الرومان أسهموا في صياغة اللاهوت المسيحي *

ممدوح الشيخ / 09-08-2009

يستخدم مصطلح اللاهوت (ثيولوجيا) اليوم بمعنيين، أحدهما ضيق، والآخر واسع، واللفظ مشتق من كلمتين يونانيتين هما "ثيوس" بمعنى "الله" و"لوجوس" بمعنى "كلمة" أو "عقيدة" أو "علم" ومن ثم فإن "الثيولوجيا – علم اللاهوت" في المفهوم الضيق المحدود هو "التعليم عن الله".

أما في مفهومه الأوسع والأكثر شيوعا فيعني كل العقائد المسيحية، ليس فقط العقيدة الخاصة بالله، بل كل العقائد التي تعالج العلاقات بين الله والكون.

وفي إطار هذا المفهوم الواسع يمكننا تعريف علم اللاهوت بأنه "العلم الذي يبحث في المعرفة بالله وبصلاته وعلاقاته بالكون".

وقد بدأت بتعريف هذا المصطلح لأن من الملاحظ أن الأستاذ الدكتور عصمت نصار جعل عنوان كتابه: "فلسفة اللاهوت المسيحي" وأغفل إيراد أي تعريف لمعنى اللاهوت لغويا أو اصطلاحيا.

يبدأ المؤلف كتابه بتقرير حقيقة مهمة إذ يقول: "لم تتعرض الأبحاث الفلسفية التي تناولت العصر الوسيط إلى القضايا التي أثيرت في عصر الآباء اعتقادا من أغلب الباحثين أن أثرها كان محدودا على المباحث الفلسفية المسيحية، وأن ميدان دراستها أقرب إلى تاريخ الفلسفة.

وتذهب بعض الكتابات إلى القول بأن المساجلات التي دارت بين رجالات المسيحية الأوائل والمتفلسفين والهراطقة لم تكن وثيقة الصلة بالقضايا الفلسفية التي طرحت في العصر الوسيط، كما أن مثيريها لم يكونوا من الفلاسفة الخلص، ومن ثم لم تؤسس اعتراضاتهم أو دفوعهم على أسس جدلية فلسفية".

ومن هنا فإن الكتاب يرتاد منطقة بكرا ويسد ثغرة في الدراسات اللاهوتية والفلسفية معا، وينطلق مؤلفه من أن القضايا اللاهوتية كتعاليم الكتاب المقدس الأخلاقية، وصلتها بالفضائل العقلية والقيم الاجتماعية، وصحة الأسفار المقدسة، والخلاص، والسعادة الأبدية، والسلطتين: الإلهية والزمنية، والتأويل، وتفسير الإنجيل بين الإشراق والعقل، والهرطقة، وغير ذلك من الموضوعات التي حفلت بها القرون الخمسة الأولى للمسيحية، كل ذلك لا يمكن فصله عن قضايا فلسفة العصر الوسيط، وذلك لأن معظم رجالاتها اتخذ من النصوص الإنجيلية "رسائل بولس" قاعدة لمناقشة علاقة العلم بالدين.

البنية الثقافية للعصر

الفصل الأول من الكتاب: "البنية الثقافية لعصر المسيح وظهور نسق جديد" يحدد الإطار المنهجي الذي اعتمده الكاتب، فكما يقول في بدايته: "تنزع معظم الدراسات المعاصرة المعنية بدراسة تاريخ الديانات ونشأتها ومراحل تطورها إلى تحليل البنية الثقافية التي ظهرت فيها المعتقدات البدائية والتعاليم المقدسة والأنساق الدينية المتكاملة، وذلك للكشف عن مدى علاقة مضمونها بالبنى السياسية والاجتماعية والعادات والتقاليد الموروثة والمعاهد العلمية والفنون والآداب السائدة، وذلك للوقوف على الأثر المتبادل بين جوهر هذه الديانات والثقافة السائدة".

فالبنيويون -برأي الكاتب- يؤكدون أن الدين كظاهرة اجتماعية يتفاعل مع الوحدات الاجتماعية الأخرى المكونة للمجتمع، بحيث يمكن تفسير أو تأويل الأصول الإيمانية للديانات، وقواعدها الشرعية التي تحدد الحلال والحرام والحسن والقبيح، وكذلك العبادات، في ضوء الطابع الثقافي السائد.

فالكتاب إذن لا يتعامل مع الدين بوصفه لحظة "تنزيل" تتلقى فيها الأرض وحيا من السماء، بل بوصفه ظاهرة اجتماعية، أي أن الكتاب يتعامل مع صورة اللاهوت المسيحي في مرحلة ما بعد التنزيل.

ولأن المجتمع هو الطرف الثاني في معادلة "البنية" فإن المؤلف يرسم صورة مفصلة للمجتمع الذي شهد ميلاد المسيحية.

والمفتاح لفهم الواقع في الإمبراطورية الرومانية قبل عصر المسيح هو "الصراع"، فقد كانت غارقة في الانقسامات الداخلية والحروب الخارجية ومع الصراع جاء العنف فكانت الإمبراطورية غارقة في كل أشكال العنف، فضلا عن "تصديرها" العنف على يد جيوشها في مختلف أنحاء العالم القديم.

وكان العنف مركبا من الأمراض السياسية والاجتماعية (عنصري/ طبقي) ويحكم الدولة، وعجزت القيم الفلسفية والتعاليم اليهودية عن تهذيب خلق الرومان حكاما ومحكومين وعن غرس روح التسامح والسلام والأخوة فيهم.

وهنا ظهرت المسيحية بخطاب مضاد تماما للواقع المتدني، وبدا ذلك بوضوح في صورة المسيح الإله الذي هبط لتخليص العالم من الشرور، وهو الملك المتواضع نصير المستضعفين، وفي الوقت نفسه، هو المواطن المطيع لأوامر الحكام الرافض لكل أشكال التمرد، حتى لو كان الحاكم جائرا والحكم هو الصلب!

من المدينة إلى الإمبراطورية

ومن أهم الأحداث السياسية التي أثرت في الرؤى الفلسفية والعقدية المسيحية انهيار فكرة تمركز الدولة المدينة، فمنذ عام 31 ق.م ظهرت فكرة العالمية متمثلة في الإمبراطورية الرومانية لتحل محل العنصرية اليونانية.

ولا يحدد المؤلف ما إذا كان لكتابات الفيلسوف فيلون التي ذهب فيها إلى أن اليهودية "دين عالمي" تأثير في ظهور هذا التحول أم لا؟

ففكرة الانتقال من الوحدة إلى التعدد على النحو الذي وسم الإمبراطورية الرومانية يعد تحولا ضخما لا شك في أن روافد متعددة رفدته حتى ينضج، وقد انتقلت هذه الفكرة إلى المسيحية وتم تبنيها بخاصة في كتابات القديس بولس.

وإذا نظرنا إلى الخطاب السياسي للأناجيل نجده أقرب للروح التقريرية الحريصة على مسالمة السلطة والابتعاد عن أي "خطاب تغييري" حتى لو كانت الأوضاع ظالمة.

وتأثر الخطاب الإنجيلي بالفكر الغنوصي اليهودي الذي قسم العالم لمملكتين منفصلتين تماما: مملكة الشر الدنيوية ومملكة الخير الدنيوية، وهذا الاستنتاج ربما يكون إطارا جديدا تماما لتأصيل جذور فكرة الفصل بين الدين والدولة، فهي حسب الدكتور عصمت نصار فكرة ترجع جذورها إلى الغنوصية اليهودية!

الحاجة إلى مخلص

كان المجتمع الروماني يتألف من طبقتين: الصفوة (النبلاء والأشراف وكبار التجار..)، وكان ينتخب منها مجلس الشيوخ والقناصل، وكانت الثانية طبقة الجند وصغار الموظفين، وعلى الهامش كان هناك معدمون يتعرضون لشتى أنواع المذلة.

وبسبب كثرة الحروب ظهرت طبقتان أخريان: الفرسان وكانوا يتصفون بالمهارة القتالية والوحشية والشهوانية المفرطة، وجباة الضرائب وجمعوا ثروات ضخمة بالدهاء.

ونشأ تحالف بين النبلاء والطبقتين الجديدتين ضد مصالح الشعب، فقام العامة بتمردات عدة وانطلق صراع دموي طويل عجز فيه المظلومون عن الانتصاف لأنفسهم.

وأدى هذا البناء الاجتماعي إلى تمزق شديد نال من الأسرة والمجتمع معا، ولم يكن وضع المرأة أفضل حالا.

في هذا الجو الخانق جاء الخطاب الإنجيلي بقيم اجتماعية لتقويم الواقع، فتوعد الأغنياء ووعد الفقراء بالنعيم الأبدي، وربط هذا الخطاب بين الفقر والفوز بالملكوت السماوي، كما ربط بين الظلم وتقديس المال.

وبطبيعة الحال أثارت هذه التعاليم السلطة الحاكمة الرومانية والكهنة الوثنيين وأحبار اليهود، رغم أنها في النهاية كانت تدعو المظلومين للصبر لا للثورة.

الإله المتجسد

وفي نقطة من نقاط الالتقاء بين الدين بالسياسة نجح الساسة الرومان في صبغ حياتهم السياسية بالصبغة الدينية ليسهل عليهم تسييس العوام وإقناعهم بأن ما هم عليه "قدر إلهي" يجب الصبر عليه.

وتعددت المعبودات الدينية في المجتمع الروماني من عبادة الحيوانات.. للكواكب.. للجن وغيرها.. وكانت آمال المتدينين الرومان محصورة في: إله عالمي يجمع شتات المواطنين ويعزز ولاءهم للدولة الرومانية، والخلاص، والتأكد من صحة وعود النعيم الأخروي، وهنا كان نجاح اليهودية محدودا جدا.

وفي دراسته لتأثير هذا الواقع الديني بفلسفة اللاهوت المسيحي يعدد الكاتب الكثير من أوجه التشابه بين الأفكار الرئيسة في اللاهوت المسيحي –وبخاصة الثالوث والإله المخلص– وبين ديانات سابقة أو معاصرة.

ويعقب الدكتور عصمت نصار قائلا: إن العديد من الأبحاث المعاصرة تبرر اضطهاد كهنة الرومان للعقيدة المسيحية –خلال القرون الثلاثة الأولى– لتبنيها عقيدة المخلص ذات الأصول الديونيسية (إحدى الديانات السرية اليونانية)، فقد أدرك الساسة والكهنة معا خطورة هذه العقائد السرية على نظام الدولة وعلى الدين السائد من جهة أخرى، ولم يعترف قياصرة الرومان في القرن الرابع بالمسيحية بجعلها دينا رسميا إلا بعد تأكدهم من مواءمتها للوضع السياسي القائم.

ومن ناحية أخرى تقاطعت العقيدة المسيحية مع اليهودية التي كانت طوائفها المتعددة تعاني المهانة والضعف والدونية بسبب الاضطهاد الروماني، وبالتالي كانت هذه الفرق تنتظر –بفارغ الصبر– ظهور "الماشيح المخلص" الذي سيحررهم من العبودية.

وبالتالي لم تعترف هذه الفرق اليهودية بألوهية المسيح الناصري ولم تعتبره مخلص آخر الزمان فتحولوا إلى اضطهاده هو وتلاميذه، وتحفل الأناجيل بالعديد من المواقف المحتدمة بين الطوائف اليهودية من ناحية والمسيح وأتباعه من ناحية أخرى، ويستنتج الدكتور عصمت نصار في النهاية أن البنية الثقافية الرومانية ساهمت بشكل ملموس في صياغة اللاهوت المسيحي.

كاتب وباحث مصري

*الكتاب: فلسفة اللاهوت المسيحي

العصر المدرسي المبكر في القرون الخمسة الأولى

المؤلف: أ. د.عصمت نصار

الناشر: دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع

تاريخ النشر: الطبعة الأولى 2008

الحجم: 234 صفحة من القطع الكبير




http://mdarik.islamonline.net/servle...ik%2FMDALayout