أنا البحر .. أركبتَ البحر ؟.

روى الحاكم بسنده عن معاذ بن جبل رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "... وإن شئتَ أنبأتُك بمِلاك ذلك كلِّه! فسكَتَ؛ فإذا راكبان يُوضِعان قِبَلَنا، فخشيتُ أن يشغلاه عن حاجتي، قال: فقلتُ: ما هو يا رسول الله؟ قال: فأهوى بإصبعه إلى فيه؛ قال: فقلتُ: يا رسول الله، وإنا لنؤاخذ بما نقول بألسنتنا؟ قال: ثكلتْكَ أمُّك ابنَ جَبَلٍ! هل يكُبُّ الناس على مناخرهم في جهنّم إلا حصائدُ ألسنتهم".(1)
أما بعد، فاللغة والبحر آيتان من آيات الله تعالى.. وما أكثر ما اجتمعتا في مخيّلة الناس، شاهدتين على مبلغ تشابه العظمة الكامنة فيهما معاً؛ حتى لكأنهما كفلقتي حبة، أو كصفحتي كتاب.
هداني إلى هذا ما قاله الشاعر حافظ إبراهيم، رحمه الله، متحدثاً بلسان حال العربية لمّا كسَد سوقها في هذا العصر:
أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ .. فهل سألوا الغواص عن صدفاتي. (2)
وسمّى الفيروزابادي معجم اللغة قاموساً، وهو البحر الخضمّ، وسمّوا معاجمهم: العبابَ والمحيطَ والبحرَ والعين... وهذا من ذلك.
وقالوا في اللسان إذا كثُرت مسائله وأُحكمت: "اللغة بحر".. وقالوا في الإنسان إذا تنوّعت مسالكه وهُذّبت: "هو بحر".. فإذا عبروا بذلك سكن العقل إلى هذا التشبيه، وهاج إلى عقد مقابلة كَوْنيّة بينهما؛ لتجتمع حالتان متكاملان، في آيتين متناظرتين، ولا تجتمعان إلا في عظيم: حالة سكون في اضطراب وحالة اضطراب في سكون.
ألا ترى إلى ما بينهما من تشابُه في أوجُهٍ كثيرة، فهما متشابهان في: السعة والعمق والغنى والكِبَر والجمال واللّطافة والطلاقة والقوّة والدؤوب والتجدّد والتنوّع والانسجام والوصل والقطع والمدّ والجزر... كلاهما زاخر بخيراته وبركاته، متجاذب مع ما حوله من الأرض والسماء، هادئ في تقلّباته وهيَجانه وموجه وزبده، دالٌّ بمكوناته الغضّة الطريّة على مقدرة الخالق البديع.
ومن لم يتأملها في البحر بأوصافه، فقد تغيب عنه في اللغة بسعتها، وعمق أصولها، وغنى نُظُمها، وكِبَر معجمها، وجمال ألفاظها ومعانيها، ولطافة مأخذها، وتركّب علومها، وتجدُّد أساليبها، وانسجام مهاراتها، وحركتها مع التاريخ الطويل، وأنها مع كل ذلك أصوات طرية ذوات معانٍ تعبُر الأثير.
ومن وراء اللسان الهاذر نار، وهو معنى ظاهر في الحديث الفريد الذي رواه فقيه الأمة القانت معاذ بن جبل، مسبوقاً بعَجب نبويّ من غفلة معاذ عن هذا المعنى (ثكلتك أمك يا معاذ!، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم!)، كما أن من وراء البحر الموقر ناراً موقدة ستملؤه ناراً كما امتلأ ماءً، قال تعالى: (والبحر المسجور) الطور 6، وجاء في مأثور التفسير أنه: البحر الموقر، والمُوقَد، ومثله قوله تعالى: (وإذا البحار سُجّرت) التكوير 6.
وما تحرّس الناس في ركوبهم البحر المسخّر بأولى من تحرسهم في ركوبهم بحر الكلام.. وإلا كانوا في غمرته من الهالكين ، و(لا عاصم اليوم من أمر الله!). هود 43
وعذّب الله تعالى قريشاً بعذبين؛ عذبهم بأيدي المؤمنين، كما عذبهم بلسان حسان بن ثابت المؤيّد بروح القدُس جبرائيل: (والشعراء يتبهم الغاوون) الشعراء (الآيات 224- 227)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اهجهم وروح القدس معك"؛ كما عذب ناساً بالبحر بقيادة روح القدس نفسه: (فغشيهم من اليمّ ما غشيهم) طه 78.
(2) وسمّى العرَبُ من جمع إتقان الكتابة والعَوْم: "الكامل"؛ وذلك لأن تعلّم كتابة ما ينطقه اللسان بأنواعها (وهي من أعظم مهارات اللغة) يخرج المرء من ظلمة الأمية؛ لتنفتح أمامه أبواب العلوم والحياة، وتعلّم العوم بأنواعه (وهو من أعظم مهاراتِ السعي في الأرض) يخرج المرء من ظلمة البحر؛ لتنفتح أمامه أسباب الرزق والنجاة؛ وما الحياة إلا علم نافع من الأوراق ومضطرب واسع في الآفاق. والعجب أن توازن كلّ واحدة من هاتين المهارتين العظيمتين؛ الكتابة والعَوْم، تتنادى له كلّ ملكات الإنسان الظاهرة والباطنة، فالكاتب أقوى الناس فكراً، والعوّام أقواهم بدناً، فلا جرم أن يكونا معاً كمالاً متوازناً في إنسان، وأن يسدّ بهما حاجة قومه إليهما!.
وكان أبو العباس المبرّد (ت285هـ) إذا جاءه من يستقرئه كتاب سيبويه (ت180هـ) في النحو (بمعناه الواسع: معرفة قوانين لسان العرب) يقول له: "أركبتَ البحر ؟!".. فشبّه معالجة علم اللسان بمعالجة البحر، تشبيهَ غائب بحاضر ومسموع بمنظور وخضمّ بخضمّ.
والناس- منذ كانوا- يَرُوعهم البحر، فيحبونه إذا سجى، ويُرَوّعهم، فيخافونه إذا طغى؛ ففيه اجتمع الحبّ والخوف في آنٍ.
ولا تجرِّئهم المحبّة على الاقتحام، حتى يصدّهم عنه الخوف منه، إلا بسباحة ومرانة ومهارة وفطانة، وبسفين يمخر العُباب، ورُبّان يخبُر الأسباب، وأعوان يحاربون الأمواج ويسالمون الرياح، ويرمقون مواقع النجوم وساعة الشَّمال.
ومَن ركب البحر الرائع المريع سلّم خاضعاً لقوانينه الطاغية الثابتة، وتبرأ من أوهام الشموخ المحدودة والحماقات العابثة، ونزل به نزول الضيف على حكم المضيف، والغريب على المقيم، والضعيف على القويّ، والصغير على الكبير.
(3) واستبحار اللسان العربي وسعته وثراؤه جاءه من أنه عبَر كلّ لغات التاريخ، وجاور كلّ لغات الحاضر، وحاضرَ في كلّ نادٍ وسوق، فما تبدّلت نُظُمه ولا قوانينه، وما زاده العبور والجوار والحضور إلا صموداً وسعة وثراءً.
وأجلّ مظاهر سعة هذا اللسان وثرائه كان منذ أن وسع القرآنَ المبين، فحلّت به بركاتُ كلّ شيء، واصطبغ بصبغة الله تعالى، التي تبقى ولا تزول أبداً. كان ذلك بيّناً في حديثه الحكيم عن مشهد الحياة بكل أبعادها: الزمان والمكان والحدث؛ أما الزمان فقد وسع هذا اللسان الأزلَ والأبد والأولى والآخرة، وأما المكان فقد وسع آفاقَ السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وأما الحدث فقد وسع أنباءَ ما يجري في الغيب والشهادة.
وإذا قيل: "أسرع الطرق إلى جمع الذهب هو السفر عبر البحار".. وهذا في جمع الثروة الماديّة. فإن جمع الثروة العقلية يكون بالارتياض أولاً في بحر اللسان واللغات، باكتشاف أسماء المسمّيات، وضبط الأشباه والنظائر، ولقط الدُّرَر والجواهر، وربط الأول بالآخِر.. وبالتأدّب- ثانياً- في بحر الشريعة.. والانطلاق- ثالثاً- في بحر الحياة.. ورابعاً في بحر الاجتهاد.. وخامساً في بحر الإبداع.. وإلا كان المرء (في بحر لجيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور). النور 40
وضيق عطَن المرء عن فهم أعماق هذا اللسان قد يجعله يجتزئ منه بُحَيْرة آسنةً، يظنها إياه؛ فيضيع خير وعلم كثير، وطيش الرأي قد يحمله على مغالبة جبال أمواجه بزعانف سمكة، يظنها تنجيه؛ فلا تحابيه السُّنَن الغلاّبة، وغباء العداوة قد يقنعه بأن نزحه قد يتحقق بطريق التسخين والتبخير!، أو أن تحليته وتصفيته تكون بالترشيح أو التقطير!، يظنها تُبلغه؛ فيكون أضحوكة القرون!.
وما أعقل الأطفال وهم يناغون شاعراً أو خطيباً! بل ما أوسع عقولهم وهم يقاربون من شاطئه ويغترفون من بحره، لمّا هدتهم فطرتهم إلى احترام ضعفهم أمام عظمته!، وما أغربهم وهم يحاولون العَوْم على الرمال، لمّا لم يجدوا من يعلمهم السباحة ويرشدهم!، وما أشد إصرارهم وهم لا يُخفون شوقهم إلى العودة إليه من جديد.
(4) ومن أحكام اللسان في هذه الأجواء: أنه لا يحيط بأحكامه إلا نبيّ مؤيّد من الله المحيط بكلّ شيء؛ وذلك أنه يخاطب به كل القرون التي يخاطبها، في كل الشؤون التي يجب أن يهتموا بها.. ولكن غير النبي لا يلزمه من ذلك الخضم الهائل من علومه إلا ما اقتضته ضرورات حياته وواجبات دينه ومؤانسات مجتمعه.. (وفوق كل ذي علم عليم). يوسف 76.
قد تسع ببصرك آفاق البحر وأنت تتملاه وتنتشي به، ولكنك تعجز أن تحمل منه بضعة دِلاء، وقد يحملها غيرك.. وقد ترث معجماً عظيماً يملأ مكتبتك أو ذاكرتك، ولا تستعمل منه إلاّ ألفاظاً معدودة، وقد يكون غيرك أبلغ، وأمهر الناس من يوغل برفق. وسبحان من تنفد الأبحر ولا تنفد كلماته!. (وقل رب زدني علماً). طه 114
وأن من يقتحم بلا دليل يوجّهه يحكم على عقله بعطَب ملكة لسانه ونقصانها من أطرافها أو بتضخم أمور منها على أخرى، وقد يبحر في أُجاج مرّ، لا ساحل له ولا قاع، والحصيلة غرق العقل في متاهات سحيقة وعُجمة القلب لا تنقطع؛ فلا يكاد يُبين، ولا يصل إلى معنى.
وأنّ تلك الملكة اللسانية إذا استحكمت في العقل تدفقت بها المعاني السامية عبر الأُذنين من الجانبين، فتُلمح إلى الروح، فتنبض وتقتات وتتهذّب وتتقدّم وتسمو.. وتفيض منك بلسان واحد، فكن على ما تسمع أحرص مما تقول، فإذا قلت فليكن لسانك مرآة عقلك وقلبك وروحك.
(5) تعلّم ما قلّ ودلّ من المجملات، مقرونة بما يلزمها من تفاصيل، توصل المرء- بإذن الله- إلى المراد!؛ كما أن كوز ماء قد يرويك من ظمإ، ويكشف لك عن نِسَب البحر وقوانينه، وسباحة الشاطئ قد تروض الطفل الغرير، على التوغل، وتكرار ذلك يكسب مهارة الماهرين.
لكل علم مفتاح، يُعمله الطالب في بابه الذي يعالجه، فيَنفَتِح له!.. فإذا علمت أن اللسان أنحاء متراكبة كثيرة، وأبواب بعضها في إثر بعض، وكلّ باب موصدٌ على ما فيه، وكلُّ مفتاح لا يعمل إلا في بابه.. بدا لك أهمية ترتيب العلوم، ونسق الأبواب، واستخراج المفاتيح.. وإلا كان الوقت في ضياع والعلم في شتات.
أَمَا إن لغتنا لا زالت مستبحرة ثريّة واسعة، وإن سكنت الرياح، مراغمةً المكائد، وإن كثرت الآفات والأمراض، مبطلة كلّ دعوى أقيمت للقصاص منها أو الطعن فيها أو إبعادها من حياتنا.
ولو عجز أهل جيل عن أن يتحدثوا عنها ويصنعوا لها القواعد والأحكام ويقوّموا فساداً ظهر بها، لأنبرت بفيضها من تلقاء نفسها، تتحدث إلى الصخور بأمواجها، عن تاريخها وأسرارها وبهائها.

ــــــــــــــــــــ
(1) قال الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وأولّه: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وقد أصاب الحر، فتفرّق القوم، حتى نظرت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقربُهم منّي، قال: فدنوتُ منه، فقلتُ: يا رسول الله! أنبئني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: لقد سألتَ عن عظيم، وإنه ليسيرٌ على من يسره الله عليه؛ تعبدُ الله ولا تشركُ به شيئاً، وتقيمُ الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصومُ رمضان. قال: وإن شئتَ أنبأتُك بأبواب الجنة! قلتُ: أجَلْ يا رسول الله، قال: الصومُ جنة، والصدقةُ تكفِّر الخطيئة، وقيامُ الرجل في جوف الليل يبتغي وجهَ الله، قال: ثمّ قرأ هذه الآية (تتجافى جنوبُهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً وممّا رزقناهم ينفقون). قال: وإن شئتَ أنبأتُك برأس الأمر وعموده وذِرْوة سنامه! قال: قلتُ: أجلْ يا رسول الله، قال: أما رأسُ الأمر فالإسلامُ وأما عمودُه فالصلاةُ وأما ذروةُ سنامه فالجهادُ في سبيل الله. وإن شئتَ أنبأتُك بمِلاك ذلك كلِّه...". وأخرجه أحمد والترمذيّ وصححه والنسائيّ وابن ماجه، وذكره ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وحفظ اللسان.
(2) ديوان حافظ إبراهيم 254.

مقال نشر في موقع المنارة وجيل ليبيا 4 / 2009 م