يقوم القانون الدولي الإنساني, وهو القانون الذي تطبق أحكامه في حالة الحرب المعلنة أو حالة النزاعات المسلحة, دولية كانت أو غير دولية, علي وجوب احترام العديد من المبادئ والقيم الأخلاقية والإنسانية, تم تقنينها جميعها بموجب كل من قانون لاهاي لعام 1868 واتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949, والتي تتمثل أساسا في: مبدأ حصانة الذات البشرية, الذي يقضي بعدم استخدام الحرب كمبرر للاعتداء علي حياة من لا يشاركون في القتال, ومبدأ حظر استغلال المدنيين أو استخدامهم لتحقيق أهداف عسكرية, ومبدأ منع الأعمال الانتقامية والعقوبات الجماعية, ومبدأ حظر بعض أنواع الأسلحة, ومبدأ التفرقة بين الأهداف العسكرية والمدنية, وكذا مبدأ عدم الاعتداء علي السكان والتمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين, إضافة إلي مبدأ حصانة المناطق التي لها امتياز(1).

إلا أن جميع هذه المبادئ والقيم الأساسية بقيت حبيسة المجال النظري, ولم تؤخذ بعين الاعتبار بتاتا في حرب إسرائيل علي غزة, التي شكلت انتهاكا بكل المعايير الدولية لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المكفولة دوليا, وخرقا لقواعد القانون الدولي الإنساني ومبادئه, التي يفترض إعمالها في حالة النزاعات المسلحة. هذا الأمر الذي يستتبع لزوما, ومن الناحية القانونية, قيام مسئولية إسرائيل الدولية ومحاكمة ومعاقبة مرتكبي هذه الانتهاكات والخروقات الجسيمة في حق المدنيين الفلسطينيين(2).

أولا- جرائم إسرائيل الدولية في قطاع غزة :

بالرجوع إلي الوثائق القانونية الدولية, لاسيما النظام الأساسي لمحكمة روما لعام 1998, واتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية الأشخاص المدنيين خلال الحرب, والبروتوكول الإضافي الأول المتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة لعام 1977, واتفاقية لاهاي لقواعد الحرب البرية لعام 1907, واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948, واتفاقية تعريف العدوان لعام 1974, وغيرها من الوثائق القانونية الدولية ذات الصلة- يمكننا أن نصنف جرائم الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة إلي ثلاثة أصناف رئيسية: جرائم ضد الإنسانية, جرائم ضد سلامة وأمن البشرية, وجرائم حرب.

1- جرائم ضد الإنسانية :

وفقا لنص المادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية, فإنه تعتبر جريمة ضد الإنسانية تلك 'التي ترتكب ضد أية مجموعة من السكان المدنيين, وعن علم وقصد بالهجوم'. وهناك العديد من الأفعال التي تشكل جريمة ضد الإنسانية, نذكر منها:

- القتل العمد: ويعني أن يقتل المتهم شخصا أو أكثر, وأن يرتكب هذا التصرف كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي, موجه ضد مجموعة من السكان المدنيين(3).

- الإبادة الجماعية: وتعني إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه, إهلاكا كليا أو جزئيا, وذلك بقتل أفرادها, أو إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بها, أو إخضاعها عمدا لظروف معيشية, بقصد إهلاكها الفعلي كليا أو جزئيا.

- السجن أو الحرمان الشديد علي أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي(4). وفي هذا الصدد, اعتبرت أيضا اتفاقية جنيف الرابعة أن الاحتجاز أو الاعتقال غير المشروع, والحرمان من الحق في محاكمة قانونية عادلة, وأخذ الرهائن, انتهاكات جسيمة تستوجب المساءلة والعقاب(5).

- الأفعال اللاإنسانية الأخري ذات الطابع المماثل, التي تتسبب عمدا في معاناة شديدة أو أي أذي خطير, يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية(6).

وللأسف الشديد, فإن جميع الأفعال الإجرامية, التي نصت عليها المادة السابعة السابقة الذكر, وجدت تطبيقا لها خلال عدوان إسرائيل البربري علي غزة, الذي قتل وأباد أكثر من 1300 قتيل, وأكثر من خمسة آلاف جريح (منهم 1855 طفلا, أي نسبة 35 %, و795 امرأة, أي 15%), مسفرا بذلك عن مذبحة حقيقية. ناهيك عن شهادات باستخدام القوات الإسرائيلية المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية, أثناء مواجهتها مع مقاتلي الفصائل الفلسطينية(7).

إن مشهد الشهداء, الممزقة أجسادهم والمكدسين داخل المراكز المقصوفة, كان مروعا, ودل, بما لا يدع مجالا للشك, علي أن ما أقدمت عليه الطائرات الإسرائيلية المتطورة كان جريمة كبري ينبغي ألا تمر مرور الكرام. ولعل المجزرتين الأكثر دموية خلال الحرب هما قصف مدرسة الفاخورة في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين شمال غزة, وإبادة عائلة 'السموني' في حي الزيتون شرق القطاع. ويضاف اسم المدرسة والعائلة بالتأكيد إلي قائمة طويلة من المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين, سواء قبل إنشائها من العصابات الصهيونية, أو بعد ذلك عبر جيشها ومستوطنيها(8).

إلي جانب الأفعال السابقة التي تشكل جريمة ضد الإنسانية, فإنه يضاف إليها فعل إجرامي آخر, والمتمثل في الاعتقال غير المشروع للمدنيين وحرمانهم من حريتهم تعسفا, دون ضمان مبدأ المحاكمة القضائية العادلة. إذ كشف النائب جمال زحالقة, رئيس كتلة التجمع البرلمانية, عن أن الأسري الفلسطينيين, الذين أسرهم الجيش الإسرائيلي, جري نقلهم إلي معسكر 'سديه تيمان' الواقع شمالي غرب مدينة بئر السبع, الذي أعلن عنه وزير الدفاع الإسرائيلي, إيهود باراك, يوم 4 يناير 2009 كمعسكر للاعتقال. وقد أكد زحالقة أن: 'معظم المعتقلين هم من المدنيين, وأنه ووفق القانون الإسرائيلي, فإن المعتقلين من غزة لا يعتبرون أسري حرب, لأنهم ليسوا جزءا من جيش نظامي لدولة, ولا يعتبرون سجناء, وفق قانون فك الارتباط, الذي سنه الكنيست الإسرائيلي عشية إخلاء الجيش الإسرائيلي من غزة, علي اعتبار أن الاحتلال الإسرائيلي قد انتهي, وليس لهم حقوق كأسري الضفة الغربية'. ويجري التعامل مع معتقلي غزة وفق قانون خاص, هو قانون 'المحاربين غير الشرعيين', هذا القانون يحرم أسري غزة من الحقوق المتعارف عليها بشأن الأسري والسجناء(9).

2- جرائم ضد سلامة وأمن البشرية :

تعتبر الجرائم ضد سلامة وأمن البشرية أهم وأخطر الجرائم الدولية, وذلك لخطورة المصلحة التي تصيبها بالضرر, وهي تنحصر أساسا في جريمتي العدوان والإرهاب(10).

أ- جريمة العدوان :

تقوم جريمة العدوان بمجرد استخدام القوة المسلحة عمدا, من طرف دولة ضد السيادة أو السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لدولة أخري. وقد جرم ميثاق الأمم المتحدة العدوان, وكذا القرار رقم 1/4133 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 14ديسمبر 1974. فاستعمال القوة في العلاقات ما بين الدول يعد عملا مخالفا للقانون الدولي بوجه عام, ويعد عملا عدوانيا إلا إذا كان من أجل الدفاع الشرعي, أو بناء علي تدابير تتخذها الجماعة الدولية بما يتوافق والميثاق(11). وهما مسألتان لا نجد لهما تطبيقا في حالة الحرب علي غزة.

فحق الدفاع الشرعي المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة, والذي يعد حقا طبيعيا للدول, ليس حقا مطلقا بل مقيد بشروط, أهمها: وجود خطر أو اعتداء غير مشروع, وعدم تجاوز حدود الدفاع(12) أي مبدأ التناسب بين الاعتداء والدفاع. إلا أنه في حالة الحرب علي غزة, لا يمكن القبول بوجود حق الدفاع الشرعي أو الدفاع عن النفس, الذي استندت عليه إسرائيل لتبرير عملياتها العسكرية في القطاع, وذلك لأن الرد لم يكن متناسبا, ولأن القذائف البدائية التي تطلقها حماس لا تبرر هجوما عسكريا(13). وما دامت العمليات العسكرية التي قامت بها إسرائيل لا تندرج ضمن نطاق ممارسة حق الدفاع الشرعي, فهي تتناقض إذن ونص المادة 51 وكذا نص 402 من شرعة الأمم المتحدة, التي تحظر اللجوء للقوة في العلاقات الدولية, مما يجعل هذه العمليات تصنف قانونيا بكونها عملا عدوانيا بأتم معني الكلمة.

ب- جريمة الإرهاب الدولي :

يعد الإرهاب الدولي بكافة صوره وأشكاله من أخطر الجرائم الموجهة ضد سلم وأمن البشرية. ويتمثل, بوجه عام, في مجموعة من أعمال العنف التي تؤدي إلي خلق حالة من الخوف والرعب, نتيجة لما تؤدي إليه من تدمير للأموال العامة أو الممتلكات الخاصة(14). ولا شك في أن المجازر البشعة غير المسبوقة التي شهدها العالم في غزة, من خلال قتل النساء والأطفال في الشوارع وتدمير البيوت واستخدام الأسلحة المحرمة دوليا, تظهر مدي الطبيعة الإجرامية لهذا الكيان الإرهابي, الذي أخذ الضوء الأخضر لينتهك كل القوانين الإنسانية والحقوقية السياسية(15).

إن المطلعين علي تاريخ اليهود الأسود, العارفين بنفسيتهم الإجرامية والدارسين لأخلاقهم المشينة, لا يعجبون ولا يستغربون مما يشاهدونه من جرائم إرهابية, يعجز عن تصويرها البيان(16). بل إن حتي حاخاماتهم يزعمون, في رسائل وجهت إلي قادة الكيان الصهيوني, أنه- طبقا لما ورد في التوراة- يتحمل جميع سكان غزة من النساء والأطفال المسئولية, لأنهم لم يفعلوا شيئا لوقف إطلاق الصواريخ!! محرضين علي مواصلة العدوان علي غزة, معتبرين ذبح المواطنين الفلسطينيين الأبرياء أمرا شرعيا(17). فقتل اليهود - في منظورهم- لغير اليهودي لا يعتبر جريمة تبعا للديانة اليهودية, وقتل العرب الأبرياء بغرض الانتقام يعتبر فضيلة يهودية, فالإرهاب عند أكثر اليهود يصفونه 'بالمقدس'(18).

3- جرائم حرب :

لقد حظر المجتمع الدولي, منذ عهد طويل, جرائم الحرب, ورغم فشله في الحيلولة دون ارتكابها, إلا أنه سعي جاهدا محاولا التخفيف من آثارها المدمرة علي الشعوب(19). ويقصد بجرائم الحرب, وفقا لما جاء في نص المادة الثامنة من النظام الأساسي لروما, تلك الانتهاكات الجسيمة التي إذا ارتكبت عن عمد, سببت وفاة أو أذي بالغا بالجسد أو بالصحة. وتتمثل هذه الانتهاكات أساسا فيما يلي:

- تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين بصفتهم تلك, وكذلك ضد الأفراد الذين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية.

- تعمد توجيه أو شن هجمات ضد منشآت مدنية لا تشكل أهدافا عسكرية.

- تعمد شن هجمات ضد موظفين, أو منشآت أو مواد أو وحدات أو مركبات في مهمة من مهام المساعدة الإنسانية أو حفظ السلام, عملا بميثاق الأمم المتحدة, ويستحقون الحماية التي يتمتع بها المدنيون أو المواقع المدنية, بموجب القانون الدولي للمنازعات المسلحة.

- تعمد شن هجوم, مع العلم بأن هذا الهجوم سيسفر عن خسائر تبعية في الأرواح, أو إصابات بين المدنيين, أو عن إلحاق ضرر بأهداف مدنية.

- مهاجمة أو قصف المدن أو القري أو المساكن أو المباني العزلاء, التي لا تكون أهدافا عسكرية, بأية وسيلة كانت.

- تعمد توجيه الهجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو الخيرية, أو المعالم التاريخية, أو المستشفيات أو أماكن تجمع المرضي والجرحي, شريطة ألا تكون تلك الأماكن مستخدمة آنذاك لأغراض عسكرية.

- استخدام الأسلحة والقذائف أو المواد أو الأساليب, التي تسبب بطبيعتها أضرارا زائدة أو آلاما لا لزوم لها(20).

- شن هجوم عشوائي يصيب المدنيين أو الأعيان المدنية. ويقصد بالهجوم العشوائي الهجوم قصفا بالقنابل, أيا كانت الطرق والوسائل, الذي يعالج عددا من الأهداف العسكرية الواقعة في مدينة أو بلدة أو قرية أو منطقة أخري, تضم تركزا من المدنيين أو الأعيان المدنية, علي أنها هدف عسكري واحد. كما يقصد بالهجوم العشوائي, أيضا, الهجوم الذي يمكن أن يتوقع منه أن يسبب خسارة في أرواح المدنيين, أو إصابة بهم أو أضرارا بالأعيان المدنية(21).

ورغم أن المادة الثامنة, السالفة الذكر, تشترط لقيام جريمة حرب توافر فعل واحد من الأفعال الإجرامية المذكورة, إلا أن ما قامت به إسرائيل في القطاع يضم جميع هذه الأفعال الإجرامية, ويستوفي جميع مكونات جريمة الحرب. بل إن حربها علي غزة تأتي بعد 18 شهرا من استمرار الحصار, وفرض سياسة التجويع, ومنع الدواء والغذاء والكهرباء, والذي يشكل بحد ذاته جريمة حرب(22).

فكيف لا نكون أمام جرائم حرب دولية, عندما يتم استهداف مدنيين بغارات جوية موجهة ضد مناطق مدنية, في واحدة من أكثر المناطق كثافة في العالم, والتي أدت, كما ذكرنا, إلي مقتل وإصابة مئات المدنيين, نصفهم من النساء والأطفال والشيوخ? فقد تعمد الجيش الإسرائيلي مرات عدة استهداف الأعيان المدنية, مثل المساجد والمدارس ومباني التليفزيون (23), كمقر فضائية الأقصي التابعة لحركة حماس. فلم تفرق صواريخ إسرائيل, التي انهالت علي قطاع غزة, بين الأهداف العسكرية والمدنية, إذ قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية مقار مدنية عدة, منها: مقر الإدارة المدنية. كما طال القصف شواطئ غزة وميناء الصيادين وورش حدادة ومساجد(24). فقد جعلت إسرائيل, ولأول مرة منذ احتلالها فلسطين, من المساجد في غزة أهدافا مشروعة لصواريخها, حتي إنها قصفت خلال الأسابيع الثلاثة 92 مسجدا, دمر منها 42 بشكل كامل.

كما أن العديد من الضحايا قد سقطوا بشكل مريع خلال عمليات القصف هذه, سواء كانوا داخل المساجد, أو من السكان القاطنين علي مقربة منها(25). هذا بالإضافة إلي التدمير الكلي لمناطق آهلة بالسكان ومبان سكنية. كما استهدفت إسرائيل للمرة الثالثة مدارس ومباني الأنروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) التابعة للأمم المتحدة, التي يفترض فيها أنها تتمتع بالحصانة الدولية خلال الحرب, باعتبارها أعيانا مدنية, حيث كان يحتمي بها ما يصل إلي 700 فلسطيني, مما أدي إلي مقتل العشرات منهم, وكذا تدمير مخزون الوكالة من الدواء والغذاء(26), وإحراق أطنان من المساعدات الغذائية التي يحتاج إليها سكان القطاع بشدة. وهذا إن دل علي شيء, فإنما يدل علي بربرية وإجرام إسرائيل. وفي هذا السياق, يقول أستاذ القانون الدولي بالجامعة اللبنانية, شفيق المصري: 'إن إسرائيل بقصفها لمواقع ومنشآت مدنية, خالفت اتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين, التي وقعت عليها سنة 1591, وارتكبت بذلك جريمة حرب وابادة جماعية, بشكل يسئ للكرامة الإنسانية والمجتمع الدولي كله'(27).

ورغم أن الجيش والحكومة الإسرائيلية قد أعلنت, مرات عديدة, أنها لا تستهدف أبدا مدنيين في عملياتها في قطاع غزة, إلا أنه لا يمكن بتاتا إنكار الطابع اللاإنساني للعملية العسكرية التي باشرتها, في السابع والعشرين من شهر ديسمبر 2008, ضد سكان مدنيين عزل(28). هذا ناهيك عن استخدام أسلحة محرمة دوليا ضد السكان المدنيين بالقطاع, لاسيما الأسلحة الفوسفورية المحظورة خلال النزاعات المسلحة(29). إضافة إلي استخدام الأسلحة الكيماوية واليورانيوم المنضب, وفي ذلك انتهاك صريح لنص المادة الثامنة من النظام الأساسي لروما, المذكورة سابقا, ولبروتوكول جنيف لعام 1925, وللمواثيق الدولية التي تحظر استخدام هذه الأسلحة(30).

وفي هذا الصدد, ذكرت صحيفة معاريف الإسرائيلية أن الجيش الإسرائيلي اعترف بإطلاق قذائف مدفعية, احتوت علي قطع قماش مشبعة بالفوسفور. كما أكدت منظمة العفو الدولية, من جهتها أيضا, استخدام إسرائيل المتكرر للفوسفور الأبيض بصورة مفرطة في غزة. ومن المعلوم أن قنابل الفوسفور تستعمل عسكريا لإحداث حرائق, أو توليد دخان كثيف للتعتيم أو الحماية. لكن البروتوكول الثالث الإضافي في اتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بالأسلحة التقليدية, يمنع استخدام الفوسفور سلاحا هجوميا بحد ذاته, فما بالك إذا ما تم استخدامه ضد مدنيين, وهو ما يعد جريمة حرب, تستوجب المساءلة الدولية والعقاب(31).

ثانيا- مسئولية إسرائيل في العدوان علي غزة :

تتحمل إسرائيل, من الناحية القانونية, بسبب ارتكابها جرائم دولية في قطاع غزة, المسئولية القانونية الدولية, بشقها المادي والسياسي والجنائي.

أ- المسئولية المادية :

يترتب علي إسرائيل, الدولة المعتدية, أن تقوم بالتعويض عن الخسائر المادية التي خلفتها في القطاع, وذلك عن طريق التعويض المالي الذي يوازي الضرر الذي وقع نتيجة عدوانها. ويعتبر التعويض عن هذه الخسائر المادية ضرورة ملحة من أجل إعادة تعمير البني التحتية الاقتصادية التي دمرتها إسرائيل, ومن أجل إزالة آثار الحرب(32).

ولقد بلغ إجمالي الخسائر الاقتصادية المباشرة في قطاع غزة, وفقا لما أكده رئيس الإحصاء الفلسطيني لؤي شبانة, نحو مليار وأربعمائة ألف دولار. كما قدرت خسائر الاقتصاد الفلسطيني بما يقارب 80% من قيمة الإنتاج فقط لكل قطاع اقتصادي خلال ال- 17 يوما الأولي من بدء العدوان الإسرائيلي. كما أن حجم الخسائر خلال اليوم الواحد في قيمة الإنفاق علي قطاع السياحة بلغ نحو 0.5 مليون دولار. إضافة إلي أن معدل البطالة في القطاع قد وصل عشية العدوان إلي 41.9%, أي بما يعادل 120 ألف عاطل. وهي نسبة من المتوقع أن تصل إلي 62.2% من مجموع المشاركين في القوي العاملة, بسبب العدوان علي غزة(33).

هذا إضافة إلي نسبة الدمار في المباني والمنشآت الفلسطينية والبنية التحتية بالقطاع, ناهيك عن الأضرار النفسية والاجتماعية الناجمة عن العدوان الإسرائيلي, مما يستلزم تباعا تحميل إسرائيل مسئولية التعويض الكامل عن الأضرار التي خلفتها, مادية كانت أو معنوية.

ب- المسئولية السياسية :

الشق الثاني من مسئولية إسرائيل علي عدوانها علي قطاع غزة, يجب أن يكون سياسيا. ومن المعلوم أن إسرائيل قبلت في منظمة الأمم المتحدة, عبر شرط الالتزام بميثاق الأمم المتحدة وبقراراتها. إلا أن إسرائيل, الدولة المعتدية وغير المحبة للسلام, تنتهك باستمرار المبادئ والأعراف الدولية, خاصة ميثاق الأمم المتحدة, وتمتنع عن تنفيذ قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن. ويضاف قرار مجلس الأمن رقم 1860, المتعلق بوقف إطلاق النار, إلي عشرات القرارات التي لم تنفذها.

ومن الناحية القانونية, واستنادا إلي ميثاق الأمم المتحدة, فإن أية دولة لا تنفذ الالتزامات الناشئة عن كونها عضوا في منظمة الأمم المتحدة أو لا تلتزم بقراراتها, يفترض أن تطرد من عضويتها. وبالتالي, فإن إسرائيل يجب أن ينفد بحقها قرار الطرد, استنادا إلي الميثاق نفسه. ومن بين العقوبات التي يلاحظها أيضا ميثاق الأمم المتحدة, بحق الدول التي تهدد الأمن والسلم الدوليين, هي قطع العلاقات السياسية والدبلوماسية(34), أو اتخاذ تدابير عسكرية, طبقا لنص المادة 39 من الميثاق.

إلا أنه من الناحية العملية, يبقي من المستبعد تماما من الأمم المتحدة أن تحمل إسرائيل المسئولية السياسية أو تتخذ ضدها أية عقوبة أو تدبير عسكري. فحتي تحرك مجلس الأمن, الذي يفترض أنه منوط بحفظ الأمن والسلم الدوليين, قد جاء بعد أسبوعين من بدء العدوان الإسرائيلي علي غزة, وارتكابه أبشع المجازر, بل ولم يستطع بالرغم من هذا التحرك المحتشم أن يوقف العدوان.

ج- المسئولية الجنائية :

أما الشق الثالث والأخير من مسئولية إسرائيل من الناحية القانونية, فهو جنائي. فأي جريمة دولية يجب أن ينجم عنها عقاب جنائي, فهو الوسيلة الفعالة لمكافحة الجرائم الدولية. وتنص المادة السادسة من الاتفاقية الخاصة بمنع جرائم الابادة الجماعية علي أن: 'الأشخاص المتهمين بارتكابهم هذه الأعمال, يجب أن يحاكموا أمام المحاكم المختصة في البلد الذي اقترفت فيه هذه الجرائم'. وعلي نفس هذه الأسس, تقوم أيضا اتفاقية جنيف لعام 1949, إذ تنص المادة 146 من الاتفاقية الخاصة بحماية السكان المدنيين وقت الحرب علي أن : 'كل طرف ملزم بالبحث عن الأشخاص المتهمين بارتكابهم الجرائم, أو الأشخاص الذين أعطوا الأوامر لارتكاب تلك الجرائم .. يجب تقديمهم للمحاكمة'(35).

إن ما اقترفته إسرائيل من جرائم دولية في غزة يستدعي قيام المسئولية الجنائية لكل من الحكومة والجيش الإسرائيلي علي حد سواء, وضرورة محاكمتهم. إذ يتعين علي المجتمع الدولي, كافة, أن يضع حدا للاعقاب الذي كثيرا ما تمتعت به إسرائيل طيلة عشرات السنين(36). وقد حددت المادة 77 من النظام الأساسي لروما لعام 1998 عقوبات عدة, لكل من يدان بالجرائم الدولية السابق الحديث عنها, مميزة بين عقوبات أصلية وأخري تكميلية. أما العقوبات الأصلية, فتتمثل في:

- السجن مدة لا تتجاوز 30 عاما.

- أو السجن المؤبد. ومعيار الحكم بأي من العقوبتين هو جسامة الجريمة وخطورة المجرم.

أما العقوبات التكميلية, التي يجوز للمحكمة الحكم بها كعقوبة إضافية, فهي: فرض غرامة مالية, أو المصادرة لكل العائدات من الجرائم والأصول الناشئة عنها, بطريقة مباشرة أو غير مباشرة(37).

خلاصة :

علي الرغم من أن الحرب علي غزة هي من الحروب التي نقلت فيها الانتهاكات في بث مباشر, سواء فيما يتعلق باستهداف المدنيين, أو استهداف المستشفيات وطواقم الإسعاف, والمدارس, وبنايات الأمم المتحدة, وقوافل الإغاثة, وهي أدلة دامغة وقطعية تؤكد بالفعل قيام جرائم دولية حتي دون الحاجة لقيام تحقيق دولي, فإن أحدا لم يجرؤ حتي اليوم علي تصنيف هذه الانتهاكات بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم ضد سلامة وأمن البشرية(38). بل إنني أذهب إلي ما ذهبت إليه مختلف التصريحات الرسمية, وهو القول إن 'إسرائيل لم تحترم القانون الإنساني الدولي'(39).

وانطلاقا من الاتفاقية الخاصة بعدم القبول بفكرة التقادم في الجرائم الدولية, فإن المجتمع الدولي والضمير العالمي, وبخاصة الأمم المتحدة, مطالبون, ومهما طال الزمن, بتقديم القادة الإسرائيليين والضباط والجنود وكل المشاركين في الجرائم ضد الإنسانية والعسكرية إلي المحاكم الدولية والوطنية, لينالوا العقاب المناسب استنادا إلي القانون الدولي(40).

ورغم أن الهيئة القانونية الدولية الوحيدة, التي بإمكانها حاليا محاكمة إسرائيل علي جرائمها الدولية في قطاع غزة, هي المحكمة الجنائية الدولية, إلا أنها تواجهها العديد من العراقيل والصعوبات القانونية التي تحول دون تفعيل دورها, لاسيما أنها لا تستطيع أن تمارس اختصاصها لا علي إسرائيل ولا علي السلطة الفلسطينية, كونهما غير عضوين فيها. كما أنه من المستبعد كلية أن يتولي مجلس الأمن تكليف المحكمة الجنائية بالنظر في هذه الجرائم, أو حتي إصدار قرار بإنشاء محكمة خاصة, تتولي التحقيق في جرائم إسرائيل الدولية المرتكبة في القطاع. فهل معني ذلك أنه سوف يمر العدوان الإسرائيلي علي غزة بدون مساءلة وبدون عقاب, وكان شيئا لم يحصل?

------------------
* أستاذ قانون دولي، جامعة 20 أغسطس1995، الجزائر.



الهوامش :

1- يقصد بالمناطق التي لها امتياز: الأماكن المخصصة للعبادة والأماكن الأثرية والمؤسسات العلمية, كالمدارس والجامعات والمستشفيات.

2- عرفت المادة الخامسة من البرتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف, مصطلح المدني بأنه: 'ذلك الشخص الذي لا ينتمي إلي القوات المسلحة أو الميليشيات أو الوحدات المتطوعة, بما فيها حركات المقاومة المنظمة, سواء أكانت هذه الحركات معترفا بها في الطرف المعادي أم لا'.

3- منتصر سعيد حمودة, المحكمة الجنائية الدولية.. النظرية العامة للجريمة الدولية.. أحكام القانون الدولي الجنائي.. دراسة تحليلية, الإسكندرية, دار الجامعة الجديدة, 2006, ص333.

4- عبدالله الأشعل وآخرون, القانون الدولي الإنساني .. آفاق وتحديات, الجزء الثالث, بيروت, منشورات الحلبي الحقوقية, 2005, ص911.

5- سوسن تمرخان بكة, الجرائم ضد الإنسانية في ضوء أحكام النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية, بيروت, منشورات الحلبي الحقوقية, 2006, ص054.

6- عبدالله الأشعل وآخرون, مرجع سابق, ص021.

7- عبدالله بن عالي, وفد فرنسي يؤكد ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في غزة, الجزيرة نت, 2009:

http://www.aljazeera.net/NR/exeres/8...B14C5A606D.htm

8- إبراهيم عمر, أبرز الجرائم الإسرائيلية في حرب الأسابيع الثلاثة, الرأي, 25 يناير 9002:

http://www.alraynews.com/News.aspx?id=157159

9- أسري غزة في جوانتانامو إسرائيلي في النقب, الشروق اليومي, الجزائر, العدد 2502, 10 يناير 9002.

10- لم ينص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية علي الأركان المكونة لجريمة العدوان, خلافا لما هو عليه الحال بالنسبة للجرائم الدولية الأخري. ولذا, فقد أكدت المادة التاسعة من هذا النظام أن المحكمة لها الحق في أن تستعين بأركان الجرائم عموما, في تفسير وتطبيق المواد المتعلقة بجريمة العدوان.

11- سكاكني باية, العدالة الجنائية الدولية ودورها في حماية حقوق الإنسان, الجزائر, دار هومة, 2004, ص83.

12- عبدالرحمن لحرش, المجتمع الدولي.. التطور والأشخاص, الجزائر, عنابة, دار العلوم, 2007, ص28.

13- محمد شريف, التوجه إلي الجمعية العامة للأمم المتحدة لمحاسبة إسرائيل علي أعمالها في غزة, سويس إنفو, 18 فبراير 2009:

http://www.swissinfo.org/ara/front.h...62226000&ty=st

14- ساسي جاد عبدالرحمن واصل, إرهاب الدولة في إطار القانون الدولي العام, الإسكندرية, منشأة المعارف, 2003, ص12.

15- جرائم الحرب في غزة.. التبعات والنتائج, الشرق الأوسط, الشركة السعودية للأبحاث والتسويق, العدد 11013, 22 يناير 2009:

http://www.asharqalawsat.com/leader....article=503940

16- محمد الهادي الحسني, الإرهاب اليهودي.. خطة وغريزة, الشروق, الجزائر, العدد 2501, 8 يناير 9002.

17- جرائم الحرب في غزة.. التبعات والنتائج, مرجع سابق.

18- محمد الهادي الحسني, مرجع سابق.

19- Ahmed Mahiou, Les Crimes de Guerre et Le Tribunal Comptent Pour Juger Les Criminels De Guerre, Revue Algrienne des Relations Internationales, N?: 14, 1989, P.53.

20- عبدالله الأشعل وآخرون, مرجع سابق, ص ص121-221.

21- مصطفي أحمد فؤاد وآخرون, القانون الدولي الإنساني.. آفاق وتحديات, الجزء الثاني, بيروت, منشورات الحلبي الحقوقية, 2005, ص134.

22- Crimes de Guerre Gaza: Assez De Silence Complice! Ligue des Droits de L'Homme, 2009, http://www.ldh-france.org/Crimes-de-...-Gaza-assez-de

23- Gaza Des Organisations portent Plainte Pour Crimes de Guerre Devant La CPI, Le Monde, France, 01/13/ 2009, http://www.lemonde.fr/la-guerre-de-g...8_.1137859html

24- ماهر خليل, إسرائيل ترتكب جرائم حرب وإبادة جماعية في غزة, الجزيرة نت, 2009:

http://www.aljazeera.net/NR/exeres/3...52AEA687BB.htm

25- إبراهيم عمر, مرجع سابق.

26- دولا عيد, حصاد الحرب بالأرقام.. الخسائر البشرية والمادية, الرأي, 2009:

http://www.alrNews.aspx?id=157161

27- ماهر خليل, مرجع سابق.

28- 'Des Crimes De Guerre ' Commis Gaza, Selon L'ONU, France Tlvision, 2009, http://info.france.2fr/proche-orient/50769380-fr.php

29- Poursuivre ISRA?L Pour Crime De Guerre, Le PCF, Paris, 27 Janvier 2009, http://www.pcf.fr/spip.php?article3414

30- جرائم الحرب في غزة.. التبعات والنتائج, مرجع سابق.

31- دولا عيد, مرجع سابق.

32- كمال حداد, النزاع المسلح والقانون الدولي العام, بيروت, المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع, 1997, ص79.

33- 1.4 مليار دولار خسائر قطاع غزة الاقتصادية منذ بدء العدوان, شبكة الإعلام العربية, 2009:

http://www.moheet.com/show_news.aspx?nid=211573&pg=39

34- كمال حداد, مرجع سابق, ص89.

35- كمال حداد, مرجع سابق, ص ص 99 -001.

36- Poursuivre ISRA?L Pour Crime De Guerre, Op.Cit.

37- منتصر سعيد حمودة, مرجع سابق, ص ص131-231.

38- إلا أنه علي مستوي المجتمع المدني, يلاحظ تحرك كبير سعيا لإدانة إسرائيل. فقد قامت - علي سبيل المثال- 90 منظمة بتقديم عريضة أمام المحكمة الجنائية الدولية, في الرابع عشر من يناير 2009, من أجل محاكمة العدوان الإسرائيلي علي جرائم الحرب التي قام باقترافها في غزة. انظر:

- Gaza Des Organisations portent Plainte Pour Crimes de Guerre Devant La CPI, Op.Cit.

39- محمد شريف, مرجع سابق.

40- كمال حداد, مرجع سابق, ص001.


http://www.siyassa.org.eg/asiyassa/I...3.htm&DID=9904