السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على سيدنا محمد
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال :
(اشترى رجل من رجل عقاراً له ،
فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره
جرّة فيها ذهب ، فقال له الذي اشترى العقار :
خذ ذهبك مني ؛ إنما اشتريت منك الأرض
ولم أبتع منك الذهب ، وقال الذي له الأرض :
إنما بعتك الأرض وما فيها ، فتحاكما إلى رجل ،
فقال الذي تحاكما إليه : ألكما ولد ؟ ، قال أحدهما :
لي غلام ، وقال الآخر :لي جارية ، قال :
"أنكحوا الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسهما منه ، وتصدقا ".
متفق عليه .
معاني المفردات
أبتع منك الذهب :أي :أشتري منك الذهب
ألكما ولد :أي :ألكل منكما ولد
عقاراً له :العقار هو المنزل والضيعة
تفاصيل القصّة
يصطرع الناس فتات الدنيا ، وتنشب بينهم الخلافات ،
ثم ينتهي الأمر إلى الازدحام عند أبواب المحاكم ،
والوقوف أمام القضاء ، ليُدلي كلٌ بحجّته ، ويقدّم أدلّته ،
مدّعياً أنه صاحب الحق ، وأن خصمه يريد سلبه ونهبه ،
وأخذ ما ليس له .
مشهدٌ مألوف وموقف معتاد يتكرّر يوميّاً في دنيا الناس ،
لكنّ العجب كلّ العجب أن ينشأ الخلاف ويحتدم
النقاش بين رجلين ، حتى تتعالى أصواتهما ،
ويترافعا عند القاضي ، ليقول كلّ واحد منهما :
"إن خصمي هو صاحب الحقّ ،
وإنه يريد أن يعطيني ما ليس لي ".
فحقّ للعقل حينها أن تعصف به الحيرة وتأخذه الدهشة .
وليس الحديث عن ذلك من نسج الخيال أو إلهام الفكر ،
ولكنّه أنموذجٌ فريد وبارقة نجمٍ في سماء الحضارات
السابقة ، لرجال تسوّروا العزّ وتبوّؤوا المجد ،
حينما صاغهم الدين وربّاهم الأنبياء ، فطهرت
سرائرهم ، واستقامت ظواهرهم .
وكانت البداية حينما أراد رجلٌ أن يبيع عقاراً له ،
فبحث عن مشترٍ له ، حتى أبدى أحدهم إعجابه
بالعقار واستعداده لنقد الثمن ، فتمّ البيع وعُقدت الصفقة .
وانتقل المشتري إلى عقاره الجديد فرحاً به ،
فجعل يهيّئه ويعدّه للسكنى ، وبينما كان يقوم
بالحفر في أحد نواحي داره إذا بفأسه تصطدم بجرّة ،
ولمّا أخرجها وجدها مملوءةً ذهباً ، تثقل اليد عن حملها ،
إنها جرّة تُؤذن بوداع حياة الفقر ، وتكفل لصاحبها
أن يكون في مصافّ الأغنياء ، ليهنأ بالعيش الرغيد ،
والنعمة الواسعة ، والرفاهية المطلقة .
لكنّ نوازع الأمانة ومعاني الورع كانت أعظم في نفسه ،
فلم يلتفت إلى بريق الذهب ولمعانه ، بل كان شغله
الشاغل أن يُرجع المال لصاحبه ، وهكذا انطلق من
لحظته ليدفع له الجرّة قائلا :
(خذ ذهبك مني ؛ إنما اشتريت منك الأرض
ولم أبتع منك الذهب!) .
وإذا كانت أمانة هذا الرّجل وقناعته مثار إعجاب
ومحطّ استحسان ، فإن العجب يتعاظم من موقف
صاحبه الذي أعاد له المال قائلاً :
(إنما بعتك الأرض وما فيها ) .
وقام الرجلان يتدافعان الجرّة ، كلٌّ يدّعي أن صاحبه
أحقّ بها ، وبعد نقاشٍ دام طويلاً اتفقا على أن
يُحكّما بينهما رجلاً ، فوقفا بين يديه ،وعرض الأوّل
وجهة نظره ، وعرض الثاني رأيه وقوله .
نظر الحَكَم إليهما مُعجباً بسموّ أخلاقهما وعظيم نبلهما ،
ورأى أن هذه النماذج الفريدة جديرةٌ بأن يلتئم شملها
تحت مظلّة واحدة ، تربط بينها أواصر النسب
ووشائج المصاهرة ، وقد وجد بغيته حينما علم
أن للأوّل غلاماً وللثاني جارية لم يتزوّجا بعد ،
فأصدر حكمه :
(أنكحوا الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسهما منه ، وتصدّقا ) .
وقفات مع القصّة:
تبقى القصة بكل أبعادها وأحداثها ، وألفاظها
ومدلولاتها تشكّل سِفْراً مفتوحاً لكل قاريء ليأخذ
منها الدروس ويستلهم منها العبر .
وأوّل ما يلفت النظر ويشدّ الانتباه ، خلق القناعة
الذي ظهر في الأوّل ، ومعاني العفّة والتنزّه
التي بدت عند الثاني ، ثم الحكم الذي يظهر فيه
حسن الفهم وسداد الرأي عند الثالث ،
حتى يحار المرء :أيّهم أفضل من الآخر .
كما يظهر في القصّة ما تعود به القناعة على
صاحبها من الخير والبركة ، فهي كنزٌ لا يفنى ،
وذخيرةٌ لا تنضب ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(ليس الغنى عن كثرة العَرَض أي :
متاع الدنيا ولكن الغنى غنى النفس )رواه البخاري ،
ويقول أيضاً :
(وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس )رواه الترمذي .
وفي ألفاظ القصّة دعوة ضمنيّةٌ للناس إلى أداء
الأمانات وإرجاع الودائع ، وهي قضيّة تناولها
القرآن وأكّد على أهمّيتها في قول الحقّ سبحانه :
{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }
(النساء :58) .
وآخر ما نختم به دلالة القصّة على إمكانيّة الاحتكام
إلى من كان ذا حظّ من العلم والعقل ، ما يعينه
على تحقيق العدل وإصابة الحقّ.
*اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.