مستقبل العلاقة بين الدولة المصرية والكنيسة القبطية



بقلم/ كمال حبيب

في البدء كانت الدولة.. وإذن فالعلاقة بين الدولة وأي قوة من قوى المجتمع تتحدد بقوة الدولة وقدرتها على تمثيل مجتمعها بطوائفه وأطيافه كافة، بما يضمن الحفاظ علي هيبتها من ناحية وعدم مزاحمتها في كونها المعبر عن مواطنيها والحاضن لهمومهم ومشاكلهم من ناحية أخرى.

وماحدث في مصر قبل أن ينصرم العام 2004 من تحدي الكنيسة القبطية للدولة المصرية بسبب إسلام زوجة كاهن في قرية أبو المطامير بالبحيرة، وإشاعة أراجيف أنها اختطفت من قبل زميل مسلم لها وأنه تزوجها وأن بعض الدعاة المسلمين يقومون بإغراء الأقباط بالدخول في الإسلام، وتحويل الأمر إلى شكل من الفتنة والاحتجاج وتسيير الشباب القبطي الغاضب إلى الكاتدرائية مقر البابا الرئيسي بمنطقة العباسية في قلب القاهرة المدينة الثائرة بطبيعة وضعها الديموغرافي والنفسي والاقتصادي والسياسي، فهي كما يعبر أستاذنا حامد ربيع مدينة في حالة ثورة يمكن لأي شرارة صغيرة أن تحيلها إلى طاقة من النار لا تبقي ولا تذر، ثم قيام الشباب المتوتر الغاضب بالتعدي على الشرطة وعلى المسلمين الذين يمرون بالشارع وإطلاق الهتافات التي تستنجد بشارون وبوش وتتوعد المسلمين بأيام حالكة السواد، حتى أصيب من الشرطة أكثر من 50 واعتقل من الأقباط المثيرين للفتنة أكثر من 30 شابا.

والمثير في الأمر أن البابا ترك الأمور متفجرة وسافر إلى الخارج لحضور مؤتمر ثم امتنع عن عظته الأسبوعية، ثم اعتكف بوادي النطرون اعتكافا وصف بأنه سياسي لفرض حل على الدولة يقضي بعودة السيدة وفاء قسطنطين إلى النصرانية باعتبارها أما للنصارى لا يجوز لها أن تفارق ملتهم، رغم أن السيدة أكدت أنها أسلمت بمحض إرادتها واختيارها وأنها تحفظ القرآن وتمارس شعائر الإسلام خفية منذ عامين، ما جعل الدولة ترضخ لمطالب البابا بتسليم السيدة إلى الكنيسة وإعلان أنها لم تسلِم، والإفراج عن المحتجزين من النصارى مثيري الشغب وكأن شيئا لم يحدث.

"
العلاقة بين المسلمين وغيرهم في مصر تمثل أحد أهم مرتكزات الأمن القومي المصري, وإشاعة منطق التوتر الطائفي وابتزاز الدولة للحصول على مكاسب لقطاع من الأمة هو فاتحة لخطر يجعل وجود الدولة المصرية الحديثة في الميزان
"
والمشكلة هنا هي أن العلاقة بين الدولة المصرية ومواطنيها لم تعد علاقة مباشرة وإنما عن طريق وسطاء انتزعوا سلطة الدولة في تمثيل مواطنيها، الكنيسة نازعت الدولة حقا لها، ونازع البابا رئيس الدولة في تمثيله لكل المواطنين المصريين، ما يفتح الباب واسعا لتحدي سلطة الدولة من جانب مذاهب وملل وعشائر وقوى ومؤسسات لها مظالم ومطامع وحقوق لدى الدولة.

من الناحية الظاهرية البابا والكنيسة خرجت منتصرة، لكنها كرست مشهدا خطيرا في علاقة قوىالمجتمع المصري الأخرى بدولتها وببقية قوى المجتمع ومنهم النصارى أنفسهم ، فتكريس الطائفية وهز هيبة الدولة وإرساء مفهوم الانقسام الرأسي في المجتمع هو خطر جسيم على الأقلية القبطية نفسها، لأن الأغلبية المسلمة تشعر بالغبن والغضب المكتوم، وتستبطن مشاعر من الإحباط المؤلم الذي قد يجد متنفسا للتعبير عنه في الاشتباك في صراع طائفي مع الأقباط.

وكما هو معلوم فإن العلاقة بين المسلمين وغيرهم في مصر تمثل أحد أهم مرتكزات الأمن القومي المصري وإشاعة منطق التوتر الطائفي وابتزاز الدولة للحصول على مكاسب لقطاع من الأمة المصرية هو فاتحة لخطر يجعل وجود الدولة المصرية الحديثة في الميزان.

بيد أن الكنيسة في صراعها مع الدولة عكست توترا وضعفا من جانبها هي الأخرى جعلها تبدو وكأنها لا تثق بقدرة الأقباط من المنتسبين إليها على التفاعل الحر التلقائي مع إخوانهم من المسلمين ومع الدولة المصرية والحفاظ في الوقت نفسه على عقيدتهم وعلى ممارسة حقوقهم كمواطنين، فالكنيسة والبابا والنخبة المحيطة به يتجهون للعزلة بمنتسبيها عن مجتمعهم وعن دولتهم ويقدمون أنفسهم لهم بديلا عن الدولة والمجتمع معا.

فهم يريدون أن يخلقوا للأقباط عالما موازيا أشبه بالغيتو الذي يمنحهم الأمن والشعور بالتضامن والدفء المعنوي، ولكن الخطر في ذلك هو الشعور بالتباعد مع الداخل والارتهان للخارج سواء كان ذلك متمثلا في أقباط المهجر -الذين يعتبرون أنفسهم حكومة ظل للأقباط في مصر ويضغطون علي الدولة المصرية والكنيسة في آن– أم المشاريع الخارجية التي تستهدف تفتيت مصر وتمزيقها وإضعافها لصالح المشروع الصهيوني والأميركي على أرضية تبني حقوق الأقليات وحرياتهم الدينية.

إن أسوأ ما يواجهه مجتمع هو الغربة النفسية بين العناصر المكونة له، بحيث يتعمق معنى الأقلية في نفس قطاع من الأمة في مواجهة أغلبيتها ويتقابل الناس في الأسواق والشوارع كمكان جغرافي دون أي تفاعل حضاري وإنساني على أرضية الشعور بالمصير المشترك والتاريخ الواحد.

ومع ضعف الدولة المصرية التي تتعرض لضغوط هائلة من الخارج والداخل معا تبدو دولة رخوة غير قادرة على الصمود أمام الابتزاز، ما قد يدفع الكنيسة للضغط باتجاه الحصول على المزيد من التنازلات ليس فقط بشأن مطالب طائفية مثل بناء المزيد من الكنائس أو الحصول عل بعض المزايا في الوظائف والمغانم أو التمثيل في المؤسسات السياسية، بل بالعمل أيضا على تغيير الملامح المرجعية للدولة نفسها.

"
مع ضعف الدولة المصرية تبدو دولة رخوة غير قادرة على الصمود أمام الابتزاز، ما قد يدفع الكنيسة للضغط باتجاه الحصول على المزيد من التنازلات ليس فقط بشأن مطالب طائفية, وإنما بالعمل على تغيير الملامح المرجعية للدولة ذاته
"
فكما هو معلوم قامت الدولة المصرية الحديثة على مبدأ التوفيق بين العلمانية والإسلام فأقر دستور 1923 بأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام رغم كونه علمانيا، واعترف دستور 1971م العلماني أيضا بأن الشريعة مصدر رئيسي من مصادر التشريع ثم عدل عام 1979 م ليجعل الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وفي الوقت نفسه لا يسمح بوجود أي شكل مؤسسي على أساس الإسلام بما في ذلك الحق في الحجاب بالمدارس أو وسائل الإعلام للمسلمات وحجبت عن الشرعية قوى إسلامية ضخمة ولها وجود في الشارع.

فهنا توازن بين احترام دين الأغلبية والحفاظ على حقوق الأقلية ومراعاة خواطرها، ولكن حين يهتز هذا التوازن بالمطالبة بتخلي الدولة عن إشهار الإسلام لمن يسلم من جانب الأقباط أو بإلغاء خانة الديانة في البطاقة والمطالبة بالحق في الارتداد تحت عنوان حرية العقيدة دون إدراك أن للدين الإسلامي طبيعته الخاصة وقواعده التي لا يمكن علمنتها أو إخضاعها لمرجعيات دولية حقوقية تتبناها الكنيسة، فإن ذلك يفتح الباب واسعا لهز شرعية الدولة وربما وجودها حيث توضع في مواجهة أمتها ومجتمعها تحت ضغوط الأقلية التي توصف في مثل هذه الحالات بالأقلية الإستراتيجية وتصبح الدولة دولة للأقلية دون الأغلبية.

الكنيسة القبطية تتجه للمحافظة والتأثر بالروح الإنجيلية من حيث العلاقات مع القوى الكونية خاصة مجلس الكنائس العالمي، وهي تدرك المتغيرات التي عرفها العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول والتي تدعم الجماعات الدينية المسيحية في الداخل على حساب الدولة خاصة أن النظم السياسية تصر على مواجهة هذه المتغيرات الجديدة وغير المسبوقة برفض الإصلاح ما يجعلها في موقف ضعيف في مواجهة الضغوط عليها من جماعاتها الداخلية المنتسبة للأقلية الدينية.

وربما تلبية النظام لبعض المطالب الخاصة بالأقباط فيما يتصل ببناء الكنائس وإذاعة القداس على شاشات التلفزيون، وتفويض المحافظين في منح قرارات بناء الكنائس بدلا من رئيس الجمهورية وجعل يوم 7 يناير/ كانون الثاني عيدا وطنيا لكل المصريين واعتبار الكنيسة هي الممثل للأقباط في أي نزاعات مع المسلمين، يكون عامل إغراء لدى الكنيسة والبابا في الاستمرار في الضغوط باعتبار أن السياق الكوني والمحلي يوفر فرصة سياسية في اللحظة الراهنة يجب اغتنامها.

ومفهوم الفرصة السياسية في العلوم الاجتماعية تمارسه عادة القوى الاجتماعية للتغيير من أجل المجتمع كله، ولكن إذا مارسته فئة من أجل مصالحها في مواجهة الآخرين فإن ذلك يكون أحد مصادر التوترات والتفجير.

ومصر تعيش لحظة توازن راهنة محاولة اقتحامها وتغييرها يمثل عامل خطر مريع، والخبرة التاريخية تشير إلى أن تبني الدول لمفاهيم التسامح السياسي مع الأقليات ربما يكون خطرا عليها لإعطائها إشارة خاطئة تغريها بالمزيد من الاندفاع نحو مشاريعها الخاصة، فهذه هي المرة الثانية التي يخرج فيها الشباب القبطي إلى الشارع ليهتف ضد الدولة وضد الأغلبية التي تشاركه العيش في نفس الوطن، وهو شيء جديد على تقاليد العيش المشترك والوحدة الوطنية بين عنصري الأمة المصرية.

وأحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول بقدر ما أعطت للنصاري فرصة كانت عامل ضغط على المسلمين، إذ تواجه المساجد حملة للضغط والسيطرة عليها ويواجه الأئمة تقييدا لحرية الصعود على المنابر، ومناهج التعليم الديني الإسلامي تشوه وتتضاءل مساحتها، وهناك الآلاف من الشباب المسلم يواجه محاكم عسكرية واعتقالات مفتوحة منذ عشرات السنين، ما يدفع الأغلبية المسلمة هي الأخرى تجاه التدين باعتباره ملاذا لها في مواجهة ضغوط الخارج والدولة والكنيسة جميعا.

المخرج من حالة الاستقطاب والاحتقان التي يعيشها المجتمع المصري هي –في تقديرنا- إقدام الدولة على عمل إصلاح حقيقي يحررها من هيمنة الحزب الواحد ويفتح الباب واسعا لتطوير سياسي حقيقي يجعل من الدولة فضاء لكل مواطنيها، ويحررها من مواجهة أزماتها بالتلاعب في التوازن الدقيق بين قوى المجتمع, ربما يكون هذا التلاعب بالقوى السياسية ممكنا ولكنه بالنسبة للعامل الديني يكون خطيرا.

ومن المطروح بعد المظاهرات الكنسية الأخيرة أن تطلق الدولة للقوى الإسلامية الحركة في الشارع لتوازن الهجمة القبطية عليها، لكن ذلك لن يكون مخرجا في ظل وجود الدياسبورا القبطية في الخارج من ناحية وفي ظل الضغوط الكونية من ناحية أخرى.

"
الأقباط المصريون كانوا دوما مع إخوانهم من المسلمين سدا منيعا لمحاولات خلق الفتن وإثارة الشقاق، واللحظة الراهنة بحاجة لإحياء الوعي الحضاري وليس الطائفي لأن الأمة كلها في خندق واحد تقاوم وتدافع
"
وليس أمام الدولة المصرية إلا أن تكون دولة لكل المصريين مسلمين ومسيحيين تمنح للأقلية حقوقها وللأغلبية اعتبارها، بدلا من خطر التنازع والشقاق الذي قد يعصف بالاستقرار الظاهري الراهن، وبدلاً من أن تكون السياسة هي مجال الأخذ والرد والاجتهاد يصبح الدين هو هذا المجال البديل، ولعلنا لا نبعد عن الحقيقة إن ذهبنا إلى أن فضاءات السياسة حين تغلق أمام الناس فإنهم يتجهون ناحية الدين لكي يكون مجال التعبير عن هواتفهم وأشواقهم.

وكما قلنا في بداية المقال إن الدولة كانت هي البدء فإن إطلاق حرية العمل الاجتماعي والسياسي لكل القوى يكون هو البوتقة التي تصهر سبيكة المجتمع وتقوي تلاحمه، فعصبوية النظام السياسي هي التي تجعله ضعيفا أمام الخارج مستقويا على الأغلبية مجاملا للأقلية لأنه لا يصدر عن رؤية وإنما تحركه ضغوط اللحظة الراهنة وتوازناتها وهنا مكمن الخطر.

وتبقى الأرضية المشتركة للحضارة العربية الإسلامية هي المرجعية التي تسع كل قوى الأمة لمواجهة الخارج ومدافعته وهي خير وأبقى من الارتهان للخارج أو المراهنة عليه.

والأقباط المصريون كانوا دوما مع إخوانهم من المسلمين سدا منيعا أمام محاولات خلق الفتن وإثارة الشقاق، واللحظة الراهنة بحاجة لإحياء الوعي الحضاري وليس الطائفي لأن الأمة كلها في خندق واحد تقاوم وتدافع، وكما أن الأغلبية عليها مسؤولية الاستيعاب ومنح الثقة والطمأنينة فإن الأقلية وقياداتها عليها مسؤولية الوعي بمخاطر اللحظة الراهنة ونزع تكريس الوعي الطائفي لدى الأجيال الصاعدة من الشباب القبطي.



ـــــــــــــــــ

المصدر: الجزيرة