذنا بثورة الغرب ولحاقنا بركبه، ويهاجم الأصولية عندنا، متجاهلا الأصولية الأمريكية الرجعية الوحشية واستلهام الأمريكان لأوهامهم الدينية المتخلفة فى تدمير بلادنا وقتل شعوبنا مدعين أن الله يأمرهم بها ويباركه. المهم أنه، بعد قليل من تأكيده أن القرآن كان ثورة فى القرن الأول للهجرة ثم آض عبئا وجمودا يحتاج بدوره إلى ثورة، يعود فيقول ما معناه أن الإسلام ظل إلى القرنين الحادى عشر والثانى عشر يتجدد ويبدع. فبأى الرأيين نأخذ؟ ولقد مدح الوثنيين المكيين وعنادهم ورفضهم للدعوة الإسلامية فى البداية وعد ذلك منهم إخلاصا للحقيقة وأنفة وكبرياء يستحقان المديح والتمجيد. فأى تناقض هذا؟
    لقد أكد عِبْس أن مطالبة قريش للنبى بأن يعذبهم الله أو يمطرهم بحجارة من السماء كما حكت ذلك سورة "الأنفال" دليل على أنفة النفس والإخلاص التام فى سبيل البحث عن الحقيقة (ص66)، فهل يريد أن يقول إن وثنية قريش أفضل من وحدانية محمد عليه السلام، وبالتالى فعنادهم دليل على إخلاصهم ينبغى الثناء عليه؟ لكن ماذا كان يفيد إهلاكهم فى إقناعهم، وهم ساعتئذ سوف يكونون قد ماتوا، فلا فائدة من ثم فى هذا الدليل؟ على كل حال لقد تحداهم القرآن منذ البدايات الأولى فى مكة بأنهم، بعنادهم وكفرهم، سوف يخسرون كل شىء، وسوف ينتصر الإسلام رغم كل شىء، وهو ما قد كان. ألا يكفى هذا عند الكاتب ومن يختفون خلفه ويحرضونه على الشر والتساخف؟ ثم أى إخلاص ذلك الذى يتحدث عنه الكاتب، وقريش جميعا، إلا من مات منهم، وعددهم لا يذكر، قد آمنوا بهذا الذى كانوا ينكرونه ويعاندونه؟ فلماذا لم يُثْنِ عليهم إذن بأنهم عندما استبان لهم الحق لم يستمروا فى العناد والكفر بل انصاعوا لذلك الحق؟ أم ترى الأنفة والإخلاص لا يكونان إلا مع الكفر؟ والمضحك أنه بعدما لمز النبىَّ كثيرا لعدم نزول معجزات عليه، ومنها معجزة حجارة التدمير السماوية تلك، يعود (فى الهامش) فيسخر من إيمان بنى إسرائيل بسبب معجزة رفع الطُّور فوقهم لأن هذا فى رأيه إيمان المجبَر. إذن فلماذا لمز النبىَّ فى مسألة المعجزات ما دامت هى فى نظره معيبة إلى هذا الحد؟ عجيبة!
    وفى ص229 نجد عِبْس يعترف بأن القرآن كان عامل تقدم وحضارة فى بدء أمره، إلا أنه فى عصور التخلف كان عامل انحدار. ونحن لا نشاح فى أن المسلمين فى العصر الحاضر بوجه عام قد بلغوا من الهوان والتخلف والبلادة مبلغا يطير النوم من العين بل يبعث على الجنون، وهو ولا هم هنا، وهذا ما يزيد المسألة تعقيدا ويملأ القلب "هما وغما"، ولولا الإيمان بالله لقلنا: "ويأسا" أيضا، لكن القرآن ليس هو السبب، فنصوصه باقية كما هى لم تغيَّر ولم تحرَّف، بل المسلمون هم الذين تغيروا. وهناك أسباب لذلك بعضها خارج نطاق إرادتهم، وبعضها يدخل فى نطاقها. لكن ما من شىء فى نهاية المطاف فى هذه الدنيا إلا ومن الممكن تغييره إلى الأفضل بالعزم والإرادة والعلم والعمل ما دام لا يناقض ناموسا من نواميس الحياة. فهل يكذّب قومنا ظننا ويفعلونها ويشمّرون عن ساعد الجد ولا يُشْمِتون بنا من يساوى ومن لا يساوى ويعملون على الخروج مما هم نائمون فيه من المجارى المنتنة ويكونون عظاما كأجدادهم يوم كانوا متمسكين بالقرآن المجيد؟
    إن الإسلام نظام من القِيَم الحضارية هدفه ترقية الحياة وتهذيبها وإسعاد البشر، ولا بد من تطبيقه إن أراد المسلمون أن يخرجوا من الدائرة الملعونة المشؤومة التى يتحركون فيها إلى الخلف، على حين تقفز الدنيا من حولهم إلى الأمام قفزا وتثب إلى الأعالى وثوبا. ومن غير المتصور أن يقف الشعب سلبيا تجاه ما يحيط به من مشاكل، منتظرا أن يحلها له حلال ليأتى شخص سخيف خفيف العقل مثل عباس الملتاث فيتهم الإسلام بأنه صار معوقا لأتباعه عن الحضارة والتقدم. إن الشعوب المتحضرة فى الدنيا كلها تعرف أنه لا يمكنها نيل حقوقها إلا إذا تحركت وطالبت وناضلت، وإلا فسوف تظل الأمور على ما هى عليه، وعلى المتضرر اللجوء إلى الانتحار أو خبط رأسه فى أقرب جدار. ومن جهة أخرى لا يمكن تطبيق الإسلام بقِيَمه وتشريعاته وحدوده ما لم يقتنع الناس أنه لا بد من تطبيقه، لا كلاما وشعارات شبعنا منها ومن سخافاتها وتفاهاتها وخلوها من المضمون، بل حقا وصدقا ينبعان من العقل والقلب ويتبديان فى الوقوف صفا واحدا ضد كل من يفكر فى النيل من هذا الدين وإفراغه من حقيقته. بغير هذا سوف نعطى الأعداء الفرصة للزعم بأنه دين لا يهتم إلا بالشكليات التى لا تؤكّل عيشا، بينما الجوهر مغيَّب، والقيم الحضارية العبقرية التى يتضمنها هذا الدين العظيم معطَّلة!
    المجتمع المسلم هو المجتمع المتقدم علميا وزراعيا وصناعيا وتجاريا وعسكريا ورياضيا وفنيا، وله كلمة محترمة نافذة فى المحافل الدولية، وبغير ذلك لا يمكن أن أصدّق أنه مجتمع مسلم حقا. ليس من المعقول أن يظل المسلمون مرتعبين فزعين من أمريكا وإسرائيل لا يدرون ماذا تنويان أن تفعلا بهم، وينحصر كل همهم فى الأزمات أن تمر الأزمة على خير ظنا منهم أنها متى مرت على خير فقد نجَوْا، ثم يفاجَأون بأنه لا الأزمة مرت على خير ولا أنها آخر الأزمات والكوارث. إن مجتمعات مثل هذه هى أبعد ما تكون عن الإسلام، وإن صَلَّتْ وصامتْ وحَجَّتْ وأطلق رجالها لحاهم وتحجبت نساؤها، رغم أهمية الصلاة والصيام والحج والحجاب.
    ألم يقل الله تعالى فى كتابه المجيد: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"؟ فكيف إذا لم تنه الصلاة صاحبها عن الفحشاء والمنكر ولم تزرع فى رُوعه التقوى الحقيقية التى تدفع المصلى دفعا إلى أن يكون إنسانا متحضرا قويا محترما هو والمجتمع الذى ينتمى له؟ أليس رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام هو القائل: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ! وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر!"؟ ألا نقرأ فى القرآن أمره سبحانه وتعالى لرسوله: "وقل: رب، زدنى علما"؟ فلماذا إذن لا نطلب من ربنا زيادة نصيبنا من المعرفة والعلم، ونفضّل الجهل ونكره القراءة والكتاب كراهية العمى، وكأن القرآن والرسول قد نهيانا نهيا باتا لا مثنوية فيه ألا نقارب العلم أو أن نقترف منه شيئا حتى لا ينجّسنا؟ ألم يقل الرسول لنا: "من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع"، و"إن الله عز وجل أوحى إليّ أنه من سلك مسلكا فى طلب العلم سهّلتُ له طريق الجنة"، و"فضلٌ في علمٍ خيرٌ من فضلٍ في عبادة"؟ فما بال الطلاب العرب والمسلمين لا يسعون فى طلب العلم بدلا من قراءة الملخصات وحفظها دون فهم والاستعانة بالغش فوق ذلك، وكأن العلم يصلح مع الغش؟ ألم يعلمنا الرسول أن "الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"؟ فلماذا كان إنتاجنا رديئا، وصُنّاعنا وحِرْفِيّونا متعجلين كأن عفريتا يركبهم، ومدلّسين لا يؤدون عملهم على شىء من الإتقان إلا إذا وقفنا على أيديهم وفنجلنا أعيننا على الآخِر كما يقول التعبير العامى؟ أليس من الحكمة النبوية والتحضر الإسلامى أن "إماطة الأذى عن الطريق صدقة"؟ فلماذا تنفرد شوارعنا بهذه الوفرة الوفيرة بكل ألوان الأذى: من أذًى صوتىّ إلى أذًى بصرىّ إلى أذًى شَمِّىّ إلى أذًى نفسىّ إلى أذًى عقلىّ، وكأنه عليه السلام قد أمرنا بملء الطريق بالأذى والعدوان؟ والله إنى لأتصور أنه عليه السلام لو كان أمرنا بملء الطريق أذى وعدوانا ما اهتممنا بأن تكون شوراعنا بهذه القذارة والتشويه الذى هى عليه! ألم يأمرنا القرآن فى كثير جدا من آياته بالصبر؟ فلماذا لا يكون منّا صبرٌ إلا على المذلة والإهانة والجهل والتخلف أو المكر والتآمر، لا على بذل الجهد فى ميادين المجد والكرامة والإبداع والإتقان؟ إننا الآن فى مفترق طرق، وأخشى ما أخشاه إن ظللنا على بلادتنا وتفاهة اهتماماتنا ورضانا بالمذلة والخنوع لكل مستبد غشوم وبُغْضنا للعلم والقراءة واعتمادنا فى تسيير أمورنا على الفهلوة والبكش أن نكون قد حفرنا كأمةٍ قبورنا بأيدينا، وصعَّبْنا فوق ذلك على أنفسنا حساب يوم الدين، وعندئذ نكون لا دنيا أَحْرَزْنا، ولا آخرةً كَسَبْنا!
    على كل حال من الواضح أن عِبْس لا يهمه إلا أن نكون تابعين للغرب، وأنه لا يبالى بتقدمنا فى قليل أو كثير. والغرب يستعمل أمثاله مطايا يركبونها فى سبيل سحق مقاومتنا له ولمخططاته. إننا فعلا وحقا وصدقا متخلفون، وأول مظاهر تخلفنا هو أننا لا نعمل بما فى القرآن من دعوة إلى استخدام العقل، وإلى السعى فى سبيل العلم، وإلى العمل والإنتاج والإبداع، وإلى النظافة والنظام والإتقان والجمال وما إلى هذا. وهذه المبادئ ما زالت موجودة فى القرآن، ومازالت لها قيمتها المطلقة التى لا تتوقف على عصر دون عصر كما يريد أن يوهمنا ابن القديمة حين يطالبنا بالتمرد على القرآن، الذى كان، كما يزعم، ثورة فى الماضى ثم أصبح حجر عثرة الآن. الطريف المضحك أن مقدم الكتاب (ص6) قد برَّأ القرآنَ وبرَّأ اللهَ مما حدث لعباس الخناس من كفر وتمرد، إذ حصر المسؤولية فى المسلمين.
    هذا، وقد رأينا قبلا كيف سد الكاتب كل الطرق فى وجه نفسه حين صور الله فى صورة من لا يستجيب لدعاء أو نداء ولا يهتم بعباده أدنى اهتمام، فلم يعد عبد النور (أو بالأحرى: عبد الديجور) يعرف ماذا يعمل ليعالج نفسه، اللهم إلا أن يبيع بيته كما قال وينام فى الشارع هو وأولاده وزوجته. ولكن أين أملاك أسرته، ولم تكن بالأسرة الفقيرة التى يضيع ابن من أبنائها هذا الضياع المطبق، ولا بالأسرة المغمورة التى إن وقعت فى ورطة لم تجد من يتذكرها أو يمد يد المعونة إليها؟ وأين التأمين الصحى؟ بل أين ما يفعله كثير من الموظفين المصريين من طلب سلفة من البنك أو استبدال جزء من المعاش؟ إلا أنه نسى، لغبائه، أن يشرح لنا كيف حُلَّتْ مشكلته بعد إلحاده. أتراه باع ولدا من أولاده مثلا؟ أتراه قوَّد على زوجته وعالج نفسه من المرض بما كسبته من بيعها لشرفها كما فعلت بطلة فلم "أشرف خاطئة"؟ أم المقصود هو مكايدتنا بالإلحاد، والسلام؟ كذلك نسى أن يقول لنا ماذا كان رد فعل أولاده وزوجته وأسرته بعد إلحاده وتأليفه ذلك الكتاب ونشره. إن هذه ثغرات خطيرة لم يفكر فيها جيدا لأن المقصود هو إغاظة المسلمين لا غير بالحديث عن الإلحاد.



    يتبع...

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    2,584
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    18-08-2023
    على الساعة
    04:23 PM

    افتراضي

    وأيا ما يكن الأمر فلا ريب أن الإيمان لا يصلح إذا اشترط صاحبه استجابة الله له فى كل ما يدعوه به وأن تكون حياته سعيدة على الدوام. ترى أى إيمان هذا؟ وكيف يمكن التمييز فى تلك الحالة بين المؤمن الحقيقى والمؤمن غير الحقيقى؟ نعم، كيف يكون إيمان دون محن وصبر؟ وكيف تُعْرَف حينئذ حقيقة إيمان فلان من علان؟ وهل هناك عالم بلا مشاكل ومتاعب وأمراض وموت وفقر؟ فأين ذلك؟ وكيف؟ ولو أن كل إنسان ابتُلِىَ فى ماله أو صحته او ولده أو وظيفته أو سمعته ولم تنقشع البلوى فى الحال عقب ابتهاله إلى الله فترك الإيمان لكفر الناس جميعا، إذ ما من إنسان فى الدنيا إلا وهو مبتلًى فى شىء من هذه الأشياء، أما السعادة الخالصة فهى كالعنقاء لا وجود لها فى الدنيا. وهذا أمر لا يشاحّ فيه أحد لأنه من حقائق الحياة الصلبة التى لا يصلح فيها إنكار ولا تزويق أيا كانت العقيدة التى يعتقدها الشخص!
    والواقع أن هذا يُخْطِر على البال للتو ما يقرؤه الإنسان فى الإصحاح الثامن والعشرين من سفر "التكوين"، حيث يكتب مؤلف السفر عن النبى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كلاما لا نصدّق به لأنه لا يتناسب وشخصية الأنبياء، الذين كان حفيد الخليل عليه السلام واحدا منهم، إذ نراه يساوم ربه على الإيمان به والعبادة له طارحا عليه شروطًا إن حققها له آمن به واتخذه ربا له وأدى له فروض العبادة، وإلا... ولنقرأ: "10خَرَجَ يَعْقُوبُ مِنْ بِئْرِ سَبْعٍ وَذَهَبَ نَحْوَ حَارَانَ. 11وَصَادَفَ مَكَانًا وَبَاتَ هُنَاكَ لأَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ قَدْ غَابَتْ، وَأَخَذَ مِنْ حِجَارَةِ الْمَكَانِ وَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَاضْطَجَعَ فِي ذلِكَ الْمَكَانِ. 12وَرَأَى حُلْمًا، وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُو َذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا. 13وَهُو َذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «أَنَا الرَّبُّ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ. الأَرْضُ الَّتِي أَنْتَ مُضْطَجِعٌ عَلَيْهَا أُعْطِيهَا لَكَ وَلِنَسْلِكَ. 14وَيَكُونُ نَسْلُكَ كَتُرَابِ الأَرْضِ، وَتَمْتَدُّ غَرْبًا وَشَرْقًا وَشَمَالاً وَجَنُوبًا، وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ. 15وَهَا أَنَا مَعَكَ، وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ، وَأَرُدُّكَ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ، لأَنِّي لاَ أَتْرُكُكَ حَتَّى أَفْعَلَ مَا كَلَّمْتُكَ بِهِ». 16فَاسْتَيْقَظَ يَعْقُوبُ مِنْ نَوْمِهِ وَقَالَ: «حَقًّا إِنَّ الرَّبَّ فِي هذَا الْمَكَانِ وَأَنَا لَمْ أَعْلَمْ!». 17وَخَافَ وَقَالَ: «مَا أَرْهَبَ هذَا الْمَكَانَ! مَا هذَا إِلاَّ بَيْتُ اللهِ، وَهذَا بَابُ السَّمَاءِ». 18وَبَكَّرَ يَعْقُوبُ فِي الصَّبَاحِ وَأَخَذَ الْحَجَرَ الَّذِي وَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ وَأَقَامَهُ عَمُودًا، وَصَبَّ زَيْتًا عَلَى رَأْسِهِ. 19وَدَعَا اسْمَ ذلِكَ الْمَكَانِ «بَيْتَ إِيلَ»، وَلكِنِ اسْمُ الْمَدِينَةِ أَوَّلاً كَانَ لُوزَ. 20وَنَذَرَ يَعْقُوبُ نَذْرًا قَائِلاً: «إِنْ كَانَ اللهُ مَعِي، وَحَفِظَنِي فِي هذَا الطَّرِيقِ الَّذِي أَنَا سَائِرٌ فِيهِ، وَأَعْطَانِي خُبْزًا لآكُلَ وَثِيَابًا لأَلْبَسَ، 21وَرَجَعْتُ بِسَلاَمٍ إِلَى بَيْتِ أَبِي، يَكُونُ الرَّبُّ لِي إِلهًا، 22وَهذَا الْحَجَرُ الَّذِي أَقَمْتُهُ عَمُودًا يَكُونُ بَيْتَ اللهِ، وَكُلُّ مَا تُعْطِينِي فَإِنِّي أُعَشِّرُهُ لَكَ»".
    ولقد صور القرآن شخصية الإنسان الذى من هذا النوع فى قوله تعالى: "ومن الناس من يعبد الله على حَرْف: فإن أصابه خيرٌ اطمأن به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه، خَسِر الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين"، "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربُّه فأكرمه ونَعَّمه فيقول: ربى أكرمنِ. وأما إذا ما ابتلاه فَقَدَر عليه رزقَه فيقول: ربى أهاننِ. كلا". والقرآن لم يَعِدِ البشر فى أى موضع منه أن تكون حياتهم هناءة وسعادة مستمرة، بل قال على لسان المولى عز وجل بمنتهى الوضوح: "لقد خلقنا الإنسان فى كبد"، "ولنبلونَّكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات"، "لتُبْلَوُنَّ فى أموالكم وأنفسكم، ولتَسْمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتابَ من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا. وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور".
    ولقد ألف الرجل كتابه كى يقول لنا إنه قد كفر بالله لأنه سبحانه لم يستجب له وأنه سوف يعتمد من الآن فصاعدا على نفسه وقدراته، فهل انحلت مشاكله بهذه الطريقة؟ وهل صار قادرا على تحقيق كل ما تصبو إليه نفسه؟ لا هو ولا أجعص جعيص فى الكون يستطيع أن يزعم شيئا من هذا. ثم أتراه يستطيع أن يثبت عدم وجود إله؟ أم تراه يزعم أنه هو إله نفسه؟ وقبل ذلك كله هل قال الله إنه سوف يحل كل مشكلة للإنسان فى هذه الدنيا؟ ثم إن الاستجابة للدعاء لها أكثر من صورة حسبما وضح لنا الرسول مما سنتناوله بالتفصيل فيما بعد.
    وفى (ص237 وما بعدها) نجد الوسواس الخناس يقول إن وجود الله ليس عليه دليل، ومن ثم فلا معنى للألوهية، مع أن هذه المقدمة لا تؤدى إلى هذه النتيجة. ثم إنه يقول مع هذا إن الإنسان محتاج إلى الله حاجة الطفل إلى الأبوين. أفليس هذا دليلا آخر على وجود الله؟ وإلا فمن الذى غرس هذه الحاجة فى نفوسنا؟ ثم إننا بعد ذلك نراه (ص244) يسوق مبررات إنكاره لوجود الله، ليعود غير بعيد (ص247) فينكر أن يكون قد أنكر وجود الله أو يريد إنكاره. وفى موضع آخر نجده يؤكد أن من السهل إقامة الدليل على وجود الله وعلى عدم وجوده جميعا، بمعنى أن الإيمان بالله يشكل معضلة لا يمكن حلها، إذ من الميسور على المؤمن والملحد كليهما إقامة الدليل على صدق ما يعتقد به. وهذا، كما يرى القارئ، منتهى التخبط والتناقض. ومن العجيب أن عباس الهلاس بعد ذلك كله يريدنا أن نؤمن بأنه يتبع المنهج العلمى وأن كل ما يكتبه أو يعتقده إنما يجرى على أصول المنطق الذى لا يخر منه الماء! ومع هذا فقد سبق منه القول (ص50- 51) بأنه لا يريد من الناس أن تترك الدين لأن هذا مطلب شبه مستحيل، ثم سرعان ما يرتدّ مطالبا إياهم بترك الدين وإنكاره والكفر به.
    ويقول (ص48) إنه سوف يطبق على القرآن منهج ديكارت الشَّكِّىّ، ولكن على نحو أفضل مما صنع ديكارت، الذى لم يستطع رغم ذلك (كما يقول) أن يمضى قُدُمًا مع منهجه فخامر، أى لم يُخْلِص لهذا المنهج كما ينبغى أن يكون الإخلاص فاستبعد تطبيق الشك من أمور الإيمان مع أن ذلك المنهج يستلزم أن يبدأ الباحث من الصفر فيشك فى كل شىء وينكر كل شىء ويحاول أن يثبت من جديد صحة كل ما يراه أو يسمعه أو يلمسه أو يذوقه، فضلا عن أى شىء يخطر له على بال أو يفكر فيه. فهل ترى عباس الهجاص قد أنكر كل شىء وبدأ من الصفر كما يقتضى هذا المنهج؟ بالطبع لا. إنما هى تهاويل وطنطنات وفقاقيع كلامية ليس إلا، يريد أن يوهم بها السذّج الأغرار أنه فيلسوف كبير وأنه سوف يكسّر الدنيا تكسيرا مع أنه شخص مسكين مختل العقل والشعور. وهنا يقول إن تطبيق المنهج العلمى على القرآن سوف يهدم القرآن، غافلا عن أن الله قد ألح على الإنسان فى تشغيل العقل قبل أن يختار الإيمان أو الكفر. وهو يستشهد هنا بالإمام أبى حامد الغزالى، صاحب رسالة "المنقذ من الضلال" التى حكى فيها عن أزمة الشك التى اعترته فى مرحلة من مراحل حياته، وانتهت به إلى بَرّ الإيمان واليقين بعدما حولها إلى منهج فلسفى محكم أخذه ديكارت دون أن ينسب ذلك اللصُّ الفضلَ لصاحبه، فضلا عن استبعاده تطبيق الشك على الإيمان على عكس الغزالى، الذى أخضع كل شىء عنده لذلك الشك حتى بلغ ما استراح به عقله من محنة القلق والارتياب.
    وقد غفل عِبْس فى هذا السياق (لأنه مغفَّل بطبعه) عن أن الغزالى حين شك وأخضع كل شىء للمنهج العلمى إنما كان يأتمر بأوامر القرآن، مثلما أننى فى كتابَىَّ: "مصدر القرآن"، و"القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" إنما كنت أطبق المنهج العلمى ولا أومن إيمانا أعمى، ولكن دون طنطنات جاهلة كالتى يطنطن بها عبس الجاهل الغليظ العقل المنكوس الذوق الذى يتصور مع ذلك أنه أصح الناس عقلا، وأن ذوقه الأدبى واللغوى أحسن الأذواق ذوقا. كذلك فالصحابة حين آمنوا إنما أعملوا عقولهم: كل بطريقته، ولم يؤمنوا دون تفكير. وعلماء المسلمين حين درسوا واختلفوا إنما كانوا يعلمون عقولهم ولا يؤمنون إيمانا أعمى، وإلا لكان إيمانهم شيئا واحدا. ونبى المسلمين قد حث على الاجتهاد، أى على العلم والتفكير، وبين أن المجتهد مأجور سواء كانت النتيجة صوابا أو خطأ، وهو ما لا وجود له فى أى دين أو ملة أو مذهب أو فلسفة. فلم التساخف إذن؟ الواقع أنه لو كان هذا الكذاب مسلما من قبل حقا لما قال هذا الكلام.
    وإلى القراء الكرام هذا المثال الذى يبين لهم كيف أن الصحابة لم يكونوا يؤمنون بالإسلام إيمانا أعمى. جاء فى "صحيح البخارى: "قال لنا ابن عباس: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قال: قلنا: بلى، قال: قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار، فبلَغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل كلِّمْه وأتني بخبره. فانطلق فلقيه ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ فقال: والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر،. فقلت له: لم تشفني من الخبر. فأخذت جرابا وعصا، ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد، قال: فمر بي عليٌّ فقال: كأن الرجل غريب؟ قال: قلت: نعم. قال: فانطلق إلى المنزل، قال: فانطلقت معه، لا يسألني عن شيء ولا أخبره. فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء، قال: فمر بي عليٌّ، فقال: أما نال للرجل يعرف منزله بعد؟ قال: قلت: لا. قال: انطلق معي. قال: فقال: ما أَمْرُك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: قلت له: إن كتمتَ عليَّ أخبرتك. قال: فإني أفعل. قال: قلت له: بلَغَنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه، فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. فقال له: أما إنك قد رَشَدْتَ. هذا وجهي إليه فاتبعني. ادخل حيث ادخل،. فإني إن رأيتُ أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامض أنت. فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: اعرض علي الإسلام. فعرضه، فأسلمت مكاني. فقال لي: يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل. فقلت: والذي بعثك بالحق لأَصْرُخَنَّ بها بين أَظْهُرهم. فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فقاموا فضُرِبْتُ لأموت. فأدركني العباس فأكبَّ علي، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم! تقتلون رجلا من غفار، ومتجركم وممرّكم على غفار؟ فأقلعوا عني. فلما أن أصبحت الغد رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فصُنِع بي مثل ما صُنِع بالأمس، وأدركني العباس فأكبَّ علي، وقال مثل مقالته بالأمس. قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله".



    يتبع...

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    2,584
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    18-08-2023
    على الساعة
    04:23 PM

    افتراضي

    وثم حديث يلقى بعض الضوء على موقف الإسلام من قضية الإيمان والكفر وحرية كل شخص فى اختيار الطريق التى يراها صحيحة دون أى إجبار من أحد حتى بعدما قويت شوكة الإسلام وصار قادرا، لو أراد، على أن يفرض نفسه بقوة السلاح. فعن سعيد بن جبير فى آية "لا إكراه في الدين" أنها "نزلتْ في الأنصار. قلت: خاصة؟ قال: خاصة. كانت المرأة منهم (أى من نساء الأنصار فى الجاهلية) إذا كانت نَزْرَةً أو مِقْلاتًا (أى قليلة الإنجاب) تَنْذِر لئن ولدتْ ولدا لتجعلنّه في اليهود، تلتمس بذلك طول بقائه. فجاء الإسلام، وفيهم منهم. فلما أُجْلِيَتْ النضير قالت الأنصار: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم. فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت "لا إكراه في الدين". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد خُيِّر أصحابكم: فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فأَجْلُوهم معهم".
    كذلك يزعم عِبْس أن كتابه هو أول الكتب التى تهاجم القرآن ذاته على عكس المؤلفات السابقة، إذ كانت تلك المؤلفات تهاجم الكتب التى تتحدث عن القرآن لا القرآن ذاته. لكننا ننظر فى ص 86، و92- 109 فنراه يذكر بعضا من العلماء القدامى الذين هاجموا القرآن. إذن فليس هو أول من هاجم القرآن، وليس كتابه أول كتاب فى ذلك المجال. بل لقد كان هجوم بعض السابقين على القرآن أعنف من هجومه لأنه استثنى القرآن المكى من انتقاده وأقر له بوجه عام بالبلاغة العالية (ص70، 114 مثلا)، أما هم فلم يستثنوا من هجومهم شيئا: لا مكيا ولا مدنيا. وبالمناسبة فتفرقته هذه بين القرآن المكى والقرآن المدنى هى تقليد ببغاوى لما يردده المستشرقون بعامة، فهو لم يأت بشىء من عنده إذن. ليس ذلك فحسب، بل نراه (ص109) يقر بأن كلامه عن القرآن مسبوق غير جديد، وإن أضاف أن طريقته فى معالجة الموضوع تختلف عما كتبه الآخرون من قبل.
    ومع ذلك فزعمه بأن ابن المقفع مثلا أحد من هاجموا القرآن هو زعم متهافت لا يصمد للنقد كما وضحتُ فى دراستى الطويلة عن هذا الموضوع فى المشباك، إذ بينت أن الرجل كان، فيما تقول كتاباته ومواقفه، إنسانا مؤمنا بالله وكتابه ورسوله، وليس فيما تركه وراءه من مؤلفات وأخبار ما يمكن الاستناد إليه فى اتهامه بالزندقة، فضلا عن الزعم بأنه فكر فى تقليد القرآن، ودعنا من أن يكون فعلا قد ألف كتابا يتحدى به الكتاب المجيد. وعنوان الدراسة التى وضعتها عن ابن المقفع ونفيت فيها ما قيل عن زندقته هو: "هل كان زنديقا؟ هل كتب معارضة للقرآن؟ كلمة فى عقيدة ابن المقفع".
    وفى ص48 يعلن عباس الهجاص كفره بإله القرآن. فلماذا إله القرآن وحده، وهو قد كفر بالله عموما؟ ولماذا القرآن وحده، وليس الكتاب المقدس أيضا، وهو أحرى بأن يركز عليه أو على الأقل: أن يساويه بالقرآن، أو يلحقه به؟ لكنه قد عميت عيناه فعاد لا يرى إلا القرآن بعدما قال كلمةً سريعةً عابرةً فى مهاجمة المسيح والنصرانية، كلمةً لذر الرماد فى العيون ليس إلا. ومثلها انتقاده للقديس أوغسطين مثلما انتقد الغرالى (ص74). كذلك نجده فى ص49- 50، 65 وما بعدها يقول إنه قد كفر بالقرآن لما فيه من فرقعات كلامية لا طائل وراءها وعموميات فضفاضة لا يستطيع الإنسان أن يقبض منها على شىء، متجاهلا أن هذاالقرآن هو الذى غير وجه التاريخ ثقافة ودينا وسياسة واقتصادا كما قال هو نفسه من قبل حسبما مر بنا. وهذا دليل آخر على تخبطه وارتباك أفكاره وعقله.
    وهو يؤكد هنا أن القرآن قد حكم على نفسه بالإدانة لأن فيه اختلافا كثيرا، وهو ما أنكره فى موضع آخر وجعل عدم وجوده مقياسا لصدقه. وقد مر بنا غير بعيد كيف أن مقدم الكتاب قد برَّأ القرآن مما حدث للمؤلف من كفر وتمرد، حاصرًا المسؤولية فى المسلمين. وأعجب من ذلك أن عباس يعود بعد قليل فيرمى القرآن يكل نقيصة ويحمّله وزر كل شىء. وهكذا يسود التخبط والتشنج والاضطراب كلام الرجل. ومع هذا فإنه، فى آخر الفقرة الثانية من ص 277، يقع فى فلتة من فلتات اللسان الكاشفة الفاضحة فيقول عقب فاصل طويل حاد من إنكار مطلق لوجود الله ورحمته: "ولكن الله سَلَّم"! فأى ارتباك عقلى وعقيدى هذا؟ وفى (ص85) نراه يصف طه حسين: بـ"المغفور له". أليس هذا أمرا مضحكا من رجل يعلن أنه كافر بالله واليوم الآخر؟ ترى ما معنى الاستغفار لطه حسين إذن؟ ومن سيغفر له إذن ما دام الله غير موجود كما يزعم عبس أبو عقل جِبْس؟
    وهو يبذل كل جهده للبرهنة على أن أسلوب القرآن أسلوب غير معجز، قائلا إنه أسلوب عادى فيه وفيه، ومؤكدا أن أسلوب العقاد والتوحيدى والجاحظ وابن المقفع... إلخ أفضل من أسلوب القرآن، جاهلا بل متجاهلا أن هؤلاء العمالقة هم برغم أنفه وأنف من يستفزونه لمهاجمة القرآن يؤمنون أن القرآن هو من عند الله لا من عند محمد. بل إن الجاحظ والعقاد مثلا ينافحان بقوة عن الإسلام وكتابه الكريم. وبالنسبة إلى طه حسين فإنه، كما نعرف جميعا، يحرص على تقليد أسلوب القرآن فى ألفاظه وتراكيبه التى قلما يستعملها أحد الآن، ككلمة "فَصَل عن" (بمعنى "غادر")، و"إنْ كادوا ليفعلون كذا" (بمعنى "لقد كادوا أن يفعلوا كذا) مثلا. ومن يُرِدْ أن يطلع على المدى الشاسع لتقليد القرآن فى أسلوب طه حسين فليرجع إلى الفصل الذى كتبته عن مجموعته القصصية: "المعذبون فى الأرض" فى كتابى: "دراسات فى النثر العربى الحديث". فما رأى أبى العبابيس إذن؟ لا بل إن أسلوب عِبْس ليعكس تأثيرات قرآنية كثيرة ساطعة رغم كل ما قاله فى حق القرآن، مما يدل على أنه يعاكس ضميره الداخلى الذى يدرك كم أن أسلوب الكتاب المجيد معجزٌ ومسيطرٌ!
    وهو يزعم أن مدح المسلمين للقرآن إنما سببه ما حققه القرآن من غلبة وسلطان، إذ للسلطة تأثيرها على العقول والأحكام (ص69). لكن فاته أن القرآن لم تكن له سلطة يوم آمن الناس به وتفانَوْا فى الدفاع عنه. ثم أى سلطان تتمتع به دولة الإسلام الآن حتى يظل كبار الكتاب والنقاد فى العصور الحديثة يَرَوْنَ فى أسلوبه المثال الأعلى فى البلاغة والأناقة؟ وبالمثل يزعم أن ركاكة القرآن قد لوحظت من قديم، ولكن إما أن ملاحظيها قد ماتوا فى الحروب ضد الإسلام وحُذِفت أقوالهم، وإما أنهم آمنوا ودخلوا فى دائرة التأثير القرآنى المشلّ للعقل (ص151). لكن لو كان الذين ماتوا قد قالوا شيئا ضد القرآن لرواه القرآن والمسلمون على عادتهم فى رواية كل شىء. وأما من آمنوا به فالسؤال هو: كيف آمنوا أصلا لو كانوا لاحظوا ركاكته، فى الوقت الذى كان ولا يزال يتحدى الجميع أن يأتوا بمثله؟ والمضحك أنه فى مواضع أخرى من الكتاب يتهم القرآن بأنه يناسب الشخصية العربية التى تفتتن بالألفاظ وتحب أن تتكلم ولا تقول شيئا، ومن ثم كان تأثيره الشديد على العرب. أى أن العرب افتتنوا به ولم يَرَوْا فيه شيئا من الركاكة كما يزعم! لكنه هو نفسه قد ذكر بكل فرحة وشماتة أن القرشيين كانوا يسخرون من القرآن ويتَحَدَّوْنه ولم يؤمنوا به بسهولة. فكيف يفسر هذا فى ضوء ما قاله؟ ثم كيف يفسر دخول غير العرب فى الإسلام من يومها وحتى الآن وإلى ما شاء الله؟ ألا يرى القارئ العزيز كيف يترنح الرجل متخبطا ذات اليمين وذات الشِّمال؟
    ومُضِيًّا مع انتقاده لأسلوب القرآن الكريم فإنه يعترض على الحروف المقطعة قائلا إنها تدخل فى باب الغموض الذى يسىء إلى النص (ص40). وكان هذا الاعتراض يكون له معنى لو أن الأمر يتعلق بعبارات غير مفهومة المعنى. أما وأنها مجرد "حروف مقطعة" فالمتوقع ألا يكون لها معنى فى ذاتها. ومع هذا فالملاحظ أنه يعقبها فى كثير من الأحيان ما يفيد بأن آيات القرآن إنما قد رُكِّبَتْ من تلك الحروف، ومع ذلك عجز العرب عن الإتيان بمثلها رغم تحدى القرآن لهم بذلك، كما فى قوله تعالى فى أوائل سور البقرة والأعراف وهود والشورى مثلا: "الـم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)"، "الـمص‌ (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)"، "الـرْ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)"، "حم (1) عـسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ". أما فى الحالات الباقية فمعظمها يقترب من هذا المعنى على نحو أو على آخر.
    وقد قام بعضهم بإحصاء تردد هذه الحروف فى السور التى ابتدأت بها فوجد أنها تتكرر فى تلك السور أكثر مما تتكرر الحروف الأخرى، وأن نسبة ذلك التكرر تتسق مع ترتيب كل حرف فى هذه الحروف فى مطلع السورة. فإذا كان لدينا "الم" مثلا كما فى أول سورة "البقرة" فإن "الألف" تكون أعلى تلك الأحرف الثلاثة ترددا فى تلك السورة، يليها "اللام" فــ"الميم". وهناك من يرى أنها اختصارات لبعض أسماء الله الحسنى. وفى كتاب الدكاترة زكى مبارك: "النثر الفنى فى القرن الرابع" أن بعض المستشرقين يزعم أنها رموز موسيقية لضبط ترتيل السور التى افتُتِحَتْ بها. ومن الشبان المتعجلين غير الفاهمين من كتب مدعيا أنها كلمات مصرية قديمة، رغم أنه لا يعرف شيئا عن تلك اللغة بل لا يعرف شيئا عن اللغة العربية ذاتها. ومن المضحك أنه يقول إنها كلمات هيروغليفية مع أن الهيروغليفية ليست لغة بل نوعا من أنواع الخطوط كما نقول الآن: "خط الرقعة أو خط الثلث" مثلا، وهو ما يعطينا فكرة عن مستواه فى العلم والفهم.
    ومع ذلك كله فليكن أن تلك الحروف إنما استعملت فى افتتاحيات بعض السور كى تثير التطلع والالتفات وتجذب الأذن، وبخاصة فى بدايات الوحى فى مكة. وكان المتنبى يتعمد فى بعض مطالع قصائده أن تكون لافتة للانتباه مثيرة للتعجب، كقوله مثلا:
    ذي المَعالي فَلْيَعْلُوَنْ مَن تَعَالَى * هَكَذا هَكَذا، وَإِلاَّ فَلاَ لا
    وفى العربية أداة تسمَّى: "ألا" الاستفتاحية، وهى من الكلمات التى لا تدل إلا على أن هناك كلاما قادما، فوظيفتها لفت الانتباه إلى ذلك الكلام. ولعل من المفيد هنا أن نذكر كلمة "well"، التى يبتدئ بها معظم الإنجليز كلامهم مع الآخرين دون أن يقصدوا من ورائها شيئا محددا، اللهم إلا لكى يعطوا أنفسهم مهلة للتفكير فيما ينبغى أن يردّوا به على من يخاطبهم. وليكن هذا مما أبدعه القرآن فى لغة الضاد، وما هذا بالشىء القليل؟ وللأدباء والفنانين إبداعات عجيبة من هذا الباب وأشباهه، وربما لا يكون لها معنى محدد، ومع ذلك فإنها تفعل فى النفس الأفاعيل.
    ويفد على خاطرى الآن تقليد أسمهان لصوت الطيور فى أغنيتها التى لحنها لها مدحت عاصم: "يا طيور"، فقد كانت شيئا جديدا وبديعا فى حينها. وثَمَّ أغنية لمحمد فوزى لا يستعين فى موسيقاها بأية آلة، مكتفيا بالأصوات البشرية فى تقليد العود والكمان وما إلى ذلك. وقد سمعت أنه قد اضطُرَّ إلى ذلك اضطرارا، إذ غاب أفراد التخت ذات مرة، فلم يؤجل تقديم الأغنية، بل طلب من الجوقة أن تؤدى وظيفة الآلات فقبلوا، وكانت فتحا فى عالم التلحين، وإن لم يفكر أحد آخر فى انتهاج هذا الطريق مرة أخرى. وفى أغنية "الربيع" نسمع فريد الأطرش يترك الغناء فى منتصف الأغنية ويلقى بيتين من أبياتها إلقاء عاديا دون تنغيم، ليعود بعدها بقليل إلى التنغيم والتطريب. وفى مقدمة قصيدة "فجر" لرياض السنباطى نسمع كروان الإذاعة محمد فتحى يلقيها بصوته الأنيق العميق الذى يبدو للآذان وكأنه آتٍ من وراء الغيب، حتى إذا فرغ منها خطا السنباطى إلى الأمام ليقدم الأغنية كرة أخرى، ولكن بتطريبٍ وغناءٍ هذه المرة. أما أم كلثوم فقامت وحدها بالدورين معا فى قصيدة "حديث الروح"، التى ترجمها الشيخ الصاوى شعلان من أشعار محمد إقبال، إذ ألقتها أولا إلقاء عاديًّا، ثم عادت فغنتها، مبدعة فى الأداءين جميعا.
    وهناك موال سمعناه من المطرب شفيق جلال ونحن شبان صغار فى بدايات ستينات القرن المنصرم يقول فيه مؤلفه سيد قشقوش:
    أنا بَعَلِّمِ الصبر يُصْبُرْ علي صبر حبيبْ جارْنا
    وبَقُول: يا صبر، صَبْرَكْ عَلِيهْ حتى يِجِي جارْنا
    إنْ كانْ غِيرْنا حِلِي، واحْنا اللِّي مَرَّرْنا اللهْ يِهَوِّنْ عليكْ، واحنا يِصَبَّرْنا
    قالْ: يا خُوخْ، خانونا الحبايبْ، واحْنا لَمْ خُنَّا
    قال: يا لَمُون، لامُونا الحبايبْ، واحنا لم لُمْنا
    قال: يا نبق، نبقي عيش وملح كانْ بِينَّا
    قال: يا مشمش، مِشِينا فْ هواهمْ، واللي مِشِي هُمَّا
    قال: يا نخل، إِخْلِي مكان واسمع ما كانْ بِينَّا
    يا عود ريحان، رَيَّحْ قلوبْ سابق رَيَّحُوكْ هُمَّا يا تَمْر حِنَّهْ، رَحَلْنا وحَلُّوا منازلْنا
    فأما عِبْس وأمثاله ممن طمس الله على قلوبهم وحرمهم من الذوق الأدبى والفنى فلسوف يقولون مستنكرين: ما علاقة الخوخ والليمون والمشمش والنخل والريحان وتمر الحنة بما نحن فيه؟ إن هذه فواكه وزهور، وهى للأكل والشم، وليست للشعر والغرام. إلا أن فى الموال رغم أنف عبس روعة وإبداعا وإيجاعا يرجع إلى هذا الجديد الذى لا يفهمه ولا يتذوقه أبو العبابيس! وأرجوك، يا قارئى العزيز، أن تأخذ بالك من جملة "لَمْ خُنَّا" و"لَمْ لُمْنَا" العجيبة التى دخلت فيها "لم" على الفعل الماضى، وهو غريبٌ جِدُّ غريبٍ، ومع هذا فهو جميلٌ هنا جِدُّ جميلٍ. ثم يأتى حسين السيد فى أغنية"حِنّْ"، التى يؤديها محمد عبد الوهاب، فيدفع استعمال "لم" خطوة أخرى إلى الأمام متحديا ما نعرفه من تركيب الكلام، قائلا على لسان الحبيب لحبيبه القاسى:
    يا اللى زرعت الهوى فى قلبى، إمْتَى تِحِنّْ؟ عُزَّالى حَنُّوا عَلَيّا وإنْتا لَمْ بِتْحِنّْ مُدْخِلا "لم" والباء معا على المضارع، الذى لم تخلع عليه "لم" معنى الماضى، بل استمر يدل على الحضور والاستمرار، فصارت "لم" بمعنى "مُشْ" العامية لا أكثر ولا أقل. وهذا استعمال جديد بدلا من "مُشْ بِتْحِنّ"، ومن لا يعجبه فليشرب من البحر. وما من مرة سمعت الأغنية ووصلت منها إلى هذا البيت بذلك التركيب العجيب إلا وهام ذوقى فى أودية الإبداع والاستمتاع. وملعون أبو خاش كل نطعٍ بليد!
    ومن هذا أيضا التنويعات العجيبة التى أدخلها زكى مبارك على استعمال "أما بعد" كقوله مثلا: "وبعد، فأما بعد"، أو "ثُمّ أما بعد فقد..."، أو "أما بعد، وقد تعبتُ من أما بعد، فهذه ملاحظات أقدمها..."، أو "أما بعد، وقد أشقتنى أما بعد، فأنا أسارع إلى..."، أو "أما بعد، وقد أشقتنى وستشقينى أما بعد، فهذا قصيد فى...". وما زلت أذكر الدهشة التى اعترتنى حين سمعت فى الصبا الباكر أحد زملائنا فوق المنبر وهو يباغتنا قائلا بعد الديباجة الأولى فى خطبة الجمعة ونحن جلوس على حصير المسجد نرمقه فى مكانه العالى: "أما قبل"، فكانت شيئا مدهشا أثار اللغط والجدال بيننا فترة طويلة! ولو كان مبتدع عبارة "أما بعد"، التى كانت فى وقتها شيئا عجيبا مدهشا يحير العقول، يعرف أنها سوف يحدث لها كل هذا، وكان ضيق العطن كعِبْسِنا المتغشمر الهجام، ما كان ابتدعها!
    ومما يُجْلِب أبو العبابيس ويَشْغَب به على القرآن باعتباره عيبا من عيوبه تلك القائمة التى أوردها السيوطى فى كتابه: "الإتقان فى علوم القرآن" من غريب الألفاظ فى كتاب الله، مع أنها كلها مفهومة، قائلا إن من العيب الشديد إيراد ألفاظ وعبارات غير مفهومة فى نص من النصوص (ص148). ومن تلك القائمة "سندس" و"قلوبنا غُلْف" و"مِدْرارًا" و"هيهات هيهات" و"يتمطَّى" و"جزاءً وِفَاقًا" و"أوّاب" و"أباريق" و"زنجبيل" و"ممنون" و"كواعب" و"أتراب" و"سرادق" و"شُوَاظ". وقد يكون السيوطى قَصَد بـ"الغرابة" أن تلك الألفاظ والعبارات لم تكن معهودة على نطاق واسع من قبل، وإن كنت أشك فى ذلك، إذ إنى لا أستطيع أن أجد فيها شيئا صعبا على الفهم. فليقل السيوطى إذن ما يشاء، فالعبرة بالواقع، والواقع يقول إن معظم الألفاظ التى أوردها السيوطى فى قائمته، إن لم تكن كلها تقريبا، مفهومة تماما لنا الآن، فما بالنا بعرب العصر النبوى؟
    وحتى أُرِىَ القراء الكرام أن الأمر ليس على ما ادعاه عِبْس السخيف العقل أسوق هنا بعض شواهد من شعر الجاهليين والمخضرمين على تلك الألفاظ بما يبرهن أجلى برهان أن تلك الألفاظ كانت متداولة ومفهومة فى عصر النبوة وما قبله. قال سلامة بن جندل:
    كَريحِ ذَكِيِّ المِسكِ بِاللَّيْلِ رِيحُهُ * يُصَفَّقُ في إِبريقِ جَعْدٍ مُنَطَّقِ
    وقال تأبط شرا:
    خَفَضتُ بِساحَةٍ تَجري عَلَينا * أَباريقُ الكَرامَةِ يَومِ لَهْوِ
    وقال المتلمس الضبعى:
    لَهُ جُدَدٌ سودٌ كَأَنَّ أَرَندَجًا * بِأَكرُعِهِ، وَبِالذِراعَينِ سُندُسُ
    وقال زهير بن أبى سلمى:
    هَيهاتَ هَيهاتَ مِن نَجدٍ وَساكِنِهِ * مَن قَد أَتى دونَهُ البَغْثاءُ وَالثَمَدُ
    وقال عوف بن عطية بن الخرع:
    فأَثنت تَقُودُ الخَيلَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * كَمَا انقَضَّ بَازٍ أَغلَفُ الرِّيشِ أَقتَمُ
    (و"أغلف" هو مفرد "غُلْف". وقوله تعالى عن اليهود فى الآية من سورة "البقرة": "وقالوا: قلوبنا غُلْف" هو إشارة إلى ما جاء فى الكتاب المقدس عنهم هم وأشباههم من أن قلوبهم غير مختونة، أى مغلقة، فهم لا يريدون أن يفقهوا شيئا مما يقال لهم، عنادًا منهم واستهزاءً. وفى الإصحاح السابع فى سفر "أعمال الرسل" من أسفار العهد الجديد إشارة من إسطفانوس إلى هذا على سبيل التوبيخ والاحتقار: "51يَا قُسَاةَ الرِّقَابِ وَغَيْرَ الْمَخْتُونِينَ بِالْقُلُوبِ وَالآذَانِ! أَنْتُمْ دَائِمًا تُقَاوِمُونَ الرُّوحَ الْقُدُسَ. كَمَا كَانَ آبَاؤُكُمْ كَذلِكَ أَنْتُمْ!". ومن قبل نقرأ فى الإصحاح التاسع من سفر "إرميا": "25هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُعَاقِبُ كُلَّ مَخْتُونٍ وَأَغْلَفَ 26مِصْرَ وَيَهُوذَا وَأَدُومَ وَبَنِي عَمُّونَ وَمُوآبَ، وَكُلَّ مَقْصُوصِي الشَّعْرِ مُسْتَدِيرًا السَّاكِنِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ، لأَنَّ كُلَّ الأُمَمِ غُلْفٌ، وَكُلَّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ غُلْفُ الْقُلُوبِ" (uncircumcised in heart- incirconcis de coeur). وفى الإصحاح الرابع والأربعين من سفر "حزقيال": "6وَقُلْ لِلْمُتَمَرِّدِينَ، لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: يَكْفِيكُمْ كُلُّ رَجَاسَاتِكُمْ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ،7بِإِدْخَالِكُمْ أَبْنَاءَ الْغَرِيبِ الْغُلْفَ الْقُلُوبِ (uncircumcised in heart- incirconcis de coeur) الْغُلْفَ اللَّحْمِ لِيَكُونُوا فِي مَقْدِسِي، فَيُنَجِّسُوا بَيْتِي بِتَقْرِيبِكُمْ خُبْزِي الشَّحْمَ وَالدَّمَ. فَنَقَضُوا عَهْدِي فَوْقَ كُلِّ رَجَاسَاتِكُمْ... 9هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: ابْنُ الْغَرِيبِ أَغْلَفُ الْقَلْبِ (uncircumcised in heart- incirconcis de coeur) وَأَغْلَفُ اللَّحْمِ لاَ يَدْخُلُ مَقْدِسِي، مِنْ كُلِّ ابْنٍ غَرِيبٍ الَّذِي مِنْ وَسْطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ". وفى الإصحاح العاشر من سفر "التثنية" يتجه الخطاب إلى بنى إسرائيل على النحو التالى: "16فَاخْتِنُوا غُرْلَةَ قُلُوبِكُمْ، وَلاَ تُصَلِّبُوا رِقَابَكُمْ بَعْدُ".
    وفى مادة "ختان" من "دائرة المعارف الكتابية" نقرأ عن المغزى الروحى فى الكتاب المقدس لعملية الختان ما يلى: "يتضح المغزى الروحي للختان من القول: "ويختن الربُّ إلهُك قلبَك وقلبَ نسلك لكي تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك لتحيا" (تث30: 6). ولا نظن أن نبيا مثل إرميا يعلق أهمية كبيرة على عمل سطحي كالختان لو لم يكن له مغزاه الروحي العميق. ولذلك يوبخ قومه بشدة بأنهم لا يَفْضُلون المصريين أو الأدوميين أو الموآبين أو العمونيين لأنهم "غُلْف القلوب" (إرميا9: 26). ويستخدم الرسول بولس لفظ "القطع" للدلالة على الختان الظاهري في الجسد غير المصحوب بتغيير روحي في القلب (في3: 2). كما يكتب في رسالته إلى الكنيسة في رومية: "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديا، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانا... وختان القلب بالروح لا بالكتاب (أي بالحرف) هو الختان الذي مَدْحُه ليس من الناس بل من اللـه" (رو 2: 28و29)". كما يتناول محرر المادة الاستعمال المجازى لعبارة "القلب الأغلف" قائلا: "والقلب الأغلف (أي غير المختون) هو القلب المغلق الذي لا يتأثر بأي كلام صالح، كما أن الأذن الغلفاء لا تقدر أن تصغي (إرميا6: 10)، والشفاه الغلفاء هي التي تتعثر في القول. ويأمرهم الرب قائلاً:"اختنوا غرلة قلوبكم، ولا تصلِّبوا رقابكم بعد" (تث10: 16). كما يخاطب إستفانوس اليهود بالقول: "يا قساة القلوب وغير المختونين بالقلوب والأذان، أنتم دائما تقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم، كذلك أنتم" (أع7: 51)".
    ولقد كان المعنى واضحا تماما لمعاصرى النبى: فأما اليهود منهم فأمرهم مفهوم، وأما الوثنيون فحتى لو لم يكونوا يعرفون شيئا عن هذه الخلفية التى سقتها هنا فالعبارة تشبه قولهم هم أنفسهم ردا على دعوة النبى لهم بالدخول فى الدين الجديد: "وقالوا: قلوبنا فى أَكِنّةٍ مما تَدْعونا إليه، وفى آذاننا وَقْرٌ، ومن بيننا وبينك حِجَاب"، فلا غموض فيها على الإطلاق). وقال المسيَّب بن عَلَس:
    وَكَأَنَّ طَعمَ الزَنْجَبيلِ بِهِ * إِذ ذُقْتَهُ وَسُلافَةَ الخَمرِ
    وقال عدىّ بن وداع الأزدى:
    كَأَنَّ مجامِعَ الهُلُباتِ منهُ * وَهادِيَها لميعادٍ وِفَاقِ
    وقالت الخنساء:
    يا عَينُ فِيضِي بِدَمعٍ مِنكِ مِغْزارِ * وَابْكِي لِصَخرٍ بِدَمعٍ مِنكِ مِدْرارِ
    وقال النابغة الذبيانى عن الليل وتطاوله بالهموم:
    تَطاوَلَ حَتّى قُلتُ لَيسَ بِمُنقَضٍ * وَلَيْسَ الَّذي يَرعى النُجومَ بِآئِبِ
    (و"آئِب" هو اسم الفاعل من "آبَ يؤوبُ"، و"الأَوّاب" هو اسم المبالغة من "آئب"، أى الذى يرجع دائما إلى ربه كلما أذنب ذنبا فيتوب منه ولا يصر عليه). وقال لبيد بن ربيعة العامرى:
    إِذا آرِقٌ أَفْنَى مِنَ اللَيلِ ما مَضَى * تَمَطَّى بِهِ ثِنْيٌ مِنَ اللَيلِ راجِحُ
    وقال النابغة الجعدى عن لحم صيد شَوَوْه وأكلوه فى البرّية:
    فاشتَوَيْنا مِن غَرِيضٍ طَيِّبٍ * غَيرِ مَمنُونٍ وَأُبْنا بِغَبَشْ
    وقال امرؤ القيس:
    فَجاءَت قَطُوفَ المَشْيِ هَيّابَةَ السُّرَى * يُدافِعُ رُكناها كَواعِبَ أَرْبَعَا
    وقال عبد الله بن عجلان النهدى:
    أَتَتْ بَينَ أَترَابٍ تَمَايَسُ إِذ مَشَتْ * دَبِيبَ القَطَا أَو هُنَّ مِنهُنَّ أَقْطَفُ
    وقال جبر المعاوى:
    وَقَد لَفَّ شَخْصَيْنا سُرادِقُ هَبْوَةٍ * فَخانَكَ صَبرٌ يَومَ ذَلِكَ مُخْدَجُ
    وقال عدى بن زيد:
    في حَديدِ القِسْطاس يَرقُبُني الحا رِسُ، وَالمَرءُ كُلَّ شَيءٍ يُلاقِي
    وقال أمية بن ابى الصلت:
    يَظَلُّ يَشُبُّ كيرًا * وَيَنفُخُ دائِباً لَهَبَ الشُّوَاظِ



    يتبع...
    التعديل الأخير تم بواسطة دفاع ; 04-10-2009 الساعة 07:03 PM

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    2,584
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    18-08-2023
    على الساعة
    04:23 PM

    افتراضي

    ولنفترض أن تلك الكلمات هى فعلا كلمات غريبة، فمن قال إن هذا عيب؟ إن من يقول ذلك ساذج أحمق لأنه يريد أن يسوى بين مستعملى اللغة، وبالتالى لا ينبغى أن يستخدم أى منهم لفظة لا يعرفها الآخرون، وهو ما يذكرنا بما كان الشيوعيون الحمقى يدعون إليه قائلين إنه لا ينبغى أن يزيد أى من الناس عن غيره فى مقدار ما يمتلك من مال، إلى أن اكتسح التاريخ الشيوعية والشيوعيين إلى مزابله جزاءً وِفَاقًا على ضيق عطنهم وتصلب أمخاخهم وغَلَف قلوبهم! إن مستعملى اللغة يتفاوتون بالضرورة كما يتفاوت الناس فى كل شىء، فما بالنا بخالق اللغات كلها؟ والواجب على من لا يعرف أن يجتهد فيتعلم ما لم يكن يعلم، وإلا بقيت الأمور على ما هى عليه يوم خلق الله الدنيا فى مبتدإ الأمر دون تطور أو تقدم. لكن ماذا نقول للحمقى المتاعيس؟
    وفى ص 152 يستمر الوسواس الخناس فى تخطئة أسلوب القرآن الكريم فيزعم أن باب الالتفات (أى تغيُّر الضمير للشخص الواحد فى نفس الجملة من الخطاب للغيبة مثلا، أو من الغيبة إلى التكلم... إلخ) قد اخْتُرِع لتغطية العيب الموجود فى آية "يونس" وأمثالها، إذ تَسْتَعْمِل تلك الآيةُ أولا ضميرَ المخاطبين فى خطابه عزّ وجلّ إلى البشر: "يُسَيِّركم، كنتم"، ثم يتغيّر الضمير من الخطاب إلى الغَيْبة فيقول سبحانه عنهم هم أنفسهم: "بهم، فرحوا، جاءهم، دَعَوْا". ونص الآية: "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)". إن عِبْس يعيب الآية الكريمة ويتهمها بالركاكة والضعف والخطإ لاستعمالها هذا التركيب، مع أنه موجود فى الشعر العربى الجاهلى من قَبْل القرآن، وكذلك فى اللغات الأخرى.
    وعلى كل حال فقد وجه السيوطى مثلا فى "الإتقان" الآية على النحو التالى، إذ قال عن الالتفات فى كتاب الله المجيد: "ومثاله من الخطاب إلى الغيبة: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏"،‏ والأصل: "بِكُمْ". ونكتة العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم التعجب من كفرهم وفعلهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة. وقيل: لأن الخطاب أولا كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم بدليل "هو الذي يسيركم في البر والبحر‏". فلو كان "وجرين بكم" لَلَزِمَ الذَّمُّ للجميع فالتفتت عن الأول للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنُهم ما ذكره عنهم في آخر الآية عُدُولاً من الخطاب العام إلى الخاص‏. ‏قلت‏:‏ ورأيت عن بعض السلف في توجيهه عكس ذلك، وهو أن الخطاب أوله خاصّ، وآخره عامّ. فأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في قوله: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏"‏، قال‏:‏ ذَكَرَ الحديثَ عنهم، ثم حدَّث عن غيرهم، ولم يقل: "وجرين بكم" لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم: "وجرين بهؤلاء وغيرهم من الخلق". هذه عبارته. فلله دَرُّ السَّلَف! ما كان أوقَفَهم على المعاني اللطيفة التي يدأب المتأخرون فيها زمانًا طويلاً ويُفْنُون فيها أعمارهم، ثم غايتهم أن يحوموا حول الحِمَى‏!‏‏".
    وفى "الإيضاح فى علوم البلاغة" للقزوينى: "التكلم والخطاب والغيبة مطلقا يُنْقَل كل واحد منهما إلى الآخر، ويسمى هذا النقل: "التفاتا" عند علماء المعاني، كقول ربيعة بن مقروم:
    بانت سعادُ فأمسى القلب معمودا * وأخلفتك ابنةُ الحُرِّ المواعيدا
    فالتفت كما ترى حيث لم يقل: "وأخلفتْني"، وقوله:
    تذكرتَ، والذكرى تهيجك، زينبا * وأصبح باقي وصلها قد تقضَّبا
    وحَلَّ بفلجٍ فالأباتر أهلُنا * وشطَّتْ فحَلَّتْ غمرةً فمثقّبا
    فالتفتَ في البيتين...
    مثال الالتفات من التكلم إلى الخطاب قوله تعالى: "وما ليَ لا أعبد الذي فَطَرني وإليه تُرْجَعون". ومن التكلم إلى الغيبة قوله تعالى: "إنا أعطيناك الكوثر* فَصَلِّ لربك وانْحَرْ". ومن الخطاب إلى التكلم قول علقمة بن عبدة:
    طحا بك قلبٌ في الحسان طَرُوبُ * بُعَيْدَ الشباب عَصْرَ حانَ مَشِيبُ
    يكلِّفني ليلى، وقد شط وَلْيُها * وعادت عوادٍ بيننا وخطوبُ
    ومن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى: "والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه". ومن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى: "مالك يوم الدين* إياك نعبد"، وقول عبد الله بن عنمة:
    ما إن ترى السيد زيدا في نفوسهمو * كما يراه بنو كوز ومرهوبُ
    إن تسألوا الحق نُعْطِ الحقَّ سائلَه * والدرعُ مُحْقَبَةٌ، والسيف مقروبُ
    وأما قول امرئ القيس:
    تطاول ليلك بالإثمدِ * ونام الخليُّ ولم ترقدِ
    وبات، وباتت له ليلةٌ * كليلة ذي العاثر الأرمدِ
    وذلك من نبأٍ جاءني * وخُبِّرْتُه عن أبي الأسودِ
    فقال الزمخشري فيه ثلاث التفاتات...
    واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام. ووجه حسنه، على ما ذكر الزمخشري، هو أن الكلام إذا نُقِل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع وأكثر إيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد...".
    وكثيرا ما يستعمل المتكلم لنفسه ضمير الغائب فيقول مثلا: "العبد لله هو صاحب هذا الإنجاز، ولا فخر"، أو "محسوبك (ويقابلها فى الإنجليزية: "your (humble) servant") يرجوك أن تفعل الأمر الفلانى"، أو "كاتب هذه السطور (ويقابلها فى الإنجليزية: "the present writer") يعتقد أن الصواب هو كذا وكذا"... إلخ. وقد انتشرت هذه الأيام فى رسائل الماجستير والدكتوراه قول الطالب عن نفسه: "ويرى الباحث أن..."، مستعملا هو أيضا ضمير الغائب رغم أنه إنما يتحدث عن نفسه، فكان المتوقع أن يستخدم ضمير المتكلم. كذلك يستعمل طه حسين لنفسه فى كتاب "الأيام" كلمة "صاحبنا" أو "صبيّنا" "أو "شيخنا الصبى" أو "الصبى" أو ضمير الغائب مباشرة، ولم يحدث أن لجأ فى الحديث عن ذاته إلى ضمير المتكلم قط. وفى "دروس من القرآن الكريم" للشيخ محمد عبده نجده يقول مثلا فى بداية فصل "العلم والتعليم": "إن بعض إخواننا الذين عرفناهم فى تونس قد طلبوا من الفقير مسامرة أو محاورة... ثم قالوا: درسا، فسألنى بعضهم عن ذلك، فقلت: نعم هو درس، ولكن لا تظنوا أنه درس فى تحقيق مسألة علمية، فإن عندكم من جِلَّة العلماء من نعترف بفضلهم... أما هذا الفقير فرجل سائح قصدتُ هذه الديار للتعرف ببعض المسلمين والنظر فى أحوالهم وأمور دينهم...". ففى هذه السطور تحدث الشيخ عن نفسه مرة بضمير جماعة المتكلمين، ومرة بضمير المفرد الغائب، وثالثة بضمير المتكلم المفرد، وكل ذلك فى سطور معدودات، وعلى نحو متعاقب لا يفصل بين المرة والمرة زمن على الإطلاق.
    وفى قصة "قاسم" من مجموعة "المعذبون فى الأرض" يكتب طه حسين: "وفى القارئ حب للاستطلاع أقل ما يوصف به أنه يضايق الكاتب ويأخذ عليه الطريق، ويضطره إلى الوقوف حين كان يؤثر المضى فى كتابته أو يضطره إلى الاستطراد حين كان يفضل ألا يتجاوز الموضوع الذى يعرضه أو يقول فيه. والقارئ لا يكفيه ما أنبأتُه به من أن هذه الفتاة قد تغفلت أمها وانتهزت غيبة أبيها وانسلت من بيتها فى ظلمة الليل... القارئ لا يكتفى بهذا، وإنما يجب أن يعرف كيف نشأت هذه الصلة المبكرة بين فتاة فى السابعة عشرة ورجل قد جاوز الشباب، وهو زوج عمتها. ولولا أنى أرفق بالقارئ ولا أحب أن أَشُقّ عليه... لمضيتُ فى الحديث كما بدأته و لأبيتُ الانحراف إلى هذه الصلة البغيضة لأن الحديث عنها بغيض. ولكن لا بد مما ليس منه بد، فمن حق الكاتب أن يذهب ما شاء من المذاهب فى كتابته، ولكن من حق القارئ أيضا أن يفهم فى وضوح وجلاء ما يقدم إليه الكاتب من المقالات والفصول"، مراوحا بين استعمال ضمير الغائب (أو كلمة "الكاتب") وبين ضمير المتكلم فى الحديث عن نفسه، منتقلا بين هذه إلى تلك، أو من تلك إلى هذه، بغتة وعلى غير انتظار منا أو توقع.
    وفى قصة "المعتزلة" من نفس المجموعة بينما نراه يتحدث عن القراء أو القارئ بصيغة الغائب إذا به فجأة يتجه إلى قارئه بالحديث المباشر مستخدما كلمة "يا سيدى". وفى قصة "رفيق" من ذات المجموعة نجده يتحدث عن بطل القصة بضمير الغائب أو مستعملا له كلمة "الصبى"، لنفاجأ فى منتصف القصة بانحراف الضمير فى الحديث عن الصبى إلى صيغة المفرد المتكلم دفعة واحدة دون أى تمهيد.
    أم ترى عِبْس يقول بأننا، نحن والأوربيين، وطه حسين بالذات (وما أدراك ماطه حسين وموقفه من كتاب الله؟) نفعل كل هذا من أجل تغطية العيب الذى فى القرآن؟ إنه لأحمق عريق فى الحماقة! ترى أكان كفار العرب ومنافقوهم ويهودهم ونصاراهم يسكتون فلا يشنعوا على القرآن لو كان هذا خطأ فى الأسلوب؟ ثم ما الذى أوقع النبى فى هذا الخطإ لو كان هو مؤلف القرآن على ما يريد عِبْس أن يزرع فى النفوس؟ ترى هل يمكن أن يقع الإنسان فى لغته فى خطإ من هذا النوع ويتكرر منه كثيرا؟ ومع هذا كله نراه (ص154) يزعم أن من أهم أسباب نشأة علم البلاغة (علم البلاغة كله هذه المرة لا باب "الالتفات" فقط) فى لغة العرب الدفاع عن أخطاء القرآن، مع أن شواهد هذا العلم مستقاة من الشعر أولاً وقبل كل شىء، علاوة على أن هذا العلم موجود فى كل اللغات، ومنها اليونانية القديمة والسنسكريتية مثلا. وانظر فى ذلك ما كتبه الجاحظ فى "البيان والتبيين" لدن شرحه لمعنى البلاغة عند عدد من الأمم المختلفة.
    وفى الإنجليزية مثلا يوجد الـ"Apostrophe"، الذى يعرّفه Percival Vivian فى معجمه المسمى: "A Dictionary of Literary Terms" بأنه "The rhetorical figure which consists of breaking off from some previous method of address to address some person or thing in the second person, as De Quincey : 'Dismissing her — not to any Thessalian vales of Tempe, but— O ye powers of moral anachronism—to the Chester Post Office". كما يعرّفه Thomas O. Sloane محرر "Encyclopedia of Rhetoric" (ط2001م) قائلا: "Apostrophē: Traditionally, the Greek term apostrophē (Lat. aversio) has designated the rhetorical device that indicates the momentary interruption of discourse, in order to address—often in a vehement tone—a real or imaginary, present or absent, human or nonhuman, living or dead addressee, different from theoriginal addressee of that discourse. This interruption is characterized linguistically by a change from one discursive type to another—as when, for example, one inserts in an expositive–narrative modality, modalities associated with the expressive and appellative functions of language".
    ثم هَبِ القرآنَ قد اخترع هذا الأسلوب على غير مثال سابق فى العربية أو فى سواها من اللغات، فما وجه العيب فى هذا البِدْع الكريم إلا فى نظر مَنْ فى بصائرهم عَمًى، وفى أذواقهم فساد؟ إن هناك كتبا همها رصد الأوائل فى هذا المجال أو ذاك من مجالات الحياة، ومنها كتاب "الأوائل" لأبى هلال العسكرى، وكتاب "الأوائل" للطبرانى، وكتاب "الأوائل" للشيبانى، وكتاب "الأوائل" للجراعى، و"المصنَّف" لابن أبى شيبة، و"معجم الأوائل فى تاريخ العرب والمسلمين" لفؤاد صالح السيد، و"موسوعة جينيس"، إذ الريادة والإبداع ليسا بالأمر الهين، بل يجلبان لصاحبهما المجد والحمد. وفى "الشعر والشعراء" لابن قتيبة مثلا ثناء على امرئ القيس، وامرؤ القيس هنا مجرد مثال، لأنه أول من استوقف صاحبه وبكى الديار، وأول من وصف الحصان بأنه قَيْد الأوابد. أفيظن العِلْج الفَدْم أنه مما يعيب القرآن أن يكون أول من ابتدع أسلوب الالتفات؟ ألا إنه لمطموس العقل والمنطق إذن، عديم الحس والشعور!
    ومن سخافة عباس بن نسناس وتنطعه أيضا إنكاره على القرآن استعمال كلمة "الأيمن" فى قوله تعالى من سورة "مريم" عن موسى عليه السلام، وهو فى طريقه من أرض مدين إلى مصر: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)"، إذ يعلق متهكما: "أنا لا أفهم أى معنى لكلمة "أيمن" فى شعاب واسعة لا معالم لها، وكل شىء يصلح أن يكون على يمين شىء آخر أو على يساره. فالجهات من المضاف، أى ليس لها معنى مطلق، بل هى نسبية يتحدد معناها بالقياس إلى غيرها" (ص142). ومع ذلك فهو قد أجاب على سؤاله، لكنه أغلف القلب والعقل والضمير، ولهذا لم يفهم كيف يستخرج من كلامه الجواب على ما طرحه من سؤال. ألم يقل إن الجهات هى من الأمور النسبية؟ إذن فجانب الطور المذكور بالنسبة لموسى هو عن يمينه حين كان المولى يخاطبه. أترى فى الأمر مشكلة تستحق كل هذا التنطع؟ أما إن كان لا بد أن تحبّكها يا عبس أكثر وأكثر فقل: عن يمينه وهو قادم من مَدْيَن شرقا، ومُيَمِّمًا مصر غربا: "فلما قضى موسى الأجلَ وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا...". أليس كذلك؟
    وفى ص155- 157 يزعم أن قوله تعالى فى الآية 106 من سورة "النحل": "مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" غير قابل للفهم أبدا. قال الجاهل الغبى هذا رغم أنه كلام ساطع الوضوح. وهذا نص تهكمه: "أستحلفكم بمن تحبون: هل فهمتم شيئا؟ قلت فى نفسى: لعل فى هذه الآية خطأ فى النسخ أو لعل فيها كلمة ناقصة أو كلمة محرفة. فرجعت إلى طبعات مختلفة من النسخ كتبت فى أزمنة مختلفة عسى أن أجد بينها اختلافا ما، ولكن عبثا. فهناك تطابق تام بين جميع النسخ، وفى جميع الأزمان والأمكنة. هل هذا حقا كلام رب العالمين الذى تحدى الإنس والجن ان يأتوا بمثله؟ أعان الله المفسرين الذين ينحتون الصخر ليحصلوا على قليل من الماء. إن جميع المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها يتلون هذه الآية صباح مساء فى صلواتهم وعباداتهم ويسمعونها فى إذاعات القرآن الكريم من غير أن يشعر أى منهم بأى ضعف فيها أو تشويش أو نشاز. لقد تكسرت النِّصَال على النِّصَال فلا يبالى المؤمن على أى جنب كان "مقتله"، فقد تبلد الحس اللغوى ورثَّتْ ذائقته وضعفت سليقته. لقد مات الشعور بالنشار فيه فيما يتصل بآيات القرآن فقط، وبقى سليما معافى فى كل شىء آخر. كل شىء فيه لا يزال على فطرته الأولى، بل ازداد دقة وأداء واكتسب مهارات وقدرات ومواهب فى كل شىء إلا ها هنا... ولعل هذا الكتاب يُحْدِث لديهم أو لدى طائفة منهم على الأقل صدمات موجعة، فهناك فن جديد من العلاج هو العلاج بالصدمات".
    وجوابى على هذا الكلام هو أن الله، حقا وصدقا، قد تحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لكنْ لم يحدث أن تحدى الحمير أن يفهموه، فشتان هذا وذاك أيها الحمار المسمى: عِبْس! ذلك أن الحمار فى القرآن رمز على الغباء وعدم القابلية للفهم: "مَثَلُ الذين حُمِّلوا التوراةَ ثم لم يَحْمِلوها كَمَثَل الحمار يَحْمِل أسفارا". وماذا تصنع الحمير بالكتب التى تحملها فوق ظهرها؟ لا شىء! ولقد وقعتَ يا ذا الحوافر فى أكثر من غلطة: فأولا قد فصلت الآية عن الآية التى قبلها رغم ارتباطهما عضويا، إذ إن آيتنا الحالية هى بدل من الاسم الموصول المذكور بالآية السابقة. هكذا: "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)". وثانيا حتى لو تابعناك على فصلك الآيتين فليس ثم أسهل من فهم الآية الثانية على وضعها هذا، إذ يكون معنى الكلام كالآتى: "إن من يكفر بالله من بعد إيمانه فعليه غضب من الله، وله عذاب شديد، إلا إذا كان كفره على سبيل الإكراه، وكان كفرا ظاهريا لم يتغلغل فى قلبه ولم ينشرح له صدره". ترى ما وجه الصعوبة يا عبس فى فهم هذه الآية، إلا أن يكون المتصدى لفهمهما حمارا مثلك؟ وإذا كنتَ قد تحدثتَ عن العلاج بالصدمات فإننا نتحدث عن نوع آخر من العلاج هو العلاج عن طريق الصفع بالجزم والانهيال بها على وجوه بعض الحمير من البشر. وهو علاج مجرَّب وثبتت نجاعته! بالله أعندك بعض شىء من الدم؟ أمثلك يخطِّئ القرآن؟ أفى هذه الآية أية صعوبة يا أيها التافه الغبى؟ ألا لعنة الله على الغبيين التافهين من أمثالك من هنا إلى يوم الدين!
    وفى "أسباب النزول" للواحدى نقرأ عن هذه الآية ما يلى أيها الحمار: "قال ابن عباس‏:‏ نزلت في عمّار بن ياسر، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسرًا وأمه سمية وصُهَيْبًا وبلالاً وخَبّابًا وسالمًا: فأما سمية فإنها رُبِطَتْ بين بعيرين ووُجِئَ قُبُلُها بحربة، وقيل لها‏:‏ إنكِ أسلمتِ من أجل الرجال. فقُتِلَتْ وقُتِل زوجها ياسر. وهما أول قتيلين قُتِلا في الإسلام‏.‏ وأما عمّار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها. فأُخْبِر النبي صلى الله عليه وسلم بأن عمارًا كفر، فقال‏:‏ كلا إن عمارًا مُلِئَ إيمانًا من قَرْنه إلى قَدَمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه. فأتى عمارٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل رسول الله عليه الصلاة والسلام يمسح عينيه، وقال‏:‏ إنْ عادُوا لك فعُدْ لهم بما قلتَ. فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نزلت في ناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم المسلمون بالمدينة أنْ: هَاجِروا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا. فخرجوا يريدون المدينة، فأدركتهم قريش بالطريق ففتنوهم مكرهين. وفيهم نزلت هذه الآية".‏
    وفى ص157 - 158 يزعم عِبْس أن قوله تعالى على لسان موسى لفرعون: "وتلك نعمةٌ تَمُنُّها علىَّ أنْ عَبَّدْتَ بنى إسرائيل" غير قابل للفهم لأن فيه خَرْمًا، أى سقطت منه بعض الألفاظ، ويقترح إضافة من عنده لتكمل الآية ويتضح المعنى، مع أن الآية واضحة تماما، فهى لون من الاستفهام الإنكارى. قال، فَضَّ الله فاه، وعَمِيَتْ عيناه: "وهاكُمْ آيةً أخرى تشبه الآية السابقة فى الضعف والركاكة لم أفهم منها شيئا، فسَرِّحوا النظر فيها لعلكم أَحَدُّ منى بصرا وأكثر فهما، على أن تبتعدوا عن المفسرين الميامين الذين يجدون فيها كل شىء! لا بأس أن ترجعوا إلى كتب التفسير بل يجب أن ترجعوا إليها، على أن يكون ذلك بمنتهى الحذر: "وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ؟" (26/ 10- 11). وفى حواره مع فرعون سأله هذا: "أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)".
    الآية اللغز هنا هى الآية الأخيرة، وما سبق من الآيات فهو تمهيد لها. اقرأوها ثم أعيدوا قراءتها مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ وعُشَارَ، وزيدوا فى القراءة ما تشاؤون، وقولوا لى بصدق وإخلاص: "أفهمتم شيئا؟"، وأنا لكم من الشاكرين. أنا لم أفهم كيف يكون التعبيد (أى الاستعباد كما يقول المفسرون) نعمة يمنّ بها فرعون على موسى. وإذا أُرِيدَ لهذه الآية أن يكون لها معنى فلا بد من قراءتها على الشكل التالى: "وتلك نعمةٌ يمنّها الله علىَّ". أى "أن أكون من المرسلين نعمةٌ يمنّها الله علىَّ". أما بقية الاية: "أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ" فهى محرفة لا معنى لها، أو هى بقية آية منسوخة أو شىء من هذا القبيل. وقد تلقاها النساخ والقراء والمقرئون على الوجه الذى ورد فى القرآن كما يتلقى الصُّمّ والبُكْم والعُمْى ما يُلْقَى إليهم بلا اعتراض ولا معارضة، بل يقولون: "كُلٌّ من عند ربنا". وجاء المفسرون من بعدهم فلم يجرؤوا على إحداث أى تغيير فيها، وتفننوا فى اختلاق شتى المعانى لها، ولم يقل أى منهم: لا ترهقوا أنفسكم، فالآية على هذا الوجه لا معنى لها!".
    وأول شىء أود أن أعقّب به على هذا القىء بل على هذا السَّلْح الفكرى هو إقرار عبيطنا الأخرق أن المسلمين لم يفكروا فى المسّ بالنصّ القرآنى رغم كل شىء. فما دلالة هذا لدن العقلاء المحترمين؟ أليس أن المسلمين لا يعرفون تحريف النصوص المقدسة؟ ألا يعنى هذا أنهم قوم محترمون؟ ألا يعنى هذا أنهم أهل للثقة أحرياء أن يطمئن إليهم الآخرون؟ أما هو فلأنه من قوم ضَرِيَتْ أيديهم (أى تأكلهم أيديهم) على التحريف نراه يدعونا إلى العبث بالنص وتغييره! فلعنة الله على المحرفين العابثين!
    وثانى شىء هو إعادة ما قررناه قبل قليل من أن الكلام الذى قاله موسى لفرعون هو استفهام إنكارى، ولكننا نقوله هذه المرة بشىء من التفصيل. ولقد طرحتُ هذا التفسير بمجرد أن قرأت اعتراض ذلك السالح وقبل أن أنظر فى أى كتاب من كتب تفسير القرآن. ثم عدت إلى بعض تلك الكتب لأنظر فيما قالته فوجدت الطبرى مثلا يقول ضمن تفسيرات أخرى: "وقال آخرون: هذا استفهام كان من موسى لفرعون، كأنه قال: أتـمنّ علـيّ أن اتـخذت بنـي إسرائيـل عبـيدا؟ ذكر من قال ذلك: حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، فـي قوله: "وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَـمُنُّها عَلـيَّ". قال: يقول موسى لفرعون: أتـمنّ علـيّ أن اتـخذت أنت بنـي إسرائيـل عبـيدا؟ واختلف أهل العربـية فـي ذلك، فقال بعض نـحويـي البصرة: "وتلك نعمة تـمنّها علـيَّ؟"، فـيقال: هذا استفهام كأنه قال: أتـمنها علـيّ؟ ثم فسَّر فقال: "أنْ عَبَّدتَّ بَنِـي إسْرَائِيـلَ" وجعله بدلاً من النعمة".
    وفى "فتح القدير" للشوكانى: "وقيل: هو مِنْ موسى على جهة الإنكار. أي أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليدا، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم، وهم قومي؟ قال الزجاج: المفسّرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار: بأن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى، واللفظ لفظ خبر. وفيه تبكيت للمخاطب على معنى: أنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكانت أمي مستغنية عن قذفي في اليَمّ. فكأنك تمنّ عليّ ما كان بلاؤك سببا له... وقيل: إن في الكلام تقدير الاستفهام. أي "أَوَتلك نعمة؟"... قال الفراء: ومن قال إن الكلام إنكار قال: معناه "أَوَتلك نعمة؟" ومعنى "أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرٰئيلَ": أنِ اتخذتَهم عبيدا".
    وفى تفسير سيد قطب: "فى ظلال القرآن": "ثم يجيبه (أى يجيب موسى فرعون) تهكمًا بتهكم، ولكنْ بالحق: "وتلك نعمة تمنها عليَّ أن عَبَّدْتَ بني إسرائيل"، فما كانت تربيتي في بيتك وليدا إلا من جَرّاء استعبادك لبني إسرائيل وقتلك أبناءهم، مما اضطر أمي أن تلقيني في التابوت فتقذف بالتابوت في الماء، فتلتقطونني، فأربَّى في بيتك لا في بيت أبويّ. فهل هذا هو ما تمنه عليَّ؟ وهل هذا هو فضلك العظيم؟".
    ويقول دَرْوَزَة فى "التفسير الحديث": "وتلك نعمةٌ تمنّها عليَّ أن عبّدت بني إسرائيل: أوّل بعض المفسرين الآية بأنها تعني قول موسى: هل هذه نعمة تمنها عليّ مع أنك استعبدت قومي بني إسرائيل؟ وأوَّلَها بَعْضُهم بأنها تعني قول موسى: إن استعبادك لبني إسرائيل كان نعمة عليّ لأنه جعلني أفرّ، فرعاني اللّه وجعلني من المرسلين. ونحن نختار الأول". فالمسألة، كما يرى القارئ، لا تستدعى كل هذا اللغط الذى أراد إحداثه هذا الأحمق ظنا منه أنه سوف يبذر بذور التشكيك فى النص القرآنى. ولكن هيهات ثم هيهات! ويتبقى تفسيره للأمر بأنه من المحتمل أن يكون الكلام "بقية آية منسوخة"، وهو تفسير يدل على أنه جاهل بالثلث، إذ النسخ لا يقع إلا فى الأمور التشريعية. أما هنا فنحن إزاء وقائع تاريخية لا تقبل النسخ، لأن التاريخ قد مضى وانقضى فلا رجعة فيه، ومن ثم فلا نسخ.


    يتبع...

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    المشاركات
    2,584
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    18-08-2023
    على الساعة
    04:23 PM

    افتراضي

    وبالمثل ينتقد عِبْس الآيات التالية من سورة "الزُّمَر": "وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)" قائلا: "هذه الآيات هى فى رأيى من الروائع لولا أن فيها عيبين شوها جمالها كفتاة رائعة الجمال نبت الشعر فى شاربها وذقنها. لكن دوران الألسنة بهذه الآيات طويلا أخفى التشويه كما تخفى المساحيق عيوب وجه الحسناء: فهناك عدم توازٍ بين الآيات التى تصف دخول الذين كفروا إلى جهنم ودخول الذين اتَّقَوْا. فعندما سيق الذين كفروا إلى جهنم ووصلوا إليها فُتِحَتْ لهم أبوابها. فالوصول أدى إلى فتح الأبواب. أى لقد جاءت المقدمة: "الوصول"، وتبعتها النتيجة فى الحال. ولكن ذلك لم يحدث ما يوازيه للذين اتَّقَوْا، فالآيات التى تصف وصول هؤلاء هى، فى الظاهر على الأقل، مجموعةُ مقدماتٍ بلا نتيجة، وإن كانت النتيجة معروفة بالاستنتاج: النتيجة فى الآيات الأولى معروفة لفظا واستنتاجا، وأما فى الآيات المتبقية فالنتيجة معروفة استنتاجا فقط. وبعبارة أكثر تبسيطا نجد فى آية المتقين "واو العطف" زائدة شوهت المشهد كله حتى ليظن الإنسان أن هذه الآية لا جواب لها. فى الآية الأولى يأتى الجواب فى الحال: "حتى إذا جاؤوها فُتِحَتْ أبوابها"، بينما لا جواب فى الآية الثانية لدخول حرف العطف: "حتى... وفُتِحَتْ". فكيف انزلقت هذه الواو الثقيلة هنا؟ يقولون إنها زائدة. ولكنها زيادة على حساب أهل الجنة المتلهفين لمعرفة مصيرهم! فإذا فعلتُ ذلك أنا وأنت عُدَّ تقصيرا منا، ولكنْ إذا فعله القرآن فهو إعجاز. مسكينان أنا وأنت!" (ص160- 161).
    وأولا نتوقف لدن دعواه بأن فى الآيات "عيبين شوها جمالها كفتاة رائعة الجمال نبت الشعر فى شاربها وذقنها. لكن دوران الألسنة بهذه الايات طويلا أخفى التشويه كما تخفى المساحيق عيوب وجه الحسناء" لنلفت النظر إلى ما فيها من مغالطة، إذ يزعم أن طول الزمن وكثرة التلاوة قد غطا على عيب الآية، متناسيا بسلامته أن الآية قد استُعْذِبَتْ واعتقد المعتقدون أنها من عند الله بمجرد أن سمعوها ولم ينتظروا كل هذا الزمن الطويل حتى تصقلها ألسنتهم فى المحاريب كما يزعم الملاحدة من قديم، وإلا فكيف آمنوا بها؟ أَوَكانوا يؤمنون بها لو أحسوا فيها هذا الخطأ الذى يدعيه ذلك الأحمق؟
    ثانيا يقول الأحمق إن هذه الواو قد عاقت أهل الجنة عن معرفة مصيرهم الذى كانوا يتلهفون إليه (يقصد فتح الأبواب)، مع أن هذه الواو قد قربت إليهم الأمر وأراحتهم من اللهفة لمعرفته، إذ ها هى ذى الأبواب قد فُتِحَْتْ وانتهى الأمر، فيما كان يظن الظانون، قياسا على ما حدث مع أهل جهنم، أنها لم تفتح بعد. أما أين جواب "إذا جاؤوها" فقد تركه القرآن لإثارة الخيال كى يسرح فى كل واد ويتصوره كل إنسان على النحو الذى يحب. وهذا معروف فى كل اللغات، إذ يأتى الراوى عند مفترق الطرق فيسكت كى يثير المستمع بل يشعل رغبته إشعالا. أما الأحمق فيظن أن الجواب هو "فتحت أبوابها" رغم مجىء الواو قبله، وهو ما يقول إنه يحيره. وأما نحن فنقول إن "فتحت أبوابها" معطوفة على "جاؤوها" باعتبار أن انفتاح أبواب الجنة أمر مفروغ منه، وأن المهم ليس الأبواب، بل ما بداخل تلك الأبواب، وهو ما سكتت عنه الآية عمدا كى تترك للخيال المنادح واسعة إلى غاية مداها. وذلك كقول الشاعر عبد مناف الهذلى مثلا فى ختام قصيدته:
    وَلِلقِسِيِّ أَزاميلٌ وَغَمْغَمَةٌ * حِسَّ الجَنوبِ تَسوقُ الماءَ وَالبَرَدا
    كَأَنَّهُم تَحتَ صَيْفِيِّ لَهُ نَحَمٌ * مُصَرِّحٍ طَحَرَت أَسناؤُهُ القَرِدا
    حَتّى إِذا أَسلَكوهُم في قُتائِدَةٍ * شَلاًّ كَما تَطرُدُ الجَمّالَةُ الشُّرُدا
    وكما أن هناك من يقول بزيادة "الواو" فهناك كذلك من يرى أن"إذا" فى الآية زائدة حسبما نقرأ فى كتاب "الصاحبى فى اللغة" لابن فارس: "تكون "إذا" شرطا فِي وقت مؤقت. تقول: "إذا خرجتَ خرجتُ". وزعم قوم أن "إذا" تكون لغواً وفضلاً. وذكروا قوله جلّ ثناؤه: "إذا السماء انشقت". قالوا: تأويله: "انشقت السماء" كما قال: "اقتربت الساعة" و"وأتى أمر الله". قالوا: وَفِي شعر العرب قوله:
    حَتَّى إذا أسلكوهم فِي قتائدَةٍ * شلاًّ كما تطرد الجمَّالةُ الشُّرُدا
    المعنى: حَتَّى أسلكوهم. وأنكر ناسٌ هذا وقالوا: "إذا السماء انشقت" لها جوابٌ مُضْمَر. وقول القائل: "حَتَّى إذا أسلكوهم" فجوابه قوله: "شَلاًّ". يقول: "إذا أسلكوهم شَلّوهم شلاًّ". وقولهم: إذا فعلت كذا".
    وليس فى الآية من جهة "الواو" أو "إذا" زيادة ولا يحزنون، بل هكذا يجرى المصطلح ليس إلا. ولكننى لا أحب مع هذا استخدام مثل ذلك المصطح تجنبا للاصطدام بغباء الكاتب وأشباهه ممن طُمِسَت أبصارهم وبصائرهم فهم لا يعقلون، فيذهبون يشنعون على النصوص العبقرية لأنها لا تجرى حسبما يريد أفقهم الضيق! ولها ترانى أقول إن "الواو" هنا هى "واو العطف"، وأن "إذا" فى آيتنا هى إما للشرط أو للتأكيد، وأن "الباء" فى قوله تعالى: "وما ربك بظلام للعبيد" هى للتأكيد، وأن "مِنْ" فى قوله جل شأنه: "هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض؟" هى لاستغراق النفى... وهكذا.
    حتى قوله عز شأنه: "وما من دابَّةٍ فى الأرض إلا على الله رزقُها" يسخر منه أبو الأعباس الهَلاّس مخطئا ومشككا، إذ لا يعنى عنده إلا أن الدابة، أية دابة، لا يمكن أن تموت من الجوع أبدا. وما دامت هناك دواب تموت من الجوع فالآية كاذبة إذن ولا تقول الحقيقة. لقد فاته أن الرزق لا يلزم بالضرورة أن يكون كافيا فلا يموت العبد أو الحيوان أو الحشرة من الجوع، بل قد يكون كافيا أو شحيحا، ومع هذا يسمى رزقا: "يَبْسُط الرزقَ لمن يشاء من عباده ويَقْدِر". وعلى كل حال فالمقصود بالآية أنه سبحانه الخالق لكل شىء. وما دمنا فى هذا المساق فيحسن بى أن أورد مناقشة دارت بينى وبين رجل ريفى متمرد بجهلٍ كان يتحدث عن الله بنفس الأسلوب الذى يتحدث به عِبْس حتى لقد كان يقول أحيانا إنه لو تولى أمر الكون بدل الله لكان تنظيمه له أفضل كثيرا مما هو عليه. وكان الرجل يشتغل فى شبابه زمارا، ثم كسرت يده فظل إلى آخر عمره لا يحسن العمل بها، فكان يقضى وقته بلا عمل، على حين تجرى زوجته عليه وتوفر له الطعام والشراب والشاى واللحم، وهما أهم شىء فى حياته: إذا توفرا له رضى عن حياته وعن الله وتأدب فى الحديث عنه. أما إذا نشفت الأمور فيا داهية دقى! ويا سواد يوم زوجته، التى لم توفر له الأحمرين! ويا ويل من يشير له إلى أنفه مجرد إشارة. إنه ليتحول ساعتها إلى بركان يقذف حمم السخط والتطاول على الذات الإلهية لاعنا كل شىء، محقرا من أوضاع الحياة وتصريفات الدنيا.
    والطريف فى حكاية كسر يده أنه كان ذات يوم مسافرا للزَّمْر فى عرس ببلدة من بلاد المركز تحت قيادة عمه "رَيِّس" الفرقة، وكان اليوم يوم جمعة، وحان وقت الصلاة وهم داخلون البلدة التى فيها العرس، وقد أخذوا يزمرون ويطبلون، فاقترح على عمه أن يؤجلوا ذلك إلى ما بعد الصلاة حتى لا يُجْلِبوا على الخطيب و المصلين، فنهره عمه قائلا: حين تكون أنت "الريس" يا روح أمك فافعل ما بدا لك. أما، وأنا "الريس" هنا، فاشتغل وأنت ساكت. فاشتغل الرجل وهو ساكت. وفى طريق العودة ركبوا الأوتوبيس كما جاؤوا، وكان جالسا جنب الشباك وواضعا يده على حافته، وتصادف أن مرت الحافلة بجوار أحد الجدران فحدث ما ألجأ السائق إلى الاحتكاك بالجدار ودُعِكَتْ يد عم عثمان فيه فتكسرت أصابعه. ورغم أنه قد أُسْعِف وعولج فقد صار لزاما عليه طول عمره حسب أوامر الأطباء أن يفردها فى الهواء ويحرك أصابعه دائما كمن يعزف على مزمار حتى لا تتشنج. ومربط الفرس فى الحكاية أنه كان دائما ما يقول لله: أهذا جزائى منك لقاء إنكارى على عمى الزمر والطبل ساعة صلاة الجمعة؟وهو نفس منطق عباس عبد الديجور كما ترى!
    المهم أننى فى ضحى ذات يوم من إجازة أحد الأصياف أيام الشباب جرى بينى وبينه نقاش فى موضوعه الخالد: ترى كيف يقول الله فى كتابه: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ" (الشورى/ 20)، وهأنذا لا أريد شيئا من حرث الآخرة، بل أريد حرث الدنيا، ولا شىء غير حرث الدنيا، لكنه لا ينفذ ما أريد، فكيف لى أن أصدقه؟ قلت له وأنا أبتسم ابتسامة لا تخلو من مكر: وإذا أجبتُ يا عم عثمان على سؤالك، أتسكت ولا تفتح ثانية هذا الموضوع الذى لا تكف عن إثارته منذ أيام الشيخ يوسف الشيخ؟ (والشيخ يوسف هذا رحمه الله هو جد د. عبد الفتاح الشيخ رئيس جامعة الأزهر الأسبق. ولم أكن رأيت فى حياتى الشيخ الكبير لأنه مات قبل أن أولد فيما أتصور). أجابنى: وهو كذلك. قلت: لو أننى قلت لك مثلا: من كان يريد ما فى جيبى هذا أعطيته منه، ثم فضل أحدهم هذا الجيب على الجيب الآخر، فمددت يدى وأخرجت له مما فيه من زهور مختلفة الأصناف بعضا من زهور فساء الكلاب، أأكون قد أخلفت وعدى له؟ فرد من تحت أسنانه وهو مغتاظ أشد الغيظ: ولكن أفلم تجد ما تعطينيه إلا فساء الكلاب؟ قلت له: لقد قلت: سأعطيك "مما" فى جيبى. و"مما" هذه ليس معناها أن أعطيك أحسن ما فى الجيب أو كل ما فيه، بل "مما" فيه. وهأنذا قد فعلت. قال متبرما: ولكن جواب الشيخ يوسف كان أفضل من جوابك. قلت: وماذا قال لك؟ قال بزهو وفخر واضحين: لقد قال لى: تأدب مع مولاك يا عثمان! والآن أيها القراء الكرام، هل ترون من فارق بين الشيخ عثمان والشيخ عباس؟ ومع هذا لقد كان فى الشيخ عثمان رحمه الله بقية من حياء وإنسانية نَمَّ عنها جوابه الأخير علىّ كما هو واضح.
    وبالمثل يرى عباس الهجّاص أن استجابة الله للدعاء لا تتحقق إلا بأن يحقق لصاحبه ما يريد، وعلى النحو الذى يريد، وبالمقدار الذى يريد (ص270)، مع أن تحقيق الدعاء على النحو الذى يريده صاحبه قد يكون ضارا به بل قاتلا، فى الوقت الذى يحسبه هو السعد كله. ومعروف أن إجابة الدعوة تختلف باختلاف المجيب، فنحن إذا دعينا إلى حضور حفل مثلا فليس شرطا أن تكون الإجابة تحقيقا لما يريده الداعى، إذ قد تكون اعتذارا أو حضورا أو تحديا وتمردا أو شتما وتطاولا أو شكرا وثناء أو إرسال شخص آخر لحضور الدعوة.


    يتبع...

عباس عبد النور: محنته مع القرآن أم مع عقله؟

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 183
    آخر مشاركة: 22-08-2016, 06:35 PM
  2. مشاهد حية للآخرة فى القرآن الكريم - سلسلة متجددة - بقلم أ.صابر عباس
    بواسطة بن الإسلام في المنتدى فى ظل أية وحديث
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 11-12-2011, 10:45 AM
  3. تفسير سورة النور كاملة mp3 للدكتور عبدالله بدر عباس
    بواسطة ابو ياسمين دمياطى في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 14-07-2010, 06:53 AM
  4. مشروع سهم النور - يطبع لك القرآن طيلة حياتك فقط بـ (450) ريال
    بواسطة islam2k7 في المنتدى منتدى قصص المسلمين الجدد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01-03-2009, 07:48 PM
  5. استمع للبابا شنودة .. وقد ملك القرآن على عقله .. ماهو السبب ياترى؟
    بواسطة Habeebabdelmalek في المنتدى منتدى نصرانيات
    مشاركات: 90
    آخر مشاركة: 23-07-2006, 08:59 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

عباس عبد النور: محنته مع القرآن أم مع عقله؟

عباس عبد النور: محنته مع القرآن أم مع عقله؟