الشيخ علي حسن

إلحاحٌ عجيب في عينيّ أم المؤمنين وهي ترقب الموقف.. شغفاً لتكشف سرَّ تلك التمتمات التي تجلّت من الفم الزاكي.. فاختزنتها أذنٌ واعية.. وتحدّرت من مآقيها(1) حبات كأنها الجمان المنضود..

لم تخطئ مشيتها مشية رسول الله.. هكذا كان وصْف أم المؤمنين لها.. وهي ليست المرة الأولى التي تشهد فيها مشية الزهراء.. ولكن لابد أنها لاحظت شيئاً في عينيّ رسول الله وهو يتابع تلك الخطوات.. فارتسمت الصورة في عقلها.. (كأنّ مشيتها مشية رسول الله).. وكأني به صلى الله عليه وآله وسلم يحدِّث نفسه (فداكِ أبوكِ يا أم ريحانتيّ)..

ولم تكن خطواتها - فقط - كخطوات أبيها.. وهي (أم أبيها) كما كان يحب صلى الله عليه وآله وسلم أن يناديها.. بل كانت أشبه الناس سَمتاً.. ودلاًّ.. وهدياً برسول الله(2)..

وكانت إذا دخلَتْ على رسول الله.. صلى الله عليه وآله وسلم.. قام إليها.. بعظمة شأنه وجليل مقامه.. فقبّلها.. وهو يشم فيها رَوح الجنة ورياحينها.. ولا يرضى لها مجلساً إلا مجلسه.. إعظاماً لشأنها.. وإجلالاً لمقامها.. ولم يكن ليفعل ذلك مع سواها.. لأن لفاطمة.. في عقل أبيها.. وفي قلبه.. شأناً آخر.. لا يعرف سرّه إلا الله..

ما الذي دعا النبي ليطلب فاطمة في هذا الوقت بالذات؟ وقد أخذ منه المرض كل مأخذ.. والحمّى لا تكاد تفارق جسده الشريف.. وحوله نساؤه.. يخدمنه.. ويعللنه.. فلم يطلب من إحداهن أن تقترب منه ليسارّها بشيء.. ولم يفصح لهن جهاراً عمّا يجيش في مكنون صدره.. ثم إن فاطمة لم تغب عنه كثيراً.. فما الأمر الملحّ الذي طلبها لأجله.. ولا يقبل التأجيل؟!

انكبّت فاطمة على أبيها.. بعد أن حيّاها وهو ينتزع ابتسامة طالما اعتادت على رؤيتها وهو يحيّيها.. (مرحباً بابنتي).. انكبّت هي عليه.. وقبّلته.. ولم تكن قد عهدت ذلك في لقياه.. فقد كان المرض يغالبه.. ولم يعد قادراً على أن يقوم كما كان يفعل ليحيّي حبيبته.. ويُجلسها مجلسه..

وأقبلت (أم أبيها) بكُـلِّها عليه.. وحنانُها يفيض في المكان.. ليبعث في اللقاء دفئاً ترسم معالمه تلك الأنامل النحيفة التي طالما مسحت الدم والتراب عن وجه رسول الله.. في مكة حين كانت ترشقه قريش بأحجار الجحود.. وفي المدينة حين كان يعود أبوها من أرض المعركة منتصراً.. وتلك النظرات الحانية التي طالما ذكّرتْه بحنان خديجة.. (وأين مثل خديجة؟! صدّقتني حين كذّبني الناس، وأعانتني على ديني ودنياي بمالها).. هكذا كان يذكرها صلى الله عليه وآله وسلم..

تغيّر وجه الزهراء.. ولفّ الحزنُ قسماته.. وجادت عيناها غيثاً منهملاً.. وهي تعي ما يقوله أبوها.. لقد كانت كلماته حاسمة.. (كان جبريل يعارضني بالقرآن كل عام مرة.. وإنه عارضني في العام مرّتين.. ولا أراني إلا قد حضر أجلي.. فاتّقي الله واصبري.. فإني نِعم السلف أنا لكِ)..

ساعد الله قلبكِ يا حبيبة المصطفى.. فأيُّ مصابٍ بعد هذا؟! وكأني بها وهي تستذكر الساعات الأخيرة لرحيل أمها.. خديجة.. ولم تكن فاطمة إذ ذاك قد تجاوزت الخامسة.. من سنيّ عمرها.. ولكنها كانت تفوق ذوات الخمسين في وفرة عقلها وفي ثقل إحساسها بمسؤولياتها.. ولذا كانت (أم أبيها)..

حينئذ.. كان المصطفى يلفّها بعظيم رأفته ورحمته.. فيملأ فراغ أمها الراحلة عن هذه الدنيا الفانية.. أما اليوم.. فمن ذا يمكنه أن يسد مسدّه؟ وأسلمَت الزهراء نفسها للبكاء.. (وا كرباه.. وا كرب أباه)..

وما لبث النبي أن جذبها إليه ليسارّها من جديد.. (إنك أول أهلي لحوقاً بي.. ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين؟).. فأخذَت بعفوية تُكفكف دموعها وهي تبتسم.. بعد ذلك الحزن الشديد.. ويتهلل وجهها فرحاً لعظيم ما سارّها به.. فإنَّ جوار أبيها أحب إليها من هذه الدنيا وما فيها.. وهل تعلّقت فاطمة ـ يوماً ـ بزخرف الدنيا وزبرجها؟!

نهضت بَضعة أبيها تستشرف ما تخبئه لها الأيام القادمة التي ستكون حتماً مليئةً بالأحداث.. وأحزانها أكثر من أفراحها.. وما لبثت أم المؤمنين أن نهضت مسرعةً لنهوضها.. ثم بادرت بسؤالها.. والعجب قد أخذ منها مأخذه.. (ما هذا الذي سارّك به رسول الله فبكيتِ، ثم سارَّك فضحكت؟! أخصَّكِ رسول الله بحديثه دوننا ثم تبكين؟!)..

حقاً إنه أمر عجيب.. إلا أنه سرٌّ خصَّه بها أبوها.. وعليها أن تكتمه.. ولا تتحدث به ما دام حياً.. إنه يكشف لها هي وحدها شيئاً من أسرار القَدَر.. (ما كنتُ لأفشي على رسول الله سرَّه).. بهذا الاختصار أجابت الزهراء.. وتابعت مسيرها نحو ما رسمه القدَر لقادِمِ أيامها.. حتى إذا حلَّ أمرُ الله.. واختار نبيَّه لجواره.. عادت أم المؤمنين لتسأل من جديد.. (أرأيتِ حين أكببتِ على النبي فرفعتِ رأسكِ.. فبكيتِ.. ثم أكببتِ عليه.. فرفعتِ رأسكِ فضحكتِ.. ما حملكِ على ذلك؟!)..

أمّا الآن فنعم.. ولو أفشت السر من قبل لكانت بذرةٌ(3).. وأخذت الزهراء عليها السلام تحكي لأم المؤمنين سر تلك الدموع.. ثم سر تلك الابتسامة.. التي ما عادت تعرف إلى ثغرها طريقاً مذ أن ارتحل عنها أبوها.. وتركها تنتظر أيام اللقاء من جديد.. وهي قلائل.. في مقعد صدق عند مليك مقتدر(4).



(1) المآقي والآماق: أطراف العين.
(2) السمت والدل والهدي: الهيئة والطريقة وحسن الحال.
(3) بذرة: ورد في الحديث أن الزهراء بررت امتناعها عن البوح بالسر لئلا تكون بذرة، والبذرة هي التي تفضي بالسر ولا تستطيع كتمانه.
(4) توفيت فاطمة الزهراء عليه السلام بعد أبيها بخمسة وسبعين أو خمسة وتسعين يوماً أو ستة أشهر.