بقلم: حاتم محمد

منذ سنوات ونحن نصغي في صمت لأحاديث بلهاء عن اضطهادات وهمية تُمارس على الطائفة النصرانية بمصر، من نوعية الكلام الذي صدر عن القس "توماس" أسقف القوصية، حتى ظنها أصحابها حقائق فانجرف معهم في ذلك الظن الباطل بعض المسلمين، وروج لها البعض من المنتسبين للإسلام.

وقد كان يمكن الاستمرار في تجاهل تلك الدعوى الباطلة على اعتبارها ردة فعل لما تعانيه تلك الطائفة من الانقراض؛ نتيجة هجر أهلها لمعتقداتها سواء كان إلى الإسلام أو غيره.

أما أن يكون الغرض من تلك الدعاوى هو توظيفها في عملية سياسية طائفية، فهي تخرج بذلك عن إطار الخطأ لتصبح تزييف متعمد للحقائق، سواء تاريخية أو حالية، ويدخل في ذلك الإطار ما يجري في الواقع من تطبيق لحد ردة نصراني على الفارين إلى الإسلام مع الادعاء بوجود عمليات خطف للنساء النصرانيات وإجبارهن على الإسلام.

حتى أصبح هناك سيناريو معد يجري تطبيقه بصورة تلقائية "أتوماتيكيًّا"، فما إن تدخل امرأة في الإسلام حتى يدَّعي أهلها اختطافها؛ يعقبه تحريض من قِبَل الكنيسة، فتظاهرات من النصارى يصاحبها ضجيج إعلامي طائفي يتسم بالهلوسة حتى ينتهي الأمر بتسليم من أسلم رغمًا عن رغبته وإرادته، ليدخل في غياهب الظلمات وتسدل عليه سُتُر النسيان.

ولهم في ذلك عدة فوائد؛ الأولى: تخلص الأسرة مما تعتبره عارًا بخروج المرأة عن سطوة الكنيسة بالإضافة لإثبات الحق باسترجاعها والتغطية على عمليات هجر النصارى لدينهم ثم ردع من يفكر في الخروج من النصرانية؛ وبذا يتمكنون من الحفاظ على أتباعهم.

وأخطر من ذلك أن هذه الممارسات تدخل ضمن عملية ابتزاز طائفي للدولة والنظام استغلالًا لأوضاع وسياسات عالمية ظالمة بهدف فرض عقائد ونظم القرون الوسطى ومحاكم التفتيش، التي شهدت الأندلس انطلاقتها الكبرى، إذ أن تلك العمليات التي تنتهي بالإذعان للضغوط العنصرية تقوم على إقصاء كل من يخالفها من الوجود ففي لوقا: (أَمَّا أَعْدَائِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي) (19: 27).

فتلك الخلفية هي التي دفعت الإمبراطور تيودور إلى إصدار الدستور عام 395م، الذي يقضي بعقوبة الإعدام لكافة المخالفين، كما نص على إقصاء من لا يدين بالمسيحية عن وظيفته في الدولة، وحرَّم على غير المسيحيين ممارسة شعائرهم الدينية ولو في سرية وأنشأ لذلك نظامًا قضائيًّا ورد فيه لفظ "مفتش الإيمان" لأول مرة في التاريخ، ليبحث عما يدور في صدور الناس في خصوص العقيدة، وصدرت القوانين التي تعاقب المخالفين بإهدار دمائهم ومصادرة أموالهم كما تقضي بإعدام المرتدين، وتلك هي الأسباب التي ألجأت بعض المصريين إلى قبول المسيحية في قرونها الأولى.

وهي التي أدت لقتل عالمة الرياضيات المصرية "هيباتا"، وهي التي كانت وراء حريق مكتبة الإسكندرية، ثم هي التي أسفرت عن إصدار القوانين الخاصة بحرق كتب المذهب الأريوسي المعروف بمذهب "الموحدين"، وحتى لا يظن أحد أن تلك نصوص قد دخلت عالم النسيان وأن تلك أحداث تاريخية لها ظروفها وأن ذلك نبش للماضي، فها هو الشماس منسي يذكر كيف أن القلق انتاب الأقباط من بطريرك الكاثوليك المصري حين حاول الحصول على مزايا من ملك الحبشة حين زارها في عام 1900م، وانظر إلى ما أزال القلق عنهم، حيث يقول في كتابه ص(721): (ولبثوا في قلق حتى قدم كبير حبشي من بلاده إلى الدار البطريركية فسُئل عن الحقيق؛ فأجاب: (لا تخافوا، لأننا نفضل أن نرى الموت الأحمر من أن نغير عقيدتنا الأرثوذكسية، ثم قال: حدث في عهد مليكنا السابق يوحنا أن شذت فئة واعتنقت المذهب الكاثوليكي، وشيدت لها كنيسة، فلما علم بهم أمر بقتلهم وهدم كنيستهم وهدد كل حبشي يعتنق ذلك المذهب بالموت، ومن ذلك الحين وبلادنا نظيفة من ذلك المذهب).

فتأمل تلك "المحبة" جيدًا وكيف يكون قبول الآخر، حتى وإن كان في أرض بعيدة، حتى وإن كان من نفس البلد ومن ذات الجنس، حتى وإن كان موافقًا في الملة مخالفًا فقط في المذهب؛ فما بالكم كيف ستكون "المحبة" للمخالف في أصل الملة؟!

وكيف لا وهم يدعون أن المسيح عليه السلام قال: (لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا. فَإِنِّي جِئْتُ لِأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ وَالاِبْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا) على حسب ما ورد في متى (10: 34، 35).

ويبدو أن تلك الحالة العنصرية المقيتة كانت واضحة لكل أحد؛ فتجد اللورد كرومر يشنِّع بهم في مؤلفه "مصر الحديثة" قائلًا: (إن مبادئ الحيدة الدقيقة التي طبقها البريطاني كانت غريبة عن طبيعة القبطي، وعندما بدأ الاحتلال البريطاني أخذت تساور عقله آمال معينة فكان القبطي يقول لنفسه: إنني مسيحي والإنجليز مسيحيون فلو كان الأمر بيدي لكنت تعصبت للمسيحيين على حساب المسلمين ... وكان يقول لنفسه: ولما كان للإنجليز السلطة فإنه من المؤكد أنهم سوف يحابون المسيحيين على حساب المسلمين.

هذا هو الخطأ المحزن الذي يُلام هؤلاء الأقباط عليه، ولما اكتشف القبطي أن هذا الأسلوب في التفكير عقيم، وأن سلوك الإنجليزي مرجعه مبادئ لم يضعها القبطي في اعتباره ويعجز عن فهمها؛ تملكه إحساس بالفشل عمق ضغينته ... لقد كان يرى أن تطبيق العدالة بالنسبة للمسلمين يعني الظلم له، وكان يعتقد ولو بطريقة غير شعورية بأن الظلم وعدم محاباة الأقباط ألفاظ مترادفة) [انظر: مصر الحديثة، مجلد 2، فصل 36، الطبعة الإنجليزية، وأقلية معزولة، المستشرق الأمريكي إدوارد ويكن، ترجمة نجيب وهبة، ص(15)].

وتلك الجملة الأخيرة هي تصوير دقيق للحالة المسيحية في مصر؛ فإن لم يُنفذ مطلبهم حتى وإن كان غير منطقي ولا يتماشى مع أي قواعد للعدل فتلك جريمة ضد الإنسانية، وهي في حقيقتها تشبه إلى حد بعيد نظرية معاداة السامية.

ففي حالة وفاء قسطنطين وهي سيدة كانت على مشارف الأربعين من عمرها، ومتزوجة من رجل دين، ولها أولاد، وجامعية مما ينفي الادعاءات بالتغرير وغيرها، وقد أقرت بأنها كانت أسلمت منذ زمن سرًّا، وأنها تمكنت من حفظ عدة أجزاء من القرآن، ومع كل ذلك خرجت المظاهرت لترفع شعارات لا تتفق وقواعد العقل والمنطق، مدعية اختطاف وفاء قسطنطين، فعرض كبار المسئولين وقتها أن تخرج في التليفزيون على الملأ لتقول ما تريد وترغب فيه، ولكن ظل الإصرار على مطلب واحد مخالف لكل القوانين وهو أن تُسَلَّم حتى يتم تطبيق حد الردة عليها (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي).

ثم تكرر السيناريو مع ماري عبدالله ومع كثيرات غيرها، قد تم تسليمهن، وعسى أن تكون آخرهن فتاة عين شمس كرستين، ولكن من ينجو يظل أيضًا مطاردًا، فتلك فتاة الفيوم التي ذكرها القس توماس كمثال في محاضرته التحريضية ضد الوطن، وقد تابعت ما بثته قنواتهم الإعلامية عبر الإنترنت، فإذا هم يكررون ذات السيناريو، حيث يخرج الأهل في حديث متلفز يبث على شبكة المعلومات، يزعمون أنها اختُطفت، ولا يفوتهم أن يتهموا الأمن بالضلوع في هذه العملية.

ولما أخذ الرجل زوجته التي أسلمت ورحل للقاهرة درءًا للمشاكل طاردوهم ودبروا لخطفها بالمشاركة مع رجال الدين، فلما فشلوا بعدما استنجدت المرأة بالجيران كان الاتهام جاهزًا بأن تلك كانت خطة دبرها الأمن، هكذا وعليك أن تصدق.

حدث ذلك مع من ترك لهم البلد ورحل، أما من لم يتمكن من الرحيل لضيق ذات اليد؛ فقد تم تطبيق الحد عليه (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي)، هذا ما حدث في حي الأميرية بالقاهرة حين قاموا بقتل زوج المرأة على طريقة عصابات الكاوبوي، وكان التبرير أن الرجل تزوج من الفتاة وظل يسكن في نفس حيهم مما كان يشكل استفزازًا لأهلها، وعليك أيضًا أن تقبل!!

بالإضافة إلى ذلك فإن هناك العديد من حوادث أخر، مثل المتاجرة في الأطفال، عليك أن تقول أن النصارى يعانون من الاضطهاد، إن المسألة ليست عبارة عن مجموعة من الحوادث الفردية التي يمكن التعامل معها على هذه الصفة ولكنها حالة جماعية وينبغي أن يُنظر إليها في هذا الأطار.

على الرغم من الأهمية العظمى لكل حالة فالإسلام قد اهتم بالإنسان من حيث كونه إنسانًا، وليس أدل على ذلك مما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض الإسلام على غلام يهودي كان على وشك الموت، فنظر الصبي إلى أبيه فقال له أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار) [رواه البخاري, كتاب الجنائز, باب إذا أسلم الصبى فمات هل يصلى عليه, (1356)].

فلا يُتصور أي فائدة متحققة للمسلمين من وراء إسلام غلام هو على وشك الموت؛ فليس هو بالشخصية المرموقة في المجتمع حتى يكون لها ذلك الاهتمام، وليس ذا مالٍ يرجى الانتفاع به في المجتمع الإسلامي....إلخ.

ومع كل ذلك فقد اهتم نبي الرحمة به وحمد الله فرحًا على نجاته من العذاب؛ وما ذاك إلا لأن الإسلام يرى أن للإنسان قيمة من حيث كونه إنسانًا، فبمثل هذه النظرة ينبغي أن يكون التعامل مع شأن من يهرع إلى الإسلام من رجال أو نساء، لا بد وأن يلقون بعناية واهتمام شديدين من قِبَل كل من رضي بالله ربًّا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا.

أما التعلل بأن الحديث في تلك الأمور من شأنه أن يثير الفتن فهو هراء، وبعيد عن الصحة؛ إذ أن عرض الحقائق وعلاج الأمراض هو السبيل الوحيد لدرء الفتن وتجنب الشرور، وهذا هو الواجب على أصحاب الرأي والفكر بغض النظر عن انتمائاتهم الدينية والعقدية إن كانوا صادقي الرغبة في سيادة مناخ الحرية وجادين في التخلق بالحرية الفكرية.

وإن كانت الدولة في حالة لا تستطيع معها مقاومة الضغوط المفروضة عليها، فالواجب أيضًا على هؤلاء بيان الحق من غير مواربة، حتى لا نفاجأ بتكرار تجربة البشير في السودان، حتى وإن تفاوتت الدرجة.

المصدر
http://www.shareah.com/index.php?/records/view/id/3594/