ترجمة القاضي عياض
اسمه ونسبه
هو الإمام العلامة عالم المغرب القاضي ابو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عياض اليحصبى ولد في منتصف شعبان سنة ست وسبعين وأربعمائة.
يقول أبو عبد الله محمد بن عياض في ترجة أبيه، وكان أبي رحمة الله عليه يقول لا أدري هل محمد ولد عياض أم بينهما رجل فهو جده؟ استقر أجدادنا في القديم في الأندلس جهة بسطة ثم انتقلو إلى مدينة فاس وكان لهم استقرار بالقيروان، لا أدرى أقبل استقرارهم بالأندلس، أم بعد ذلك، وكان عمرون والد جد أبي رحمة الله على جميعهم، رجلا خيرا، صالحا من أهل القرآن، حج احدى عشر حجة، وغزى مع ابن عامر غزوات كثيرة، وانتقل إلى مدينة فاس ثم إلى مدينة سبتة، بعد دخول بني عبيدة المغرب، وكان سبب ذلك أنه كان له ولأبائه بمدينة فاس نباهة، فأخد ابن أبي عامر رهنا من مدينة أعيان فاس، فأخذهم أخوي عمرون: عيسى والقاسم، فخرج عمرون إلى مدينة سبة ليقرب من أخبارها بمدينة قرطبة، فاستحسن
سكنى مدينة سبتة، وكان موسرا من دنياه فاشترى بها أرضا، وهي المعروفة بالمنارة، فبنى في بعضها مسجدا، وحتى الآن منسوب إليه. وحبس باقي الأرض للدفن، ولم يزل منقطعا في ذلك المسجد إلى أن مات رحمة الله عليه. سنة سبع وتسعين وثلاثمائة، وولد له قبل وفاته يسير ابنه عياض، ثم ولد لعياض، ابنه موسى ثم ولد لموسى ابنه عياض أبى رحمة الله عليهم أجمعين، فيما رأيت بخطه في النصف من شعبان عام ستة وسبعين وأربعمائة.

نشأته وطلبه للعلم.
نشأة بسبتة مقبلا على قراءة القرآن والأخذ على علمائها، وماكاد يصل العشرين من عمره، حتى كان قد بد اتصاله بكبار مسندى عصره، يستجيزهم، فيكاتب أبا علي الغسانى المتوفى سنة (498 ) وتتنوع معارفه في حلقات سبتة فيأخذ الحديث دراية ورواية على القاضي ابن عبد الله التميمى المتوفى سنة (505) ويفقه في المدونة وغيرها على شيوخ سبتة.
نشأ رحمه الله على عفة وصيانة، مرضى الخلال، محمود الأقوال والأفعال، موصونا بالببل والفهم الصدق، طالبا للعلم، حريصا عليه، مجتهدا فيه، معظما عند الأشياخ، من أهل العلم، كثير المجالسة لهم، والاختلاف إلى مجالستهم إلى أن يرع في زمانه وساد جملة أقرانه. وبلغ من التفنن في فنون العلم ماهو معلوم
هكذا كان القاضي عياض، رحمه الله تعالى، يعيش عيشة علمية، حيثما حل و ارتحل يفيد ويستفيد، ... وحرصه على لقاء العلماء والسماع منهم، حريصا على طلب العلم مجتهدا في طلبه، داخل سبتة، وخارجها، إلى أن توفي رحمه الله تعالى.

رحلاته
فبعد أن أخذ العلم عن أشياخ بلده، رحل إلى الأندلس، فدخل قرطبة، ومرسية وأخذ عن شيوخ الأندلس، وأجازه علماؤها، ثم عاد إلى بلده سبتة وهو ابن اثنين وثلاثين عاما أو نحوها، ويعد ذلك ...أجلس للشورى، ثم ولى القضاء ببلده، ثم انتقل إلى غرناطة لكنه صرف عن قضائها وعاد قاضيا في سبتة.
وقيل رحل إلى الأندلس للقاء مشيخته رحلتين الأولى سنة (498) أخذ فيها من علماء إشبيلية غير أن رحلته الثانية سنة (507) كانت أعمق إذ جالس خلالها بقرطبة مشاهير رجال الأندلس، كابن رشد، وابن الحاج التجبي، وابن حمدين، وابن بقى وغيرهم ويصل رحلته إلى شرق الأندلس، فيأخذ على شيخ الأندلس أبى علي الصدفى، فيسمع منه الأجزاء الحديثية الكثيرة هكذا كانت كل رحلاته في سبيل طلب العلم ولقاء أهل العلم أينما وجدوا. يتحمل مشقة السفر في طلبه حتى بلغ من الرتبة العلمية ما نراه من حناء أهل العلم عليه قديما وحديثا. بفضل رحلاته وطلبه للعلم وكثرة شيوخه.

شيوخه
وقد اجتمع له رحمه الله تعالى من الشيوخ بين من سمع منه وبين من أجاز له مائة شيخ وقد رتب شيوخه المائة وفق حروف الهجاء المغربية في فهرسته وهذه بعض أسماء شيوخه منهم:
أحمد بن محمد بن بقى أبو القاسم، سمع منه اليسير بسبتة وناوله وأجازه. وأحمد بن سعيد بن بشتغير اللخمى أبو جعفر أجازه. والحسن بن محمد الصدفى السرقسطى القاضي عرف بابن سكرة أبو على سمع منه فأكثر وأجازه.
والحسين بن أحمد الغسانى عرف بالجيانى أبو على وخلف بن إبراهيم عرف بابن إبراهيم عرف بابن النخاس المقرى الخطيب أبو القاسم سمع منه بقرطبة وأجازه.
ومحمد بن أحمد بن رشد القاضى القرطبى أبو الوليد سمع منه بقرطبة واجازه ومحمد بن وليد الفهرى الطرطشى غرف بابن أبي رندقه أبو بكر أجازه وعبد الله بن محمد الخشنى عرف بابن أبى جعفر أبو محمد سمع منه بمرسية وأجازه. وعلي ابن القاسم المهدوى عرف بابن البناء. وسراج بن عبد الملك بن سراج الأموى اللغوى أبو الحسين سمع منه بقرطبة فأكثر وأجازه.
وقد ذكر ولده منهم: أحمد بن بقى وأحمد بن محمد بن مكحول وأبو الطاهر ومحمد بن أحمد السلفى، والقاضى أبو بكر بن العربى، والحسين بن علىبن طريف وخلف بن إبراهيم بن النحاس، ومحمد بن أحمد بن الحاج القرطبي وعبد الله بن محمد الخشنى، وعبد الله ابن محمد العجوز وغيرهم ممن يطول ذكرهم

اجازاته
لقد حصل القاض عياض رحمه الله تعالى ، من شيوخه على اجازات كثيرة ومتعددة داخل سبتة وخارجها عبر رحلاته العلمية، وذلك لما كان يمتاز به من جودة الحفظ وثقته فيما يأثر وينتقل، وغير ذلك من الصفات الحميدة، والمودة، التي يشهد بها شيوخه.
فقد أجازه أبو علي الجيانى، وشريح، والقاضي ابن شرين، وغيرهم من أعلام غربى الأندلس. وأجازه أيضا أبو جعفر بن بشتغير وابو القاسم بن الأنقر وابو زيد بن منتيل وغيرهم من شرق الأندلس.
وأجازه أبو عبد الله المازرى، وأبو بكر الطرطشى، وابو عبد الله بن الخطاب وحيدر، وغيرهم من أهل إفريقية. ومصر والحجاز.
قال أبو عبد الله محمد بن عياض، ورأيت الشيخ الرواية أبا محمد بن كتاب كتب له بخطه اجازة. فقال، ولما رأيت ماهو عليه الفقيه أبو الفضل المذكور حفظه الله من الفضل، والخير، والديانة، والفهم، والعلم، وأخذ من كل العلوم بأوفر نصيب أجزت له جميع مارويته.
ورأيت أيضا بخط الرواية أبى بحرق سفيان بن العاص، يقول أثناء أجازته له: وكان تولى الله رعايته، من الشر والنبل والذكاء والفضل، بحيث يتلقى بالاسعاف ما يسال. ورأيت أيضا بخط أبى الحسين ابن سيراج يقول أثناء أجازته: وأبحث له وفقه الله أن يخبر كل ذلك عنى، لما بلوته من جودة حفظه لما يحمل، وثقته فيما يؤثر وينتقل، ورأيته أهلا لأداء ذلك ونشره، وروايته عنى وذكره.

تلامذته
من المعلوم أنه من كان على مستوى هذا العلم، وهذا القدر من الشيوخ إضافة إلى رحلاته العلمية، أن يكزن له تلامذة كثر، فهو حيثما رحل وارتحل يعيش عيشة علمية، ولم يكن يشغله شيء من أمر الدنيا، عن طلبه أو تدريسه، تولى القضاء في سبتة أكثر من مرة، كما تولى قضاء غرناطى مدة سنة ونصف، على أنه وهو قاض يتعاطى تدريس الفقه، واستماع الحديث فيكثر الآخذون عنه من المغرب والأندلس.
قال صاحب الصلة: وقدم علينا قرطبة فأخذنا عنه بعض ما عنده
ومن بين تلامذته على سبيل المثال أذكر منهم: "عبد الله بن محمد الأشيري" و"أبو جعفر بن القصير الغرناطي" و "خلف بن بشكوال" و"محمد بن الحسين الجابري"، و ولده القاض: "محمد بن عياض" رحمة الله عليهم أجمعين.


تأليفه
فمن ذلك ما كتب في حياته وقرئ عليه ومن ذلك ما تركه في مبيضاته ومنه من لم يكمله فمن تأليف القاض عياض رحمه الله تعالى كتابه: "أكمال المعلم في شرح مسلم" تسعة وعشرون جزءا. قال جابر: وفيه يقول شيخنا أبو الحكم مالك بن المرحل وأجاز فيه رحمه الله تعالى:
من قرأ الإكمال كان كاملا * في علمه قزين محافلا
وكتب العلم كنور أنها * تفيد قلبا عاجلا وآجلا
وليس من كتب عياض عوض * فغنه كان إماما فاضلا
ومن تواليفه رحمه الله تعالى أيضا "كتاب المستنبطكة، في شرح كلمات مشكلة، وألفاظ، مغلقة مما وقع في كتاب المدونة والختلطة" عشرة أجزاء ولم يؤلف في فنه مثله، وقد غلب على تسميته ببلاد أفريقية وغيرها "التنبيهات"
قال أبو عبد الله بن أحمد بن حيان : أنشدنا شيخنا الأعدل أبو عبد الله محمد بن علي التوزري ابن المصرى لنفسه مما كتبه. رحمه الله تعالى عليهما
كأنى مذ وافى كتاب عياض * أنزه طرفى في مريع رياض
فأجابني به الأزهار يانعة الخيا * وأكرع منه لذيذ (حياض)
ومنكتبه أيضا "كتاب مشارق الأنوار على صحيح الأثار للقاض عياض رحمه الله تعالى في سنتة أجزاء ضخمة، وهو من أجل الدواوين وانفعها.
ويقال إن القاض أبا الفضل توفى ولم يخرجها من مبيضاتها، فخرجها بعده الحافظ المحدث أبو عبد الله محمد بن سعيد الطراز وفي المشارق يقول الإمام، أبو عمرو بن الصلاح الشهرزورى، صاحب "كتاب علوم الحديث" وكان يعجب بالمشارق، وكلما طالعها أنشد"
مشارق أنوار تجلت بسبتة * وذا عجب كون المشارق بالمغرب
وقد ذيل هذا البيت جماعة منهم: القاض المؤرخ أبو عبد الله محمد بن عبد الملك المراكش رحمه الله تعالى إذ يقول:
تنادي بأنوار المشارق نخوة * بمطالعها في المغرب ياشرق غربي
ومن أشهر كتبه كتاب "الشقا" قال العلامة المؤرخ أحمد بن محمد المقري، المتوفى سنة (1041ه) في كتابه: "أزهار الرياض" وهو يتكلم عن مؤلفات القاض عياض: "فمنها كتاب "الشخا" الذي بلغ فيه الغاية القصوى، وكان فيه لضروب الإحسان مرتشف وحاز فيه قصب السبق، وطارصيته شرقا وغربا، وقد لهجت به العامة والخاصة عجما وعربا، ونال به مؤلفه وغيره، من الرحمان قربا، وفضائل هذا الكتاب، لا تستوفى، ويرحم الله القائل: كلهم حاولوا الدواء ولكن: ما أتى بالشفاء إلا عياض.
ومن بين القصائد الشعرية النص قيلت في مدحه قول أحد الأدباء:

عوضت جنات عدن يا عياض * عن الشفاء الذي ألفته عوض
جمعت فيه أحاديثا مصححة * وهو الشفاء لمن في قلبه مرض
عوتب القاض عياض على كثرة محبته ل "الشفا" فرد عليهم بهذين البيتين:
فقالوا: أراك تحب الشفا * وتخبرفيه عن المصطفى
فقالت: لأني عليل الفؤاد * وكل عليل يحب الشفا
لقد أبدع فيه رحمه الله كل الإبداع وسلم له اكفاؤه كفايته فيه ولم ينازعه أحد في الانفرادية
ومن تأليفه رحمه الله تعالى "كتاب "الإلماع في ضبط الرواية وتقيد السماع" وفيه يقول الشيخ أبو عبد الله محمد بن حيان رحمه الله تعالى قال ابن جابر: ونقلته من خطه:
باطالب علم الحديث وحمله * لجميع ما يروى من أنواع
تبين كل ذلك لعياض في * تأليفه الموصوف بالإلماع
الله يرحمه ويجزل أجره * فلقد أتى في غاية الإبداع
جمع الرواية والدراية متقنا * بالضبط بالأبصار والإسماع
أنسى وأستاذي وغاية بغيتي * وهذكري في خلف والإجماع
هذه بعض مؤلفات القاض عياض رحمه الله على سبيل المثال والإيجاز وغيرها كثير مما يطول ذكرها في هذا المقام.

مكانته العلمية وأقوال العلماء فيه
كان القاض عياض رحمه الله تعالى من أئمة عصره في الحديث، وفقهه، وغريبه، ومشكله ومختلفه، وصحيحه، وسقيمه، وحفظ رجاله، ومتونه، وجميع أنواع علومه.
اصوليا متكلما، وكان لا يرى الكلام إلا عند نازلة، فقيها حافظا لمسائل المختصر والمدونة قائلا عليها، حادقا بتدريج الحديث من مفهومها، عاقدا للشروط بصيرا بالفتايا، والأحكام والنوازل، نحويا ريانا من الأدب، شاعرا، مجيدا يتصرف في نظمه أحسن تصرف، ويستعمل في شعره الغرائب من صناعة الشعر، مليح القلم من أكتب أهل زمانه.
وكان من حفاظ كتاب الله تعالى وله الحظ الوافر في التفسير. فحظي رحمه الله تعالى بثناء أهل العلم عليه أينما حل وارتحل، كما يمكن القول أنه لا سبيل إلى صدر ثناء الناس عليه، ولكن لا بد من الإلماع ولو ينزر اليسير والإلمام.
قال ولده رحمه الله أخبرني ابن عمر الزاهد أن القاض أبا عبد الله بن حمدين، كان يقول له وقت رحلته إليه، وحقى يا أبا الفضل إن كنت تركت في المغرب مثلك. وقال أخبرني أن أبا الحسين بن سراج قال له وقد أراد الرحلة إلى بعض الأشياخ، لهو أحوج إليك منك إليه، وقال إن الفقيه أبا محمد بن أبي جعفر قال له ما وصل إلينا من المغرب مثل عياض. وقال خلف بن بشكول: "هو من أهل العلم والتفنن والذكاء والفهم".
وقال محمد بن حمادة البشى: جلس القاض للمناظرة، وله نحو ثمان وعشرين سنة.
وولى القضاء وله خمس وثلا ثون سنة. كان هينا من غير ضعف، صلبا في الحق...وجاز من الرئاسة في بلده، ما لم يصل إليه أحد قط من أهل بلده، وما زاده إلا تواضعا وخشية لله تعالى.." وقال القاض شمس الدين ابن خلكان في "وفيات الأعيان" هو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بعلومه، وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم كما أن القاض عياض رحمه الله تعالى كان صبورا حليما، جميل العشرة، جودا سمحا، كثير الصدقة دءوبا على العمل، صلبا في الحق.
مناقبه ووفاته
أما الحديث عن مناقب الإمام الفضل رحمه الله تعالى فكثيرة، وكلها تدل على ماله في الرتبة من المزية الأثيرة، فمن ذلك ما حدث به المشيخة عن بعض الصالحين، قال رأيت القاض أبا الفضل، بعد موته في المنام، وهو في قصر عظيم، جالس على سرير قوائمه من ذهب، قال: فكان يسألني عن مسألة، فأقول له، يا سيدي، ذكر فيها في كتابك الموسوم ب "الشفا" كيت وكيت، قال فكان يقول لي. أعندك ذلك الكتاب؟
فأقول له نعم فيقول لي شديدك، عليه فيه نفعنى الله وأعطاني ما تراه.
توفى رحمه الله تعالى بمراكش في شهر جمادى الأخيرة، وقيل في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وقيل إنه مات مسموما سمه يهودي ودفن رحمه الله تعالى بباب إيلان داخل المدينة